الإسلام والعولمة١

(١) مقدمة: الموضوع والمنهج

يسهل تحديد التصوُّرات وتعريف المفاهيم طبقًا لمنطق الجواهر وهو لب المنطق القديم، ويصعب تحديد العلاقات ومعاملات الارتباط وهو لب المنطق الحديث؛ لذلك يمكن تعريف «الإسلام»، وتعريف «العولمة» ولكن يصعب تحديد معنى «واو» العطف لربط الإسلام بالعولمة.٢
وقد أصبح هذا الربط شائعًا في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر «الإسلام والتنمية»، «الإسلام والتقدم»، «الإسلام والعلم»، «الإسلام والتكنولوجيا»، «الإسلام وحقوق الإنسان»، «الإسلام والمرأة»، «الإسلام والمجتمع المدني»، «الإسلام والحداثة» … إلخ، وهي أسوأ طريقة للجمع فيها بين القديم والجديد؛ إذ توحي بأن الطرف الأول، وهو الإسلام، قديم، وأن الطرف الثاني، التنمية والتقدم والعلم والتكنولوجيا وحقوق الإنسان والمرأة والمجتمع المدني والحداثة، حديث، فلا القديم قادر على أن يتحول إلى الحديث، ولا الحديث تمتد جذوره في القديم، فينشأ صراع بين غير متصارعين، ويقع تناقض بين غير متناقضين، والقديم من الأنا، والحديث من الآخر، والمسار بالضرورة من قدم الأنا إلى حداثة الآخر مما يساهم في نشأة عقدة نقص في الأنا من الآخر، وعقدة عظمة في الآخر تجاه الأنا، وقد يتحوَّل الأمر إلى نقد الأنا وجلدها وسلخها والقطعية معها، ومدح الآخر والانبهار به واعتباره نموذجًا للحداثة والارتباط به، فتنشق الثقافة الوطنية إلى قسمين؛ أنا جماهيري قديم يدافع عن نفسه، وأنا نخبوي حديث يدافع عن غيره. ويتحول الانشقاق إلى فصام كما هو الحال في وسط شبه الجزيرة العربية، وعلى الأطراف والخصام إلى عداء، كما هو الحال في المغرب وتونس ومصر وسوريا والعراق واليمن والكويت، والعداء إلى حربٍ بين الإخوة الأعداء، كما هو الحال في الجزائر.٣
ولا يوجد مدخل واحد للموضوع أو طريقة واحدة لتناوله.٤ فالإسلام موضوع لعدة علوم: العقلية النقلية مثل العقائد والفلسفة والأصول والتصوف، والعلوم النقلية الخالصة، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، بل والعلوم العقلية الخالصة، الرياضية مثل الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والطبيعية مثل الطب والصيدلة والطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان والمعادن. والإسلام له مرحلتان تاريخيتان؛ الأولى في عصر تكوين العلوم واكتمالها في القرون السبعة الأولى، والثانية عصر الشروح والملخصات والموسوعات في العصر المملوكي التركي العثماني في القرون السبعة التالية، والإسلام ليس فقط علومًا وحضارة، بل هو تاريخ عمران وسكان ودول وفتوحات وحروب وصراعات، فأي إسلام يُقرن بالعولمة؟

والعولمة في الغرب موضوع لعدة علوم، السياسة والاقتصاد والثقافة والاتصالات، هي ظاهرة مركبة ذات أبعاد متعددة، تاريخية في التراكم الرأسمالي للغرب، واقتصادية في الهيمنة، هيمنة الدول الصناعية الكبرى، مجموعة السبع والشركات المتعددة الجنسيات على أسواق العالم، وسياسية في تخطي حدود الدول الوطنية باسم العالم قرية واحدة، أي سوق واحدة، وثقافية، ثقافة الاستهلاك والجريمة والعنف وقيم البذخ والغنى والترف، وعسكرية، في استعمال الولايات المتحدة الأمريكية المنظمات الدولية لفرض الحصار على الشعوب وتهديد أخرى بالغزو والعقاب الجماعي إذا ما شقَّت عصا الطاعة على نظام العالم الجديد ذي القطب الواحد، فأي جانبٍ من جوانب العولمة في علاقةٍ مع الإسلام؟

لا يوجد ارتباط واحد بين الإسلام والعولمة؛ فالاختيارات متعددة، ولا يوجد مدخل واحد أفضل من الآخر، كلها اجتهادات تُنير الموضوع، إنما الاختيار الأفضل هو ما تبقى في الموروث الثقافي والوجدان الشعبي من صور للإسلام والعولمة، تتقدَّم الدول وتنهار، وينشأ العمران ثم يعمه الخراب، وما يبقى من الإسلام، ثقافته ورؤيته وقيمه، ما يجعل التاريخ حيًّا قائمًا، وتأتي العولمة وتذهب كما أتت كل أشكال الهيمنة للوعي الأوروبي المركزي منذ ما يسمى «الكشوف الجغرافية» عندما التفت أوروبا حول العالم القديم، أفريقيا وآسيا من أعالي البحار والمحيطات بعد أن فشل غزوها الصليبي من البحر المغلق، البحر الأبيض المتوسط، واكتشفت العالم الجديد واحتلته وتنافست عليه وهي في طريقها إلى استعمار العالم القديم، ونشأة المدن التجارية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وتصدير الثورة الفرنسية وتحويلها إلى استعمارٍ جديد باسم الجمهورية العالمية ثم الاستعمار الأوروبي الحديث الذي بلغ الذروة في القرن التاسع عشر وخلافته للإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها في الحرب الأولى، والعنصرية الدفينة المستمرة عبر أشكال الهيمنة، روما التي ورثت أثينا، وإسبرطة التي ما زالت تنبع في أعماق الوعي الأوروبي وإن بقيت أثينا في عقله، واليهودية التي شكلت رؤيته للعالم ومعايير سلوكه وإن كان مسيحي الدين واللسان.

والمنهج هو تحليل التجارب الشعورية الحية الفردية والجماعية لكلٍّ من الإسلام والعولمة اللتين يعيشهما العالم الغربي الإسلامي اليوم دون إعطاء النفس أقل مما تستحق أو إعطاء الغير أكثر مما يستحق، ودون إحساس بالأقلية وقهر الأغلبية لها مما يدفع إلى الاحتماء بأغلبية أكثر، العولمة، ودون نفسية السجين الذي ينتفض ضد العولمة كأحد أشكال القهر والذي تتبعه النظم الحاكمة، ودون نفسية المهاجر الذي يجد في غزل العولمة مصدر رزق وإبرام عقد في جامعة بحثًا عن عمل بعد أن فقد العمل داخل الأوطان للتعالي عليها والكفر بها والبحث عن وطنٍ بديل. ليس المنهج هو نصوص الإسلام فهذه تخضع للانتقاء والتأويل أو جداول إحصائية تخضع أيضًا للانتقاء والقراءات المختلفة، إنما المحك هو التجربة المشتركة، وتطابق التجربة الفردية مع التجربة الجماعية، وهو أحد معاني الموضوعية، التطابق مع الواقع من خلال التطابق مع الآخرين، ففي التجربة المشتركة يكمن الأنا والآخر في الزمان.

ويمكن تناول الموضوع بطريقتين، الأولى رؤية الإسلام من خلال العولمة إجابة على سؤال هل هناك عولمة إسلامية؟ والثانية رؤية العولمة من خلال الإسلام إجابة على سؤال هل هناك إسلام عولمي؟ ولا يكفي فقط الحكم على العولمة من وجهة نظر إسلامية أو الحكم على الإسلام من وجهة نظر العولمة، وهو استئناف للعبة المرآة المزدوجة رؤية الآخر من خلال الأنا، ورؤية الأنا من خلال الآخر كما مارسها الطهطاوي في «تخليص الإبريز»، ولا يمكن رؤية الإسلام والعولمة من منظور ثالث يتجاوزهما معًا فلا يستطيع ذلك إلا شعور كلي محايد، وهو ما يستحيل على البشر.

وتصعب الأحكام «العلمية» الصارمة نظرًا لأن الإسلام والعولمة تجربتان حيتان في وجداننا المعاصر، الموضوع من الذات، والذات من الموضوع، فالإنسان العربي المعاصر محاصر بين الإسلام والعولمة، بين الأنا والآخر، هما صورتان لوعيه، النفس والبدن، الروح والمادة؛ ومن ثم يستحيل إصدار الحكم، المهم أن تبعد الأحكام عن التقريظ للنفس والدفاع عن الإسلام، وهجاء العولمة ونقد الغرب ورفض الآخر كما تفعل بعض الاتجاهات الإسلامية الغالبة أو العلمانية المتطرفة، وأن تبعد أيضًا عن مدح العولمة وتقريظها وبيان فوائدها وهجاء النفس وبيان تخلفها وانطلاقها كما تفعل بعض الحركات المستحدثة.

والمهم أيضًا أن تحليل ظاهرة العولمة من منظور فلسفي وعلى مستوى فكري؛ فالفلسفة تخصص ونوع أدبي وإلا تحول الفلاسفة إلى اقتصاديين وسياسيين وإعلاميين خلَّص، الفلسفة ماهية التاريخ، وكل الظواهر الاجتماعية والسياسية هي ظواهر فلسفية في أسسها النظرية، هي رؤى فردية وجماعية؛ لذلك ركز بعض المفكرين العرب المعاصرين على نظرية المعرفة والبحث عن الوحدة المعرفية episteme وراء الظواهر تحت أثر فوكو والبنيوية فتنفصل المعرفة عن الوجود وتستقل بذاتها في عالمٍ نظريٍّ مغلق، الفلسفة ماهية التاريخ تعني فقط البحث عن الجذور المعرفية لظواهر التاريخ دون أن تنفصل عنها.

(٢) العولمة الحضارية

العولمة الحضارية هي السمة الغالبة على حضارة الإسلام منذ نشأته الأولى بالرغم من نشأته في شبه الجزيرة العربية، حمله العرب شرقًا إلى فارس وشمالًا إلى بلاد الشام وغربًا إلى المغرب العربي؛ فقد حول الإسلام العرب إلى قوةٍ تاريخية صاعدة بين إمبراطوريتي الفرس والروم اللتين أنهكتهما الحروب ودون أن ينتصر أحدهما على الآخر، يوم له ويوم عليه الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ.

وبالرغم من أن الإسلام نشأ في شبه الجزيرة العربية كدين وطني لها، ولسانه العربية إلا أن عقيدته الأولى، التوحيد، لا حدود لها، انتشرت خارج الوطن واللغة بلا حدود، في ربوع الشام وفي سهول آسيا الوسطى وجبال المغرب العربي. كما انتشر عبر المحيطات إلى جنوب شرقي آسيا وعبر مضيق جبل طارق إلى أوروبا وفيما بعد إلى أفريقيا جنوب الصحراء عبر وادي النيل أو السواحل الشرقية والغربية والجنوبية، التوحيد عولمة في تصور العالم، العالم قرية واحدة، والبشر جميعًا بلا حدود يتساوون جميعًا أمام الإله الواحد، ويتمثلون قيمًا إنسانية واحدة «كلكم لآدم وآدم من تراب.» «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.» «وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان.» نشئوا من أصلٍ واحد، النفس، ويعودون إلى أصلٍ واحد، الاستحقاق.

إعلانه الأول الشهادة التي تتكون من فعلين: نفي في «لا إله» وإثبات في «إلا الله»، نفي كل مظاهر التسلُّط والهيمنة الطبيعية والبشرية حتى يتحرَّر الوجدان الإنساني في كل مظاهر القهر والطغيان «الله أكبر قاصم الجبارين»، التوحيد يعني الحرية الإنسانية، خلق البشر جميعًا من نفس واحدة، ومعادهم معاد واحد، الاستحقاق طبقًا للأعمال، وتتضمَّن الحرية المساواة الطبيعية في الحقوق والواجبات، فإذا حدث تفاوتٌ في الدخول بين الأغنياء والفقراء يبدأ التكافل الاجتماعي لتحقيق وحدة المجتمع، وحدة الأمة انعكاس لوحدة الله في البشر والنظام الاجتماعي.٥

هذه الوحدة الشاملة لا تنفي التعددية، فالوحدة لا تنفي التنوع، والتنوع تناغم يؤدي إلى الوحدة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، الوحدة والتنوع كلاهما حقائق في الوجود، العالم واحد ومتنوع في آنٍ واحد، البداية من أصل واحد، والنهاية إلى أصل واحد، وما بينهما يعيش البشر مع مبدأ واحد، والاختلاف سنة الكون وقانون الطبيعة، والتكثر مبدأ الأشياء، ويتفرد الإنسان عن الله بالحرية والمسئولية، والملل والنحل كثرة داخل الوحدة كما عبر عن ذلك «دستور المدينة»، اليهود، والنصارى، والصابئة، والبراهمة، والحنيفية، والمجوس وأضاف القاضي عبد البر «عبدة الأوثان»، كل منها أمة واحدة، لها كيانها المستقل، لغتها وأعرافها وعقائدها وشرائعها داخل الأمة الواحدة.

وقد نشأت بعض مقولات ومصطلحات وتعبيرات الفقه القديم في عصر الفتوحات من أجل تقوية الأمة الناشئة ولم تعد دالَّة على هذا العصر مثل: «أهل الكتاب»، «أهل الذمة»، «الإسلام أو الجزية أو القتال». تعبير «أهل الكتاب» الآن يعني مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ومستمدة من آية المباهلة: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. و«أهل الذمة» مفهوم أخلاقي، ارتباط الجميع بقانون خلقي وليس تبعية المولى؛ فالقانون الخلقي يعم الجميع، قانون السلام بين البشر دون اعتداء أو عدوان. و«الإسلام أو الجزية أو القتال» تمت صياغته في العلاقات الدولية في عصر الفتوحات للقوة الجديدة الصاعدة التي تبرز للعالم بين الإمبراطوريتين القديمتين اللتين أنهكتهما الحروب دون غالب أو مغلوب، الفرس والروم، مفهوم الأقليات إذن مفهوم كمي لا ينطبق على الإسلام لأن الملل والنحل مفهوم كيفي حتى ولو كان صاحب النحلة فردًا واحدًا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، «لئن يهدي بك الله رجلًا واحدًا خيرٌ لك من الدنيا وما فيها.»

والمحددات الداخلية للفقه القديم أيضًا محددات تاريخية مرتبطة بروح العصر مثل ما يتعلَّق بالحريات الشخصية ووضع المرأة؛ فقانون الردة قد تمت صياغته من أجل تقوية الدين الجديد وعدم الرجوع إلى مراحل الوحي السابقة في التشريع بعد أن اكتملت النبوة طبقًا لمبدأ لَا إِكرَاه في الدِّين، ولَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وفَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، والقصاص جزء من قوانين الشعوب القديمة والحديثة باستثناء بعض الأنظمة القانونية التي لا تبيح القصاص بناءً على التوحيد بين الذات والصفات والأفعال في الشخصية الإنسانية وهو الموقف الاعتزالي، في حين أن المذهب الأشعري وهو المذهب السائد في الأمة يجعل الصفات والأفعال زائدة على الذات مما يبيح إعادة النظر في موضوع القصاص، فمهما كانت صفات القاتل وأفعاله إلا أن ذاتَه تتجاوزها، ويمكن أن يقال نفس الشيء في عذاب البدن مثل قطع اليد والرجم؛ فالبدن جزء من حقوق الإنسان، والتعذيب وآلام البدن منافية لحقوق الإنسان بدليل العفو والشبهات والمجتمع الصالح الذي تمحى فيه السرقة، والزواج المبكر الذي يمنع الانحراف.

ومحددات وضع المرأة تُفهَم أيضًا في سياق تاريخي تدريجي من أجل تغييره وليس لمجرد الإعلان عن النهاية قبل أن تبدأ البداية؛ فالمرأة قبل الإسلام لم يكن لها حق الحياة وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، فأعطاها الإسلام حق الحياة في مجتمع ذكوريٍّ حربيٍّ، المرأة فيه عورة ونقطة ضعف تُؤخذ سبيةً في حالة هزيمة القبيلة، وكان تعدُّد الزوجات بلا حدودٍ فوضع الإسلام له شرطًا مستحيلًا وهو العدل بينهن دلالة على أن النهاية هي الزوجة الواحدة للرجل الواحد كقاعدةٍ إلا في حالات الاستثناء العامة.٦ وهي نصف وارثةٍ لأنها لم يكن لها حق الوراثة على الإطلاق، والزمن كفيل بتطوير الوضع إلى حد المساواة، بالإضافة إلى أن الوحدة الحسابية في قانون الميراث الأسرةُ وليس الفرد، وفي هذه الحالة تتساوى الأسر في قانون الميراث، لكلٍّ منها نصيب ونصف على الأقل، وهي نصف شاهدةٍ لأنها لم يكن لها حق الشهادة على الإطلاق، والتطوُّر والزمن والتاريخ، في ثقافة أمية كل ذلك كفيل بأن يجعلها شاهدةً كاملة.

(٣) العولمة الثقافية

ولما اتسعت الفتوحات الأولى أصبح البحر الأبيض المتوسط مركزًا للعالم القديم بشاطئيه الشمالي والجنوبي، أوروبا وأفريقيا، وحافتيه الشرقية والغربية، فلسطين وجبل طارق؛ إذ ورث الحلف الإسلامي Pax Islamica الحلف الروماني Pax Romana، أصبح البحر الأبيض بحيرة عربية لربط أفريقيا بأوروبا عبر البحر الأحمر رابطًا أفريقيا بآسيا، كان حلم عبد الرحمن الداخل هاربًا من دمشق إلى مصر إلى المغرب العربي العودة إلى دمشق من الشمال عبر أوروبا، وقد وصل المد الإسلامي بالفعل من الأندلس حتى «تور» بفرنسا من الغرب، ومن تركيا حتى فينا من الشرق، وفي مرحلة متأخرة عبر الإسلام فوق الأطلنطي إلى «العالم الجديد» من أفريقيا، كما عبر إلى جنوب القارة الأفريقية من آسيا، وقد أصبح المسلمون الآن سدس سكان العالم، الدين الثاني بعد المسيحية، يمتد على أسواقٍ مترامية الأطراف، ويمتلك مواد أولية وعوائد نفطية وقدرات بشرية ما تسمح له بأن يكون كتلة اقتصادية عالمية، مركزًا وسط أطراف، أوروبا الشمالية، وآسيا الشرقية والعالم الجديد ما وراء الأطلنطي، بل وأستراليا ونيوزيلاندا عبر إندونيسيا والفلبين، دون تبعية الأطراف للمركز؛ فالوطن هو الأساس وليس الكوسموبوليتانية، وهناك الخلافة المركزية في المدينة أو دمشق أو بغداد أو القاهرة أو إستانبول، وهناك الأمصار، وقد كانت اللامركزية أحد الاتجاهات الإصلاحية للخلافة المركزية العثمانية، وحتى الآن في بعض الأنظمة السياسية العربية هناك وزارات للحكم المحلي.

ولا توجد ثقافة قائمة احترمت وأكَّدت، وحافظَتْ على، وعظَّمت ثقافات الشعوب المفتوحة مثل الثقافة العربية الإسلامية، اليونانية والرومانية غربًا، والفارسية والهندية شرقًا، فأرسطو هو المعلم الأول، والفارابي المعلم الثاني، وبطليوس هو الأول، وابن هيثم بطليوس الثاني، وسقراط أحكم البشر، وأفلاطون صاحب الأيد والنور، وجالينوس فاضل المتقدمين والمتأخرين، وأرسطو هو الحكيم، وأفلوطين الشيخ اليوناني، وسُمي مسكويه «جاويدادخرد» الحكمة الخالدة، وكتب البيروني أفضل ما كتب عن الهند «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة».

وساهمت الدولة نفسها في ذلك، كان التعرُّف على ثقافات الشعوب المفتوحة وترجمة أعمالها مشروع الدولة والأمة معًا، وفي الخيال التاريخي أن المأمون رأى أرسطو في المنام في حوار حول الحسن والقبح، واتفاق العقل والشرع وضرورة ترجمة كتب أرسطو التي تقوم على العقل المتفق مع الشرع، فأسس المأمون ديوان الحكمة، وعيَّن حنين بن إسحاق رئيسًا له، وساهم نصارى العرب في هذا النقل من اليونانية إلى العربية مباشرة أو عبر السريانية، فالمترجمون كانوا عربًا، نصارى دينًا، ومسلمين ثقافة، كان ولاؤهم للثقافة العربية، يطوِّعون النص اليوناني المترجم إلى ثقافة المتلقي وتصوراته للعالم؛ فالآلهة جمعًا تترجم «إله» بالمفرد و«الملائكة» جمعًا، والناموس يترجم الشريعة، لم تكن الترجمة نوعًا من «التغريب» أي الانبهار بالإغريق كما هو الحال الآن في بعض الترجمات الشامية والمغربية التي تقوم على «التغريب» أي الانبهار بالغرب إعجابًا بالثقافة الغربية مما يحدث رد فعل أصولي لدى أصحاب الثقافة الموروثة باسم الهوية ضد الثقافة الوافدة باسم التحديث،٧ بل عن الترجمة تجاوزت الحرفية إلى المعنوية، ثم تجاوزت المعنوية إلى التعليق حذفًا وإضافة، واستعملت النقل أكثر من التعريب حرصًا على نقاء اللغة العربية.٨ ولم تُعرَّب إلا أقل المصطلحات الباقية إلى اليوم: موسيقى، فلسفة.

وبعد الترجمة والتعليق ونشأة المصطلح الفلسفي جاء العرض، التعبير عن الموضوع بأسلوب عربي أصيل، وإعادة كتابة الفلسفة اليونانية خاصة وكأنها تأليف مستقل، ويكون العرض جزئيًّا، كتابًا كتابًا لأرسطو مثل «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة» للفارابي أو كليًّا لكل فلسفة أرسطو مثل «كمية كتب أرسطو» للكندي، وقد يكون العرض جمعًا بين مذهبين بغية وحدة الرؤية؛ فالحكمة لا تتناقض، والحكيمان لا يتناقضان، والأجزاء تدخل في الكل مثل «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» للفارابي، ثم يدخل الوافد في الموروث ويتم عرض الحكمة ذاتها بعنصريها مثل «تحصيل السعادة» للفارابي الذي يتحدث فيها الفارابي كحكيم خالد، لا يونانيًّا ولا عربيًّا، ويصف السعادة من حيث هي سعادة في جزء أول ثم «فلسفة أفلاطون» في جزء ثانٍ يعرض فيه نظرية أفلاطون في السعادة ثم «فلسفة أرسطو» في جزءٍ ثالثٍ لعرض نظرية أرسطو في السعادة، فالبنية هي التي تتحكم في التاريخ بصرف النظر عمَّا إذا كانت سابقة عليه أو تابعة له.

ثم يستمر التأليف جمعًا بين الوافد والموروث، بين الداخل والخارج، بين علوم العرب وعلوم العجم، بين أساليب القرآن ومنطق اليونان، فالنحو منطق العرب، والمنطق نحو اليونان.٩ ويبدأ التأليف بتمثُّل الوافد حتى يتم هضمه والاستفادة منه والتعلم عليه دون رفضه أو احتقاره أو تدميره باعتباره كفرًا وزندقة، ثم يدخل تنظير الموروث مع تمثل الوافد؛ فالوافد يوقظ الموروث من سُباته ويدفعه إلى مزيد التنظير والتعقيل حتى يقارب من عقل الوافد، والعقل هو العنصر المشترك بين الوافد والموروث، عقل اليونان وعقل الوحي، ثم يتعادل تنظير الموروث مع تمثُّل الوافد فيسير التأليف العربي على ساقين متساويتين، ثم يتقدم تنظير الموروث على تمثل الوافد؛ فالوافد وسيلة وليس غاية، أدَّى دوره في تنظير الموروث، ثم يختفي الوافد كلية لصالح تنظير الموروث، فالحضارة الآن احتوَت الآخر وضمَّتْه وتبدع من تلقاء ذاتها من مخزونها الخاص، وأخيرًا يختفي تنظير الموروث لصالح الإبداع الخالص اعتمادًا على العقل وحده دون ما حاجةٍ إلى «عكازين» أو «سنادتين» أو «دعامتين» خارجيتين، الوافد والموروث بعد أن تحولا إلى طاقةٍ إبداعية خالصة.١٠

وإذا ما وجد العرب فيلسوفًا يونانيًّا ناقصًا أكملوه حتى يبدو فيلسوفًا كاملًا فالكمال مطلب عربي، والحكمة مطلب إسلامي؛ لذلك نُسبت أجزاء من التاسوعات لأفلوطين إلى أرسطو حتى تكتمل الإلهيات الناقصة لديه، فإن لم يوجد في النصوص ما يتم به إكمال الناقص انتحلت نصوص جديدة من وضع العرب بروح اليونان، فيثاغورث له «وصية ذهبية»، فليس من المعقول أن هذا الحكيم الرياضي الإلهي لا يوصي، وكذلك لسقراط كتاب «التفاحة» فليس من المعقول ألَّا يوصي سقراط لتلاميذه في الليلة الأخيرة قبل استشهاده كما فعل السيد المسيح، وأرسطو له مراسلات مع تلميذه الإسكندر، والإسكندر له رسائل متبادلة مع أمه، وأفلاطون «العهود اليونانية» وأرسطو له «سر الأسرار» الذي دون فيها الحكمة «المضنون به على غير أهله». وله «وصية في تربية الأحداث» وهو المربي صاحب الجمهورية. ولكلٍّ من أرسطو وأفلاطون كتاب في «السياسة»، والقول الدائري الشهير في السياسة «العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكفله المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم.» يُنسب إلى الفرس واليونان في آنٍ واحد؛ فهو جزء من الحكمة الخالدة بصرف النظر عن قائلها، وعندما اكتشف نص «ينبوع الحياة» ادَّعت كل طائفة تأليفه، اليهود والنصارى والمسلمون قبل أن يتحقَّق المحدثون أنه لابن جبرول؛ فثقافة الأندلس واحدة شاركت فيها جميع الطوائف طبقًا لنموذج الوحدة في التنوُّع، والتنوُّع في الوحدة.

بل استطاع الحكماء صياغة نوع أدبي ثالث، لا هو يوناني ولا هو إسلامي، يوناني اللفظ، إسلامي المعنى، يوناني الشكل إسلامي المضمون؛ فالله هو العلة الأولى والمحرك الأول والصورة المحضة والجوهر الخالص، فحدث تبادل بين الثقافتين اليونانية والإسلامية، أسقط اللفظ الإسلامي واستبدل به اللفظ اليوناني، وأسقط المعنى اليوناني واستبدل به المعنى الإسلامي؛ فالعلة الأولى خالقة للعالم ومدبرة له، وهو ما عرف باسم «التشكل الكاذب».١١

(٤) العولمة التبادلية ذات القطبين

وتعني العولمة «التبادلية» ذات الاتجاهين، العولمة المزدوجة، تأخذ وتعطي، تؤثر وتتأثر؛ فكما أخذت الثقافة العربية الإسلامية من الحضارات المجاورة خاصة اللغة أعطت معاني وتصورات أكمل ومن منظور أوسع، الفرد والجماعة، العقل والقلب، النظر والعمل، المعرفة والأخلاق، الدنيا والآخرة، واستمر ذلك من نشأة الحضارة الإسلامية إلى نهايتها عندما بدأ الغرب اللاتيني في العصر الوسيط المتأخر يترجم منها، فإذا كانت الترجمة الأولى من الآخر إلى الأنا بفضل النصارى العرب فإن الترجمة الثانية من الأنا إلى الآخر بفضل اليهود العرب والنصارى الآتين خاصة من الأندلس، في غرناطة وإشبيلية وقرطبة وطليطلة، وكما أسس المأمون ديوان الحكمة أولًا أسس أسقف طليطلة الأسقف ريموندو ديوانًا للترجمة، فقد ظلت اللغة العربية لغة الحياة اليومية فيها على مدى قرنَيْن من الزمان بعد سقوطها، كما تمَّت الترجمة أيضًا عبر صقلية وجنوب إيطاليا غربًا وبيزنطة شرقًا، وقد ظلَّت اللغة العربية لغة العلم والتأليف كما كان الحال في بلاط فردريك الثاني، وكانت البعثات تُرسل من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، وكانت الأسئلة الفلسفية التي تؤرق الأباطرة لا يجدون الإجابات عليها إلا عند المسلمين مثل «المسائل الصقلية لابن سبعين».١٢

وكما تمت الترجمة الأولى من اليونانية إلى العربية لصالح المتلقي بالحذف والإضافة لتوسيع المنظور اليوناني المغلق إلى منظورٍ إسلامي مفتوح بضم إمكانيات أوسع، كذلك تمَّت الترجمة الثانية من العربية إلى اللاتينية مع الحذف، حذف كل العبارات الدينية وأسماء الجلالة التي اعتبرها المترجم أقرب إلى الدين منها إلى العلم، فبدأ العلم ينغلق على نفسه من جرَّاء الفصل بين الدين والعلم، بناءً على التجربة الغربية مع الكنيسة، فبدأت تظهر أزمة العلم بعد انتصاره وبعد التمييز بين حكم الواقع وحكم القيمة، مع أن الواقع قيمة، والقيمة واقع.

وظهر لأول مرة في الفلسفة المدرسية اللاهوت العقلاني عند الجدليين في فرنسا في القرن الحادي عشر في صراعهم ضد اللاهوتيين، الفريق الأول يعتمد على الجدل العقلي البرهاني عند أنسليم لإيجاد البراهين العقلية على وجود الله وخلود النفس، وانقلب النموذج من «أُومِن كي أعقل» عند أوغسطين إلى «أعقل كي أُومِن» بعد أن كان التناقض أساس الإيمان منذ ترتليان والذي رد إليه كيركجارد اعتباره في القرن التاسع عشر، وازدهر عند أبيلار في القرن الثاني عشر التيار العقلاني حتى إنه تم تحكيم العقل في النص في كتابه الشهير «نعم ولا» لإثبات تناقض أقوال آباء الكنيسة، وكان المسلم نموذج الفيلسوف في كتابه الآخر «حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف». واستمر الحال كذلك عند توما الأكويني في الاعتماد على العقل الطبيعي لإثبات حقائق الدين، وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، وبلغ العقل الذروة مرة أخرى عند الرشديين اللاتين، سيجر البرابنتي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، يؤكدون وحدة الوحي والعقل والطبيعة، هذا النموذج الإسلامي الذي كان وراء قيام العلوم الرياضية والطبيعية في العالم الإسلامي.١٣ واستمر العلم الإسلامي نموذجًا للعلم المدرسي عند دنزسكوت ووليم أوكام قبيل العصور الحديثة بعد أن ترجمت الأعمال الرياضية والطبيعية (الكندي)، والكيمياء (جابر بن حيان)، والهندسة والضوء (الحسن بن الهيثم)، والجبر (الخوارزمي)، والفلك (البيروني)، ونقلت تكنولوجيا الري (عجلات الري) والحرب (المنجنيق) والاتصالات (البوصلة)، كما نترجم نحن الآن العلم الغربي وتقنياته.

واستمر النموذج الإسلامي قبيل العصور الحديثة، في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر عند مارتن لوثر الذي تعلم العربية لمعرفة كيف استطاع الإسلام أن يحل معضلات الكاثوليكية، فجاءت البروتستانتية على النموذج الإسلامي ومبادئه؛ الكتاب وحده، حرية التفسير، رفض التوسط بين الإنسان والله، أولوية الإيمان القلبي على الشعائر الخارجية، الدين للوطن، ثم استمر في عصر النهضة في القرن السادس في معركة القدماء والمحدثين وانتصار المحدثين على القدماء باسم التطور والتغير والزمن والتاريخ، والتحول من التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان، ومن النفس إلى البدن فتم اكتشاف الدورة الدموية، ومن التمركز حول الأرض إلى التمركز حول الشمس في علم الفلك الجديد، وفي التحول من النص إلى الواقع، ومن الكتاب المغلق، الكتاب المقدس، إلى كتاب الطبيعة المفتوح، العقل مصدر العلم الرياضي، والطبيعة مصدر العلم الطبيعي، والعقد الاجتماعي مصدر السلطة في المجتمع، والمجتمع المدني البديل عن الكنيسة.

واستمر النموذج الإسلامي في القرن السابع عشر في المنهج العقلي عند ديكارت «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» فالعقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، ولا فرق بين شك ديكارت المنهجي وشك الغزالي النفسي «من لم يشُكَّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال.» والنظر أول الواجبات عند المعتزلة، ومناط التكليف عند الفقهاء، وأساس النقل عند الحكماء بل والفقهاء كما قال ابن تيمية (درء تعارض العقل والنقل): «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.» وما لا دليل عليه يجب نفيه: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. واستمر العقل عند اسبينوزا مطبقًا إياه في الموضوعات التي استثناها ديكارت من المنهج مطبقًا فيها «الأخلاق المؤقتة»، وانتهى إلى إثبات التحريف في الكتاب المقدس، وأن النبوة ليست حكرًا على اليهود وحدهم، وانتهاء عصر المعجزات، ونقض العهد الأحادي المطلق المجاني بين الله وبني إسرائيل لصالح عهد تعاقدي روحي مشروط بتقوى الله وطاعته كما هو الحال في الإسلام، ورفض الحكم الثيوقراطي لصالح «مواطن حر في دولة حرة»، وهو الشورى قبل أن تظهر الديمقراطية في الغرب كنظام سياسي، فالإمامة عقد وبيعة واختيار.١٤
واستمر النموذج الإسلامي في المنطق الجديد عند بيكون «الآلة الجديدة» مؤسسًا منهج التجريب الحديث الذي أسسه المسلمون عند جابر بن حيان، والكندي والرازي وابن سينا وابن رشد في الطب والصيدلة، وهو منهج الأصوليين في التعليل قبل وضع جون استيوارت مل مبادئ الاستقراء.١٥ وهو ما سماه الشاطبي «الاستقراء المعنوي» لأن الأجزاء لا تكوِّن الكل، والنوازل لا تنشئ القاعدة، وقد بدأت أزمة الاستقراء في الغرب بفصل الاستنباط عن الاستقراء، وإبعاد العقل عن الحس وكما لاحظ لاشيلييه في «أسس الاستقراء»، وكما نقد كلود برنار في «المدخل إلى الطب التجريبي» وهوسرل في الجزء الأول من «بحوث منطقية» في نقد المنطق التجريبي.
ولم تبتعد مُثل التنوير في القرن الثامن عشر عن الأصول الخمسة عند المعتزلة ولا عن نموذج الحكمة عند الفلاسفة أو المصالح العامة عند الأصوليين؛١٦ فالعقل والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والطبيعة والتقدم هي نفسها المثل التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، اكتشفها الوعي الأوروبي في صراعه ضد المعجزات والإقطاع والقهر والظلم الاجتماعي والعودة إلى الماضي بالرغم من نقد فلاسفة التنوير القضاء والقدر والاستبداد الشرقي والنظم الثيوقراطية وهو ما ينقده الإسلام أيضًا، بل إن الجدل الهيجلي لا يبعد عن جدل الوحي، من اليهودية، الشريعة، إلى المسيحية، المحبة، إلى الجمع بين الاثنين في الإسلام وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، والدولة عند هيجل، الروح في التاريخ، والمطلق في المجتمع أشبه بالحاكمية عند الحركات الأصولية، وإعطاء الأولوية للفنون السمعية على البصرية أقرب إلى النظرية الإسلامية،١٧ والوحدة المطلقة عند شلنج أقرب إلى قراءة جديدة لابن عربي، ولم تبدأ الأزمة في الغرب إلا في القرن العشرين عندما بدأ يخبو النموذج الإسلامي ويخف الباعث الأول للعصور الحديثة ومقاربتها على النهاية.

فإذا كان الوحي قد أعطى الحقائق حدسًا فإن العقل وجد البراهين على صدقه في الحضارة الإسلامية، ووجدت الطبيعة والتجربة والواقع البراهين على صدقه في الحضارة الغربية، نظرًا لوحدة الوحي والعقل والطبيعة؛ فالحضارة الغربية تقوم في دوافعها على بواعث إسلامية، تطابق العقل والطبيعة؛ نظرًا لأن تدوين الوحي لم يصمد أمام النقد التاريخي، وأقوال الكنيسة لم تصمد أمام النقد الفلسفي.

ومن ثم فإن تيار «أسلمة العلوم» الذي يقوم على استيراد العلم من الغرب ثم قراءته قراءةً إسلاميةً عن طريق وضع نظارة النص عليه لا يعرف أن هذا العلم في بواعثه، معرفة قوانين الطبيعة، وقوانين المجتمع وقوانين التاريخ؛ علمٌ إسلامي في بداياته وليس في نهاياته، في مقدماته وليس في نتائجه؛ فالبحث عن الحقيقة أقرب إلى الحقيقة من أخذها جاهزةً ثم الحكم عليها بمقاييس خارجية، ما يحدث حاليًّا هو نقل العلم الغربي بلا تمحيص ثم انتقاء نصٍّ قرآني أو حديث نبوي وإلصاقه عليه، فإذا كانت النتيجة إيجابًا كان القرآن أسبق من العلم الغربي في اكتشاف الحقائق العلمية وإن كانت سلبًا كان القرآن على حق والعلم الغربي على باطل؛ لأن الوحي لا يخطئ في حين أن علم البشر يخطئ، والرهان كله على المؤوِّل والمنتَقِي الذي يستطيع أن ينتقي ويؤول العلم الغربي والنص الديني فيحدث الاتفاق أو الاختلاف بينهما، فإذا كان النص الديني يحتوي على العلم الغربي، فلماذا لم يعلن عن ذلك من قبل؟ وإن كان العلم الغربي خاطئًا فلماذا لم يعط النص الديني العلم الصحيح من قبل؟ وبهذه الطريقة يكون للعلم الغربي الريادة والاكتشاف، ويكون النص الديني مجرد تابع له، وماذا يحدث إذا ما تغيَّر العلم الغربي وأتى بالنظرية المضادة بعد أن كان النص الديني قد اتفق معه، فهل يتغيَّر فَهْم النص وتأويله حتى يتفق مع النظرية المضادة الجديدة؟ وبهذه الطريقة يضيع ثبات النص ويصبح متحولًا بالتحوُّل العلمي، وتصبح كل الحقائق متغيرةً ولا ثبات لأيٍّ منها وهو ما يُضاد العقائد الثابتة للدين، ويصل الأمر إلى منتهاه عندما يعلن أن الله سخَّر الغرب لنا، نأخذ علمه ولدينا الدين فنفوز بالحسنيين، الدنيا والآخرة، في حين أن الغرب يفوز بالدنيا دون الآخرة، فنسجل نقطة زائدة عليه، ولما كانت الدنيا بمفردها خاسرة يخسر الغرب، ولما كانت الآخرة دون الدنيا خاسرة نكسب نحن باسم الكسل والتبعية.

وربما يعود الغرب الآن إلى اكتشاف مصادر أخرى للمعرفة غير نفسه، في الشرق القديم وفي الثقافات النقيضة، راداكرشنان، بوذا، أو الإسلام الصوفي أو في الإيقاع الأفريقي لعله يستطيع أن يجد باعثًا جديدًا على الإبداع؛١٨ فالحضارة الغربية ليست إبداعًا على غير منوال وبدون أصول سابقة، فحضارات ما بين النهر، وكنعان، ومصر القديمة، والهند كلها كانت مصادر «للمعجزة» اليونانية، وفي التاريخ لا شيء يحدث من لا شيء.

(٥) العولمة كأحد أشكال الهيمنة الغربية

ومنذ أقل من عقد من الزمان استشرى في الثقافة العربية مفهوم العولمة Globalization، المشتق من لفظ الكوكب بالإنجليزية؛ لذلك يترجم أيضًا الكوكبية أو Mondialization المشتق من لفظ Monde بالفرنسية أي العالم، وتتداخل معه ألفاظ المدينة الكونية Cosmopolism أي العالم قرية واحدة، ولا يوجد مفهوم في الفكر العربي المعاصر وجد هذا الكم الهائل من الشرح والتعليق بالبحوث والندوات المحلية والمؤتمرات كما وجد هذا المفهوم.

والحقيقة أنه ليس مفهومًا بل لفظ يشرع على مستوى الفكر والأيديولوجيا لحدثٍ وقع عام ١٩٩١، سقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي ونهاية عصر الاستقطاب، وانتصار الرأسمالية سلبًا، بغياب البديل الآخر، وليس لمقوماتها الذاتية؛ فهو مفهوم تبريري بَعْدي، تشريعًا لحدث وليس مفهومًا قَبْليًّا نظريًّا سابقًا على الحدث.

وهي ليست قدرًا تاريخيًّا أو حتمية كونية بل حدث طبيعي نتيجة لسيادة الداروينية الاجتماعية على الأيديولوجية الاشتراكية والتسلُّط القيصري على النظم الاشتراكية التي لم تمرَّ بفترةٍ ليبرالية كما مر الغرب، وتحولت من القيصرية الإقطاعية إلى الاشتراكية وديكتاتورية البروليتاريا، هي حصيلة أفعال البشر وتراكماتها عبر ثلاثة أرباع القرن، وكان الوقت قد فات للمصارحة والمكاشفة وتصحيح الأخطاء، وهي دورة طبيعية في تاريخ البشر وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.

والعولمة الغربية ظاهرة اقتصادية سياسية إعلامية وليست ظاهرة حضارية كما هو الحال في الثقافة العربية الإسلامية، هي أحد أشكال الهيمنة الغربية الحديثة وأحد أشكال التعبير عن المركزية الأوروبية التي تقوم ليس فقط على تراكم الخبرات البشرية من الشرق إلى الغرب، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر وكنعان واليونان والرومان والعرب واللاتين في العصر الوسيط بل على عنصريةٍ دفينةٍ تقوم على اللون، الأبيض أفضل من الأسود (أفريقيا) والأسمر (أمريكا اللاتينية) والأصفر (آسيا)، تقوم على علاقة القوي بالضعيف والغني بالفقير، والسيد بالعبد، وصاحب رأس المال بالعامل والمستهلك، والعالم بالجاهل، والمتحضر بالبدائي، والمتقدم بالمتخلف، والحديث بالقديم، والعالمي بالمحلي، والعولمي بالوطني.

هي ظاهرة اقتصادية أولًا مثل طبيعة النظام الرأسمالي بالرغم من أن الليبرالية نظرية سياسية قبل أن تكون مذهبًا اقتصاديًّا، تجميع رأس المال في الدول الصناعية الكبرى، مجموعة السبع، وتأسيس الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، وإسقاط الحواجز الجمركية التي تفرضها الدول المستقلة على البضائع المستوردة، وإخضاع العالم كله إلى منظمة التجارة العالمية، وقوانين السوق الحر الذي يقوم على المنافسة والربح وإقامة الصناعات في المناطق ذات الأيدي الرخيصة خارج المركز حيث يمكن دفن النفايات والتخلص من تلوث البيئة، ونظرًا لارتباط الاقتصاد بالنظام المالي الدولي تدخل البورصات لتحويل رءوس الأموال بالمليارات في اليوم الواحد؛ لإحداث هزاتٍ في أسعار العملات وانخفاض لها خاصة عملات الدول التي تنافس مجموعة السبع مثل النمور الآسيوية.

وهي ظاهرة سياسية ثانيًا تبغي تحويل العالم كله إلى قرية واحدة وإسقاط السيادة الوطنية للدول القومية، واستعمال المنظمات الدولية كأداةٍ لفرض العقوبات على الدول التي تشق عصا الطاعة على نظام العالم الجديد ذي القطب الواحد، وفرض الحصار الجوي والبحري عليها، والتهديد بالغزو العسكري مثل حصار العراق وليبيا وتهديد السودان وإيران، وتفتيت يوغوسلافيا والدور على إندونيسيا وربما الهند، وهو ما يخطط للوطن العربي أيضًا تكفيرًا عن قومية الستينيات، ومناهضة الاستعمار والصهيونية، وتكوين كتلة العالم الثالث في عصر الاستقطاب. العولمة إذن ليست ذات اتجاه واحد، التجميع والتوحيد والضم نحو المركز بل ذات اتجاهين، وحدة المركز وتشرذم الأطراف، ومناهضة أي تجمع إقليمي آخر يحتمل أن يكون قطبًا ثانيًا، والعودة إلى نظام الاستقطاب. الوطن العربي في عصر العولمة لا يكون كلًّا واحدًا أو تجمعًا مستقلًّا بل مجموعة من الطوائف والنِّحل والملل والأعراف؛ مهدد بالتقسيم إلى شيعي وسني في العراق والخليج، عربي وبربري في المغرب العربي، علوي ودرزي في سوريا، ماروني وسني في لبنان، زيدي وشافعي في اليمن، وهَّابي قديم ووهَّابي جديد في شبه الجزيرة العربية، إباضي وسني في عمان، مسلم وقبطي في مصر، شمالي وجنوبي في السودان، سلفي أصولي وعلماني حدثي في الجزائر، بدوي وحضري، فلسطيني وأردني في الأردن، قومي وقُطري على مدى الساحة العربية؛ وبالتالي تصبح إسرائيل الدولة الطائفية الكبرى في المنطقة، وتحصل على شرعيتها باسم اليهود ضد لا شرعيتها كاستعمارٍ استيطاني وشوفينية قوميات من مخلفات القرن التاسع عشر.

ليست العولمة ظاهرةً حديثةً فقط في العقد الأخير بل تمتد جذورها إلى بدايات تكوين الغرب القديم في العصر اليوناني الروماني؛ فقد أراد الإسكندر بفتوحاته واندفاعه نحو الشرق تكوين إمبراطورية يونانية، وإنهاء عصر الاستقطاب اليوناني الروماني غربًا والفارسي شرقًا، بقيادة أثينا، عالم واحد، ولغة واحدة، وثقافة واحدة باسم التنوير اليوناني والعقل اليوناني حتى لقد اعتبرته بعض الكتابات المنحولة من الحضارة الإسلامية نبيًّا من أنبياء الله، ربما ذو القرنين المذكور في القرآن، الداعي للتوحيد، المجاهد في سبيل الله، وحاول الفرس ذلك مندفعين نحو الغرب، واحتل قمبيز مصر، وحارب كسرى قيصر، ولكن لم يقدر له النجاح مما أعطى الغرب في أصوله ثقةً بالنفس، واستمر الرومان فيما بدأه اليونان، واستولَتْ روما على العالم القديم، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، في الجنوب والشمال، والشرق والغرب باسم Pax Romana أحد مصادر Pax Americana.

ولم يكن الصراع من أجل العولمة بين الشرق والغرب وحده بل أيضًا بين الشمال والجنوب، بين روما وقرطاجنة، بين أوغسطين ودوناتوس، بين القيصر وهانيبال، بين أوروبا وأفريقيا على زعامة العالم الروماني ثم العالم الروماني المسيحي، وعاد الصراع من جديدٍ بين الشرق والغرب والشمال والجنوب معًا أثناء الغزو الصليبي في العصور الوسطى عندما اجتمعت الدول الأوروبية «المسيحية» تحت دعوى إنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين من أجل السيطرة على الشرق بعد أن عزَّت السيطرة على المغرب وبقي الأندلس صامدًا بمدنه المستنيرة؛ إشبيلية وقرطبة وغرناطة، وكانت طليطلة قد سقطت من قبل، ولم ينجح الغزو الصليبي في تركيز العولمة الغربية في أحد أشكالها القديمة.

وبعد سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر عام ١٤٩٢؛ عام مؤتمر مدريد واستسلام العرب المحدثين كما استسلم العرب القدماء بدأت العولمة الأوروبية في العصور الحديثة بمساعدة الخرائط العربية والملاحين العرب بالالتفاف حول العالم القديم من المحيطات حول أفريقيا إلى آسيا، فتم اكتشاف العالم الجديد، وسُميت جزره قبل القارة الجديدة جزر الهند الغربية، بدأت المركزية الأوروبية الحديثة بما سمي «الكشوف الجغرافية» وكأن العالم القديم لم يوجد قبل قدوم الرجل الأبيض ومعرفته به، توحيدًا بين الوجود والمعرفة «أنا أرى فهو إذن موجود».

واستمر الخروج الأوروبي خارج حدوده في القرن السادس عشر عصر تكوين القوميات الأوروبية بعد الإصلاح الديني في القرن السابق، ونشأت المدن التجارية الكبرى خاصة في إيطاليا، وأصبحت التجارة عبر البحار أحد مظاهر العولمة التجارية Mercantilism، بدأ الوعي الأوروبي يتصدَّر العالم منذ القرن السابع عشر الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» الأنا مركز العالم، وتأكدت مرة ثانية عند كانط في «الثورة الكوبرنيقية»، الذات مركز العالم والعالم يدور حولها كما تدور الأرض حول الشمس، وخرج نابليون في القرن الثامن عشر، الإسكندر الأكبر الثاني، مجسدًا روح الثورة من أجل تصديرها وإنشاء الجمهوريات الشاملة La République Universelle، باسم التنوير، العقل وحقوق الإنسان وتحت شعار الحرية والإخاء والمساواة والعلم المثلث الألوان.
ولما انحسرت الثورة وعادت فرنسا إلى حدودها الطبيعية تكاتفت القوى الغربية كلها في القرن التاسع عشر، ذروة الاستعمار الأوروبي الحديث، وأعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية على اقتسام العالم القديم ابتداءً من احتلال فرنسا الجزائر عام ١٨٣٠، واحتلال بريطانيا للهند من قبل، والقضاء على إمبراطورية المغول، ثم احتلال أفريقيا وآسيا على مدى قرنٍ من الزمان حتى هزيمة تركيا في الحرب الأولى ١٩١٤–١٩١٨. وكان الوطنُ العربي كلُّه قد وقع تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي.١٩

وبالرغم من أن حركات التحرُّر الوطني قد استطاعت في القرن العشرين التحرر من الاستعمار إلا أنها تراجعت بعد إنشاء الدول الوطنية الحديثة، وزادت تبعيتها للغرب في الغذاء والسلاح، وتحول زعماء التحرر الوطني أو الجيل الثاني لهم إلى نظم قمعية تسلطية، فتفرقت قوى المقاومة والجبهة الوطنية إلى أجزاء متصارعة، الحزب الواحد في الحكم وأحزاب المعارضة في السجون، وقد سهل ذلك للعولمة سيادتها على الدول المتحررة حديثًا من الاستعمار حيث وجد حكامها في الحليف الجديد خير حليف ضد القوى الوطنية المعارضة، إسلامية أو ناصرية في حالة الوطن العربي، باسم الاقتصاد والرخاء والخصخصة ونظام العالم الجديد وثورة الاتصالات والعالم قرية واحدة؛ فالحليف الخارجي خير دعامة للنظم السياسية كبديلٍ عن الحليف الداخلي، قوى المعارضة الوطنية.

(٦) المفاهيم المساندة لتأسيس العولمة في المركز

ومفهوم العولمة «العولمة» ليس بمفرده بل تصاحبه عدة مفاهيم أخرى للمساندة؛ فهو المفهوم الرئيسي الذي يحتاج إلى مفاهيم أخرى تجره وتصحبه وينزلق عليها، وكلها مفاهيم تنتجها أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومراكز الأبحاث التي وراء صنع القرارات في الولايات المتحدة، منها «نهاية التاريخ» وكأن الرأسمالية قد انتصرت إلى نهاية الزمان، فالتاريخ توقف، والزمان انتهى، وعقارب الساعة لم تعد تدور، وحتى لا يبقى أمل في عودة الاشتراكية أو نقد الرأسمالية، مع أن الرأسمالية لم تنتصر بل النظم الشمولية هي التي انهارت، فهو انتصار سلبي، وبغير مقارنةٍ مع النظم الشمولية مظاهر التفسُّخ في المجتمع الرأسمالي يعرفها أهل الاختصاص، زيادة التضخم ومعدل البطالة، والفقر، والجريمة، وأزمة الطاقة، ورفض قيم الاستهلاك، وزيادة معدل الانتحار، وفي الوطن العربي لا يوجد إحساسٌ بنهاية التاريخ، بل ببداية التاريخ بعد حركات التحرُّر الوطني، وبناء الدول الوطنية الحديثة، ومظاهر الصحوة الإسلامية والمقاومة في جنوب لبنان وفي فلسطين وكشمير وأوروبا الشرقية وأواسط آسيا، واستقلال جنوب أفريقيا، والثورة الإسلامية في إيران وإندونيسيا، واستعادة ماليزيا لعملتها الوطنية، والهبات الشعبية في الوطن العربي والانتفاضة الفلسطينية.

ومنها أيضًا: «العالم قرية واحدة» أو العالم قرية شاملة Global Village وهي صورة زمانية لعالم الاتصالات المترابط لرجل الأعمال الذي يستطيع عن طريق وسائل الاتصال الحديثة وشبكات المعلومات والهواتف النقالة أن يشعر أن العالم كله بين يديه على شاشة صغيرة، بل أن يحول العالم الخارجي داخلها فيما يسمى بالواقع الممكن Virtual Reality، والحقيقة أن البشر في هذا العالم لا يعيشون لحظة زمنية واحدة أو فترة تاريخية واحدة. هناك قبائل تعيش من أجل قتل بعضها البعض Genocide، تأكل لحم بعضها البعض، وأخرى في الأدغال وقبائل في الصحراء وآلاف المعتقلين السياسيين والمعذبين في السجون وفقراء النجوع لا تعلم عن ثورة الاتصالات شيئًا، عالمها قرية واحدة هي قبيلتها وأحراشها، كما أن ثورة الاتصالات تنظم المعلومات المتراكمة لكثرتها ولا تبدع علمًا جديدًا، هي نظام إلكتروني فعال للفهرسة بدلًا من الملفات القديمة، وفرق بين المعلومات والعلم. المعلومات معروفة سلفًا أما العلم فهو الجديد، القراءة لما بين السطور، المعلومات نقل، والعلم إبداع، المعلومات خارج الذهن والعلم داخله، يمكن احتكار المعلومات ولكن العلم مرهون بالإرادة والحرية الإنسانية، لا تتجاوز المعلومات الأشكال التقليدية للنقل، النقل من مكانٍ إلى مكان، ومن شخصٍ إلى شخص، هي شفرة ورموز تُفقد الواقع قيمته والاتصال به اتصالًا مباشرًا، يمنع من الحوار بين البشر والتقابل بين البشر لا يزيد عن كونه تكنولوجيا خاضعة لكل فيروساتها وسرقتها.٢٠

ومنها «السوق» وقوانين السوق، واقتصاديات السوق، الربح والتسويق وقيم الاستهلاك والتوزيع، فما زال المشروع الغربي يقوم على أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة، والإنتاج مشروط بأزمة المواد الأولية، والطاقة، والاستهلاك مشروط بالتوزيع والأسواق وغياب المنافسة، والسعادة بعيدة المنال، ففي مجتمعات الوفرة والرفاهية مثل المجتمعات الإسكندنافية يوجد أكبر معدلٍ للانتحار، والجريمة المنظمة والعنف والاغتصاب والعزلة والجنون كلها مظاهر للشقاء.

إن مفهوم «العولمة» نفسه الذي ينزلق على هذه المفاهيم المساندة يقوم على التقابُل بين المركز والأطراف، فأوروبا على شرق الأطلنطي وأمريكا على غربه، واليابان في أقصى الشرق يكوِّنون قلب مجموعة الدول الصناعية السبع في مقابل باقي أسواق أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية حيث المواد الأولية والطاقة، ويمكن مقابلته بمفاهيم أخرى من خارج المركز مثل الاعتماد المتبادل Interdependence، التعاون الإقليمي Regionalism، مثل مجالس التعاون، اللجان المشتركة، السوق العربية المشتركة، مجموعة الثمانية، مجموعة الخمسة عشر التي تضم بعض دول أفريقيا وآسيا، السوق الأوروبية المشتركة، منظمة جنوب شرق آسيا، الشرق أوسطية، المتوسطية، وكل مفهوم ليس بريئًا كما أن العولمة ليست مفهومًا بريئًا أيضًا؛ فالشرق أوسطية باب خلفي لإدخال إسرائيل في النظام العربي كأداةٍ للتحديث بدلًا من مصر، والمتوسطية باب خلفي لإخفاء الصراع بين الشمال والجنوب على شاطئ البحر.

وأخطر ما في العولمة ليس مضمونها بل آثارها الجانبية السلبية وما تُحدثه من رد فعل عليها من الحركات الأصولية التي تقف في مواجهة التغريب وقيم الاستهلاك، فيشق الصف الوطني، فريق يخوِّن فريقًا، وفريق يكفِّر فريقًا، وقد يصل الأمر حد الاقتتال بالسلاح كما هو الحال في الجزائر، وبدلًا من تطوير المجتمع وتنميته يتم تطوير النخبة، بينما تظل الجماهير تقليدية، تطوير قطاع الأعمال في وسط ثقافةٍ تقليديةٍ محافظة، فتشتد محافظتها يومًا وراء يوم، ومن آثارها أيضًا نهاية الدول الوطنية والأيديولوجيات القومية لصالح الشركات العابرة للقارات، والتضحية بالأيديولوجيا لصالح التكنولوجيا، وضياع معالم الهوية والوطنية والقومية، وتزداد المسافة بين الأغنياء والفقراء اتساعًا، وكلما ازداد الغنى ازداد الفساد والرشوة وتهريب الأموال إلى الخارج، والتهرُّب من الضرائب، وإذا كان في العولمة بعض الفائدة الوقتية فإنها تكون لطبقة واحدة، مرتبطة بالخارج، ولا تنال الطبقات الشعبية إلا الفتات، أما الخدمات، الطرق السريعة والاتصالات فلا تستفيد منها إلا الطبقات المتوسطة.

(٧) المفاهيم المساعدة لتصدير العولمة إلى الأطراف

ويسهل تصدير «العولمة» من المركز إلى الأطراف عن طريق مفاهيم أخرى مساعدة مثل الحكم أو الإدارة العليا Governance، المجتمع المدني، الأقليات، حقوق الإنسان، المرأة، صراع الحضارات، ما بعد الحداثة وغيرها من المفاهيم التي ينشغل بها الفكر العربي المعاصر بالشرح والتلخيص والعرض والتأليف دون أن يكتب هو نصًّا ويبدع هو مفاهيمه التي تعبِّر عن مرحلته التاريخية وتترك الآخرين يعلقون عليها ويشرحونها ويعرضونها، فالنص والشرح دلالات على صراع القوى بين الحضارات، النص أقوى والشرح أضعف؛ لأنه يدور في فلك النص، والنص أقوى لأنه هو الذي يحدد موضوع الشرح.

يعني «الحكم» أو «الإدارة العليا» أن الدولة أشبه بالمؤسسة أو الشركة يديرها متخصصون في فن الإدارة وليس بالضرورة حكامًا وطنيين يضعون سياساتٍ أكبر من حجمها، ديماجوجية غير قادرة على التنمية واستهلاك محلي سرعان ما ينهار، الدولة في حاجةٍ إلى خبراء دوليين وموظفين كبار من المنظمات المالية الدولية للتخطيط ووضع الوصفات وتشخيص الأمراض، فهي أصحاب رءوس الأموال مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي منذ صندوق الدين الذي أشرفت عليه القوى الغربية في عصر إسماعيل في مصر. الدولة يديرها رجال الأعمال الناجحون، اقتصاد دون سياسة، إنتاج دون تنظير، تكنولوجيا دون أيديولوجيا، لا فرق بين دولة وأخرى، الكل يخضع لنفس الإدارة؛ فالاقتصاد إدارة، والسياسة إدارة، وأهم مؤسسة تعليمية هي كلية إدارة الأعمال، وإن نجاح النظم الرأسمالية بالإدارة، وفشل الدول الوطنية سوء الإدارة، والبيروقراطية والتحايل على القانون، وكثرة الموظفين غير الأكفاء للعمل الواحد، مع أن البيروقراطية في كل المجتمعات، لا فرق بين ناميةٍ ومتطورة.

ويعني «المجتمع المدني» البديل عن الدولة القاهرة الظالمة المتسلطة الفاسدة التي تقوم على القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وتزوير الانتخابات، قوة الدولة هي السبب في ضعف المجتمع، والحل هو تقوية المجتمع المدني حتى يقف أمام جبروت الدولة، وتشجيع المنظمات الأهلية غير الحكومية كبديل عن المؤسسات ومن أجل حشد الطاقات وتنظيم الجهود خارج الدولة ومؤسساتها، ولا فرق بين تكفير الدولة عند الأصوليين واستبعادها عند العلمانيين، وهو يتفق مع العولمة التي تريد زحزحة الدولة الوطنية والإرادة الوطنية المستقلة أو على الأقل إضعافها حتى ترفع الحواجز الجمركية وتذوب في اقتصاديات السوق. والقضية الرئيسية في المجتمع المدني هي الديمقراطية وليس إعادة توزيع الدخل والليبرالية وليست الاشتراكية، فأقوى دعامة لاقتصاد السوق هي الليبرالية في الداخل لأن الاشتراكية ارتبطت بتوجيه الدولة، وإن عصر عبد الناصر، وتيتو، ونهرو، وبومدين، وسوكارنو، ونكروما وسكوتوري قد انتهى إلى غير رجعة، وكأن الدولة الوطنية المستقلة والمجتمع المدني نقيضان لا يجتمعان، وكأنه يستحيل وجود دولة قوية ومجتمع مدني قوي عن طريق المؤسسات الدستورية والرقابية.

ويذاع أيضًا مفهوم «الأقليات» وتعني الملل والنحل والأعراف والطوائف والعشائر، «الموازيك» Mosaic الذي منه يتكوَّن الوطن العربي، فبما أن النظم السياسية في الوطن العربي تقوم على القهر، فمن الطبيعي أن تقهر الأغلبية الأقلية، المسلمون الأقباط في مصر، والسنة الشيعة في الخليج، والعرب البربر في المغرب العربي، والشماليون الجنوبيين في السودان، والبدو الحضر في الأردن، والنجديون الحجازيين في شبه الجزيرة العربية، والإباضيون الأشاعرة في عُمان، والسنيون الموارنة في لبنان، والعرب الأكراد في العراق، والشوافع الزيدية في اليمن، والعرب الأفارقة في الصومال، والسلفيون العلمانيين في كل مكان؛ مما يولد رد فعل عند الأقليات فتقوم باضطهاد الأغلبية مثل اضطهاد العلويين للسنة في سوريا؛ ومن ثم تصبح إسرائيل دولة طائفية لحماية الأقلية اليهودية وسط الأغلبية العربية من المحيط إلى الخليج، وتنال شرعية الطائفية بدلًا من لا شرعية الاستعمار الاستيطاني والتوسع والغزو واقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم، وتتفكك الدول باسم حقوق الأقليات لصالح العولمة، وحدة المركز في مقابل تجزئة الأطراف، وهو مفهوم كمي خالص غريب على الوطن العربي الذي يقوم على التعدُّدية بين مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية ومساواة الجميع في الحقوق والواجبات أمام القانون.

وانتشر مفهوم «حقوق الإنسان» وذاع صيته، حقيقة مطلقة لا ينكرها إلا جاحد أو كافر أو همجي، تراث إنساني عام، وأفضل ما أنتجت الثورة الفرنسية في الإعلان الأول، وأفضل نتيجة في نهاية الحرب الأوروبية الثانية عام ١٩٤٥ في الإعلان الثاني؛ فالإنسان الأوروبي قد خرج منتصرًا من براثن الملكية والإقطاع في الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر، متحررًا من النازية والفاشية في القرن العشرين، وهو مفهوم فردي خالص يقوم على الفلسفة الليبرالية، حرية الفرد، الفرد باعتباره مركز العالم «أنا حر» وليس على مفهوم جماعي، وعلى نفس المفهوم قامت الرأسمالية والفوضوية، وقد أبدعت ثقافات أخرى «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب» في الجزائر عام ١٩٧١ تعبيرًا عن حق تقرير المصير، وحق كل شعبٍ في أن يعيش حرًّا مستقلًّا على أرضه تأكيدًا نظريًّا لحركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات، ويقوم على مفهوم جماعي، حق الجماعة دون أن يكون بالضرورة نقيضًا لحق الأفراد، وهو إغماض للأسس الاجتماعية والثقافية لحقوق الإنسان، وتجنُّب لنقد ممارستها في الواقع الغربي، حقوق الإنسان الأبيض دون حقوق السود والأقليات والعمالة المهاجرة.

ومن ذلك أيضًا قضية «حقوق المرأة» أو ما يسمى بقضية Gender التي ليس لها نظير في اللغة العربية مما يدل على أن المفهوم نفسه وافد عليها. هناك قانون الأحوال الشخصية القديم الذي تعاني منه الأسرة الآن فيما يتعلق بحرية الانتقال للزوج، وحضانة الأطفال، وقضايا الطلاق، وتعدد الزوجات والإضرار بالزوج، هناك قضايا خاصة بالميراث والشهادة والقضاء والإمامة في الفقه القديم في حاجةٍ إلى إعادة نظر الفقهاء المحدثين منعًا لإلحاق الضرر بالزوج، وإن تصور القضية الاجتماعية على أنها قضية المرأة في مواجهة الرجل للتحرُّر منه لهو تبسيط لقضايا التغير الاجتماعي، فالمرأة والرجل كلاهما يجمعهما مفهوم المواطن، فكيف في ثقافةٍ ما زال يغيب عنها مفهوم المواطن وهو المفهوم الرئيسي؟ ويتم النضال الوطني على أساس مفاهيم فرعية ليس لها أية دلالة اجتماعية أو سياسية، وإن أدبيات «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» و«حقوق المرأة»، و«الأدب النسائي»، و«الحركة النسوية» لهي أدبيات منقولة من الغرب في إطار النقل العام من الغرب واعتبار الغرب نمطًا للتحديث في الثقافة والسياسة والاجتماع، ولا تتفرَّد الثقافة العربية بذلك، مثلها مثل ثقافات الشرق، مثل اليابان حيث يتم تقسيم العمل بين الرجل والمرأة دون أن ينافس أحدهما الآخر في مملكته.

وأخيرًا يأتي مفهوم «صراع الحضارات» ليشغل به الغرب ومراكز أبحاثه المجتمعات الشرقية التي ما زالت مرتبطة بتراثها ولم تقطع معه كما فعل الغرب كغطاء للصراع الاقتصادي والسياسي بين الشرق والغرب؛ ففي عصر العولمة وهي أحد أشكال الهيمنة الغربية يتم التستُّر عليها بصراع الحضارات، الحلف الإسلامي، البوذي في مقابل الحلف اليهودي المسيحي، حتى ينشغل الشرقيون بالديانات والثقافات ويحتكر الغربيون المال والاقتصاد، وطالما مارس الغرب سياسات التفوق العنصري والتميز الحضاري على غيره من الشعوب الآسيوية الأفريقية، يقضي على اللغات المحلية لصالح الفرانكفونية أو الأنجلوفونية كما فعل في أفريقيا وآسيا، ويدمِّر الثقافات المحلية العربية الإسلامية في المغرب العربي حتى لا تكون حاملًا لحركات التحرُّر الوطني وتأكيدًا للهوية، والغرب الذي يزهو بتعدُّدِيته في الداخل الآن يقول بالصراع في الخارج، في حين أن الشعوب في أفريقيا وآسيا تقول بحوار الثقافات والتعددية الفكرية والسياسية في الداخل والخارج بدلًا من المعيار المزدوج الذي يمارسه الغرب، حوار في الداخل، وصراع في الخارج، كما يشغل الغرب المجتمعات التراثية بأحلاف تقليدية، الحلف الإسلامي بين باكستان وإيران والسعودية في الستينيات كغطاءٍ للنهب الاقتصادي للشعوب العربية الإسلامية وتحت ستار حمايتها من الشيوعية والمادية والإلحاد.

ويكثر تمويل مشاريع البحث العلمي وتأييد المنظمات التي تعمل للترويج لهذه المفاهيم التي ينشرها فريق من النخبة المثقفة المنعزلة عن ثقافات الشعوب وموروثها الثقافي الذي تعمل عليه الجماعات الإسلامية وتستند إليه مما يوقع في الخلاف بين ثقافة النخبة الوافدة وثقافة الجماهير الموروثة، وتؤيد الدول الغربية والمنظمات الأوروبية أنشطة هذه المراكز، تمول صحفها ونشراتها ومؤتمراتها بدعوى التحول الديمقراطي والدفاع عن التنوير في مواجهة الحركات الأصولية والجماعات الكلامية، مما يحصن الجماعات المحافظة ضد التحديث والأفكار التي قد تكون أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد، ويكسب الجميع والخاسر هو الوطن.

(٨) في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟

إن خطورة مثل هذا الاقتران «الإسلام والعولمة» أننا نضع أنفسنا في مسارٍ تاريخي لسنا فيه، وأيضًا عندما يقال التحوُّل من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين أو من الألفية الثانية إلى الألفية الثالثة نضع أنفسنا في المسار التاريخي لغيرنا، ونترك مسارنا التاريخي الخاص لنقص في الوعي التاريخي ومعرفة في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟

وتتعدد مسارات التاريخ بتعدد الشعوب، فالشعوب كلها لا تعيش مسارًا تاريخيًّا واحدًا إلا مسار الحضارة الأقوى مثل الحضارة الغربية التي حقبت مسار تاريخها الخاص إلى قديم ووسيط وحديث ووضعتنا في الوسيط مع أنها فترة الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي الأول عندما كان النقل يتم منها إلى غيرها، عندما كان علماء الإسلام وحكماؤهم معلمين للغرب في العصر الوسيط، لكل حضارةٍ تحقيبها الخاص للتاريخ تؤرخ اليابان لمسارها التاريخي ابتداءً من اعتلاء الإمبراطور العرش، وتؤرخ فارس القديمة بعصر قورش والعصر البطولي، وتؤرخ روما أيضًا بفترة حكم قيصر، وأرخ العرب قبل الإسلام بعام الفيل وبعد الإسلام بالهجرة.

ويرتبط التحقيب بمدى عمق التاريخ، فمثلًا يمكن تحقيب تاريخ مصر إلى مصر القديمة ومصر اليونانية الرومانية، ومصر القبطية ومصر الإسلامية، وفي كل حقبةٍ يمكن التمييز بين مراحل جزئية. مصر الإسلامية يمكن تحقيبها في ثلاث مراحل؛ الأولى القرون السبعة الأولى، حيث كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي الأول وذروتها القرن الرابع عصر البيروني والمتنبي والحسن بن الهيثم، وانتهت بظهور ابن خلدون في القرن الثامن والذي أرَّخ لها مبينًا كيف نشأت ولماذا انهارت، ثم نشأت فترة ثانية من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر سبعة قرون أخرى، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى، حفظنا بالذاكرة ما عجزنا عن إبداعه بالعقل، واجتررنا القديم كما يفعل جمل الصحراء إذا ما أعوزه الخصب. وهو العصر المملوكي التركي العثماني والذي انتهى بحركات الإصلاح الديني وسقوط الخلافة، ومنذ قرنين من الزمان ونحن على أعتاب فترةٍ ثالثة، ربما لسبعة قرون أخرى من الرابع عشر إلى الواحد والعشرين، ونحن نحاول النهوض من جديد منذ فجر النهضة العربية الأول، ومررنا بتجربتين؛ الأولى الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين والتي انتهت بالثورات العربية الأخيرة، وكانت صدمة الحداثة نقطة تحولٍ من الفترة الثانية إلى الثالثة والتي صاغها شكيب أرسلان في سؤال: لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟

وفي تحقيب تاريخي حديث يمكن رصد المسار التاريخي في تحقيب ثلاثي كذلك، كنت مستعمرًا ثم تحررت من الاستعمار ثم عاد الاستعمار من جديد في شكل العولمة.٢١ وفي تحقيب حديث آخر مررنا بفجر النهضة العربية الأولى والتي بلغت ذروتها في ثورة ١٩١٩ وانتهت بثورة ١٩٥٢، وهو ما يعادل عصر الاستعمار، ثم بدأت الفترة القومية الاشتراكية العربية حتى هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧ وهو ما يعادل عصر التحرر، ثم بدأت فترة ثالثة أوشكت على الانتهاء بمخاضٍ جديد لم يتشكَّل بعد وهو معاصر للعولمة وهو ما يعادل عصر عودة الاستعمار.
وللغرب في عصوره الحديثة مساره التاريخي أيضًا، من الليبرالية الرأسمالية في السابع عشر إلى الثورة الفرنسية في الثامن عشر إلى الاشتراكية في التاسع عشر إلى أزمة القرن العشرين وبداية النهاية، بل إن لكل مذهبٍ مراحله؛ فالاشتراكية مثلًا مرَّت بثلاث مراحل: من الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية العلمية إلى الاشتراكية الجديدة، وكل المذاهب الغربية في العصور الحديثة لها هذا التحقيب الثلاثي من العقلانية إلى الحسية إلى العقلانية الجديدة، من الصورية إلى المادية إلى الصورة المادية، من المثالية إلى الواقعية إلى الواقعية الجديدة، من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الرومانسية الجديدة أو الكلاسيكية الجديدة، من الليبرالية إلى الاشتراكية إلى الليبرالية الجديدة أو الاشتراكية الجديدة، من الذاتي إلى الموضوعي إلى الذاتي الموضوعي؛ ومن ثم اكتملت العصور الحديثة من بدايتها في القرن السابع عشر «أنا أفكر فأنا إذن موجود» إلى نهايتها في القرن العشرين «أنا أفكر وأنا موضوع التفكير» من «الكوجيتو» Cogito عند ديكارت إلى «الكوجيتاتوم» Cogitatum عند هوسرل.٢٢

إن الغرب نفسه يعيش في صراعٍ حادٍّ الآن بين أنصار العولمة وخصومها بعد مظاهرات دافوس وسياتل وبراج ولندن، وربما هناك حركة اشتراكية وليدة قادمة يقودها العمال والمثقفون كما قاد العمال في روسيا الثورة الاشتراكية الكبرى في ١٩١٧، والمثقفون مظاهرات الشباب في الغرب كله في ١٩٦٨، وربما تنشأ المنافسة القاتلة بين الدول الغربية والولايات المتحدة، أو بين اليابان والدول الغربية أو بين الدول الغربية نفسها؛ فالقومية لم تنتهِ بعدُ من فرنسا أو ألمانيا بالرغم من السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي والعملة الواحدة والبرلمان الموحد والحدود الموحدة. وعند المتشائمين ربما العولمة هي آخر وهج قبل أن تنطفئ الشمعة وتنتهي العصور الحديثة كما بدأت منذ خمسة قرون ثم تبدأ دورة جديدة لحضارات البشر، وكما بدأت روح التاريخ من الشرق إلى الغرب فقد تعود من الغرب إلى الشرق من جديد، مارًّا بالمنطقة العربية الإسلامية مرتين، في الذهاب والإياب. ربما نحن الآن في عصر «أفول الغرب»، كما يقول اشبنجلر وهوسرل و«ريح الشرق» كما يقول جوزيف نيدهام وأنور عبد الملك.

وفي نفس الوقت تتوحش العولمة مستندة إلى العالم ذي القطب الواحد وقدراته الاقتصادية والعسكرية والحصار والغزو والتهديد، ويتم التركيز على العالم العربي والإسلامي؛ لان احتمال القطب الثاني قد يظهر منه؛ فأمريكا اللاتينية ما زالت ترزح تحت المخدرات والجريمة والنظم التسلطية، ولم يعد جيفارا يعيش في الوجدان أو يثير الخيال، وآسيا مشغولة بنهضتها الاقتصادية، اليابان والصين وكوريا وماليزيا وإندونيسيا مؤجلة إرادتها السياسية فيما بعد؛ لذلك يتم التركيز على الوطن العربي فما زال تراثه حيًّا يأبى الاستعمار والتبعية، وما زال يناضل في فلسطين ضد آخر مظهر من مظاهر الاستعمار بعد أن تحرَّرت جنوب أفريقيا، وهو قادرٌ بإمكانياته المادية والبشرية، وعوائد النفط، السكان، والأسواق، والقدرات التكنولوجية، والعقول المهاجرة أن يكون قطبًا ثانيًا أمام القطب الأول كما كوَّن منذ باندونج كتلة عدم الانحياز في عصر الاستقطاب.

(٩) الموقف الحضاري

إذا كان اقتران «الإسلام والعولمة» يكشف عن مسارين تاريخيين متمايزين للأنا والآخر، نحن والغرب فما هي طبيعة اللحظة الراهنة التي يلتقي فيها هذان المساران؟ ما هو الموقف الحضاري الذي تعيش فيه الأنا في علاقتها مع الآخر حتى تصبح «واو» العطف بينهما صيرورةً تاريخيةً وليس مجرد ربطٍ بين جوهرَيْنِ ثابتَيْن؟

إن الأنا الآن تعيش في مثلث متساوي الأضلاع أقرب إلى السجن المثلث الزوايا أو إلى القيد في المعصمين والقدمين، تعيش حالةً من الحصار في الزمن، بين الماضي والحاضر والمستقبل، تتحرَّك في المكان لشدة الحصار، وهي ثلاث معارك متزامنة حتى لا تفك قيدًا وتقع في قيد آخر، وتستبدل سيدًا بسيد، وتختلف القيود الثلاثة في العمق التاريخي والارتفاع الرأسي، فبينما القيد الأول، وهو التراث القديم أكثر عمقًا في التاريخ، أربعة عشر قرنًا أو يزيد فإن القيد الثاني التراث الغربي أقل منه، قرنين من الزمان منذ صدمة الحداثة مع الغرب، والقيد الثالث أقل من القيدين الأولين؛ لأنه الحاضر الذي لا يعيشه أحد، يتمرَّد عليه علنًا أو يتسلَّل إليه أو يأتيه من أسفل سرًّا أو يهاجر منه قطيعة، الأول أكثر حضورًا لدى الجماهير، والثاني لدى النخبة، والثالث ليس حاضرًا في ذهن أحد؛ لأنه يدفع إلى الفرار والنسيان، الأول نص قديم، والثاني نص حديث، والثالث واقع إليهم لم يتحوَّل بعدُ إلى نص والمطلوب كتابته، هذا هو حصار الزمن بين الماضي والمستقبل والحاضر الذي لم تَسْتطع الذات العربية حتى الآن الفكاك منه وإن كانت الخلخلة قد بدأَتْ منذ فجر النهضة العربية الحديثة حتى أدمت المعصمين والقدمين.٢٣
الحاجز الأول التراث القديم الذي تحوَّل إلى مخزونٍ نفسي عند الجماهير من خلال الثقافة الشعبية، نشأ في عصر الانتصار ونحن الآن في عصر الهزيمة، في عصر الفتوحات ونحن الآن في عصر الانكسارات، وربما أحد أسباب انتكاسات النهضة العربية وهزائم الأمة المتتالية هو أننا نُحارب بالبدن دون الروح، باليد وليس بالعقل، بالسلاح وليس بالثقافة، ولا يقوى البدن إلا بسلامة الروح، والروح في حاجةٍ إلى إعادة بناء، هم رجال ونحن رجال، نتعلَّم منهم ولا نقتدي بهم، والاجتهاد أصلٌ من أصول التشريع، والتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم، إعادة بناء الموروث القديم طبقًا لظروف العصر، وإعادة الاختيار بين البدائل القديمة، وإبداع بدائل جديدة إذا صعب السؤال وعظمت المواجهة، ففي الكلام يتم التحول «من العقيدة إلى الثورة»، وفي علوم الحكمة «من النقل إلى الإبداع»، وفي علم أصول الفقه «من النص إلى الواقع»، وفي علوم التصوف «من الفناء إلى البقاء»، وفي العلوم النقلية «من النقل إلى العقل»، في علوم القرآن «من الوحي إلى التاريخ»، وفي علوم الحديث «من نقد السند إلى نقد المتن»، وفي علوم التفسير «من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي»، وفي علوم السيرة «من الشخص إلى المبدأ»، وفي علوم الفقه «من فقه العبادات إلى فقه المعاملات».٢٤ بهذه الطريقة يتم التحول من العصر الذهبي الأول للحضارة الإسلامية إلى العصر الذهبي الثاني، وبدلًا من أن تصبح الذات عبدًا للقديم تصبح سيدًا له.٢٥

والقيد الثاني الانبهار بالغرب والتبعية له واعتباره نمطًا أوحد للتحديث، نموذجًا للثقافة العالمية، تجربة يُحتذى بها، ولا داعي لتكرار ما جرَّبه الغرب، وضرورة اختصار الزمن واللحاق بالقرن العشرين، والقطيعة مع الماضي والاقتران بالمستقبل، فيزداد تغريب النخبة ويحدث رد فعل طبيعي في محافظة الجماهير دفاعًا عن الهُوية، ومنذ فجر النهضة العربية منذ قرنين من الزمان والنموذج الليبرالي الغربي ما زال حالًّا في تياراته الفكرية الثلاثة: الإصلاحي الذي يبدأ من الدين، والعلمي العلماني الذي يبدأ من الطبيعية والمجتمع، والليبرالي الذي يبدأ من الدولة. البداية مختلفة والنتيجة واحدة، بل إن المدارس الفكرية التي حاولت الجمع بين الموروث والوافد أخذت المنهج أو المذهب من الوافد والموضوع من الموروث، الروح من الوافد والبدن من الموروث مثل المثالية المعتدلة (الطويل)، والجوانية (عثمان أمين)، والشخصانية الإسلامية (لحبابي)، والماركسية العربية (العروي)، والإنسانية والوجودية (بدوي)، وهي لعبة المرآة المزدوجة التي بدأت منذ الطهطاوي في «تخليص الإبريز» رؤية الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا، وهي ما زالت مستمرةً بالرغم من التباعد بين الوافد والموروث في عصر الاستقطاب الثقافي، والسؤال هو: هل يمكن التحرر كلية من هذا القيد وتحويل الغرب في وعينا الثقافي والعلمي من كونه مصدرًا للعلم كي يصبح موضوعًا للعلم، وأن يُقضى على أسطورة الثقافة العالمية، وأن تنتهي عقدة النقص لدينا منه وعقدة العظمة فيه علينا، وأن نصف تاريخيته، بدايته ونهايته، تكوينه وبنيته، ثقافته وعقليته فيما يمكن تسميته «علم الاستغراب» عندما يتحوَّل الغرب إلى موضوع ونحن إلى ذات كما حولنا الغرب إلى موضوع وهو ذات في علم الاستشراق، وأن يصبح الملاحِظ ملاحَظًا، وهو الأنا، والملاحَظ ملاحِظًا وهو الغرب، تبادلًا للأدوار وربما صراعًا للقوى من خلال علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة، إكمالًا لحركة التحرر العربي على المستوى الحضاري؟

والقيد الثالث هو الحاضر، الواقع الذي نعيش فيه، وكيفية تنظيره تنظيرًا مباشرًا، وإدراك الموروث القديم المخزون فيه من أعماق التاريخ، والوافد الغربي الحديث الذي تلقاه منذ فجر النهضة العربية، كيف يتفاعلان فيه من أجل فَهْمه وتغييره فالحاضر هو الممر من الماضي إلى المستقبل، يحط الماضي فيه وينطلق المستقبل منه، وهو الأساس الذي يُبنى عليه القديم والحديث على حدٍّ سواء لفكِّ شفرته والإقلال من موانع تقدمه ودوافع تطوره، يتحول الواقع إلى نصٍّ جديد وإلى ميدان للفعل، كيف يمكن الدخول في الواقع دون الهروب منه تحت الأرض أو الهروب منه خارج الأرض والتمرُّد عليه أو الانخراط فيه فوق الأرض، كيف تُصاغ أولوياته وقضاياه، تحرير الأرض، تحرير المواطن، العدالة الاجتماعية، وحدة الأمة، التنمية المستقلة، الدفاع عن الهوية، وحشد الجماهير، وإبداع فلسفة الأرض وثقافة التحرُّر، وفقه العدالة الاجتماعية، وأصول وحدة الأمة، وحديث التنمية المستقلة، وتوحيد الهوية، وتصوف ثورة الجماهير.

لم التقليد دون الإبداع؟ ولا فرق بين تقليد السلفيين ونقل العلمانيين إنما الخلاف في جهة النقل والتقليد، القدماء أم المحدثون، كلاهما أصولي يهرب من الحاضر وينزع إلى الماضي أو إلى المستقبل، كلاهما يحارب بعضه بعضًا، كل فريق يعتبر نفسه الفرقة الناجية، المخلص والإمام والمهدي المنتظر، كلاهما يقول بالحاكمية، حاكمية الله أو حاكمية الأيديولوجية، ليبرالية أو قومية أو ماركسية، والمفاتيح السحرية لا وجود لها، وإن وُجدت فليس بيد أحد.

إنما هو الاجتهاد، سبر الوعي التاريخي وتحقيب مساره، وتحديد أعماقه مع نقاء الضمير والطهارة الثورية، الإخلاص للنفس، والوعي بالعالم: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

١  ندوة جامعة بيرزيت، فلسطين، «الثقافة في الوطن العربي، تحديات الألفية الجديدة وآفاق التنمية الثقافية»، الجامعة الأردنية، مركز الدراسات الاستراتيجية، عمان، ١٩–٢١ يناير ٢٠٠١.
٢  العنوان ليس من وضعي بل من اقتراح الدكتور مضر قيس، رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية بجامعة بيرزيت، فلسطين.
٣  هناك نصان آخران للعولمة؛ الأول «العولمة بين الحقيقة والوهم» مع تعليق «من مثقف وطني إلى مثقف غربي» في «ما العولمة؟» حوار مع صادق جلال العظم، دار الفكر، دمشق، ٢٠٠٠؛ والثاني Islam and Globalization جامعة هلسنكي، قسم العلوم السياسية، ندوة «الكوسموبولية» Cosmopolis، ٢–٤ يونيو ٢٠٠٠، التي أقامتها جمعية النظرية والثقافة والمجتمع Theory, Culture and Society برئاسة ميكل فيذرستون M. Featherstone.
٤  انظر المداخل المتعددة للموضوع في صادق جلال العظم، حسن حنفي: ما العولمة؟ دار فكر، دمشق، ٢٠٠٠، ص٧٢–٨٧.
٥  انظر دراستنا: «ماذا يعني: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١، ج٧، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص١٤٧–١٦١.
٦  مثل: زيادة عدد النساء على عدد الرجال بعد الحرب، عقر المرأة، المرض الذي يمنعها من القيام بمسئوليات المنزل.
٧  ونموذج هؤلاء المترجمين جورج طرابيشي السوري الأرثوذكسي المقيم في باريس.
٨  مثل قاطيغورياس = المقولات، باري هرمنياس = العبارة، أنالوطيقا الأولى = القياس، أنالوطيقا الثانية = القياس. ريطوريقا = الخطابة، سوفسطيقا = المغالطة، التبكيت، بوريتيقا = الشعر، تراجوديا = المأساة، كوموديا = الملهاة، فوزيقا = الطبيعيات، ميتافوزيقا = ما بعد الطبيعة أو الإلهيات، جيومطريا = الهندسة، أسطرونوميا = الفلك … إلخ.
٩  انظر دراستنا: «جدل الوافد والموروث» قراءة في المناظرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص١٠٧–١١٨.
١٠  من النقل إلى الإبداع، مج١، النقل ج١، التدوين، ج٢ النص، ج٣ الشرح، مج٢ التحول، ج١ العرض، ج٢ التأليف، ج٣ التراكم. مج٣ الإبداع، ج١ تكوين الحكمة، ج٢ الحكمة النظرية، ج٣ الحكمة العلمية، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠٠-٢٠٠١.
١١  التراث والتجديد، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠، ص١٢٣–١٤٦.
١٢  انظر دراستنا: روح الأندلس ونهضة الغرب الحديث، قراءة في المسائل الصقلية لابن سبعين، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والغرب والحداثة، ص١٤٥–١٦٤.
١٣  انظر دراستنا: الوحي والعقل والطبيعة، الفلسفة والعصر، العدد الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٩، ص١٠٧–١٣٠.
١٤  انظر ترجمتنا: اسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧١.
١٥  علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ونقد المسلمين للمنطق الأرسطوطاليسي، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٤٧.
١٦  انظر بحثنا: نحن والتنوير، الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١، ج٢ التحرر الثقافي، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص٤٧–٦٦.
١٧  Hegel’s Aestlieties Religious Dialogue and Revolution, Anglo-Egyptian bookshop. Cairo. 1997 PP. 115–121.
١٨  وهذا ما يتضح في الموسيقى الغربية المعاصرة وإدخال الربع تون وموسيقى الإيقاع وألحان الشرق عند دبيوسي ورافل وسترافنسكي.
١٩  انظر دراستنا: استراتيجية الاستعمار والتحرير، مراجعة وحوار جمال حمدان (١٩٢٨–١٩٩٣)، حوار الأجيال، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص٢١١–٢٢٨.
٢٠  انظر بحثنا: ثورة الاتصالات، السياسة الدولية، القاهرة، يناير ١٩٩٨.
٢١  وبالإنجليزية: Colonization, Decolonization, Recolonization.
٢٢  مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩١، ص٦٤٢–٦٦٤.
٢٣  انظر تحليل هذه الجبهات الثلاث في «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث القديم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠، ص٢٠٣–٢٢٦، «مقدمة في علم الاستغراب»، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩١، ص٩–٢١، وفي عدة دراساتٍ أخرى مثل: موقفنا الحضاري، قضايا معاصرة، ج١، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦، «ما السؤال؟» ص٧-٣٠، المشروع الحضاري الجديد، الماضي والحاضر والمستقبل، ص٣١–٥٠، الموقف من الغرب، الماضي والحاضر والمستقبل، ص١٤٣–١٥٨، في «هموم الفكر والوطن» ج١، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨.
٢٤  وصدر منه حتى الآن: من العقيدة إلى الثورة، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨ (خمسة أجزاء)، من النقل إلى الإبداع، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠٠-٢٠٠١ (ثلاث مجلدات في تسعة أجزاء)، وما زال تحت الإعداد: من النص إلى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، من الفناء إلى البقاء، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف، من النقل إلى العقل، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه)، (خمسة أجزاء).
٢٥  وهذا ما فعله بيكون في «إعادة البناء العظيم» وهوسرل في «أزمة العلوم الأوروبية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤