الإسلام والعولمة١
(١) مقدمة: الموضوع والمنهج
والعولمة في الغرب موضوع لعدة علوم، السياسة والاقتصاد والثقافة والاتصالات، هي ظاهرة مركبة ذات أبعاد متعددة، تاريخية في التراكم الرأسمالي للغرب، واقتصادية في الهيمنة، هيمنة الدول الصناعية الكبرى، مجموعة السبع والشركات المتعددة الجنسيات على أسواق العالم، وسياسية في تخطي حدود الدول الوطنية باسم العالم قرية واحدة، أي سوق واحدة، وثقافية، ثقافة الاستهلاك والجريمة والعنف وقيم البذخ والغنى والترف، وعسكرية، في استعمال الولايات المتحدة الأمريكية المنظمات الدولية لفرض الحصار على الشعوب وتهديد أخرى بالغزو والعقاب الجماعي إذا ما شقَّت عصا الطاعة على نظام العالم الجديد ذي القطب الواحد، فأي جانبٍ من جوانب العولمة في علاقةٍ مع الإسلام؟
لا يوجد ارتباط واحد بين الإسلام والعولمة؛ فالاختيارات متعددة، ولا يوجد مدخل واحد أفضل من الآخر، كلها اجتهادات تُنير الموضوع، إنما الاختيار الأفضل هو ما تبقى في الموروث الثقافي والوجدان الشعبي من صور للإسلام والعولمة، تتقدَّم الدول وتنهار، وينشأ العمران ثم يعمه الخراب، وما يبقى من الإسلام، ثقافته ورؤيته وقيمه، ما يجعل التاريخ حيًّا قائمًا، وتأتي العولمة وتذهب كما أتت كل أشكال الهيمنة للوعي الأوروبي المركزي منذ ما يسمى «الكشوف الجغرافية» عندما التفت أوروبا حول العالم القديم، أفريقيا وآسيا من أعالي البحار والمحيطات بعد أن فشل غزوها الصليبي من البحر المغلق، البحر الأبيض المتوسط، واكتشفت العالم الجديد واحتلته وتنافست عليه وهي في طريقها إلى استعمار العالم القديم، ونشأة المدن التجارية على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وتصدير الثورة الفرنسية وتحويلها إلى استعمارٍ جديد باسم الجمهورية العالمية ثم الاستعمار الأوروبي الحديث الذي بلغ الذروة في القرن التاسع عشر وخلافته للإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها في الحرب الأولى، والعنصرية الدفينة المستمرة عبر أشكال الهيمنة، روما التي ورثت أثينا، وإسبرطة التي ما زالت تنبع في أعماق الوعي الأوروبي وإن بقيت أثينا في عقله، واليهودية التي شكلت رؤيته للعالم ومعايير سلوكه وإن كان مسيحي الدين واللسان.
والمنهج هو تحليل التجارب الشعورية الحية الفردية والجماعية لكلٍّ من الإسلام والعولمة اللتين يعيشهما العالم الغربي الإسلامي اليوم دون إعطاء النفس أقل مما تستحق أو إعطاء الغير أكثر مما يستحق، ودون إحساس بالأقلية وقهر الأغلبية لها مما يدفع إلى الاحتماء بأغلبية أكثر، العولمة، ودون نفسية السجين الذي ينتفض ضد العولمة كأحد أشكال القهر والذي تتبعه النظم الحاكمة، ودون نفسية المهاجر الذي يجد في غزل العولمة مصدر رزق وإبرام عقد في جامعة بحثًا عن عمل بعد أن فقد العمل داخل الأوطان للتعالي عليها والكفر بها والبحث عن وطنٍ بديل. ليس المنهج هو نصوص الإسلام فهذه تخضع للانتقاء والتأويل أو جداول إحصائية تخضع أيضًا للانتقاء والقراءات المختلفة، إنما المحك هو التجربة المشتركة، وتطابق التجربة الفردية مع التجربة الجماعية، وهو أحد معاني الموضوعية، التطابق مع الواقع من خلال التطابق مع الآخرين، ففي التجربة المشتركة يكمن الأنا والآخر في الزمان.
ويمكن تناول الموضوع بطريقتين، الأولى رؤية الإسلام من خلال العولمة إجابة على سؤال هل هناك عولمة إسلامية؟ والثانية رؤية العولمة من خلال الإسلام إجابة على سؤال هل هناك إسلام عولمي؟ ولا يكفي فقط الحكم على العولمة من وجهة نظر إسلامية أو الحكم على الإسلام من وجهة نظر العولمة، وهو استئناف للعبة المرآة المزدوجة رؤية الآخر من خلال الأنا، ورؤية الأنا من خلال الآخر كما مارسها الطهطاوي في «تخليص الإبريز»، ولا يمكن رؤية الإسلام والعولمة من منظور ثالث يتجاوزهما معًا فلا يستطيع ذلك إلا شعور كلي محايد، وهو ما يستحيل على البشر.
وتصعب الأحكام «العلمية» الصارمة نظرًا لأن الإسلام والعولمة تجربتان حيتان في وجداننا المعاصر، الموضوع من الذات، والذات من الموضوع، فالإنسان العربي المعاصر محاصر بين الإسلام والعولمة، بين الأنا والآخر، هما صورتان لوعيه، النفس والبدن، الروح والمادة؛ ومن ثم يستحيل إصدار الحكم، المهم أن تبعد الأحكام عن التقريظ للنفس والدفاع عن الإسلام، وهجاء العولمة ونقد الغرب ورفض الآخر كما تفعل بعض الاتجاهات الإسلامية الغالبة أو العلمانية المتطرفة، وأن تبعد أيضًا عن مدح العولمة وتقريظها وبيان فوائدها وهجاء النفس وبيان تخلفها وانطلاقها كما تفعل بعض الحركات المستحدثة.
(٢) العولمة الحضارية
العولمة الحضارية هي السمة الغالبة على حضارة الإسلام منذ نشأته الأولى بالرغم من نشأته في شبه الجزيرة العربية، حمله العرب شرقًا إلى فارس وشمالًا إلى بلاد الشام وغربًا إلى المغرب العربي؛ فقد حول الإسلام العرب إلى قوةٍ تاريخية صاعدة بين إمبراطوريتي الفرس والروم اللتين أنهكتهما الحروب ودون أن ينتصر أحدهما على الآخر، يوم له ويوم عليه الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ.
وبالرغم من أن الإسلام نشأ في شبه الجزيرة العربية كدين وطني لها، ولسانه العربية إلا أن عقيدته الأولى، التوحيد، لا حدود لها، انتشرت خارج الوطن واللغة بلا حدود، في ربوع الشام وفي سهول آسيا الوسطى وجبال المغرب العربي. كما انتشر عبر المحيطات إلى جنوب شرقي آسيا وعبر مضيق جبل طارق إلى أوروبا وفيما بعد إلى أفريقيا جنوب الصحراء عبر وادي النيل أو السواحل الشرقية والغربية والجنوبية، التوحيد عولمة في تصور العالم، العالم قرية واحدة، والبشر جميعًا بلا حدود يتساوون جميعًا أمام الإله الواحد، ويتمثلون قيمًا إنسانية واحدة «كلكم لآدم وآدم من تراب.» «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.» «وأنا شهيد على أن عباد الله إخوان.» نشئوا من أصلٍ واحد، النفس، ويعودون إلى أصلٍ واحد، الاستحقاق.
هذه الوحدة الشاملة لا تنفي التعددية، فالوحدة لا تنفي التنوع، والتنوع تناغم يؤدي إلى الوحدة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، الوحدة والتنوع كلاهما حقائق في الوجود، العالم واحد ومتنوع في آنٍ واحد، البداية من أصل واحد، والنهاية إلى أصل واحد، وما بينهما يعيش البشر مع مبدأ واحد، والاختلاف سنة الكون وقانون الطبيعة، والتكثر مبدأ الأشياء، ويتفرد الإنسان عن الله بالحرية والمسئولية، والملل والنحل كثرة داخل الوحدة كما عبر عن ذلك «دستور المدينة»، اليهود، والنصارى، والصابئة، والبراهمة، والحنيفية، والمجوس وأضاف القاضي عبد البر «عبدة الأوثان»، كل منها أمة واحدة، لها كيانها المستقل، لغتها وأعرافها وعقائدها وشرائعها داخل الأمة الواحدة.
وقد نشأت بعض مقولات ومصطلحات وتعبيرات الفقه القديم في عصر الفتوحات من أجل تقوية الأمة الناشئة ولم تعد دالَّة على هذا العصر مثل: «أهل الكتاب»، «أهل الذمة»، «الإسلام أو الجزية أو القتال». تعبير «أهل الكتاب» الآن يعني مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ومستمدة من آية المباهلة: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. و«أهل الذمة» مفهوم أخلاقي، ارتباط الجميع بقانون خلقي وليس تبعية المولى؛ فالقانون الخلقي يعم الجميع، قانون السلام بين البشر دون اعتداء أو عدوان. و«الإسلام أو الجزية أو القتال» تمت صياغته في العلاقات الدولية في عصر الفتوحات للقوة الجديدة الصاعدة التي تبرز للعالم بين الإمبراطوريتين القديمتين اللتين أنهكتهما الحروب دون غالب أو مغلوب، الفرس والروم، مفهوم الأقليات إذن مفهوم كمي لا ينطبق على الإسلام لأن الملل والنحل مفهوم كيفي حتى ولو كان صاحب النحلة فردًا واحدًا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، «لئن يهدي بك الله رجلًا واحدًا خيرٌ لك من الدنيا وما فيها.»
والمحددات الداخلية للفقه القديم أيضًا محددات تاريخية مرتبطة بروح العصر مثل ما يتعلَّق بالحريات الشخصية ووضع المرأة؛ فقانون الردة قد تمت صياغته من أجل تقوية الدين الجديد وعدم الرجوع إلى مراحل الوحي السابقة في التشريع بعد أن اكتملت النبوة طبقًا لمبدأ لَا إِكرَاه في الدِّين، ولَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وفَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، والقصاص جزء من قوانين الشعوب القديمة والحديثة باستثناء بعض الأنظمة القانونية التي لا تبيح القصاص بناءً على التوحيد بين الذات والصفات والأفعال في الشخصية الإنسانية وهو الموقف الاعتزالي، في حين أن المذهب الأشعري وهو المذهب السائد في الأمة يجعل الصفات والأفعال زائدة على الذات مما يبيح إعادة النظر في موضوع القصاص، فمهما كانت صفات القاتل وأفعاله إلا أن ذاتَه تتجاوزها، ويمكن أن يقال نفس الشيء في عذاب البدن مثل قطع اليد والرجم؛ فالبدن جزء من حقوق الإنسان، والتعذيب وآلام البدن منافية لحقوق الإنسان بدليل العفو والشبهات والمجتمع الصالح الذي تمحى فيه السرقة، والزواج المبكر الذي يمنع الانحراف.
(٣) العولمة الثقافية
ولا توجد ثقافة قائمة احترمت وأكَّدت، وحافظَتْ على، وعظَّمت ثقافات الشعوب المفتوحة مثل الثقافة العربية الإسلامية، اليونانية والرومانية غربًا، والفارسية والهندية شرقًا، فأرسطو هو المعلم الأول، والفارابي المعلم الثاني، وبطليوس هو الأول، وابن هيثم بطليوس الثاني، وسقراط أحكم البشر، وأفلاطون صاحب الأيد والنور، وجالينوس فاضل المتقدمين والمتأخرين، وأرسطو هو الحكيم، وأفلوطين الشيخ اليوناني، وسُمي مسكويه «جاويدادخرد» الحكمة الخالدة، وكتب البيروني أفضل ما كتب عن الهند «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة».
وبعد الترجمة والتعليق ونشأة المصطلح الفلسفي جاء العرض، التعبير عن الموضوع بأسلوب عربي أصيل، وإعادة كتابة الفلسفة اليونانية خاصة وكأنها تأليف مستقل، ويكون العرض جزئيًّا، كتابًا كتابًا لأرسطو مثل «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة» للفارابي أو كليًّا لكل فلسفة أرسطو مثل «كمية كتب أرسطو» للكندي، وقد يكون العرض جمعًا بين مذهبين بغية وحدة الرؤية؛ فالحكمة لا تتناقض، والحكيمان لا يتناقضان، والأجزاء تدخل في الكل مثل «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» للفارابي، ثم يدخل الوافد في الموروث ويتم عرض الحكمة ذاتها بعنصريها مثل «تحصيل السعادة» للفارابي الذي يتحدث فيها الفارابي كحكيم خالد، لا يونانيًّا ولا عربيًّا، ويصف السعادة من حيث هي سعادة في جزء أول ثم «فلسفة أفلاطون» في جزء ثانٍ يعرض فيه نظرية أفلاطون في السعادة ثم «فلسفة أرسطو» في جزءٍ ثالثٍ لعرض نظرية أرسطو في السعادة، فالبنية هي التي تتحكم في التاريخ بصرف النظر عمَّا إذا كانت سابقة عليه أو تابعة له.
وإذا ما وجد العرب فيلسوفًا يونانيًّا ناقصًا أكملوه حتى يبدو فيلسوفًا كاملًا فالكمال مطلب عربي، والحكمة مطلب إسلامي؛ لذلك نُسبت أجزاء من التاسوعات لأفلوطين إلى أرسطو حتى تكتمل الإلهيات الناقصة لديه، فإن لم يوجد في النصوص ما يتم به إكمال الناقص انتحلت نصوص جديدة من وضع العرب بروح اليونان، فيثاغورث له «وصية ذهبية»، فليس من المعقول أن هذا الحكيم الرياضي الإلهي لا يوصي، وكذلك لسقراط كتاب «التفاحة» فليس من المعقول ألَّا يوصي سقراط لتلاميذه في الليلة الأخيرة قبل استشهاده كما فعل السيد المسيح، وأرسطو له مراسلات مع تلميذه الإسكندر، والإسكندر له رسائل متبادلة مع أمه، وأفلاطون «العهود اليونانية» وأرسطو له «سر الأسرار» الذي دون فيها الحكمة «المضنون به على غير أهله». وله «وصية في تربية الأحداث» وهو المربي صاحب الجمهورية. ولكلٍّ من أرسطو وأفلاطون كتاب في «السياسة»، والقول الدائري الشهير في السياسة «العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكفله المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم.» يُنسب إلى الفرس واليونان في آنٍ واحد؛ فهو جزء من الحكمة الخالدة بصرف النظر عن قائلها، وعندما اكتشف نص «ينبوع الحياة» ادَّعت كل طائفة تأليفه، اليهود والنصارى والمسلمون قبل أن يتحقَّق المحدثون أنه لابن جبرول؛ فثقافة الأندلس واحدة شاركت فيها جميع الطوائف طبقًا لنموذج الوحدة في التنوُّع، والتنوُّع في الوحدة.
(٤) العولمة التبادلية ذات القطبين
وكما تمت الترجمة الأولى من اليونانية إلى العربية لصالح المتلقي بالحذف والإضافة لتوسيع المنظور اليوناني المغلق إلى منظورٍ إسلامي مفتوح بضم إمكانيات أوسع، كذلك تمَّت الترجمة الثانية من العربية إلى اللاتينية مع الحذف، حذف كل العبارات الدينية وأسماء الجلالة التي اعتبرها المترجم أقرب إلى الدين منها إلى العلم، فبدأ العلم ينغلق على نفسه من جرَّاء الفصل بين الدين والعلم، بناءً على التجربة الغربية مع الكنيسة، فبدأت تظهر أزمة العلم بعد انتصاره وبعد التمييز بين حكم الواقع وحكم القيمة، مع أن الواقع قيمة، والقيمة واقع.
واستمر النموذج الإسلامي قبيل العصور الحديثة، في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر عند مارتن لوثر الذي تعلم العربية لمعرفة كيف استطاع الإسلام أن يحل معضلات الكاثوليكية، فجاءت البروتستانتية على النموذج الإسلامي ومبادئه؛ الكتاب وحده، حرية التفسير، رفض التوسط بين الإنسان والله، أولوية الإيمان القلبي على الشعائر الخارجية، الدين للوطن، ثم استمر في عصر النهضة في القرن السادس في معركة القدماء والمحدثين وانتصار المحدثين على القدماء باسم التطور والتغير والزمن والتاريخ، والتحول من التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان، ومن النفس إلى البدن فتم اكتشاف الدورة الدموية، ومن التمركز حول الأرض إلى التمركز حول الشمس في علم الفلك الجديد، وفي التحول من النص إلى الواقع، ومن الكتاب المغلق، الكتاب المقدس، إلى كتاب الطبيعة المفتوح، العقل مصدر العلم الرياضي، والطبيعة مصدر العلم الطبيعي، والعقد الاجتماعي مصدر السلطة في المجتمع، والمجتمع المدني البديل عن الكنيسة.
فإذا كان الوحي قد أعطى الحقائق حدسًا فإن العقل وجد البراهين على صدقه في الحضارة الإسلامية، ووجدت الطبيعة والتجربة والواقع البراهين على صدقه في الحضارة الغربية، نظرًا لوحدة الوحي والعقل والطبيعة؛ فالحضارة الغربية تقوم في دوافعها على بواعث إسلامية، تطابق العقل والطبيعة؛ نظرًا لأن تدوين الوحي لم يصمد أمام النقد التاريخي، وأقوال الكنيسة لم تصمد أمام النقد الفلسفي.
ومن ثم فإن تيار «أسلمة العلوم» الذي يقوم على استيراد العلم من الغرب ثم قراءته قراءةً إسلاميةً عن طريق وضع نظارة النص عليه لا يعرف أن هذا العلم في بواعثه، معرفة قوانين الطبيعة، وقوانين المجتمع وقوانين التاريخ؛ علمٌ إسلامي في بداياته وليس في نهاياته، في مقدماته وليس في نتائجه؛ فالبحث عن الحقيقة أقرب إلى الحقيقة من أخذها جاهزةً ثم الحكم عليها بمقاييس خارجية، ما يحدث حاليًّا هو نقل العلم الغربي بلا تمحيص ثم انتقاء نصٍّ قرآني أو حديث نبوي وإلصاقه عليه، فإذا كانت النتيجة إيجابًا كان القرآن أسبق من العلم الغربي في اكتشاف الحقائق العلمية وإن كانت سلبًا كان القرآن على حق والعلم الغربي على باطل؛ لأن الوحي لا يخطئ في حين أن علم البشر يخطئ، والرهان كله على المؤوِّل والمنتَقِي الذي يستطيع أن ينتقي ويؤول العلم الغربي والنص الديني فيحدث الاتفاق أو الاختلاف بينهما، فإذا كان النص الديني يحتوي على العلم الغربي، فلماذا لم يعلن عن ذلك من قبل؟ وإن كان العلم الغربي خاطئًا فلماذا لم يعط النص الديني العلم الصحيح من قبل؟ وبهذه الطريقة يكون للعلم الغربي الريادة والاكتشاف، ويكون النص الديني مجرد تابع له، وماذا يحدث إذا ما تغيَّر العلم الغربي وأتى بالنظرية المضادة بعد أن كان النص الديني قد اتفق معه، فهل يتغيَّر فَهْم النص وتأويله حتى يتفق مع النظرية المضادة الجديدة؟ وبهذه الطريقة يضيع ثبات النص ويصبح متحولًا بالتحوُّل العلمي، وتصبح كل الحقائق متغيرةً ولا ثبات لأيٍّ منها وهو ما يُضاد العقائد الثابتة للدين، ويصل الأمر إلى منتهاه عندما يعلن أن الله سخَّر الغرب لنا، نأخذ علمه ولدينا الدين فنفوز بالحسنيين، الدنيا والآخرة، في حين أن الغرب يفوز بالدنيا دون الآخرة، فنسجل نقطة زائدة عليه، ولما كانت الدنيا بمفردها خاسرة يخسر الغرب، ولما كانت الآخرة دون الدنيا خاسرة نكسب نحن باسم الكسل والتبعية.
(٥) العولمة كأحد أشكال الهيمنة الغربية
والحقيقة أنه ليس مفهومًا بل لفظ يشرع على مستوى الفكر والأيديولوجيا لحدثٍ وقع عام ١٩٩١، سقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي ونهاية عصر الاستقطاب، وانتصار الرأسمالية سلبًا، بغياب البديل الآخر، وليس لمقوماتها الذاتية؛ فهو مفهوم تبريري بَعْدي، تشريعًا لحدث وليس مفهومًا قَبْليًّا نظريًّا سابقًا على الحدث.
وهي ليست قدرًا تاريخيًّا أو حتمية كونية بل حدث طبيعي نتيجة لسيادة الداروينية الاجتماعية على الأيديولوجية الاشتراكية والتسلُّط القيصري على النظم الاشتراكية التي لم تمرَّ بفترةٍ ليبرالية كما مر الغرب، وتحولت من القيصرية الإقطاعية إلى الاشتراكية وديكتاتورية البروليتاريا، هي حصيلة أفعال البشر وتراكماتها عبر ثلاثة أرباع القرن، وكان الوقت قد فات للمصارحة والمكاشفة وتصحيح الأخطاء، وهي دورة طبيعية في تاريخ البشر وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
والعولمة الغربية ظاهرة اقتصادية سياسية إعلامية وليست ظاهرة حضارية كما هو الحال في الثقافة العربية الإسلامية، هي أحد أشكال الهيمنة الغربية الحديثة وأحد أشكال التعبير عن المركزية الأوروبية التي تقوم ليس فقط على تراكم الخبرات البشرية من الشرق إلى الغرب، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر وكنعان واليونان والرومان والعرب واللاتين في العصر الوسيط بل على عنصريةٍ دفينةٍ تقوم على اللون، الأبيض أفضل من الأسود (أفريقيا) والأسمر (أمريكا اللاتينية) والأصفر (آسيا)، تقوم على علاقة القوي بالضعيف والغني بالفقير، والسيد بالعبد، وصاحب رأس المال بالعامل والمستهلك، والعالم بالجاهل، والمتحضر بالبدائي، والمتقدم بالمتخلف، والحديث بالقديم، والعالمي بالمحلي، والعولمي بالوطني.
هي ظاهرة اقتصادية أولًا مثل طبيعة النظام الرأسمالي بالرغم من أن الليبرالية نظرية سياسية قبل أن تكون مذهبًا اقتصاديًّا، تجميع رأس المال في الدول الصناعية الكبرى، مجموعة السبع، وتأسيس الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، وإسقاط الحواجز الجمركية التي تفرضها الدول المستقلة على البضائع المستوردة، وإخضاع العالم كله إلى منظمة التجارة العالمية، وقوانين السوق الحر الذي يقوم على المنافسة والربح وإقامة الصناعات في المناطق ذات الأيدي الرخيصة خارج المركز حيث يمكن دفن النفايات والتخلص من تلوث البيئة، ونظرًا لارتباط الاقتصاد بالنظام المالي الدولي تدخل البورصات لتحويل رءوس الأموال بالمليارات في اليوم الواحد؛ لإحداث هزاتٍ في أسعار العملات وانخفاض لها خاصة عملات الدول التي تنافس مجموعة السبع مثل النمور الآسيوية.
وهي ظاهرة سياسية ثانيًا تبغي تحويل العالم كله إلى قرية واحدة وإسقاط السيادة الوطنية للدول القومية، واستعمال المنظمات الدولية كأداةٍ لفرض العقوبات على الدول التي تشق عصا الطاعة على نظام العالم الجديد ذي القطب الواحد، وفرض الحصار الجوي والبحري عليها، والتهديد بالغزو العسكري مثل حصار العراق وليبيا وتهديد السودان وإيران، وتفتيت يوغوسلافيا والدور على إندونيسيا وربما الهند، وهو ما يخطط للوطن العربي أيضًا تكفيرًا عن قومية الستينيات، ومناهضة الاستعمار والصهيونية، وتكوين كتلة العالم الثالث في عصر الاستقطاب. العولمة إذن ليست ذات اتجاه واحد، التجميع والتوحيد والضم نحو المركز بل ذات اتجاهين، وحدة المركز وتشرذم الأطراف، ومناهضة أي تجمع إقليمي آخر يحتمل أن يكون قطبًا ثانيًا، والعودة إلى نظام الاستقطاب. الوطن العربي في عصر العولمة لا يكون كلًّا واحدًا أو تجمعًا مستقلًّا بل مجموعة من الطوائف والنِّحل والملل والأعراف؛ مهدد بالتقسيم إلى شيعي وسني في العراق والخليج، عربي وبربري في المغرب العربي، علوي ودرزي في سوريا، ماروني وسني في لبنان، زيدي وشافعي في اليمن، وهَّابي قديم ووهَّابي جديد في شبه الجزيرة العربية، إباضي وسني في عمان، مسلم وقبطي في مصر، شمالي وجنوبي في السودان، سلفي أصولي وعلماني حدثي في الجزائر، بدوي وحضري، فلسطيني وأردني في الأردن، قومي وقُطري على مدى الساحة العربية؛ وبالتالي تصبح إسرائيل الدولة الطائفية الكبرى في المنطقة، وتحصل على شرعيتها باسم اليهود ضد لا شرعيتها كاستعمارٍ استيطاني وشوفينية قوميات من مخلفات القرن التاسع عشر.
ولم يكن الصراع من أجل العولمة بين الشرق والغرب وحده بل أيضًا بين الشمال والجنوب، بين روما وقرطاجنة، بين أوغسطين ودوناتوس، بين القيصر وهانيبال، بين أوروبا وأفريقيا على زعامة العالم الروماني ثم العالم الروماني المسيحي، وعاد الصراع من جديدٍ بين الشرق والغرب والشمال والجنوب معًا أثناء الغزو الصليبي في العصور الوسطى عندما اجتمعت الدول الأوروبية «المسيحية» تحت دعوى إنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين من أجل السيطرة على الشرق بعد أن عزَّت السيطرة على المغرب وبقي الأندلس صامدًا بمدنه المستنيرة؛ إشبيلية وقرطبة وغرناطة، وكانت طليطلة قد سقطت من قبل، ولم ينجح الغزو الصليبي في تركيز العولمة الغربية في أحد أشكالها القديمة.
وبعد سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر عام ١٤٩٢؛ عام مؤتمر مدريد واستسلام العرب المحدثين كما استسلم العرب القدماء بدأت العولمة الأوروبية في العصور الحديثة بمساعدة الخرائط العربية والملاحين العرب بالالتفاف حول العالم القديم من المحيطات حول أفريقيا إلى آسيا، فتم اكتشاف العالم الجديد، وسُميت جزره قبل القارة الجديدة جزر الهند الغربية، بدأت المركزية الأوروبية الحديثة بما سمي «الكشوف الجغرافية» وكأن العالم القديم لم يوجد قبل قدوم الرجل الأبيض ومعرفته به، توحيدًا بين الوجود والمعرفة «أنا أرى فهو إذن موجود».
وبالرغم من أن حركات التحرُّر الوطني قد استطاعت في القرن العشرين التحرر من الاستعمار إلا أنها تراجعت بعد إنشاء الدول الوطنية الحديثة، وزادت تبعيتها للغرب في الغذاء والسلاح، وتحول زعماء التحرر الوطني أو الجيل الثاني لهم إلى نظم قمعية تسلطية، فتفرقت قوى المقاومة والجبهة الوطنية إلى أجزاء متصارعة، الحزب الواحد في الحكم وأحزاب المعارضة في السجون، وقد سهل ذلك للعولمة سيادتها على الدول المتحررة حديثًا من الاستعمار حيث وجد حكامها في الحليف الجديد خير حليف ضد القوى الوطنية المعارضة، إسلامية أو ناصرية في حالة الوطن العربي، باسم الاقتصاد والرخاء والخصخصة ونظام العالم الجديد وثورة الاتصالات والعالم قرية واحدة؛ فالحليف الخارجي خير دعامة للنظم السياسية كبديلٍ عن الحليف الداخلي، قوى المعارضة الوطنية.
(٦) المفاهيم المساندة لتأسيس العولمة في المركز
ومفهوم العولمة «العولمة» ليس بمفرده بل تصاحبه عدة مفاهيم أخرى للمساندة؛ فهو المفهوم الرئيسي الذي يحتاج إلى مفاهيم أخرى تجره وتصحبه وينزلق عليها، وكلها مفاهيم تنتجها أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومراكز الأبحاث التي وراء صنع القرارات في الولايات المتحدة، منها «نهاية التاريخ» وكأن الرأسمالية قد انتصرت إلى نهاية الزمان، فالتاريخ توقف، والزمان انتهى، وعقارب الساعة لم تعد تدور، وحتى لا يبقى أمل في عودة الاشتراكية أو نقد الرأسمالية، مع أن الرأسمالية لم تنتصر بل النظم الشمولية هي التي انهارت، فهو انتصار سلبي، وبغير مقارنةٍ مع النظم الشمولية مظاهر التفسُّخ في المجتمع الرأسمالي يعرفها أهل الاختصاص، زيادة التضخم ومعدل البطالة، والفقر، والجريمة، وأزمة الطاقة، ورفض قيم الاستهلاك، وزيادة معدل الانتحار، وفي الوطن العربي لا يوجد إحساسٌ بنهاية التاريخ، بل ببداية التاريخ بعد حركات التحرُّر الوطني، وبناء الدول الوطنية الحديثة، ومظاهر الصحوة الإسلامية والمقاومة في جنوب لبنان وفي فلسطين وكشمير وأوروبا الشرقية وأواسط آسيا، واستقلال جنوب أفريقيا، والثورة الإسلامية في إيران وإندونيسيا، واستعادة ماليزيا لعملتها الوطنية، والهبات الشعبية في الوطن العربي والانتفاضة الفلسطينية.
ومنها «السوق» وقوانين السوق، واقتصاديات السوق، الربح والتسويق وقيم الاستهلاك والتوزيع، فما زال المشروع الغربي يقوم على أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة، والإنتاج مشروط بأزمة المواد الأولية، والطاقة، والاستهلاك مشروط بالتوزيع والأسواق وغياب المنافسة، والسعادة بعيدة المنال، ففي مجتمعات الوفرة والرفاهية مثل المجتمعات الإسكندنافية يوجد أكبر معدلٍ للانتحار، والجريمة المنظمة والعنف والاغتصاب والعزلة والجنون كلها مظاهر للشقاء.
وأخطر ما في العولمة ليس مضمونها بل آثارها الجانبية السلبية وما تُحدثه من رد فعل عليها من الحركات الأصولية التي تقف في مواجهة التغريب وقيم الاستهلاك، فيشق الصف الوطني، فريق يخوِّن فريقًا، وفريق يكفِّر فريقًا، وقد يصل الأمر حد الاقتتال بالسلاح كما هو الحال في الجزائر، وبدلًا من تطوير المجتمع وتنميته يتم تطوير النخبة، بينما تظل الجماهير تقليدية، تطوير قطاع الأعمال في وسط ثقافةٍ تقليديةٍ محافظة، فتشتد محافظتها يومًا وراء يوم، ومن آثارها أيضًا نهاية الدول الوطنية والأيديولوجيات القومية لصالح الشركات العابرة للقارات، والتضحية بالأيديولوجيا لصالح التكنولوجيا، وضياع معالم الهوية والوطنية والقومية، وتزداد المسافة بين الأغنياء والفقراء اتساعًا، وكلما ازداد الغنى ازداد الفساد والرشوة وتهريب الأموال إلى الخارج، والتهرُّب من الضرائب، وإذا كان في العولمة بعض الفائدة الوقتية فإنها تكون لطبقة واحدة، مرتبطة بالخارج، ولا تنال الطبقات الشعبية إلا الفتات، أما الخدمات، الطرق السريعة والاتصالات فلا تستفيد منها إلا الطبقات المتوسطة.
(٧) المفاهيم المساعدة لتصدير العولمة إلى الأطراف
يعني «الحكم» أو «الإدارة العليا» أن الدولة أشبه بالمؤسسة أو الشركة يديرها متخصصون في فن الإدارة وليس بالضرورة حكامًا وطنيين يضعون سياساتٍ أكبر من حجمها، ديماجوجية غير قادرة على التنمية واستهلاك محلي سرعان ما ينهار، الدولة في حاجةٍ إلى خبراء دوليين وموظفين كبار من المنظمات المالية الدولية للتخطيط ووضع الوصفات وتشخيص الأمراض، فهي أصحاب رءوس الأموال مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي منذ صندوق الدين الذي أشرفت عليه القوى الغربية في عصر إسماعيل في مصر. الدولة يديرها رجال الأعمال الناجحون، اقتصاد دون سياسة، إنتاج دون تنظير، تكنولوجيا دون أيديولوجيا، لا فرق بين دولة وأخرى، الكل يخضع لنفس الإدارة؛ فالاقتصاد إدارة، والسياسة إدارة، وأهم مؤسسة تعليمية هي كلية إدارة الأعمال، وإن نجاح النظم الرأسمالية بالإدارة، وفشل الدول الوطنية سوء الإدارة، والبيروقراطية والتحايل على القانون، وكثرة الموظفين غير الأكفاء للعمل الواحد، مع أن البيروقراطية في كل المجتمعات، لا فرق بين ناميةٍ ومتطورة.
ويعني «المجتمع المدني» البديل عن الدولة القاهرة الظالمة المتسلطة الفاسدة التي تقوم على القوانين الاستثنائية والأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وتزوير الانتخابات، قوة الدولة هي السبب في ضعف المجتمع، والحل هو تقوية المجتمع المدني حتى يقف أمام جبروت الدولة، وتشجيع المنظمات الأهلية غير الحكومية كبديل عن المؤسسات ومن أجل حشد الطاقات وتنظيم الجهود خارج الدولة ومؤسساتها، ولا فرق بين تكفير الدولة عند الأصوليين واستبعادها عند العلمانيين، وهو يتفق مع العولمة التي تريد زحزحة الدولة الوطنية والإرادة الوطنية المستقلة أو على الأقل إضعافها حتى ترفع الحواجز الجمركية وتذوب في اقتصاديات السوق. والقضية الرئيسية في المجتمع المدني هي الديمقراطية وليس إعادة توزيع الدخل والليبرالية وليست الاشتراكية، فأقوى دعامة لاقتصاد السوق هي الليبرالية في الداخل لأن الاشتراكية ارتبطت بتوجيه الدولة، وإن عصر عبد الناصر، وتيتو، ونهرو، وبومدين، وسوكارنو، ونكروما وسكوتوري قد انتهى إلى غير رجعة، وكأن الدولة الوطنية المستقلة والمجتمع المدني نقيضان لا يجتمعان، وكأنه يستحيل وجود دولة قوية ومجتمع مدني قوي عن طريق المؤسسات الدستورية والرقابية.
وانتشر مفهوم «حقوق الإنسان» وذاع صيته، حقيقة مطلقة لا ينكرها إلا جاحد أو كافر أو همجي، تراث إنساني عام، وأفضل ما أنتجت الثورة الفرنسية في الإعلان الأول، وأفضل نتيجة في نهاية الحرب الأوروبية الثانية عام ١٩٤٥ في الإعلان الثاني؛ فالإنسان الأوروبي قد خرج منتصرًا من براثن الملكية والإقطاع في الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر، متحررًا من النازية والفاشية في القرن العشرين، وهو مفهوم فردي خالص يقوم على الفلسفة الليبرالية، حرية الفرد، الفرد باعتباره مركز العالم «أنا حر» وليس على مفهوم جماعي، وعلى نفس المفهوم قامت الرأسمالية والفوضوية، وقد أبدعت ثقافات أخرى «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب» في الجزائر عام ١٩٧١ تعبيرًا عن حق تقرير المصير، وحق كل شعبٍ في أن يعيش حرًّا مستقلًّا على أرضه تأكيدًا نظريًّا لحركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات، ويقوم على مفهوم جماعي، حق الجماعة دون أن يكون بالضرورة نقيضًا لحق الأفراد، وهو إغماض للأسس الاجتماعية والثقافية لحقوق الإنسان، وتجنُّب لنقد ممارستها في الواقع الغربي، حقوق الإنسان الأبيض دون حقوق السود والأقليات والعمالة المهاجرة.
وأخيرًا يأتي مفهوم «صراع الحضارات» ليشغل به الغرب ومراكز أبحاثه المجتمعات الشرقية التي ما زالت مرتبطة بتراثها ولم تقطع معه كما فعل الغرب كغطاء للصراع الاقتصادي والسياسي بين الشرق والغرب؛ ففي عصر العولمة وهي أحد أشكال الهيمنة الغربية يتم التستُّر عليها بصراع الحضارات، الحلف الإسلامي، البوذي في مقابل الحلف اليهودي المسيحي، حتى ينشغل الشرقيون بالديانات والثقافات ويحتكر الغربيون المال والاقتصاد، وطالما مارس الغرب سياسات التفوق العنصري والتميز الحضاري على غيره من الشعوب الآسيوية الأفريقية، يقضي على اللغات المحلية لصالح الفرانكفونية أو الأنجلوفونية كما فعل في أفريقيا وآسيا، ويدمِّر الثقافات المحلية العربية الإسلامية في المغرب العربي حتى لا تكون حاملًا لحركات التحرُّر الوطني وتأكيدًا للهوية، والغرب الذي يزهو بتعدُّدِيته في الداخل الآن يقول بالصراع في الخارج، في حين أن الشعوب في أفريقيا وآسيا تقول بحوار الثقافات والتعددية الفكرية والسياسية في الداخل والخارج بدلًا من المعيار المزدوج الذي يمارسه الغرب، حوار في الداخل، وصراع في الخارج، كما يشغل الغرب المجتمعات التراثية بأحلاف تقليدية، الحلف الإسلامي بين باكستان وإيران والسعودية في الستينيات كغطاءٍ للنهب الاقتصادي للشعوب العربية الإسلامية وتحت ستار حمايتها من الشيوعية والمادية والإلحاد.
ويكثر تمويل مشاريع البحث العلمي وتأييد المنظمات التي تعمل للترويج لهذه المفاهيم التي ينشرها فريق من النخبة المثقفة المنعزلة عن ثقافات الشعوب وموروثها الثقافي الذي تعمل عليه الجماعات الإسلامية وتستند إليه مما يوقع في الخلاف بين ثقافة النخبة الوافدة وثقافة الجماهير الموروثة، وتؤيد الدول الغربية والمنظمات الأوروبية أنشطة هذه المراكز، تمول صحفها ونشراتها ومؤتمراتها بدعوى التحول الديمقراطي والدفاع عن التنوير في مواجهة الحركات الأصولية والجماعات الكلامية، مما يحصن الجماعات المحافظة ضد التحديث والأفكار التي قد تكون أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد، ويكسب الجميع والخاسر هو الوطن.
(٨) في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟
إن خطورة مثل هذا الاقتران «الإسلام والعولمة» أننا نضع أنفسنا في مسارٍ تاريخي لسنا فيه، وأيضًا عندما يقال التحوُّل من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين أو من الألفية الثانية إلى الألفية الثالثة نضع أنفسنا في المسار التاريخي لغيرنا، ونترك مسارنا التاريخي الخاص لنقص في الوعي التاريخي ومعرفة في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟
وتتعدد مسارات التاريخ بتعدد الشعوب، فالشعوب كلها لا تعيش مسارًا تاريخيًّا واحدًا إلا مسار الحضارة الأقوى مثل الحضارة الغربية التي حقبت مسار تاريخها الخاص إلى قديم ووسيط وحديث ووضعتنا في الوسيط مع أنها فترة الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي الأول عندما كان النقل يتم منها إلى غيرها، عندما كان علماء الإسلام وحكماؤهم معلمين للغرب في العصر الوسيط، لكل حضارةٍ تحقيبها الخاص للتاريخ تؤرخ اليابان لمسارها التاريخي ابتداءً من اعتلاء الإمبراطور العرش، وتؤرخ فارس القديمة بعصر قورش والعصر البطولي، وتؤرخ روما أيضًا بفترة حكم قيصر، وأرخ العرب قبل الإسلام بعام الفيل وبعد الإسلام بالهجرة.
ويرتبط التحقيب بمدى عمق التاريخ، فمثلًا يمكن تحقيب تاريخ مصر إلى مصر القديمة ومصر اليونانية الرومانية، ومصر القبطية ومصر الإسلامية، وفي كل حقبةٍ يمكن التمييز بين مراحل جزئية. مصر الإسلامية يمكن تحقيبها في ثلاث مراحل؛ الأولى القرون السبعة الأولى، حيث كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي الأول وذروتها القرن الرابع عصر البيروني والمتنبي والحسن بن الهيثم، وانتهت بظهور ابن خلدون في القرن الثامن والذي أرَّخ لها مبينًا كيف نشأت ولماذا انهارت، ثم نشأت فترة ثانية من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر سبعة قرون أخرى، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى، حفظنا بالذاكرة ما عجزنا عن إبداعه بالعقل، واجتررنا القديم كما يفعل جمل الصحراء إذا ما أعوزه الخصب. وهو العصر المملوكي التركي العثماني والذي انتهى بحركات الإصلاح الديني وسقوط الخلافة، ومنذ قرنين من الزمان ونحن على أعتاب فترةٍ ثالثة، ربما لسبعة قرون أخرى من الرابع عشر إلى الواحد والعشرين، ونحن نحاول النهوض من جديد منذ فجر النهضة العربية الأول، ومررنا بتجربتين؛ الأولى الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين والتي انتهت بالثورات العربية الأخيرة، وكانت صدمة الحداثة نقطة تحولٍ من الفترة الثانية إلى الثالثة والتي صاغها شكيب أرسلان في سؤال: لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرهم؟
إن الغرب نفسه يعيش في صراعٍ حادٍّ الآن بين أنصار العولمة وخصومها بعد مظاهرات دافوس وسياتل وبراج ولندن، وربما هناك حركة اشتراكية وليدة قادمة يقودها العمال والمثقفون كما قاد العمال في روسيا الثورة الاشتراكية الكبرى في ١٩١٧، والمثقفون مظاهرات الشباب في الغرب كله في ١٩٦٨، وربما تنشأ المنافسة القاتلة بين الدول الغربية والولايات المتحدة، أو بين اليابان والدول الغربية أو بين الدول الغربية نفسها؛ فالقومية لم تنتهِ بعدُ من فرنسا أو ألمانيا بالرغم من السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي والعملة الواحدة والبرلمان الموحد والحدود الموحدة. وعند المتشائمين ربما العولمة هي آخر وهج قبل أن تنطفئ الشمعة وتنتهي العصور الحديثة كما بدأت منذ خمسة قرون ثم تبدأ دورة جديدة لحضارات البشر، وكما بدأت روح التاريخ من الشرق إلى الغرب فقد تعود من الغرب إلى الشرق من جديد، مارًّا بالمنطقة العربية الإسلامية مرتين، في الذهاب والإياب. ربما نحن الآن في عصر «أفول الغرب»، كما يقول اشبنجلر وهوسرل و«ريح الشرق» كما يقول جوزيف نيدهام وأنور عبد الملك.
وفي نفس الوقت تتوحش العولمة مستندة إلى العالم ذي القطب الواحد وقدراته الاقتصادية والعسكرية والحصار والغزو والتهديد، ويتم التركيز على العالم العربي والإسلامي؛ لان احتمال القطب الثاني قد يظهر منه؛ فأمريكا اللاتينية ما زالت ترزح تحت المخدرات والجريمة والنظم التسلطية، ولم يعد جيفارا يعيش في الوجدان أو يثير الخيال، وآسيا مشغولة بنهضتها الاقتصادية، اليابان والصين وكوريا وماليزيا وإندونيسيا مؤجلة إرادتها السياسية فيما بعد؛ لذلك يتم التركيز على الوطن العربي فما زال تراثه حيًّا يأبى الاستعمار والتبعية، وما زال يناضل في فلسطين ضد آخر مظهر من مظاهر الاستعمار بعد أن تحرَّرت جنوب أفريقيا، وهو قادرٌ بإمكانياته المادية والبشرية، وعوائد النفط، السكان، والأسواق، والقدرات التكنولوجية، والعقول المهاجرة أن يكون قطبًا ثانيًا أمام القطب الأول كما كوَّن منذ باندونج كتلة عدم الانحياز في عصر الاستقطاب.
(٩) الموقف الحضاري
إذا كان اقتران «الإسلام والعولمة» يكشف عن مسارين تاريخيين متمايزين للأنا والآخر، نحن والغرب فما هي طبيعة اللحظة الراهنة التي يلتقي فيها هذان المساران؟ ما هو الموقف الحضاري الذي تعيش فيه الأنا في علاقتها مع الآخر حتى تصبح «واو» العطف بينهما صيرورةً تاريخيةً وليس مجرد ربطٍ بين جوهرَيْنِ ثابتَيْن؟
والقيد الثاني الانبهار بالغرب والتبعية له واعتباره نمطًا أوحد للتحديث، نموذجًا للثقافة العالمية، تجربة يُحتذى بها، ولا داعي لتكرار ما جرَّبه الغرب، وضرورة اختصار الزمن واللحاق بالقرن العشرين، والقطيعة مع الماضي والاقتران بالمستقبل، فيزداد تغريب النخبة ويحدث رد فعل طبيعي في محافظة الجماهير دفاعًا عن الهُوية، ومنذ فجر النهضة العربية منذ قرنين من الزمان والنموذج الليبرالي الغربي ما زال حالًّا في تياراته الفكرية الثلاثة: الإصلاحي الذي يبدأ من الدين، والعلمي العلماني الذي يبدأ من الطبيعية والمجتمع، والليبرالي الذي يبدأ من الدولة. البداية مختلفة والنتيجة واحدة، بل إن المدارس الفكرية التي حاولت الجمع بين الموروث والوافد أخذت المنهج أو المذهب من الوافد والموضوع من الموروث، الروح من الوافد والبدن من الموروث مثل المثالية المعتدلة (الطويل)، والجوانية (عثمان أمين)، والشخصانية الإسلامية (لحبابي)، والماركسية العربية (العروي)، والإنسانية والوجودية (بدوي)، وهي لعبة المرآة المزدوجة التي بدأت منذ الطهطاوي في «تخليص الإبريز» رؤية الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا، وهي ما زالت مستمرةً بالرغم من التباعد بين الوافد والموروث في عصر الاستقطاب الثقافي، والسؤال هو: هل يمكن التحرر كلية من هذا القيد وتحويل الغرب في وعينا الثقافي والعلمي من كونه مصدرًا للعلم كي يصبح موضوعًا للعلم، وأن يُقضى على أسطورة الثقافة العالمية، وأن تنتهي عقدة النقص لدينا منه وعقدة العظمة فيه علينا، وأن نصف تاريخيته، بدايته ونهايته، تكوينه وبنيته، ثقافته وعقليته فيما يمكن تسميته «علم الاستغراب» عندما يتحوَّل الغرب إلى موضوع ونحن إلى ذات كما حولنا الغرب إلى موضوع وهو ذات في علم الاستشراق، وأن يصبح الملاحِظ ملاحَظًا، وهو الأنا، والملاحَظ ملاحِظًا وهو الغرب، تبادلًا للأدوار وربما صراعًا للقوى من خلال علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة، إكمالًا لحركة التحرر العربي على المستوى الحضاري؟
والقيد الثالث هو الحاضر، الواقع الذي نعيش فيه، وكيفية تنظيره تنظيرًا مباشرًا، وإدراك الموروث القديم المخزون فيه من أعماق التاريخ، والوافد الغربي الحديث الذي تلقاه منذ فجر النهضة العربية، كيف يتفاعلان فيه من أجل فَهْمه وتغييره فالحاضر هو الممر من الماضي إلى المستقبل، يحط الماضي فيه وينطلق المستقبل منه، وهو الأساس الذي يُبنى عليه القديم والحديث على حدٍّ سواء لفكِّ شفرته والإقلال من موانع تقدمه ودوافع تطوره، يتحول الواقع إلى نصٍّ جديد وإلى ميدان للفعل، كيف يمكن الدخول في الواقع دون الهروب منه تحت الأرض أو الهروب منه خارج الأرض والتمرُّد عليه أو الانخراط فيه فوق الأرض، كيف تُصاغ أولوياته وقضاياه، تحرير الأرض، تحرير المواطن، العدالة الاجتماعية، وحدة الأمة، التنمية المستقلة، الدفاع عن الهوية، وحشد الجماهير، وإبداع فلسفة الأرض وثقافة التحرُّر، وفقه العدالة الاجتماعية، وأصول وحدة الأمة، وحديث التنمية المستقلة، وتوحيد الهوية، وتصوف ثورة الجماهير.
لم التقليد دون الإبداع؟ ولا فرق بين تقليد السلفيين ونقل العلمانيين إنما الخلاف في جهة النقل والتقليد، القدماء أم المحدثون، كلاهما أصولي يهرب من الحاضر وينزع إلى الماضي أو إلى المستقبل، كلاهما يحارب بعضه بعضًا، كل فريق يعتبر نفسه الفرقة الناجية، المخلص والإمام والمهدي المنتظر، كلاهما يقول بالحاكمية، حاكمية الله أو حاكمية الأيديولوجية، ليبرالية أو قومية أو ماركسية، والمفاتيح السحرية لا وجود لها، وإن وُجدت فليس بيد أحد.
إنما هو الاجتهاد، سبر الوعي التاريخي وتحقيب مساره، وتحديد أعماقه مع نقاء الضمير والطهارة الثورية، الإخلاص للنفس، والوعي بالعالم: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.