الحوار مع الذات
أولًا: أولوية الحوار مع الذات على الحوار مع الآخر
كثر الحديث في الفكر العربي المعاصر عن الذات والآخر، صراع أم حوار؟ وتعني الذات العرب أو المسلمين، ويعني الآخر الغرب الأوروبي أو الغرب الأمريكي وليس الشرق الآسيوي خاصة اليابان والصين؛ لذلك تحول الحوار مع الآخر إلى حوار مع الحضارات، وكثر الحديث عنه بمناسبة مقال هانتنجتون الشهير «صدام الحضارات». وأحيانًا يأخذ الحوار مع الآخر طابعًا دينيًّا، فينشأ حوار الأديان، خاصة الحوار الإسلامي المسيحي أكثر من الحوار الإسلامي اليهودي نظرًا للتوحيد بين اليهودية والصهيونية، واحتلال الكيان الصهيوني الأرض العربية في فلسطين وسوريا ولبنان، ولا حوار مع المحتل قبل أن تتحرر الأرض، وقد وجد قديمًا عند ابن حزم وابن تيمية وغيرهم من المتكلمين.
كما انتشر في الثقافة العربية المعاصرة الحوارات السياسية مع الآخر وليس مع الذات مثل الحوار العربي الأوروبي؛ فالعرب هم الأنا وأوروبا هي الآخر، والحوار المتوسطي حول حوض البحر الأبيض المتوسط؛ فالعرب على ضفته الجنوبية، وأوروبا على ضفته الشمالية، والحوار بين الشمال والجنوب، الشمال أي أوروبا الأكثر تصنيعًا وغنًى وتقدمًا، والجنوب أفريقيا الأقل تصنيعًا وتقدمًا، والأكثر تخلفًا وفقرًا، والعرب مع الجنوب والمغرب العربي مع مصر في شمال أفريقيا، وفي أثناء الحرب الباردة كان الحوار بين الشرق والغرب، ولما كانت غالبية المسلمين في الشرق، وكانت روسيا والصين حليفين لنا فقد توحدنا مع الشرق مع حواره مع الغرب، أوروبا وأمريكا.
غلب الحوار مع الآخر على الحوار مع الذات مع أن الحوار مع الذات يسبق الحوار مع الآخر، ومعرفة النفس سابقة على معرفة الآخر. والتساهل في معرفة الذات يؤدي إلى تساهلٍ في معرفة الآخر؛ وبالتالي يعز الحوار، ويقع سوء التفاهم؛ لذلك لم ينجح الحوار مع الآخر حتى الآن؛ لأنه لم يقُم على الحوار مع الذات أولًا.
الحوار من الذات هو نوع من ترتيب البيت من الداخل، وإعادة حساب الأوراق قبل التحوُّل إلى الحوار مع الخارج وصرف الأوراق، خطوة إلى الوراء قبل الخطوة إلى الإمام، وحساب الإمكانيات قبل تحقيقها في الواقع، والتهيؤ والاستعداد وتجميع القوى قبل المناظرة والتحدي والسجال، وهي أشكال متعددة للصراع.
وقد أصبح «الحوار» أسلوبًا فلسفيًّا وشكلًا أدبيًّا منذ أن دوَّن أفلاطون فلسفته في شكل «محاورات»، سقراط أستاذه فيها المحاور الرئيسي، واستمر الشكل عند أوغسطين في «المحاورات الفلسفية» ضد الأكاديميين، من مؤلفات الشباب، واستمر في العصر الوسيط عند أبيلار في «محاورات بين يهودي ومسيحي وفيلسوف»، ثم في العصور الحديثة عند بركلي في «حوار بين هيلاس وفيلونوس» وآخرون غيرهم.
ويكون الحوار بين «الزوجة» والرسول وهي تشتكي زوجها الذي ظاهرها، والله يسمع هذا التحاور لأهميته في حسن العلاقة بين الزوجين، وضرورة إشباع الرجل للمرأة؛ فالحوار حق مشروع للمظلوم والمضطهد والمهمش والمستبعد، وفي حالة الخصام يكون الحوار مع طرف ثالث لنصرته.
ثانيًا: الأنا التاريخي (المعوقات والشروط)
إن الحوار مع الذات يكشف الأنا التاريخي أي مضمون الذات والتراكم التاريخي الثقافي فيه من الموروث القديم؛ فهو حوار بين الحاضر والماضي، بين الرغبة في التحرر والقيد المكبل للحرية، يحاور التاريخ نفسه في الذات على أنه تواصل مع الزمان، في ثقافة لم تقطع بين الحاضر والماضي كما يدعي أصحاب «القطيعة المعرفية» أسوة بالغرب الذي قطع في عصر النهضة بين القديم والجديد نظرًا لاستحالة التواصل بين أرسطو وبطليموس والكنيسة من ناحية وبين العقل والعلم والعقد الاجتماعي من ناحية أخرى، وربما كان أحد أسباب إخفاق عصر النهضة العربية الأولى منذ القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين، وإجهاض الحلم القومي الناصري في النصف الثاني منه هو غياب الحوار مع الذات، ومعرفة مكونات الأنا التاريخي بل والاصطدام معها خاصة مع ثقافة المعارضة في الموروث القديم بعد أن تمثلت النخبة الحاكمة ثقافة السلطة.
وأول ما يبرز من الوعي التاريخي هو ثقافة السلطة، الثقافة المهيمنة، ثقافة القمع والتسلط، ثقافة الفرقة الناجية، وهي التي تعطي الشرعية التاريخية والثقافية والسياسية لنظام التسلط والقمع بدعوى أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، أو «من بدل دينه وفارق الجماعة فاقتلوه.» وقد ترسبت ثقافة القمع في بؤرة الوعي التاريخي حتى أصبحت هي التي تتحكم في الواقع الاجتماعي والسياسي من خلال أجهزة الإعلام، النظام السياسي يحكم، وثقافة القمع تتحكم.
هي ثقافة «الفرقة الناجية» طبقًا للحديث المشهور الذي يشكك في صحته ابن حزم بناءً على تحليل صحة السند وصدق المتن في آنٍ واحد، فهو معارض لروح الإسلام «كلكم رادٌّ وكلكم مردود عليه.» «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم.» «للمخطئ أجر وللمصيب أجران.» فلا أحد بمفرده يمتلك الحقيقة المطلقة، وشرعية الاختلاف واجبة بالشرع، وهي قائمة على الاختلاف في الطبيعة، الليل والنهار، والنور والظلمة، والسماء والأرض، وفي الطبيعة الإنسانية، الألسنة والألوان، المناهج والشرائع، العادات والتقاليد … إلخ.
كما تتولد آليات التبرير لثقافة القمع من تصور وظيفة العقل على أنها تبرير للمعطيات السابقة، الحقيقة المطلقة التي يتم التسليم بها دون نقاشٍ أو برهانٍ أو حتى إقناع، بل يتم ذلك بفعل الطاعة المطلقة والتصديق الخالص، بعمل الإرادة وليس بتحليل العقل، ولا فرق في المعطى المسبق أن يأتي رسالة للتبليغ أو وحيًا إلهامًا أو صوتًا من وراء حجاب.
تتولد الأخلاق أيضًا من ثقافة السلطة، سلطة الحاكم، «لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع.» و«الإنسان في التفكير والرب في التدبير.» إلى آخر ما تزخر به أمثالنا العامية والأقوال المأثورة، كما تتولَّد في التصوف أنساق من القيم السلبية مثل الرضا والصبر والتوكل والورع والخوف والخشية، وهذا ما فعله الغزالي تأييدًا لسلطة نظام الملك في بغداد. أعطى للسلطان أيديولوجية السلطة في «الاقتصاد في الاعتقاد» وكما يقول: «وهذا ما أعانني السلطان عليه.» وأعطى الناس أيديولوجية الطاعة في «إحياء علوم الدين»، فلا فرق بين صفات الله وصفات السلطان، كلاهما عالم قادر حي، سميع بصير متكلم مريد، كما أعطى حاكم بغداد السابق أسماء تسعًا وتسعين تشبهًا بأسماء الله الحسنى، وقد تصوَّر الفلاسفة أيضًا رئيس «المدينة الفاضلة» كامل الأوصاف، وكما قال الفارابي: سواء قلت الله أو الملك أو الإمام أو النبي أو الفيلسوف فإنني أعني نفس الشيء.
ويتولَّد من ثقافة السلطة ذات الطرف الواحد خطاب للناس يقوم على الازدواجية أو الهمس أو اللامبالاة، الخطاب المزدوج مؤيد للسلطة في الظاهر، ومعارض لها في الباطن، فأصبح المواطن في حديثه يقول ما لا يعتقد، ويعتقد ما لا يقول. وهي سمة النفاق، فيغيب الحوار لغياب طرفي الحوار، ووجود طرف يحاور نفسه، والبعض يدير ظهره تمامًا للسلطة ويأخذ منها موقفًا سلبيًّا ومن ثم لا تجد السلطة من تحاوره بعد أن غاب الطرف الآخر المحاور، وفريق ثالث يهاجر البلاد، ويهش على غنمه، ويرعى مصالحه، ويحن للوطن والعودة إليه سائحًا لا مواطنًا.
ومن ثم يكون السؤال: هل يمكن إعادة بناء الموروث الثقافي وتحويله من ثقافة السلطة إلى ثقافة المعارضة بعد أن تم تشويهها في أذهان العامة أو تهميشها حتى توارت إلى هامش الشعور أو ترسبت في اللاشعور أو استبعادها كلية وتكفيرها وإزاحتها حتى تظل الهيمنة الأبدية لثقافة السلطان؟
هناك ثلاثة أنواع من ثقافة المعارضة ترسبت في وعينا التاريخي من خلال الموروث الثقافي، المعارضة المسلحة في الخارج التي تنقض على المدن من الأطراف وإلى قلب الأسواق لتقتل وتدمر وتخرب بعد أن كفرت الحاكم لظلمه، والمحكوم لقبوله الظلم، وهي معارضة الخوارج، وتتهم جماعات العنف المسلح الآن بأنهم خوارج العصر، وسرعان ما يتم القبض عليهم ومحاكمتهم وإدانتهم بالخروج على النظام ومقاومة رجال الأمن بالقوة المسلحة، وهو ليس حوارًا بين طرفين بل صراع قوي بين حاكم ومحكوم، وقاتل ومقتول، وجلاد وضحية، والثاني المعارضة السرية تحت الأرض انتظارًا للفرصة عندما تحين للانقلاب على الحكم فتمتلئ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، وهو أيضًا سلوك بعض الجماعات الإسلامية الجهادية والأحزاب الشيوعية العربية وجميع التنظيمات السرية، ولأن عيون الدولة في كل مكان سرعان ما يتم اكتشاف هذه الخلايا السرية ومحاكمتها واتهامها بتدبير انقلاب على النظام وإدانتها إن لم يكن بالإعدام شنقًا فبالأشغال المؤبدة، والثالث المعارضة العلنية بالفكر، الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وهي معارضة المعتزلة ضد الدولة الأموية وإفرازاتها لثقافة السلطة مثل عقيدة الجبرية، وهي المعارضة الشرعية التي يحتاجها العرب المعاصرون حتى ينشأ حوار بين الحاكم والمحكوم، وبين الخصوم السياسيين من المحكومين، تنافسًا على السلطة أو صراعًا عليها.
إن شرط الحوار هو التعددية في الرأي، وتجاوز منطق الخطأ والصواب، والحق والباطل، وجدل الكل أو لا شيء، والتعصب والحنق والغضب، واتهامات التكفير في الله، والتخوين في الوطن، فالكل مؤمن بإله واحد، والكل أبناء وطن واحد، لا يوجد زعيم أوحد، رئيس مدى الحياة، مخلص ومنقذ بل هناك تعددية سياسية، وتداول للسلطة، والاحتكام للناس أيهما أقدر على تحقيق مصالحهم.
ثالثًا: الأنا السياسي (اللغة والمضمون)
وعندما يتم الحوار مع الذات التاريخي لاكتشاف الموروث الثقافي القديم يكون الحوار آنذاك مع الماضي القابع في الحاضر، وفي الوعي التاريخي أساس الوعي السياسي، ينشأ الحوار بين الأنا السياسي والواقع السياسي أي بين الذات الحالية والحاضر السياسي، ولما كانت السياسة ثقافة، وكانت الأحزاب السياسية في البلاد تيارات ثقافية فإن الأنا السياسي يجد نفسه في مواجهة حوار بين تيارات فكرية وسياسة أربعة: التيار الإسلامي، والتيار القومي، والتيار الليبرالي، والتيار الماركسي. وهي التيارات السياسية الرئيسية في الشارع العربي، لا تتساوى جميعها في الشرعية؛ ففي بعض الأقطار يحظر التيار الإسلامي مثل مصر وليبيا وتونس والجزائر وسوريا والسعودية وعمان والإمارات؛ لأنه يمثل تحديًا بل وخطورة للنظم السياسية القائمة في هذه البلدان، وفي معظم الأقطار يحظر أيضًا إقامة أحزاب ماركسية باستثناء الأردن ولبنان والمغرب والعراق، أما الليبراليون والقوميون فهم حاضرون في معظم البلدان العربية، الليبرالية التي حكمت في النصف الأول من القرن العشرين، والقومية التي حكمت في النصف الثاني منه.
وبعد هزيمة ١٩٦٧ بدأت محاولة النقد الذاتي لكل تيار؛ فالكل مسئول عن الهزيمة لا فرق بين سلطة ومعارضة، نقد التيار القومي نفسه؛ لأنه كان في الحكم وهو المسئول المباشر عن الهزيمة، ونقد الماركسيون أنفسهم، ونقد التيار الإسلامي نفسه داخل السجون وخارجها، فما جدوى العنف والوطن محتل؟ وما الصلة بين العدو في الخارج والعدو في الداخل، بين المحتل للأرض في الخارج والمغتصب للسلطة في الداخل وكما صوره نجيب محفوظ في رواية «الكرنك»؟ كما بدأ بعض الماركسيين ينقدون أنفسهم بعد انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي ذاته في ١٩٩١، ولم يبقَ إلا الليبراليون الذين لم ينقدوا أنفسهم لأنه أهل النقد الفكري ولأنهم ضحايا الثورة والذين استبعدوا منها باسم القومية والاشتراكية، والكل يحن إلى الليبرالية القديمة ويتوق إلى عودتها حتى تعود الحرية الفكرية للناس، والديمقراطية السياسية لأنظمة الحكم.
وقامت عدة محاولات للحوار بين التيارات والقوى السياسية المختلفة، فنشأ حوار بين الإسلاميين والقوميين، وهم قوتا المعارضة الرئيسية في الشارع العربي بعد انقلاب الثورة العربية على نفسها وتحويلها إلى ثورة مضادة، وتم تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي لهذا الغرض، وما زال الحوار القومي الليبرالي، والقومي الماركسي، والإسلامي الماركسي، والإسلامي الليبرالي لم يتم بعد، فما زالت الخصومة شديدةً بين طرفي الحوار كما هو الحال في الصراع الدائر في الجزائر بين الدولة التي تمثِّل العلمانية والحركات الأصولية التي تمثِّل الإسلام لدرجة نشوب حرب أهلية بين الإخوة الأعداء على مدى عشر سنوات وكلَّفت مائة ألف شهيد.
ويعز الحوار بين فرقاء النضال والإخوة الأعداء ربما لخلاف في اللغة، الألفاظ والمصطلحات، في حين أن الدلالة والمعاني والمقاصد واحدة، يقول الإسلامي مستشهدًا بحديث الرسول: «أعطوا العامل أجره قبل أن يجف عرقه.» «خيركم من أكل من عمل يده.» ويستشهد بعديد من النصوص عن قيمة العمل وهو أساس تحريم الربا؛ لأنه كسب بلا عمل، والمال لا يولد المال، والأخ العامل أقرب إلى الله من الأخ العابد، كما يتحدث عن ضرورة غرز الأرض واخضرارها مستشهدًا بقول الرسول أيضًا بضرورة غرس الفَسِيلة لو كانت بيد إنسان يحتضر. وهو ما يقوله الماركسي دفاعًا عن طبقة العمال والفلاحين ضد أصحاب رءوس الأموال والإقطاعيين، وهو ما يقوله الاشتراكي القومي أيضًا من أن العمل قيمة، والعمل عبادة، والعمل حياة، ضمن شعارات الناصرية، وسن قوانين حماية العمال، وإصدار قرارات الإصلاح الزراعي، وتمليك الفلاحين.
وما الفرق بين ما تؤكده الليبرالية من قيم للحرية والديمقراطية، وبين شهادة لا إله إلا الله عند الإسلامي؛ فالشهادة إعلان صريح برفض العبودية لكل طاغوت على الأرض، المال والجاه والسلطة والشهرة والمنصب وملاذ الدنيا، أي المال والبنون حتى يتحرَّر الإنسان منها ويصبح حرًّا أمام الواحد القهار وبين إعلان الحرية عند الليبرالي؟ وما الفرق بين الشورى عند الإسلامي وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وفي الحديث: «لا خاب من استشار»، وبين مظاهر الديمقراطية عند الليبرالي، وكلاهما ضد التفرُّد بالرأي والاستئثار بالسلطة؟ والإمامة عند الإسلامي «عقد وبيعة واختيار» وهو مضمون «العقد الاجتماعي» عند الليبرالي.
يغيب الحوار إذن بسبب اللغة وعدم التفرقة بين اللفظ والمعنى والشيء؛ فقد يدل لفظان على معنًى واحدٍ أو يُشيران إلى شيءٍ واحد، وهنا تأتي أهمية فروع علوم اللسانيات الحديثة، السمانطيقا، والسيميوطيقا، والهرمنطيقا، والأسلوبية، وعلوم النص بوجه عام، كما تبدو أهمية استعمال اللغة الإنسانية المفتوحة وليست لغة العقائد المغلقة بحيث يتم الحوار على مستوى العقل الخالص والبحث الحر دون التعصُّب لعقيدةٍ أو اختيارٍ مسبق لمذهب.
ويصعب الحوار أيضًا داخل الاتجاهات المختلفة لكل تيار، بين المحافظين والإصلاحيين في التيار الإسلامي، وبين القوميين المنغلقين والقوميين المنفتحين في التيار القومي، وبين الماركسيين الحرفيين والماركسيين الليبراليين في التيار الماركسي، وبين الليبراليين الانفتاحيين العولميين الأمريكيين والليبراليين الوطنيين، بل إن كل جناحٍ يستبعد الجناح الآخر باعتباره خصمًا، ولما كان الحوار مع الذات يسبق الحوار مع الآخر فإن الحوار داخل أجنحة كل تيارٍ سابق على الحوار بين التيارات الأربعة الرئيسية.
وقد يكون الخلاف في المنهج والرؤية؛ فالجناح المحافظ يدافع عن القديم والتراث والأصول الأولى الثابتة، بينما يدافع الجناح الإصلاحي عن الجديد والعصر ومصالح الناس المتغيرة، يستعمل المحافظون طرق الاستنباط، استنباط مصالح الناس من النصوص ثم تطبيقها على الجزئيات، في حين يستعمل الإصلاحيون طرق الاستقراء، استقراء مصالح الناس الجزئية لمعرفة الأصول الكلية مثل «المصلحة أساس التشريع»، ينصب الاتجاه المحافظ نفسه مدافعًا عن الله أو الزعيم أو القادة التاريخيين أو المؤسسين الأوائل ويجعل نفسه شارحًا لهم مدافعًا عن حقوقهم في حين يقوم الاتجاه الإصلاحي بالدفاع عن الإنسان والمجتمع وتجدُّد الأجيال، «هم رجال ونحن رجال، نتعلَّم منهم، لا نقتدي بهم.» يتمسك الاتجاه المحافظ بالثوابت فهي الأبقى والأخلد والأصح في حين يسعى الاتجاه الإصلاحي إلى إبراز المتغيرات الأهم والتي تمثل التحدي للفكر وتتطلَّب الاجتهاد، يغرق المحافظون في النظريات والعقائد والإلهيات والغيبيات والسمعيات وهو ما لا يرى فيه الإصلاحيون نفعًا كبيرًا فيتجهون نحو العمليات والمعاملات والإنسانيات والحسيات وأمور الدنيا، يعشق المحافظون الكليات والمبادئ العامة وكأن المعركة هناك خارج العالم في حين يحلِّل الإصلاحيون الجزئيات والمواضع الخاصة، فالمعركة هنا في هذا العالم، وقضاء مصالح العالم خير من النقاش حول الغيبيات، وتغيير الواقع قيد أنملة أفضل من استدعاء عظائم النظريات وكُبْريات المبادئ، ولا يرضى المحافظون إلا بالكل أو لا شيء في حين يسعى الإصلاحيون إلى تحقيق مصالح الناس تدريجيًّا وعلى فترات دون تكفير أو إدانة لأحد. يطالب المحافظ الناس بواجباتهم دون حقوقهم في حين يعطي الإصلاحي للناس حقوقهم قبل أن يطالبهم بواجباتهم، فلا حقوق بلا واجبات، ولا واجبات بلا حقوق، يحنق المحافظ ويغضب ويتضجر عندما يتصور أن الإصلاحي ينكر بديهياته ويؤثر الدنيا على الآخرة في حين أن الإصلاحي أكثر تسامحًا وتفهمًا لمن يبيع الدنيا ويشتري الآخرة، ويحزن أنه يعيش في عصر اشترى فيه الآخر الدنيا بعد أن باعها المسلمون، وباع الآخرة التي اشتراها المسلمون.
رابعًا: الأنا الأخلاقي (الهدف والغاية)
إذا استطاع الحوار مع الذات اكتشاف الأنا التاريخي أي الموروث الثقافي القديم المتراكم في أعماقه، من أجل إعادة بنائه لكي يكون دافعًا على التقدم وليس معوقًا له، وباعثًا على التحرر وليس قيدًا عليه، ثم اكتشاف الأنا السياسي من أجل الدخول في حوار مع التيارات السياسية والفكرية الأربعة الموجودة في الواقع السياسي في اللحظة الراهنة، الإسلامي والقومي والليبرالي والماركسي فإنها تتوجه بعد ذلك لاكتشاف قدراتها وإمكانياتها على الفعل، والتحول من النظر إلى العمل، ومن الحوار إلى الفعل، ومن الفَهْم إلى الحركة، الأنا التاريخي يمثل الماضي والحاضر فيها، والأنا السياسي يمثل الحاضر الماضي أمامها، والأنا الأخلاقي يمثل إمكانياتها النظرية والعملية، القولية والوجدانية بالنسبة إلى مستقبل تحركها في العالم، وتعني الأخلاق هنا العمل والسلوك والعادات بالمعنى الاجتماعي عند ابن خلدون وكومت وليس بالمعنى المعياري عند مسكويه وكانط.
والأنا الأخلاقي له داخل وخارج، يتمثل الداخل في الفكر والوجدان، والخارج في القول والعمل، طاقاته الداخلية، التفكير والشعور وحركته الخارجية، من خلال الإعلان والممارسة، الأنا المفكر مهمته التحليل والنظر والفهم والمعرفة، والأنا الوجداني مهمته تحويل الفكر إلى تجربةٍ معاشة وإلى خبرةٍ حياتية، والأنا القولي يعلن بالكلام الحقائق، ويكشف عن الموضوعات؛ فاللغة عالم من الإشارات والدلالات والإيحاءات والإيماءات لإيصال المعاني إلى الآخرين من أجل التوجه المشترك في العالم، وأخيرًا الأنا العملي يحقِّق الداخل، الفكر والوجدان في الخارج في العمل بعد القول، وفي الشهادة بعد التشهُّد.
الهدف النهائي هو مطابقة الداخل مع نفسه أي مطابقة الفكر والوجدان حتى لا يصبح الفكر مجردًا، مجرد معلومات دون علم، ونقل دون إبداع، ومطابقة الوجدان مع الفكر حتى لا يصبح الوجدان عاطفةً هوجاء وانفعالًا فارغًا، ثم تأتي مطابقة الخارج لنفسه القول والفعل، فالقول بلا فعلٍ كلام مجاني، صراخ في الهواء، فرقعة بلا تصويب؛ لذلك اتهم العرب بأنهم ظاهرة صوتية، يحسنون الكلام بضاعتهم القول، يصدرون البيانات كالإعلانات التجارية دون ضمان للشراء والقبض على الأشياء، وهي سمة نقدها القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. وكذلك نداء وَقُلِ اعْمَلُوا، والبداية بالذات: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ.
ليس الحوار مع الذات حالة تفاوضية كي نصل فيه إلى حلول وسطى بين طرفين متعارضين فهذا هو الحوار مع الآخر السياسي «الدبلوماسي»، الآخر النقيض ولكنه حالة لإثراء الذات برصيدها التاريخي ورؤيتها للواقع وقدرتها على وضع التعددية السياسية كأطر نظرية لبرنامج عمل وطني موحد، تعددية في النظر ووحدة في العمل، فالحق النظري متعدد، والحق العملي واحد كما قال قدامى الفقهاء.
إن الغاية القصوى للحوار مع الذات هو فك حصار الزمن عن الذات العربية، الأول حصار الماضي بتقليده والعودة إليه، ورد الحاضر إلى الماضي والسير ضد عجلة الزمن ومسار التاريخ؛ ومن ثم لزم إعادة بناء علومه التي ما زالت حيةً في وجدان الناس طبقًا لتحديات العصر، واعتمادًا على الثقافة الشعبية، وتحليل الأمثال العامية لإعادة توظيفها لصالح التحرُّر من قيد الماضي والانعتاق من سجنه.
والثاني حصار المستقبل والانبهار بنموذجه الغربي وكأنه النموذج الأوحد للتحديث في حين تتعدَّد النماذج في الشرق في تاريخنا القومي وفي وعينا الثقافي، فإذا اختار الغرب نموذج القطيعة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والحداثة فإن الشرق قد فضل نموذج التجاور والتناغم والانسجام وتقسيم العمل بينهما، التراث للفضاء الداخلي والحياة الخاصة، والحداثة للفضاء الخارجي والحياة العامة، دون صراعٍ بين العالمين أو خلط بينهما، وفي تاريخنا الثقافي اخترنا نموذج التغيير من خلال التواصل، تجديد القديم، وتأصيل الجديد؛ فالمسيحية قراءة روحية أخلاقية لليهودية، والإسلام جمع بين ألواح موسى وإنجيل عيسى، بين الشريعة والمحبة، بين الناموس والعفو «ما جئت لألغي الناموس بل جئت لأكمله.» والإسلام هو هذا الاختيار الحر بين الشريعة والحقيقة، بين القانون والمغفرة، بين شعائر الأطراف وشريعة القلب وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وبدلًا من الانبهار بالنموذج الغربي، يتحوَّل هذا النموذج إلى موضوعٍ للدراسة وليس للتقليد أو الرفض أو الانتقاء، بحيث يصبح الغرب ليس مصدرًا للعلم بل موضوعًا للعلم.
والثالث حصار الحاضر الذي يصعب تشخيصه ومعرفة في أي عصرٍ من التاريخ نحن نعيش بحيث لا تقوم الأجيال الحاضرة بدور سبق أن قامت به الأجيال الماضية فتقع في السلفية أو تقوم بدور قادم تقوم به الأجيال القادمة فتقع في العلمانية، بل أن تقوم بدورها وهو الانتقال من القديم إلى الجديد، ومن الإصلاح الديني إلى النهضة الشاملة، وتعي تحديات الحاضر وتقبلها دون الهروب منها تحت الأرض في التنظيمات السرية أو بعيدًا عن الأرض في الهجرة خارج الأوطان أو تبرير نظم الحكم القائمة بغية تحقيق مصالح شخصية باسم الخدمات العامة أو الانقباض والحسرة والعزلة، ونعي الزمن الرديء.
إن الغاية القصوى من الحوار مع الذات هو النظر في الآفاق وفي النفس: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. البداية بالعصر، والنهاية بالنفس، أولًا الرؤية الخارجية وثانيًا الرؤية الداخلية وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، فالعالم جزء من الذات، والذات وجود في العالم، والحوار مع الذات هو الحوار مع عالمها أيضًا، ليست الذات قوقعة أو محارة بل هي مجداف يصارع الأمواج أو ربان يبخر عباب الماء للوصول إلى منتهاه.
وأيضًا: طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ٢٠٠٢؛ علي أومليل، في شرعية الاختلاف، ط١، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، ١٩٩١.