الثقافة السياسية للخارجية المصرية١
أولًا: الموضوع والمنهج
«الثقافة السياسية» موضوع بين الفلسفة والسياسة، يدرسه الفلاسفة باعتباره أحد جوانب الفكر السياسي أو الفلسفة السياسية أو الأيديولوجيا. وهو ما سمَّاه أحدُ المفكرين العرب المعاصرين «نقد العقل السياسي».
أما «الثقافة السياسية للخارجية المصرية» أو «ثقافة السياسة الخارجية المصرية» فهو موضوع بيني بين العلوم الفلسفية والعلوم السياسية يتناوله المتخصصون في العلمين، إذا تناوله الفيلسوف يكون المدخل إليه الثقافة السياسية كأساسٍ والخارجية المصرية كفرع، وإذا تناوله عالم السياسة فإن المدخل إليه يكون النظم السياسية كأساس والثقافة السياسية كفرع.
لا تعني الثقافة السياسية مجرد مجموعة من الآراء والنظريات والرؤى والمواقف الفكرية بل هي مجموعة من الاختيارات السياسية تعبر عن قوى سياسية في المجتمع، والثقافة السياسية أداة من أدوات الصراع الاجتماعي.
ولا تعني «الثقافة السياسية للخارجية المصرية» أنها للخارجية المصرية وحدها بل هي الثقافة السياسية المصرية السائدة في الخارجية والثقافة والتعليم العالي والإعلام بل وفي وزارات الأوقاف والشئون الدينية نظرًا للارتباط بين الدين والسياسة والثقافة.
وكما يصعب التمييز بين الثقافة السياسية والاختيارات السياسية فإنه يصعب أيضًا التمييز بين الخارجية المصرية وتاريخ مصر السياسي فهي المؤشر عليه والمعبر عنه والمصيغة له.
ونظرًا لصعوبة تحديد مستوى التحليل للثقافة السياسية للخارجية المصرية تتعدد مادة التحليل حتى لا يصبح البحث العلمي مجرد انطباعات فردية وتأملات عامة وأحكام شائعة وذكريات خاصة عند المشتغلين بالثقافة السياسية أو بالخارجية المصرية. وكلها روافد تؤدي إلى استكشاف الموضوع من مداخل متعددة، وأهمها:
-
(١)
خطب وزراء الخارجية وتصريحاتهم وبياناتهم وأقوالهم التي تكشف عن المواقف السياسية التي تدل بدورها على الاختيارات السياسية والتي تقوم بدورها على ثقافة سياسية أو رؤى للعالم، ويمكن لتحليل المضمون أن يعطيَ نتائج كمية إحصائية مع قراءة كيفية متعمقة للكشف عن مكونات الثقافة السياسية لوزراء الخارجية، ميزتها «موضوعية» المادة وعيبها أنها قد تكشف عن السياسات أكثر مما تكشف عن الثقافة السياسية إلا بتأويل وقراءة قد تبتعد عن الموضوعية وتخضع لآليات التأويل الفردية.٤
-
(٢)
مذكرات وزراء الخارجية التي ينشرونها بعد تركهم الوزارة والتي تكشف عن عدة أحقابٍ من تاريخ مصر، وكيفية صنع القرار خاصةً في حالات التوتر الداخلي أو الصراع الخارجي، ميزتها أنها شهادات حية ووثائق مباشرة تكشف عن علاقة وزارة الخارجية بباقي دوائر صنع القرار السياسي، وعيبها صعوبة الجمع بين الحدث الموضوعي والرؤية الذاتية، وقد يصبح الحدث الموضوعي مجرد رصد لوقائع دون دلالات (صليب سامي)، مجرد ذكريات وحوادث بلا نسقٍ أو هدف أو تحليل، وقد تكون أقرب إلى الرؤى الذاتية الخالصة (إسماعيل فهمي، محمد إبراهيم كامل) تعبِّر عن موقفٍ سياسيٍّ مخالف، وقد تستطيع الجمع بين الاثنين في معادلةٍ صعبةٍ وتوزانٍ دقيقٍ (محمود رياض)، وقد يبقى البعض منها طائرًا فوق الأحداث، تصفها من الخارج دون الالتزام بموقفٍ صريحٍ إلا بسياسة الدولة وموقف الحكومة بالرغم مما فيه من ذكريات وتجارب وطنية قبل يوليو ١٩٥٢ وبعدها (عصمت عبد المجيد) جمعًا بين المنهج الفلسفي والمنهج التاريخي، تكشف عن المدرسة الوطنية في الأربعينيات، مدرسة محمد صلاح الدين ومحمود فوزي. تغيب عنها المواقف والتحليلات السياسية للإشكالات، أقرب إلى المسئولية الدبلوماسية التي تنتقي مواطن الأمان وتتجنَّب الأشواك. يصف «زمن الانكسار والانتصار» من ١٩٦٧–١٩٧٣ دون التعرض إلى زمن الانهيار والضياع وغيام الرؤية منذ ١٩٧٩ والتغير في الثوابت في الثقافة السياسية للخارجية المصرية.٥ عيب المذكرات في مجموعها الرؤية الذاتية وليس الوصف الموضوعي، السيرة الروائية وليس التحليل السياسي، فن الأدب وليس علم السياسة، تدخل الخيال وتكبير الذات وادعاء البطولة، والنسيان، والرؤية الجزئية لمرحلة ولتشخص وليست الرؤية الكلية لحقبة في مسار التاريخ الكلي.
-
(٣)
ثقافة وزراء الخارجية العامة وخلفياتهم التعليمية القانونية أو الأدبية أو العسكرية وأثر ذلك على تصوراتهم للعلاقات الدولية وكيفية ممارسة العمل السياسي، ولا توجد مادة مباشرة لذلك إلا من خلال المذكرات أو بيانات التدرُّج الوظيفي وملفات الخدمة، كما يمكن معرفة ذلك عن طريق الثقافة السياسية التي تعبِّر عن نفسها في أيديولوجيات واضحة ليبرالية (محمود فوزي) أو اشتراكية (مراد غالب) قبل الثورة وبعدها، بل إنه يمكن تصنيف وزراء الخارجية إلى صنفين، الأول الدبلوماسيون الحرفيون الذين يؤدون مهامهم في حدود وظائفهم، والثاني المثقفون الذين جمعوا بين التمثيل الدبلوماسي والنشاط الفكري والأدبي (محمد حسين هيكل، عبد الرحمن عزام). ويشمل هذا التقسيم أيضًا وكلاء الوزراء والسفراء ومستشاري الرئيس للشئون الخارجية (مصطفى الفقي، تحسين بشير، أسامة الباز).
-
(٤)
ولما كانت الخارجية ليست فقط وزراؤها بل أيضًا سفراؤها في الخارج وسفراء الدول في الداخل يمكن تتبع الثقافة السياسية للخارجية المصرية في النشاطين الرئيسيين لها؛ الأول: دور ممثليها وقناصلها وسفرائها ومستشاريها ومندوبيها في الخارج، في القنصليات والسفارات والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية لمعرفة مدى اتساق سياساتها مع سياسات الحكومة واحتمال التعارُض بين الضمير الوطني في الخارج والسياسة التابعة في الداخل أو العكس خاصةً قبل ثورة يوليو ١٩٥٢؛ والثاني: وجود قناصل الدول الأجنبية وسفرائهم ومندوبيهم في الداخل وكيفية التعامل معهم، ومدى تدخلهم في الشئون السياسية تعاطفًا مع الحركة الوطنية وحزب الأغلبية أو تعاملًا مع القصر وأحزاب الأقلية منذ نشأة وزارة الخارجية في عهد محمد علي حتى السنوات الأولى لثورة يوليو ١٩٥٢.٦ وقد كان التمثيل المصري في الغرب هو الشائع وفي الشرق أقل شيوعًا، وفي الوطن العربي والعالم الإسلامي.٧
-
(٥)
المعاهدات والمواثيق الدولية التي تعقدها وزارة الخارجية وتحليلها لمعرفة اتجاهاتها السياسية التي قد تكشف أيضًا عن الثقافة السياسية الموجهة لها؛ فقد تكشف بنودها وصياغاتها عن الثقافات السياسية التي وراءها كدافعٍ وإراداتٍ للطرفين إلا الأطراف الموقعة عليها خاصةً فيما يتعلَّق بالمساواة بين الطرفين أو بقبول طرفٍ إرادة الطرف الآخر.
-
(٦)
تقارير وزارة الخارجية الداخلية والخارجية التي يكتبها النواب والمساعدون والخبراء في لجان التخطيط في الداخل أو القناصل والسفراء والمستشارون والوزراء المفوضون في الخارج، والتي تكشف عن التفاعل الثقافي بين الخارجية المصرية والدول الأجنبية وصراع المصالح وتوزان القوى والتي تمد الوزارة بالمعلومات اللازمة لتكوين رؤيةٍ سياسيةٍ تتفاعل فيها الثوابت والمتغيرات، الثقافة والسياسة.
-
(٧)
المراجع العامة عن تاريخ الوزارات في مصر خاصةً وزارة الخارجية، والتي قد تكشف في بعض جوانبها الثقافة السياسية للخارجية المصرية، وتتفاوت بين ثلاثة أنواع؛ الأول يجمع بين التاريخ والدلالة، بين الأحداث ومعانيها، بين الكم والكيف كنموذجٍ للدراسات التاريخية الوطنية؛٨ والثاني أقرب إلى التاريخ منه إلى الدلالة، ومن الحدث منه إلى المغزى طبقًا للمنهج التاريخي التقليدي في الرصد، وكما هو الحالي في الدراسات الاستشراقية، وإن كان التاريخ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية أصبح موضوعًا للعلوم السياسية التي تخضع بعض الدراسات فيها إلى نظريات العلوم السياسية الوافدة من الغرب لسد النقص النظري المستقل؛٩ والثالث الدراسات التاريخية الخالصة، مجرد رصد بلا دلالة، ونظم وقوانين وقوائم وجداول إحصائية بلا قراءة، كم بلا كيف وفي الغالب من الهواة من غير المتخصصين، فما أسهل التجميع وما أصعب الاستنتاج. تعمل الحواس ولا يعمل الذهن، وتغلب علوم المكتبات على علوم الثقافة بالرغم من الادعاء بالجمع بين التاريخ الفكري والتاريخ الاجتماعي والبحث عن الهياكل، وهناك فرق بين الهيكل التنظيمي والبنية الذهنية.١٠
-
(٨)
كشافات الصحف مثل كشاف الأهرام وشبكات المعلومات المتوافرة حول وزارة الخارجية ومداخلها المتعددة، وغالبًا ما اعتمدت بعض الدراسات في العلوم السياسية عليها اعتمادًا كليًّا.١١ وهي المادة الأولية الخام، عيبها الابتسار والتلخيص وتدخل الصحفي في الصياغة. والأفضل الوثائق المباشرة الرسمية في المحفوظات.
وقد أنشئت إدارة العلاقات الثقافية بالخارجية المصرية والمكاتب الثقافية في السفارات وتعيين مستشارين ثقافيين بالتوازي مع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة. لم تكن الشئون الثقافية جزءًا من إدارة وزارة الخارجية في مراحلها الأولى. كان مكتب الوزير يتكوَّن من إدارة المراسم، وإدارة الشئون السياسية والتجارية والإدارية، وإدارة التبعيات والمالية، وإدارة المحاسبة والمستخدمين والمحفوظات والمكتبة، وكانت السياسة والتجارة نفس القسم.
وفي كل هذه الهياكل التنظيمية اقتصرت مهمة إدارة العلاقات الثقافية على الموافقة على المؤتمرات الدولية في الداخل والخارج، وتوثيق المعاهدات الثقافية وتدعيم النشاط الثقافي لمصر، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، وظلَّت متداخلةً مع الإعلام؛ فالثقافة إعلام الدولة، والدولة ثقافة الإعلام، ولم يكن دورها صياغة ثقافة سياسية للخارجية المصرية أو لمؤسسات الدولة.
ويمكن عرض الثقافة السياسية للخارجية المصرية بمنهجين؛ الأول المنهج التاريخي لتتبع تطور الثقافة السياسية للخارجية المصرية منذ نشأة النظارة في ١٨٢٦ حتى عام ٢٠٠١. ويمكن تقسيم هذا التاريخ إلى أربع مراحل رئيسية تتضمن كل مرحلة فترات أخرى فرعية.
-
(١)
مصر وبحر برة ١٨٢٦–١٨٧٨، وهي الفترة الممتدة من أول نظارة في مصر حتى أول برلمان في تاريخ مصر الحديث، عصر محمد علي وإسماعيل.
-
(٢)
من الاحتلال حتى المعاهدة ١٨٧٨–١٩٣٦، وهي الفترة الممتدة من إسماعيل وتوفيق وعباس وفؤاد باستثناء فترة الحماية على مصر، وتشمل ثلاث فترات:
- (أ)
مصر تحت البرلمان ١٨٧٨–١٩١٤ منذ أول برلمان حتى الحماية.
- (ب)
مصر تحت الحماية وإلغاء وزارة الخارجية ١٩١٤–١٩٢٢.
- (جـ)
مصر من الثورة حتى المعاهدة ١٩٢٢–١٩٣٦.
- (أ)
-
(٣)
من المعاهدة حتى الثورة الثانية ١٩٣٦–١٩٥٢ وهي فترة النضال الوطني في الأربعينيات بفضل حزب الوفد والحركة الوطنية المصرية وهي الفترة التي تكوَّن فيها الضباط الأحرار.
-
(٤)
من ثورة يوليو ١٩٥٢ حتى اليوم وهي فترة التجربة المصرية الثانية الاشتراكية بعد الليبرالية، والقومية بعد الوطنية، ويمكن التمييز فيها بين ثلاث فترات:
- (أ)
الجمهورية الأولى ١٩٥٢–١٩٧٠، وهي الفترة الناصرية التي شهدت عصر النصر والهزيمة والمد القومي العربي والاستعداد لحرب أكتوبر.
- (ب)
الجمهورية الثانية ١٩٧٠–١٩٨١، وهي الفترة التي بدأ فيها الصراع بين الرياسة من ناحية والخارجية والحزب والشعب من ناحية أخرى، والتي تحول فيها نصر أكتوبر إلى هزيمة سياسية.
- (جـ) الجمهورية الثالثة ١٩٨١–٢٠٠٠، وهي فترة محاولة العودة إلى الثوابت الوطنية في السياسة والتنازل عن الاختيار الاشتراكي.٢٠
- (أ)
وبالرغم من أهمية التحقيب التاريخي لمعرفة التحولات في الثقافة السياسية للخارجية المصرية مع الرياسة أو مستقلة عنها إلا أن عيبه هو تكرار الثوابت في الثقافة السياسية للخارجية المصرية، وعدم وضوح البنية السارية داخل المراحل. كما يختلف المؤرخون في مدى التحقيب، قصره وطوله، معاييره ودلالاته، كما تتداخل المراحل الكبرى مع الفترات الصغرى؛ فالثورة المصرية مثلًا منذ ١٩٥٢ حتى الآن مرحلة واحدة تتخللها ثلاث فترات، كل منها له نظامه السياسي واختياراته وأولوياته، بل إن المرحلة الليبرالية أيضًا منذ ١٨٧٨ تتخللها ثلاث فترات أيضًا ما قبل فرض الحماية ١٩١٤، وأثناء الحماية ١٩١٤–١٩٢٢، وبعد الحماية حتى المعاهدة ١٩٢٢–١٩٣٦.
والثاني المنهج البنيوي الذي يحاول إيجاد بنيةٍ للثقافة السياسية للخارجية المصرية عبر المراحل والفترات التاريخية مثل نمطي الثقافة السياسية قبل ١٩٥٢، الاستقلال والتبعية، واستمرار هذا النمط بعد ثورة ١٩٥٢، إنما الخلاف في التبعية لمن؟ بريطانيا أولًا والولايات المتحدة الأمريكية ثانيًا أي الاستقلال الوطني والتحالف مع الغرب الأوروبي أولًا والأمريكي ثانيًا. وقد استمر نفس النمطين بعد ثورة ١٩٥٢ في توتر حاد في الفترة الأولى، العهد الناصري لصالح الاستقلال الوطني الثابت في الثقافة السياسية للخارجية المصرية، والتحول في الفترة الثانية ١٩٧٠–١٩٨١ لصالح التبعية لأمريكا وإسرائيل، ثم العودة إلى التوازن بين النمطين في ظروف سياسية داخلية وإقليمية ودولية متغيرة في الجمهورية الثالثة.
ثانيًا: أنماط الثقافة السياسية للخارجية المصرية
منذ نشأة نظارة الخارجية في مصر في ١٨٢٦ تعاقب عليها نمطان للثقافة السياسية؛ الأول: النمط الغربي الذي حمله الأتراك والأرمن وخريجو المدارس الأجنبية والإرساليات التبشيرية من طبقة الأعيان وكبار ملاك الأرض، هي الثقافة السياسية التابعة الممثلة في ثقافة الأقليات والمدارس الأجنبية، ثقافة الإنجليز والقصر والإقطاع وأحزاب الأقلية، كانت بريطانيا نموذج الغرب كما كان الحال لدى المثقفين في الهند مثل السيد أحمد خان؛ والثاني: النمط الوطني من خريجي مدرسة الحقوق الفرنسية الذي يدافع عن الاستقلال ضد بريطانيا والقصر والنخبة التركية الأرمنية الحاكمة، مثله المثقفون الوطنيون من الطبقة المتوسطة وبعض الأساتذة الجامعيين، وهو يعادل حزب المؤتمر في الهند.
وأثناء الاحتلال زاد عدد الأجانب في مصر من الأوروبيين وجزر البحر الأبيض المتوسط، وانتشرت مدارس التعليم الأجنبي والإرساليات لسد الحاجة في الوظائف العامة في التجارة والبنوك والمؤسسات الاقتصادية وشركات تملك الأراضي والتوسع العمراني. وصدرت الصحف باللغات الأوروبية خاصة الفرنسية والإيطالية واليونانية والإنجليزية، وكان ذلك من اختصاصات وزارة الخارجية بما في ذلك بناء الجبانات للأروام الأرثوذكس وغيرهم من الطوائف المسيحية الأجنبية في مصر. وتحولت الوزارة من الاهتمام بالخارج إلى الاهتمام بالداخل، بل انقطعت علاقاتها بالخارج تمامًا بما في ذلك تركيا أثناء فترة الحماية. وكانت بريطانيا هي التي تمثل مصر في الخارج، تعقد المعاهدات باسمها مثل معاهدة الرقيق المصرية البريطانية عام ١٨٧٧.
وقد صدر الأمر العالي في ١٠ / ١٢ / ١٨٧٨ باختصاص نظارة الخارجية «بالمطابع والمطبوعات الأورباوية»؛ فقد كان في مصر في ١٨٨٠–١٨٨٥ حوالي خمس عشرة صحيفة أجنبية أغلبها بالفرنسية، وبعض صفحاتها بالعربية، وكان أصحابها يتمتعون بحماية قناصلهم، وكثيرًا ما كان ذلك يؤدي إلى أزماتٍ سياسيةٍ ودبلوماسية، أشهرها ما حدث في ١٨٨٥ عندما عطلت الحكومة المصرية جريدة البوسفور إجيبسيان وتوجيه الحكومة الفرنسية إنذارًا إلى الحكومة المصرية مما أدى إلى اعتذار نوبار باشا وزير الخارجية بتوجهه إلى قنصلية فرنسا بملابسه الرسمية وتقديم الاعتذار بنفسه. وبعد عودة العمل بالقانون عام ١٩٠٩ حدث توترٌ شديد بين الخارجية المصرية وبعض المعتمدين الأوروبيين عندما نجحت جريدة «لي دبيش إجيبسيان» التي كانت تصدر بالعربية والفرنسية في الاتصال بزعماء الحزب الوطني وشن حملة عنيفة على الخديوي نفسه الذي ساءت علاقته بالحزب عام ١٩١٠، ونظرًا لنظام الامتيازات لم يستطع الخديوي البطش بالصحيفة، ولكن تدخلت نظارة الخارجية لحل الأمر، فبعد أن نشر ديروجا مقالًا في الهجوم على الخديوي استدعى حسين رشدي ناظر الخارجية المعتمد الفرنسي والقائم بالأعمال الإسباني، وطلب منهما أبعاد صاحب الصحيفة ورئيس تحريرها وإخراجهما خارج البلاد.
وكان من هموم نظارة الخارجية أيضًا المحاكم المختلطة، والتي كانت تخضع لها ليس فقط من النواحي الإدارية مثل مد العمل بها بل من حيث عملية اختيار القضاة الأجانب فيها التي كانت من حق الحكومة المصرية. ولما كانت العناصر تعترض نشأت مسجلات بين النظارة والقناصل كانت تنتهي أحيانًا إلى بعض الأزمات الدبلوماسية.
وكان الأقباط من هذه الطبقة من خلال اشتغالها بالصرافة في الريف أو النظارة على التفاتيش الزراعية الكبيرة خاصة تفاتيش الأمراء الذين كانوا أشبه بالملاك الغائبين، ومنهم بطرس غالي؛ فقد كان أبوه غالي بك نيزوز ناظرًا لتفاتيش مصطفى فاضل شقيق الخديوي إسماعيل. ظهر الأقباط كقوة في ١٧٥٠ في ظل علي باشا الكبير، واحتفظوا بإدارة الجمارك وفي ميدان المال والتجارة.
والنمط الثاني في الثقافة السياسية للخارجية المصرية هو ثقافة الاستقلال الوطني الممثلة في الخارجية وحزب الأغلبية، الوفد، وأحزاب المعارضة والمثقفين الوطنيين وعلماء الأزهر، وهي الثقافة التي تكوَّن فيها الضباط الأحرار قبل ١٩٥٢ المتمثلة في الجيش والرياسة بعد الثورة.
كانت تركيا تعتبر نفسها صاحبة حق في مصر، وقد رفض الوزير المفوض التركي في مصر اعتباره مثل باقي الوزراء المفوضين مثل محمد علي شوقي بك ومحيي الدين باشا (١٩٢٦–١٩٣٢)، كان الأول أحد الأعضاء الأوائل في جمعية الاتحاد والترقي، وكان الثاني حفيد مختار باشا المندوب السامي التركي في مصر قبل الحرب؛ فتركيا ليست دولة صاحبة امتيازات يمثل مواطنوها أمام المحاكم المختلطة بل هم مواطنون يمثلون أمام المحاكم الأهلية المصرية.
وأثناء الاحتلال ١٨٨٢–١٩١٤ سلبت بريطانيا وزارة الخارجية كثيرًا من سلطاتها، ومع ذلك ظلَّت الوزارة هي الوسيلة التي تتعامل بها بريطانيا مع الدول الأجنبية، وفي الفترة بين الإلغاء والإعادة ١٩١٤–١٩٢٢ كانت الوزارة تمثِّل أهم مظاهر السيادة الوطنية على امتداد تاريخ مصر الحديثة، فمنذ بداياتها الأولى قبل الاحتلال تحت مختلفة الأسماء «ديوان أمور إفرنكية» أو «نظارة خارجية» ظلت تتناقض أو تتزايد طبقًا لتقلص أو اتساع الاستقلال الوطني.
وكان الاستثناء من السيادة الأجنبية على الخارجية المصرية تولي أحمد عرابي نظارة الجهادية والبحرية بين فبراير ويوليو ١٨٨٢، وتولي سعد زغلول نظارتي المعارف والحقانية بالتعاقب بين أكتوبر ١٩٠٦ وأبريل ١٩١٢ رغبة من بريطانيا في استرضاء المصريين ولمواجهة النمو المطرد للحركة الوطنية.
ولم تكن الحركة الوطنية المصرية بمعزلٍ عن الحركة الوطنية العربية؛ إذ تتجسَّد الليبرالية في الوطنية والعروبة على حدٍّ سواء؛ فقد أُنشئ نادي الاتحاد العربي في ١٩٤٤ لترويج فكرة العروبة، وهو نفس العام الذي أُسِّست فيه جامعة الدول العربية. وقد ساهم عصمت عبد المجيد في نشاط «الحركة الوطنية لطلاب المغرب العربي» في باريس مما جعله يكتشف حب المغاربة لمصر، وإثبات الشخصية العربية الإسلامية لمصر التي تجسدت في استقبال بطل الريف عبد الكريم الخطابي مارًّا بقناة السويس، كما دعمت الحركة الوطنية المصرية تأميم مصدق للبترول في ١٩٥٤. وهو نفس التيار الذي خرجت منه ثورة يوليو ١٩٥٢، واستمرارًا لمعارك مصر الوطنية في ١٩٥١ في قناة السويس، وفي ١٩٥٦ معركة التأميم، وفي ١٩٥٨ دفاعًا عن استقلال لبنان ضد الغزو الأمريكي وتدعيمًا للحركة الوطنية اللبنانية، دفاعًا عن استقلال الجزائر وثورة اليمن.
كما مثلت الطليعة الوفدية بداية التحول في الحركة الوطنية المصرية من الليبرالية التي قادها الإقطاع وباشوات مصر إلى الفكر اليساري الاشتراكي وضرورة الإصلاح الزراعي في مصر، وكان عصمت عبد المجيد قد تعرف على معظم التيارات الفكرية اليسارية، الماركسية والاشتراكية أثناء دراسته في باريس، وهي نفس البيئة التي تكون فيها عبد العزيز فهمي ومحمد مندور ومارسها مصطفى موسى.
وبعد أن كانت الخارجية المصرية محصورةً في طبقة الأعيان والأقليات الأرمنية والتركية قبل إلغاء الوزارة وفرض الحماية في ١٩١٤ اتسعت هذه الطبقة بعد عودة الوزارة في ١٩٢٢ وبعد ثورة ١٩١٩. وتم اختيار رجال السلك الدبلوماسي من موظفي الحكومة من مختلف الوزارات أو من الموظفين من خارج الحكومة أو من أصحاب المهن الحرة بل ومن صفوف العسكريين. وقد تم التوسُّع في ذلك خاصة بين ١٩٢٢–١٩٢٦ حتى تم تكوين كوادر خاصة لوزارة الخارجية.
ثم تغير ولاء بعض هؤلاء الأئمة من الملك إلى الوطن، ومن القصر إلى الشعب مثل أمين الخولي صاحب مدرسة الأمناء، والذي أصبح من كبار المجددين في الفكر الإسلامي والنقد الأدبي بفضل اتصاله بالثقافة الغربية وجمعه بين القديم والجديد، ومما يدل على استخدام المصريين في الخارج عن طريق موظفي الخارجية لطلب الولاء للقصر ما ذكره أمين الخولي من أن الطلبة في برلين كانوا فريقين؛ الأول مع سعد، والثاني مع القصر. ولما طالب أحد الطلاب في خطبة ترحيبٍ أن يُنهيَها بشكر «مآثر مولانا» رفض الطالب بإباء لأنه ليس ملكيًّا. وقد حدث نفس الشيء لعبد الوهاب عزام الذي حصل في لندن على الماجستير من مدرسة اللغات الشرقية ثم أصبح أستاذًا بكلية الآداب وعميدًا لها، ثم عاد إلى السلك الدبلوماسي سفيرًا لمصر لدى السعودية وباكستان. وقد عاد أغلب هؤلاء الأئمة إلى مصر عام ١٩٢٨ بعد فشل سياسة الملك في استعمال الدين للسياسة وتلاشي آماله في الخلافة، وجذب ولاء المصريين في الخارج إلى القصر.
- (١)
زيادة نص «وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدولي» على نص «حفظ السلم والأمن الدولي» دفاعًا عن حق الدول الصغرى في العدل.
- (٢)
بالنسبة للأعضاء الأصليين والجدد اقترح الوفد المصري أن يكون التنظيم عالميًّا ممثلًا للدول الكبرى والصغرى عاجلًا أو آجلًا وحتى تحرر الدول الصغرى من سيطرة الدول الكبرى.
- (٣)
بالنسبة للمعاهدات اقترح الوفد المصري إعادة النظر في المعاهدات طبقًا للظروف المتجددة حتى تتحرر الدول الصغرى من المعاهدات المجحفة التي عقدتها مع الدول الكبرى مثل معاهدة ١٩٣٦ بين بريطانيا ومصر بل وضرورة إلغاء المعاهدات السابقة على الميثاق الجديد.
- (٤)
بالنسبة لحق التصديق على قرارات مجلس الأمن اقترح الوفد المصري الاكتفاء بحق الجمعية في النظر في تقارير المجلس ومناقشتها وضرورة عرض التقارير على مجلس الجمعية العامة للمصادقة وهو أشبه بالبرلمان تفاديًا لسيطرة أعضاء مجلس الأمن على الجمعية العامة.
- (٥)
بشأن انضمام فرنسا لمجلس الأمن اعترضت مصر نظرًا لعدوانها على سوريا مما يكشف عن البعد العربي في سياسة مصر الوطنية قبل ١٩٥٢.
- (٦)
زيادة أعضاء مجلس الأمن إلى أربعة عشر عضوًا من أجل إتاحة الفرصة لفوز مصر بعضويته للدفاع عن مصالح الشعوب؛ فقد كانت مصر تشعر بأنها دولة كبرى قائدة لحركات التحرر الوطني حتى قبل ١٩٥٢.
- (٧)
طلب مصر التمثيل الإقليمي بحيث يشمل مناطق العالم المختلفة من أجل حق دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وهي السياسة التي تحققت في باندونج ١٩٥٥، وقد تم الأخذ بهذا الاقتراح.
- (٨)
أن يكون التصويت في مجلس الأمن بالأغلبية، ثمانية من أربعة عشر عضوًا وليس بحق الفيتو من أجل رفع سيطرة الأعضاء الدائمين وهي الدول الكبرى. وهو ما تعاني منه المنظمة الدولية حتى الآن.
- (٩)
عدم تعارض الميثاق الجديد مع المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية.
- (١٠)
زيادة أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى أربعة وعشرين عضوًا لتمثيل مناطق العالم.
- (١١)
الاعتراض على لجنة الوصاية نظرًا لما عانته مصر من السيطرة الأجنبية باسم الانتداب والحماية.
- (١٢)
اقترحت مصر في انتخاب مجلس الوصاية أن تكون الدول المنتخبة بنسبة الدول المعينة حتى تكون للدول الصغرى الأغلبية.
- (١٣) بالنسبة لمحكمة العدل الدولية طالبت مصر باتخاذ إجراءات ضد الدول التي ترفض التنفيذ.٥٣
ثالثًا: الدوائر الثقافية للسياسة الخارجية
وقد مثلت هذه الهوية المستقلة الثقافة السياسية الوطنية قبل ١٩٥٢ وكما مثلتها الخارجية وحزب الأغلبية حزب الوفد والذي بلغ أوجه في مقاومة الفدائيين في القناة في ١٩٥١ وإلغاء معاهدة ١٩٣٦، والوقوف ضد سياسة الأحلاف قبل اندلاع الثورة وبعدها، حلف بغداد، والحلف المركزي، والحلف الإسلامي.
وتأكدت عروبة مصر في تاريخها الحديث منذ محمد علي وإبراهيم في الشام والسودان وشبه الجزيرة العربية وئامًا أم صراعًا، اتفاقًا أم خلافًا، وحدة أم انفصالًا، وفي التجربتين الرئيسيتين في مصر المعاصرة، التجربة الليبرالية الغربية والتجربة القومية الاشتراكية.
واستمر الحال كذلك طوال الثورة المصرية على مدى نصف قرن وما زال، بل إن التحقيق في الأسلحة الفاسدة أثناء حرب فلسطين في ١٩٤٨ كان من أحد أسباب اندلاع الثورة في ١٩٥٢ كما أعلن ذلك البيان الأول للثورة، واستمرت إسرائيل تهدد الأمن القومي المصري منذ الغارة على غزة في ١٩٥٥، وقد دخلت مصر أربعة حروب دفاعًا عن أمنها القومي في فلسطين في ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، ١٩٧٣، وكانت محاولات إسرائيل تحويل روافد نهر الأردن السبب الأول لسياسة مؤتمرات القمة العربية في ١٩٦٤، وبدل أن كانت بريطانيا نموذج دولة الاحتلال أصبحت إسرائيل تقوم بدورها وبريطانيا خلفها.
واستمر المد القومي العربي على نحو رومانسي عاطفي في الجمهورية الأولى، وانحسر في الثانية، وعاد بعقل واتزان في الثالثة. بل إن كل ما حدث من ثورات عربية إنما كان نتيجة لارتباط مصر بالعروبة ونضالها من أجل قضايا العرب؛ فثورة ١٩٥٢ إنما هي رد فعل على هزيمة العرب في فلسطين في ١٩٤٨، والعدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦ إنما كان نتيجة لتأييد مصر لثورة الجزائر وتسليح جيش التحرير الوطني، وثورة العراق في ١٩٥٨ إنما كانت رد فعل على العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦، والوحدة المصرية السورية، تجربة الجمهورية العربية المتحدة، أول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث ١٩٥٨–١٩٦١ إنما كانت حماية لسوريا من الوقوع في المعسكر الشرقي والفلك السوفيتي، وثورة اليمن في ١٩٦٤ إنما كانت رد فعل على الانفصال في ١٩٦١، وأعلنت المساواة بين الطوائف وإلغاء الرق، والقضاء على التفرقة بين الزيود والشوافع ومنعت الاحتفاظ بالرهائن، والثورة الليبية في ١٩٦٩ إنما كانت رد فعل على هزيمة ١٩٦٧.
لقد تأثر رئيس الجمهورية الأولى بدخول الأردن في معركة ١٩٦٧ فضاعت منه الضفة، وتوفي بعد مذابح أيلول الأسود إنقاذًا للثورة الفلسطينية. وأجل الصراع بين الدول العربية التقدمية والدول الرجعية إلى ما بعد إزالة آثار العدوان.
وظهر التضامن العربي في الجمهورية الثانية أثناء حرب أكتوبر التي أعدَّت لها الجمهورية الأولى، وأرسلت قوات عربية من العراق والمغرب والسودان والكويت وتونس والجزائر وليبيا، وكاد الأردن يدخل الحرب بمجرد وصول الجيش إلى المضايق في سيناء، وتم حظر النفط وهو يدخل لأول مرةٍ كسلاحٍ استراتيجي في المعركة.
وفي الجمهورية الثالثة بدأ رأب الصدع لما حدث من تفكُّك عربي بعد زيارة رئيس الجمهورية الثانية للقدس في نوفمبر ١٩٧٧ وبعد غزو العراق للكويت في أغسطس ١٩٩٠ ونشط وزراء الخارجية في المصالحة السودانية ورفع الحصار عن الشعب العراقي وليبيا وتحقيق المصالحة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وسوريا وانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان والدعوة إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية على كل الجبهات العربية.
ونظرًا لأن الإطار الإسلامي لم يكن ضمن الدوائر الثقافية الثلاث للثورة المصرية لظروف تكوين الضباط الأحرار في عدة روافد ثقافية وطنية في الغالب وماركسية وإسلامية في الطرفين وللصراع بين الإخوان والثورة منذ ١٩٥٤ وللخوف من مبدأ تصدير الثورة بعد اندلاع الثورة الإسلامية في إيران في ١٩٧٩ وبعد اشتداد الحركات الأصولية منذ مقتل رئيس الجمهورية الثانية في ١٩٨١ واستمرار قرار حل الإخوان في ١٩٥٤ ورفض إقامة أي حزب أو تنظيم إسلامي جديد حتى ولو قبل النظام الديمقراطي ونبذ العنف، كان التمثيل الإسلامي في مصر ضعيفًا باستثناء تمثيل تركيا وإيران ثم أفغانستان؛ فكان ممثل تركيا يرفض أن يعامل مثل معاملة باقي الدبلوماسيين للتاريخ المشترك والمصاهرة بين العائلتين المالكتين، وكان ممثلها يطلب المزيد من الأولوية في البرتوكول، وأيَّدَتْ مصر انضمام تركيا عضوًا في مجلس الأمن عام ١٩٥٠ مقابل تأييد تركيا لمصر في عضوية المجلس الاقتصادي الاجتماعي. وبعد ثورة يوليو ١٩٥٢ كان السفير التركي مرتبطًا بالأسرة المالكة المصرية فتحفَّظ تجاه الثورة ووصف مصر بأنها بلد قذر، وأقام حفلًا لم يدعُ إليه واحدًا من المصريين فطلبت مصر من تركيا استدعاءه ثم طرده عبد الناصر.
وبالرغم من الصراع بين الإخوان والثورة في الجمهورية الأولى، والتناقض بين الجماعة الإسلامية والجمهورية الثانية بعد كامب ديفيد في ١٩٧٨ ومعاهدة السلام في ١٩٧٩ بعد أن استعملها النظام السياسي منذ أوائل السبعينيات ضد خصومه السياسيين المشتركين، الناصرييين والماركسيين والوفد بتهمة القومية والإلحاد والعلمانية، وانقلاب الجماعة عليه، وتصفية رئيس النظام في أكتوبر ١٩٨١، واستمرار الخلاف بين الحركة الإسلامية ممثلة في جماعة الجهاد، والجمهورية الثالثة إلا أن الصحوة الإسلامية التي أصبحت موضوعًا للصحافة العالمية والمنظمات الدولية. ركزت الخارجية المصرية في الجمهورية الثالثة على الظاهرة الإسلامية دفاعًا عن الإسلام حضارة وعلمًا وحوارًا، وسلامًا وتسامحًا، وقيمًا وأخلاقًا.
والإسلام دين العلم والتقنية قبل الحضارة الغربية؛ فقد بدأ الوحي الكريم بسورة «اقرأ»، وفصل القرآن العظيم عملية الخلق تفصيلًا دقيقًا، وتحدثت آيات الذكر الحكيم عن الشمس والقمر وأسرار الكون. فتح القرآن أبواب الفكر والعلم على الأرض وفي البحر والجو والفضاء، ولكن المسلمين لم يبنوا عليها كما ينبغي، ولم يُطلقوا عقال فكرهم، واكتفوا بترديد أمجاد الأولية والإعجاب بمنجزات الآخرين. ولما كان الإسلام دين الأمس واليوم والغد، وليس دين الأمس فقط كان من الضروري صياغة إطار فكري إسلامي يستشرق آفاق المستقبل، ويستند إلى كتاب الله وسنة النبي إلى صحيح الدين وثرى الفكر إلى عمق العلم ومنطق الأمور؛ فالدين ليس سببًا للتخلف، ونموذج الإسلام العلم بنص الكتاب: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، والحضارة الغربية حضارة علم مثل الحضارة الإسلامية وتالية لها، فالإسلام ليس عدوًّا للحضارة ولا هو عدو للغرب، ولا الغرب عدو له بعد سقوط الشيوعية يؤدي إلى حرق بيوت الأتراك في ألمانيا واشتعال حروب صليبية جديدة. إن الإسلام يعترف بتعدُّد الثقافات ووحدة الحضارة الإنسانية، فالتباين الثقافي ليس سلبًا بل إيجابًا، ومن هنا أتَتْ ضرورة احترام الديانات السماوية والتصرف في نطاقها وما تنادي به من فضائل من أجل تنظيم الحياة على الأرض وفي موضوع المرأة وقضية الإجهاض يتم الالتزام بنصوص الشريعة الإسلامية والقانون.
رابعًا: الدوائر السياسية للخارجية المصرية
وتعني الدوائر السياسية مجالات التحرك للخارجية المصرية وتفاعلها مع باقي مؤسسات الدولة تناغمًا كما هو الحال في الجمهوريتين الأولى والثالثة أو تنافرًا كما هو الحال في الجمهورية الثانية؛ فالخارجية لا تعمل بمفردها، إنما هي جهاز تنفيذي للسياسات التي يصنعها الرئيس، أعلى سلطة تنفيذية في البلاد؛ لذلك يمكن التفرقة بين الثوابت الدائمة في الثقافة السياسية والمنافع العاجلة للرياسة، فإذا اتفقت مؤسسات السياسة الخارجية خاصة الرياسة والخارجية على الثوابت حدث وفاق بين الرياسة والخارجية وهو الأغلب في الجمهوريتين الأولى والثالثة، وإذا اختلفتا أصبحت الخارجية هي الممثلة للثوابت والرياسة هي المدافعة عن المنافع العاجلة، وهو الأغلب في الجمهورية الثانية؛ فالرياسة والخارجية هما أهم عنصرين فاعلين في رسم السياسة الخارجية تخطيطًا وتنفيذًا.
ثالثًا هناك أيضًا المؤسسة العسكرية التي تقوم بتدعيم الثوابت في الثقافة السياسية للخارجية والرياسة في آنٍ واحد طبقًا للدستور وكحقٍّ شرعي من مكتسبات ثورة يوليو ١٩٥٢. الجيش هو الحارس على مصالح الشعب ومكاسبه الاشتراكية، هو المسئول أولًا وأخيرًا عن قرارات الرياسة في النصر وفي الهزيمة، في الحرب وفي السلم، هو المسئول عن هزيمة ١٩٤٨ وعدوان ١٩٥٦ وهزيمة ١٩٦٧. كما أنه يرجع إليه الفضل في التوجُّه إلى قصر عابدين بقيادة ناظر الجهادية أحمد عرابي في ١٨٨٢ دفاعًا عن حقوق الشعب والثوابت الوطنية. وهو الذي قاد حرب الاستنزاف ١٩٦٨–١٩٧٠، وهو الذي انتصر في حرب أكتوبر ١٩٧٣ بعد ضغوطه على الرياسة لاسترداد كرامة الجيش والوطن، فإذا ما حدث صراعٌ بين الرياسة والجيش كما حدث في انقلاب ١٥ مايو ١٩٧١ كسبت الرياسة نظرًا لأن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ونظرًا لما يُعرف عن الجيش بعدم تدخُّله في السياسة تدخلًا مباشرًا بالرغم من ازدياد الأثر العسكري في الحياة المصرية بعد الثورة.
رابعًا هناك الرأي العام الممثل في مظاهرات الطلاب والانتفاضات الشعبية مثل مارس ١٩٦٨ ضد ما يُسمى بأحكام الطيران ومظاهرات ميدان التحرير واعتصام الطلاب في ١٩٧١-١٩٧٢ التي عجلت بحرب أكتوبر بعد أن كان معدًّا لها عام ١٩٧١ عام الحسم، والانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧ التي عجلت بزيارة القدس في نوفمبر من نفس العام لإيجاد أحلافٍ خارجية للنظام في إسرائيل وأمريكا بعد أن فقد شرعيته الداخلية بسبب التحول عن الخط الاشتراكي إلى الانفتاح، ومظاهرات الطلاب ضد العدوان الأمريكي على العراق في يناير ١٩٩١ وتكرار العدوان في ١٩٩٨، وحرق المسجد الأقصى، وضرب المفاعل النووي العراقي، وخطف الطائرة المصرية، وغزو جنوب لبنان وحصار بيروت، ولتأييد الانتفاضتين الأولى والثانية.
خامسًا هناك المؤسسات الدستورية مثل الأحزاب، الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة، ومجلسا الشعب والشورى، والقضاء. وهي الدائرة الأقل تأثيرًا وتفاعلًا من دوائر السياسة الخارجية لمصر.
وهناك ثلاثة نماذج في علاقة الرياسة بالخارجية؛ الأول الاتفاق بين الاثنين نظريًّا وعمليًّا كما كان الحال في الجمهورية الأولى، والثاني الاختلاف والتعارض بل والتناقض بين الرياسة والخارجية وهو ما كان سائدًا في الجمهورية الثانية خاصة بعد زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧، مما أدى إلى استقالة ثلاثة وزراء للخارجية، والثالث التكامل التناغم والتوافق والترشيد والتشاور والتنوع بين الرياسة والخارجية في الجمهورية الثالثة يجمع بين الاتفاق والاختلاف دون التماهي المطلق أو التناقض المدمر.
(١) الرياسة
كانت الرياسة والخارجية في تآلفٍ وتناغمٍ في الجمهورية الأولى، تحكمهما معًا الثوابت في الثقافة السياسية المصرية. وعلى الرغم مما يقال عنها من تسلُّط رياسي إلا أن الرياسة كانت تستشير في قراراتها الحاسمة مثل تأميم القناة، والوحدة المصرية السورية، ومساندة الثورة اليمنية، وحرب ١٩٦٧ عندما أخبره وزير الدفاع أنه جاهزٌ للمعركة في العبارة الشهيرة «برقبتي يا ريس.» وفي تجاوز الصراع الأردني الفلسطيني في أزمة أيلول الأسود.
وفي الجمهورية الثانية بدأ الخلاف بين الرياسة وباقي مؤسسات الدولة مثل الخارجية والجيش والحزب والرأي العام. وربما تم اختيار الرئيس لنائبه نظرًا لأنه لا يمثل شيئًا ولا رأيًا، اختيار النقيض للنقيض، وربما عرف عنه الرئيس الراحل علاقته بالغرب وأنه قادر على الاستمرار في مبادرة روجرز. بدأ الخلاف في انقلاب ١٥ مايو ١٩٧١، حيث قضت الرياسة على الجيش والحزب والإعلام. واستمر قبل حرب أكتوبر وأثناءها وبعدها، أهداف الحرب التحرير كما تريدها الخارجية والجيش والحزب والرأي العام أم التحريك كما تريدها أمريكا والرياسة، ومعها في تغيير خطة العبور والتوقف قبل المضايق وعبور إحدى الفرق الاحتياطية فبقي ظهر الجيش الثالث مكشوفًا، والصلح المنفرد، والتوجه نحو الغرب.
- (أ) الفردية: وهي وراء الانفراد بالقرارات في الحرب والسلم دون استشارة الخارجية أو أحدٍ من معاونيه؛ فقد توقَّف الرئيس عن الاتصال بالخارجية (رياض) ووزارة الدفاع (فوزي). كانت له قناعاته الخاصة غير قناعات عبد الناصر «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.» وبدأ يُناقش قناعاته مع الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة بعيدًا عن الوزراء المختصين، ولم يناقش موضوع إلغاء معاهدة الصداقة المصرية السوفيتية مع أحدٍ إلا مع إسماعيل فهمي بعد أن شعر أنه يريد أيضًا «وقفة مع الصديق»، ولم يخطر وزير الخارجية رياض بمبادرة فتح قناة السويس قبل إعلانها في حين أخطر وزير الخارجية روجرز باستعداده لقبول الحل الجزئي المؤقت مما أحدث تعارضًا بين الخارجية والرياسة شعرت به أمريكا على الفور ولعب كسنجر عليها. وفي اللقاء الصاخب بين الرئيس ووزير خارجيته محمد إبراهيم كامل قبل الاستقالة قال الرئيس: لقد استمعت إليك كما رأيت دون مقاطعة حتى لا يقول أحد إنني لم أستمع ولا أقرأ كما يشيعون عني، ولكن اعلم أن كل ما قلته لي قد دخل من أذني اليمنى وخرج من أذني اليسرى، إنكم في وزارة الخارجية تظنون أنكم تفهمون في السياسة ولكنكم لا تفهمون شيئًا على الإطلاق، ولن أعير كلامكم أو مذكراتكم أي التفات بعد ذلك، إنني رجل أعمل وفقًا لاستراتيجية عُليا لا تستطيعون إدراكها أو فهمها، ولست في حاجةٍ إلى تقاريركم السوفسطائية الهائفة. إن الوزير يسب أمامي اليوم الرئيس كارتر وهو الكارت الرئيسي الذي أحوزه لإقامة السلام الشامل. إن محمد حسنين هيكل قريبك يهاجمني في كل مكانٍ ويتآمر على قلب نظام الحكم، وأنا لا أبالي بما ينشره من أكاذيب وسخافات بدافع الحقد الأسود، ولن أسكت عليه في النهاية، وسأقطع رقبته، تفضل الآن بالانصراف، ولا تعودوا لتتعبوا رأسي وتضيعوا وقتي بأسانيدكم القانونية الفارغة. يظنني وزير الخارجية أنني أهبل، سأوقع على أي شيءٍ يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه.٨٣ تجاوز الدبلوماسية وقال لوزير خارجيته: «أنت فاكر نفسك دبلوماسي يا سي محمد؟» وقد تصل الفردية إلى حد النرجسية؛ فقد كان الرئيس مشغوفًا بالطعام، يعتبر نفسه أشيك رجلٍ في العالم، يكتب البحث عن الذات، والسيرة الذاتية نرجسية أدبية، الذات تحول نفسها إلى موضوع هو نفسه ذات؛ فهو إما لا يفهم أو يفهم ويدعي أنه لم يفهم أو لا يستوعب أو يركز على ذاته ولا يستمع للآخرين.
وقد شعر كسنجر بهذه الخاصية فلعب لعبته لحسابه وحساب إسرائيل وبطريقته ودون إخطار الخارجية الأمريكية، والاتصال بالرئيس مباشرة، وتآمر كسنجر في الاتصال بصديقه السادات مباشرة وطبع القبلات العربية شاعرًا بحرج لأنه يهودي يتناول الصراع العربي الإسرائيلي؛ لذلك كان يعلن أنه يهودي ولكنه غير صهيوني. وكل اتصالاته بالرئيس مباشرة كانت لخدمة مصالح الكيان الصهيوني. كانت الاتصالات مباشرة على مستوى الرؤساء وزراء الخارجية أو مع المخابرات المركزية الأمريكية. فألغى وزارة الخارجية، وطلب من أمريكا نفس الشيء للانفراد بالرأي دون مستشاريه.
لا يقرأ التقارير ويرى أن قراءة التقارير هي السبب في موت عبد الناصر، وهو الذي أمر بعملية اقتحام قبرص بعد عملية اغتيال يوسف السباعي وفقدان ثمانية عشر ضابطًا مصريًّا والطائرة تقليدًا لعملية عنتيبي التي قامت بها إسرائيل لإنقاذ الرهائن، لم يفكر في منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وأراد التفاوض نيابة عنهم.
- (ب) البطولة: وهي سمةٌ طبيعية للفردية خاصة وأنها رد فعل على بطولة رئيس الجمهورية الأولى، غيرة منه وتشبهًا به. حارب بروح عبد الناصر، وانهزم بروحه؛ فقد كان الخوف من الحرب في عظامه كما صرح صديقه كسنجر.٨٤ كما صرَّح جوزيف سيسكو أنه يريد أن يجعل من السادات بطلًا، يلعب دور الرجل الكبير الذي يرسم الاستراتيجيات الكبرى، ولا يشغل نفسه بالتفاصيل، يتطلَّع إلى الماضي والمستقبل دون أن ينظر إلى الحاضر، يريد أن يدخل التاريخ وأن يدخل وزير خارجيته معه، تخطَّى المؤسسات كلها، وتحولت الفردية إلى بطولة تشبهًا بعبد الناصر، بل إنه هو الذي كوَّن الضباط الأحرار وكان عبد الناصر من أعضاء خليته. استهوَتْه شخصيات أحمد عرابي ومصطفى كمال أتاتورك وأنور باشا الذي سُمي على اسمه وهتلر.
- (جـ) التمثيل: وكما تؤدي الفردية إلى البطولة تحتاج البطولة إلى تأليف وتمثيل وإخراج وإبداع فني وإثارة الخيال وجذب الأنظار، والحبكة المسرحية، والعقدة والحل. كما يخترع قصصًا ويمطها حتى تُصبح بعيدةً عن الحقيقة اعتمادًا على المناسبة أو المستمعين خاصةً بالنسبة لرحلة القدس خشية أن يقال كيف تمَّت بالفعل ومدى التنازلات فيها؛ فالخيال أرحب من الواقع، والشِّعر أقرب إلى القلب من السياسة، مع أن الحقائق حقائق، ولا يمكن حفظها سرًّا إلى الأبد. وكان من ضمن حركات المثل حزم الحقائب وتجهيز الطائرة والتهديد بالعودة إلى مصر من كامب ديفيد. كان يريد خلق وجودٍ درامي باستمرارٍ وإعطاءه أهمية غير عادية، والقيام بعملٍ دعائي مثيرٍ بدافع الرغبة في الشهرة وتعظيم الذات، ويربط اسمه بالقدس كما ارتبط اسم صلاح الدين. ومن ضمن التمثيل في أوائل عهده حرق الأشرطة وهدم المعتقلات أمام عدسات المصورين وهو صاحب مذبحة سبتمبر ١٩٨١ التي وضع فيها مصر كلها في السجون. وكان قد بدأ حياته راغبًا في التمثيل، وقد هتف أثناء محاكماته الأولى في قضية أمين عثمان بهتافات وطنية كنوع من التمثيل. عرف كسنجر فيه حب القصص واختلاق الخيال فقام بذلك على لسانه يلفق القصص عن نواياه تجاه الرؤساء العرب؛ فهو زعيم العالم العربي كي يثيرَ حقد فيصل عليه، فاحتقره فيصل، وسماه «بتاي» اليهودي. وكما يحتاج التمثيل إلى إخراج فإنه يحتاج أيضًا إلى مكان، فجعل مباحثات فك الاشتباك الأولى في أسوان التي يؤثرها جوها الساحر في المفاوضين، والزبيبة والعصا والجلباب من مستلزمات شيخ البلد وكبير العائلة الرئيس المؤمن الذي يبدأ اسمه بمحمد، والزي العسكري والمشية النازية الأخيرة كانت آخر ما ودَّع به العالم في ٦ أكتوبر ١٩٨١.٨٥
- (د)
الإعلام: ولما كان التمثيل في حاجةٍ إلى نظَّارة وليس إلى نظارة أو وزارة ساد الجانب الإعلامي؛ فقد كان القصد من زيارة القدس الإعلام، وإثارة الرأي العام، و«إيقاظ الشعب المصري»، والاحتفال بليلة العرس. كان يبحث عن حدث إعلامي ضخم، تصورها وزير الخارجية أسلوبًا إنشائيًّا وعبارة بلاغية أو مثلًا شعبيًّا، أن الإنسان مستعدٌّ للذهاب إلى آخر العالم لتحقيق مطلبه أي إلى أقصى حدٍّ ممكن مثل «اطلبوا العلم ولو في الصين.» أو «على جثتي» التي تفوَّه بها أسامة الباز وكيل أول وزارة الخارجية «لن أذهب إلى القدس إلا جثة هامدة.» لم يعترض وزير الخارجية حين سماع العبارة في خطاب الرئيس في مجلس الشعب على جوهر الزيارة بل على طريقة إخراجها، وكان يفضِّل الزيارة إلى مجلس الأمن أمام الأعضاء الخمسة الدائمين. وكانت صدمة الرئيس عندما لم يقابل الكيان الصهيوني خيالًا بخيال، تمثيلًا بتمثيل، بطولة ببطولة «لأنهم ليسوا بالمستوى الذهني ليفهموا أو يتفهموا هذه التحركات.» وقد طلب حسن التهامي صاحب ثقافة الجن والعفاريت ومخاطبة الأرواح والأولياء رفيقه في كامب ديفيد أن تنسحب إسرائيل من ميل مربع واحد من القدس يرفع عليه علم عربي أو إسلامي ويعين عليه حاكمًا.
ويأخذ الإعلام طابعًا احتفاليًّا وأداء مسرحيًّا وهو ما يسمى بسياسة الصدمات الكهربائية وراء التحول من الحليف السوفيتي التقليدي، وقفة مع الصديق إلى كون ٩٩٪ من أوراق اللعبة، مع ضرورة كسر الحاجز النفسي، وهذا هو السبب في الإسراع باحتفالات النصر، وفتح قناة السويس، والانسحاب إلى خط العريش رأس محمد، وأن حرب أكتوبر آخر الحروب قبل تحرير طابا وباقي الأراضي العربية المحتلة.
وقع في غرام نفسه صوتًا وصورة، يدلي بأحاديث صحفية كهواية مفضلة، ويحب ألقاب بطل الحرب والسلام، ويقابل الأدباء والفنانين، إليزابيث تيلور وخوليو إيجلسياس المغني الجزائري اليهودي الأصل، وأندريكو ماسياس الذي غنى له بطل السلام، ويدعو عِلية القوم على سفح الهرم، ويقابل ولي عهد بريطانيا وزوجته الجميلة، ويُوصيها بطاعة زوجها كما يفعل الفلاح الطيب.٨٦ - (هـ) الكذب: ولا يعني الكذب هنا أي قدحٍ بمعنى عدم قول الصدق بل هو نتيجة طبيعية للخيال؛ فمبادرة فتح قناة السويس والانسحاب الجزئي بضعة كيلومترات شرق القناة فكرة موشي ديان نسبها الرئيس إلى نفسه؛ فقد أبلغ وزير الخارجية رياض الرئيس بعد زيارته لعواصم أوروبا أن أوروبا لا ترى مبادرة فتح قناة السويس أكثر من اتفاقٍ جزئي حول القناة وليس حلًّا شاملًا لسيناء أو لكل الأراضي المحتلة، فغضب الرئيس من تخاذل أمريكا في تأييد مبادرته.٨٧
وزيارة القدس ليست وحيًا هبط إلى الرئيس من السماء وهو في الطائرة من بوخارست إلى طهران بل اتفاق مسبق بينه وبين إسرائيل على الاتصال المباشر وهي غاية إسرائيل الكبرى وبعد تدبير الملك حسن الثاني للقاء بين حسن التهامي وموشي ديان في المغرب لإعداد الزيارة؛ فقد استجاب السادات إلى دعوة بيجين لإقامة اتصالات مباشرة معه في المغرب؛ ففي نفس الوقت الذي ذهب فيه وزير الخارجية المصرية لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة كان ديان في طريقه إلى نيويورك وواشنطون ثم اختفى في بلجيكا على نحو غامض، واجتمع بحسن التهامي مبعوث الرئيس في المغرب ولم يبلغ الرئيس وزير خارجيته بذلك. ولم تكن المرة الأولى التي يخفي عنه بل إنه لم يخبر صديقه كارتر، كما تم تدبير الزيارة مع شاوشسكو في رومانيا بعد قياس فلسطين على الخارطة بمسطرة أو بشبر فهكذا تتحدد مصائر الشعوب، وناقش الرئيس فكرة الزيارة في ضيافة «سينا» برومانيا، وكان إلغاء معاهدة الصداقة مع السوفيت إيحاء من كسنجر ولم تأتِ إلى الرئيس الملهم وحيًا.
كما قال الرئيس إن روجرز أخبره بضرورة إخراج الروس من مصر ومن المنطقة العربية كلها قبل أي تسويةٍ شاملة، وهو غير صحيحٍ لأن الرئيس هو الذي توهم أن الروس يكرهونه، وأنهم يفضلون عليه علي صبري. وربما كان هذا التحول كله ليس نابعًا من ذاته بل من ندوة الأهرام التي عبَّر فيها وزير الخارجية إسماعيل فهمي عن هذه الآراء التي نسبها الرئيس إلى نفسه، إلا أن وزير الخارجية ترك الرئيس في منتصف الطريق يغرق بمفرده ولم يستطع أن يسير معه إلى آخر الشوط كما فعلت الحركة الإسلامية معه نفس الشيء منذ إخراج أعضائها من السجون لاستعمالهم ضد الناصريين في أوائل السبعينيات ثم الانقلاب عليه بعد كامب ديفيد وتركوه في منتصف الطريق يموت وحده.
- (و) المقامرة: طالما أن الرياسة تتنازل عن الثوابت في الثقافة السياسية المصرية لم يبقَ لها إلا المتغيرات التي تقوم على المقامرة والمرواغة والتقلب. لم يكن الرئيس ذا رأي ثابت يستطيع المحافظة على اتجاه طوال الوقت بل كان من السهل على الآخرين أن يجعلوه يغير رأيه، وقد رفض وزير خارجيته إسماعيل فهمي أحيانًا تنفيذ بعض تعليماته، كان يتظاهر بقبول وجهة نظر الوزير.٨٨ وفي الوقت الذي كان يُعقد فيه مجلس الدفاع العربي ليعد للمعركة، ومهمة يارنج في الأمم المتحدة على أشدها، والإعداد لمؤتمر جنيف متواصل، يواصل الرئيس اتصالاته بكسنجر بعيدًا عن المؤسسات المصرية، فأرسلت له أمريكا صغار موظفي الخارجية للاتصال به بعد أن اكتشفوا فيه رغبةً في تفادي الحرب، وقد أخفى عن العواصم العربية اتصالاته وعدم مشاوراته مع القيادات السياسية في الداخل. وقد رويت نكتة شهيرة في أول عهد الرئيس تكشف عن هذه السمة في شخصيته المراوغة والمقامرة والتمويه، أنه كان يشير بالعلامة الضوئية لسيارته يسارًا وينحرف يمينًا.
ويصف وزير الخارجية إسماعيل فهمي الرئيس بأنه نادرًا ما كان يتصرف بوحي مبادرة شخصية منه حيث كان يتخذ قرارات يعتبرها الوزير غير متبصرة، ومع ذلك استطاع وزير الخارجية أن يعيد السياسة الخارجية المصرية إلى الطريق الصحيح، ثوابتها في الثقافة السياسية. وكان ذلك ممكنًا حتى سفره إلى القدس، ثم كان الحل الوحيد لإنقاذ الثوابت في الثقافة السياسية المصرية هو الاستقالة دفاعًا عن الكرامة، كما أن فكرة مد إسرائيل مياه النيل عبر سيناء ليست وحيًا من فوق الهضبة من أجل التآخي بين ديانات إبراهيم الثلاث في المعبد المزمع إنشاؤه بل فكرة قديمة معروفة في تخطيط المدن وتعمير سيناء.
- (ز)
الازدواجية: وليست هي عيبًا أخلاقيًّا بل الجمع بين طرفي نقيض. وربما كان كل العظماء مزدوجي الشخصية، وتعني الازدواجية إظهار شيء وإضمار شيء آخر، ينحني أمام تمثال الرئيس الراحل وهو ينوي الانحراف عنه، وينعاه: «كنت أتمنى ألا أعيش لهذه الساعة أبدًا، كنت أتمنى أن يكون جمال عبد الناصر هو الذي ينعيني.» ويصفه وزير خارجيته إسماعيل فهمي أنه كان منعزلًا أقرب إلى الصمت ربما خوفًا من شخصية رئيس الجمهورية الأولى أو إضمار العداء له أو الغيرة منه. وهو في نفس الوقت إعلامي يهوى الأحاديث الصحفية والاحتفاليات، سحب جواز سفر وجنسية زوجة السفير تحسين بشير التي كانت تعدُّ رسالةً عن الشرق الأوسط، وزارَتْ إسرائيل قبل أن يزور هو إسرائيل بشهرين. وهو الرئيس المؤمن «محمد» يقرأ القرآن ويستشهد به في أقواله وخطبه خاصة تلك التي تطلب المغفرة بسبب الخطأ والنسيان، وهو في نفس الوقت أمريكي حتى النخاع، وفي حياته الخاصة صعيدي أسمر فلاح من ريف مصر زوجته من أصل بريطاني بيضاء البشرة، يشعر أمامها بالفخر والارتياح. أصبح الرئيس سجينًا لأساليبه وشخصيته المزدوجة إرضاء لذاته، يقتنع بالوقفة مع الصديق ويعقد معه معاهدة صداقة، يتعامل مع بيجين مباشرة ويلقاه، وفي كل مرةٍ يُهان ويتحمل الصلف والتعصب. خيانة في ثوب وطني أو وطنية في ثوب خيانة، معادلة صعبة واشتباه؛ لذلك رد إليه بعض المثقفين والباحثين المشابهين له اعتباره، من خائنٍ إلى بطل، يريد تحرير الضفة ويسميها جوديًّا وسماريًّا كما يفعل بيجين، يدعوه ضيفًا عليه ويتحمل منه الوقاحة في الإعلان أن جدوده بناة الأهرام في حفل التوقيع في كامب ديفيد، ويهزأ بالرئيس ومن حركاته التمثيلية بالمغادرة وحزم الأحقبة والعودة إلى القاهرة.
(٢) الخارجية
وهي الذراع الأيمن للرياسة في الممارسة السياسية وأداتها التنفيذية، يرسمها الوزير والأجهزة المختصة بعد توجيهات الرياسة، وتضمُّ أيضًا ممثليها في الهيئات الدولية بالإضافة إلى قناصلها ومفوضيها وسفرائها في الخارج، وقد زاد عدد البعثات الدبلوماسية من ستين بعثةً عام ١٩٥٤ إلى الضعف عام ١٩٨٢ نظرًا لاستقلال الدول الأفريقية. وهي التي تعبر عن الثوابت في السياسة المصرية بصرف النظر عن تقلبات الرياسة، وبناءً على وضعها الجغرافي ومسارها التاريخي وبعدها الحضاري وإمكانياتها المادية والبشرية وتجاربها السياسية.
- (أ)
الاتفاق التام كما هو الحال في الجمهورية الأولى (١٩٥٢–١٩٧٠) محمود فوزي، محمود رياض = عبد الناصر.
- (ب)
الاختلاف التام كما هو الحال في الجمهورية الثانية (١٩٧٠–١٩٨١)، إسماعيل فهمي، محمد إبراهيم كامل = السادات.
- (جـ)
التنسيق والتكامل كما هو الحال في الجمهورية الثالثة (١٩٨١–٢٠٠٠)، عصمت عبد المجيد، عمرو موسى = مبارك.
-
(أ)
نموذج الاتفاق: وهو النموذج الذي ساد في الجمهورية الأولى بين الرياسة والخارجية، بين عبد الناصر من ناحية، ومحمود فوزي ومحمد رياض من ناحية أخرى، وهو الذي يعبر عن الثوابت في الثقافة السياسية للخارجية المصرية كما جسدها نمط الاستقلال الوطني قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ وبعدها. وقد كان عبد الناصر يؤكد أن وزير خارجيته يعبر عن وجهة نظره، كان التنسيق كاملًا بين الرئيس والوزير في العلاقات المصرية السوفيتية والمصرية الأمريكية سياسيًّا وعسكريًّا. ولم يقبل الرئيس مبادرة روجرز إلا بعد سلسلة من الدراسات طلبها من وزير خارجيته. وفي الخارجية ملف كامل منذ ذلك الوقت لخطط التسوية خاصة مبادرة روجرز وانسحاب إسرائيل من سيناء في لجنة التخطيط بوزارة الخارجية. وبها ملف ضخم للخطط الإسرائيلية في مجال التوسع الإقليمي والاستيلاء على الأنهار العربية أو الأهداف الاقتصادية، وهو مضمون مبادرة روجرز. وكانت الرياسة والخارجية على وعي تام بخطورة الحل المنفرد بين مصر وإسرائيل؛ إذ قد رفض محمود رياض اقتراح تيتو بمقابلة ناحوم جولدمان وأقره عبد الناصر على رفضه، وقد اعتبرت الخارجية الأمريكية الخارجية المصرية عقبة في سبيل تنفيذ سياستهم في مصر التي تركز على الحل المنفرد مثل موقف دين راسك وزير خارجية أمريكا من قضية فيتنام بالرغم من الخلاف بين القضيتين، كما استدعى الوزير في أغسطس ١٩٧١ السفراء المصريين بالخارج من العواصم الكبرى، مراد غالب من موسكو، ومحمد حسن الزيات المندوب الدائم في الأمم المتحدة، وأشرف غربال من واشنطون، ووزير الدولة للشئون الخارجية حافظ إسماعيل، وأعضاء لجنة التخطيط، وانتهوا إلى أنه لا مفر من عمل عسكري لتحرير الأرض، ورفع التقرير إلى رئيس الجمهورية الثانية، فحرب أكتوبر ليست قرارًا فرديًّا منه بل قرار جماعي من الدوائر السياسية للخارجية المصرية.٩٦
-
(ب)
نموذج الاختلاف، لم يظهر هذا النموذج فقط بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ في الجمهورية الثانية بل كان سابقًا عليها أثناء النضال الوطني في مصر منذ الثلاثينيات والأربعينيات، وكان الخلاف وقتئذٍ بين الحكومة المسئولة أمام البرلمان التي أصبحت الرياسة فيما بعد دون أن تكون مسئولة أمام أحد، وسفرائها في الخارج ومندوبيها في المنظمات الدولية، وقد يصل الخلاف إلى حد الاستدعاء أو الاستقالة، وقد حدث ذلك على الأقل أربع مرات.
الأولى مع د. عبد الحميد بدوي باشا رئيس وفد مصر في مؤتمر سان فرنسسكو عام ١٩٤٥ ورئيسه في الأمم المتحدة وممثل مصر في مجلس الأمن عام ١٩٤٦ عندما رفض عرض قضية مصر على المجلس في ١٩٤٦؛ لأنها لم تتمخض عن الحرب، ولما هاجمته الصحف الوفدية اعتذر بأنه يقصد الحل الودي، واستقال من منصب وزير الخارجية وعين عضوًا في محكمة العدل الدولية.
والثانية مع محمد حسين هيكل باشا عندما بيَّن أن وجود القوات البريطانية في اليونان غير دستوري لتهديدها الأمن والسلام، وتقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٤٧ بطلب سحب كل القوات الأجنبية من دول البلقان بناءً على الثوابت الوطنية في الثقافة السياسية للخارجية المصرية، فغضب وزير اليونان المفوض، وطالب بإبقاء القوات البريطانية للدفاع عنها ضد الخطر الروسي، فاعتبر هيكل ذلك رأيه الشخصي.
الثالثة مع محمد كامل عبد الرحيم سفير فوق العادة بالولايات المتحدة ورئيس وفد مصر خلال الدورة العادية الرابعة للجمعية العامة ابتداءً من ٢٠ / ٩ / ١٩٤٩، لم يستمر طويلًا في الأمم المتحدة لما تقتضيه سياسة مصر من مهاجمة السياسة الأمريكية في الأمم المتحدة، وهو ما يتعارض مع مرونته في التعامل مع الساسة الأمريكيين بوصفه سفيرًا لمصر في واشنطون ثم تعيين محمد صلاح الدين مكانه. في هذه الحالة الخارجية في القاهرة هي التي تحافظ على الثوابت الوطنية.٩٧والرابعة مع كامل عبد الرحيم سفير مصر في واشنطون عندما صرح أمام الصحفيين بأن تحقيق أماني مصر القومية في مسألتَي السودان وقناة السويس شرطان لأي موافقة من مصر على أي مشروع تحالف للدفاع عن الشرق الأوسط؛ فقد احتلت مصر في ١٨٨٢ ولا بد أولًا من إلغاء معاهدة ١٩٣٦ حتى تصبح دولة مستقلة تقبل الدخول في الأحلاف، وقد استاءت الصحف المصرية؛ فالرأي العام هنا هو الضامن والحارس للثوابت الوطنية، وطالب اشتراك مصر في اقتراح تركيا إنشاء اتحاد دول شرق البحر المتوسط يضم البلاد العربية وعلى رأسها مصر وتركيا واليونان، وبريطانيا وأمريكا إن شاءتا، ووافقت على اقتراحه الإدارة السياسية في الخارجية، وهو ميثاق سعد أباد الذي يهدف إلى وضع ستار حديدي بين مصر وروسيا وإبعاد شبح الشيوعية، وحصار الصهيونية، واستبعاد إسرائيل من الانضمام، وتعزيز الصداقة بين مصر وبريطانيا حتى تستجيب بريطانيا لمطالب مصر، والاستفادة من أمريكا في المساعدات، وقد رفضت الإدارة العربية الانضمام، وآثرت الانضمام إلى الحلف الأطلنطي لإهمال الدول العربية لميثاق سعد أباد، ولم يفعل شيئًا منذ غزو بريطانيا لإيران في ١٩٤١. وليست لمصر حدودٌ مشتركة مع الدول الأربعة، وتعارض بعض الدول العربية هذا الميثاق، ويدافع الحلف عن مصالح تركيا وبريطانيا أكثر مما يدافع عن مصالح مصر.
وكانت ندوة الأهرام التي شارك فيها إسماعيل فهمي باعتباره وكيلًا لوزارة الخارجية هي بداية التحول في الجمهورية الثانية من الشرق إلى الغرب، من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة، «وقفة مع الصديق»، «السادتية قبل السادات» مما يدل على أنها كانت جوًّا سياسيًّا سائدًا، كان وكيل الوزارة «سادتيًّا» بالطبع، ولكنه آثر تركها في منتصف الطريق، ولم يسر معها حتى النهاية. أخذ المقدمات دون النتائج، والنظرية دون الممارسة. وكان قد اختلف من قبل مع عبد الناصر بشأن تعيين مستشار للزعيم لوممبا «الراديكالي» ونصحه باتباع سياسة «معتدلة». ووضع السادات عينه على فهمي منذ ذلك الوقت الذي تجرَّأ على مخالفة عبد الناصر في حين وافقه الجميع، كانت الندوة كلمة حق يراد بها باطل، فقد طالب الوكيل: إعادة تقييم الوضع الدولي ولدور القوتين العظميين، عدم كفاية الدبلوماسية الدولية، إعادة تقييم العلاقات المصرية السوفيتية ومناقشتها مع السوفيت بصراحةٍ على مدى ثمانية عشر عامًا، ضرورة أن تكون لمصر علاقات مع الولايات المتحدة التي يمكن أن تلعب دورًا مهمًّا في الشرق الأوسط، ضرورة البداية بعمل عسكري لإقناع إسرائيل والرأي العام بضرورة حل مشكلة الشرق الأوسط مع السوفيت، ضرورة استخدام البترول كسلاحٍ في أيدي العرب. وقد ظن السادات والسوفيت، وذرًّا للرماد في العيون، أن الندوة قد تمَّت بإيعازٍ من الحكومة؛ فقدم السوفيت احتجاجًا رسميًّا إلى مراد غالب وزير الخارجية الذي أعد بدروه قرارًا جمهوريًّا بإعفاء إسماعيل فهمي من منصبه كوكيل لوزارة الخارجية وأن يعين سفيرًا في الوزارة؛ فقد كان غالب سفيرًا في موسكو وأحد مهندسي العلاقات المصرية السوفيتية بالرغم من إعجابه بالتحليلات السياسية الجديدة للوكيل، وبدل أن يوقع السادات القرار الجمهوري رقى الوكيل وزيرًا للخارجية.٩٨ومنذ نهاية الجمهورية الأولى كانت هناك رغبةٌ في «وقفة مع الصديق»، وضرورة تحييد الولايات المتحدة، وقبول مشروع روجرز وهي عبارات محمد حسنين هيكل الكاتب الصحفي ورئيس تحرير الأهرام في ١٩٧٢. ومع ذلك كان هناك إحساسٌ عام بضرورة التمسك بالحياد الإيجابي وعدم معاداة الولايات المتحدة؛ لأنها هي التي تمد إسرائيل بالسلاح وبالتأييد السياسي في المنظمات الدولية في مقابل تباطؤ الروس عن حسن نية أو سوء نية في توريد السلاح، ودون المساس بالثوابت، الحليف التقليدي والعدو التقليدي.
ومع أن عبد الناصر رفض الدخول في حلف جوي أو عسكري مع الاتحاد السوفيتي حرصًا على الثوابت في الثقافة السياسية المصرية وقع السادات معاهدة صداقة بين مصر والاتحاد السوفيتي ذرًّا للرماد في العيون، يعطي إشارة إلى اليسار ويتوجه إلى اليمين، فيطرد الخبراء الروس في ١٩٧٢ تأشيرة خروج السوفيت ويعطي تأشيرة دخول للأمريكيين. وتخلَّى الاتحاد السوفيتي عن دوره في المنطقة وبدأت المرحلة الأمريكية، أن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في أيدي أمريكا، ملغيًا بذلك الإرادة الوطنية والجبهات العربية والإسلامية ودول عدم الانحياز، وملغيًا العدو الصهيوني الذي يفرض إرادته على الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. وأصبح يتشكك على الإطلاق فيما يقوله السوفيت، ويثق ثقةً مطلقة بأمريكا وصديقه هنري مع أن الأمر لا يتجاوز بيروقراطية الشرق وسرعة الغرب، وازداد التحوُّل إلى أمريكا بعد نصر أكتوبر وازداد النقد للاتحاد السوفيتي المورد الرئيسي للسلاح قبل الحرب وأثناء الحرب وبعدها بدعوى تنويع مصادر السلاح، حاربت مصر بسلاح روسيا حليف أمريكا ثم صادقت أمريكا حليف إسرائيل. ألغت معاهدة الصداقة تحت دعوى أن السوفيت لا يتحدثون باسم مصر واستبدلت سيدًا بسيد بعد أن أصبح في يد أمريكا ٩٩٪ من أوراق اللعبة، وكان الرئيس من قبل قد ألقى خطابًا دفاعًا عن السوفيت على مأدبة غذاء رسمية أقامها السفير السوفيتي ذرًّا للرماد في العيون، بحيث استحال بعدها التمييز بين الصدق والكذب.٩٩وعندما أراد السادات إجراء تعديلٍ وزاري استعدادًا لحرب أكتوبر استدعى إسماعيل فهمي بعد أن عينه سفيرًا في بون كخطوةٍ لتدعيم علاقته بالغرب وبعد أن أراد محمود رياض إقصاءه لتوجهه المعادي للسوفيت، جلس معه ساعتين ونصفًا في استراحة القناطر وأبدى استغرابه لأفكاره قائلًا: «يا إسماعيل، إن هذا غريب جدًّا فالكثير من الناس لا يقولون لي ما قلته الآن.» وعينه وزيرًا للسياحة كمجرد غطاء قبل تعيينه وزيرًا للخارجية لتنمية السياحة الأجنبية في مصر، فالسياسة سياحة، والسياحة سياسة. اكتشف فيه غربيته ثم اختاره لإحداث هذا التحول في الثقافة السياسية المصرية من الثوابت إلى المتغيرات، واستدعى السادات محمود رياض لتعيينه أمينًا عامًّا للجامعة العربية لإزاحة الناصريين من الخارجية، كما أقصى محمد حسن الزيات من العهد الناصري لتعيين إسماعيل فهمي بدلًا عنه.
ثم عرض إسماعيل فهمي على السادات تقديره للموقف في ثلاثة احتمالات بعد اعتبار السادات الحرب وسيلةً لإيقاظ الشعب المصري وليس لتحرير الأرض، للإعلام الداخلي والخارجي، كسب شرعية حكم في الداخل وحضور دولي في الخارج، وليس لإزالة آثار العدوان أو حتى استرداد كامل سيناء، الأول الحرب الشاملة وإطالة فترة القتال والتي كان يفضلها فهمي. والثاني عملية عسكرية محدودة لتحريك الأمور وإثارة الرأي العام كي يقوم بمبادرة الشرق الأوسط، وتقتضي عبور القناة إلى سيناء، والأفضل الوصول إلى المضايق وبالتعاون مع دول عربية أخرى ولمفاجأة إسرائيل، ويكفي لذلك فترة محدودة حتى يتم التدخل الأجنبي وإيقاف وقف إطلاق النار، والثالث هجوم محدود ضد هدف محدد في سيناء كضربة قاسية لإحدى المنشآت العسكرية ثم الانسحاب إلى الضفة، فترد إسرائيل ويتم الرد عليها، هجمات وهجمات مضادة، تؤثر في الساحة الدولية لطلب وقف إطلاق النار ودفع الأطراف إلى السلام. وعلق السادات أن الاختيار الثالث نوع من حرب الاستنزاف ١٩٦٧–١٩٧٠ ولا يفكر فيه.١٠٠ والأول قد يؤدي إلى نكسة عسكرية ثانية، فلم يبقَ إلا الثاني وهو ما تم بالفعل في حرب أكتوبر، فإسماعيل فهمي هو مهندس القتال للتحريك، والحرب للسياسة والذي ما زالت تعاني منه الأرض المحتلة حتى الآن.ولما لم تحل حرب أكتوبر شيئًا فكر في الاتصال المباشر مع إسرائيل ولم يستشر في ذلك إلا وزير خارجية رومانيا بعد أن عرض عليه شاوسسكو زيارة القدس، وبدأ مسلسل «صديقي هنري» الذي كان ممثلًا لإسرائيل في أمريكا أكثر من تمثيله أمريكا في إسرائيل. وقد انتهى ذلك كله باتفاقيتي كامب ديفيد في ١٩٧٨ والسلام في ١٩٧٩ التي كانت بمثابة هزيمة سياسية تحقق أهداف ١٩٦٧ كهزيمة عسكرية.
ثم بدأ مسلسل الحلول الجزئية والمنفردة بفتح قناة السويس للملاحة وهو اقتراح موشي ديان، وضرورة دخول عبارة أمريكية أولًا القناة يوم ٥ / ٦ / ١٩٧٥ بناءً على اقتراح هيكل حتى يتحوَّل يوم الحزن إلى يوم فرح، وتتم في اللاوعي الشعبي مقارنة هزيمة ناصر بانتصار السادات، وخوفًا من أن تطلق إسرائيل النار على الرئيس، وكأنه ما زال مستمرًّا في الدفاع عن الثوابت الوطنية في حين قد أطلق النار عليه المدافعون عن هذه الثوابت من الجماعة الإسلامية المعارضة.١٠١ومع ذلك ظل وزراء الخارجية صامدين؛ فقد سبق أن فاتح السادات إسماعيل فهمي بشأن زيارة القدس واعترض عليها، وأبلغ وزراء الخارجية في تونس ذلك، ولما قام بها استقال على الفور، كما رفض التوقيع على اتفاق فك الاشتباك الثاني مع إسرائيل في حين وقع الأول مع أمريكا حتى لا يتم الاعتراف بإسرائيل طبقًا لخدعة كسنجر، ورفض اقتراح بيع طائرات سي ١٣٠ لمصر من وراء القنوات الرسمية دون استشارة السادات، وإذا كان إسماعيل فهمي لم يتحمل زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧ فإن محمد إبراهيم كامل لم يتحمل اتفاقية السلام في ١٩٧٩؛ فقد كان من شباب الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل واعتقل مع السادات في حادث مقتل أمين عثمان. شكل لجنةً من خبراء وزارة الخارجية للتعرف على جوانب القضية، وطلب مساعدة رياض استعدادًا لقمة كامب ديفيد. وكان السادات قد اختفى مع العربة التي كان من المفروض أن تنتظر حسين توفيق بعد اعتقاله أمين عثمان كما اختفى ليلة الثورة في ٢٣ يوليو وافتعل حادثة شجار في السينما، وسجَّله في قسم الشرطة كي يثبت أنه لم يشارك فيها. وقد اعترف الجميع باشتراكهم في الجمعية السرية إلا السادات، كما اشترك في محاولة تهريب عزيز المصري. كان محمد إبراهيم كامل من مدرسة الوطنية المصرية، مدرسة محمد صلاح الدين، ومحمود فوزي، ومحمود رياض، أراده السادات أن يحلف اليمين الدستورية بعد تعيينه وزيرًا للخارجية بحضور بيجين في الإسماعيلية.١٠٢ كما استدعى عيزرا وايزمان لزيارة مصر أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب، وكانت الخارجية ضد الزيارة. وفي حفل عشاء أهان بيجين «الوزير الشاب»، وكان الوزير يشجع الرئيس على اتخاذ المواقف الوطنية مثل ضرورة استدعاء اللجنة العسكرية من القدس، ثم استقال بعد قراءة مشروع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل التي أعدَّتْها أمريكا لصالح إسرائيل وقبل التوقيع بأربع وعشرين ساعة.١٠٣وقدم مصطفى خليل رئيس الوزراء ووزير خارجيتها احتجاجًا مكتوبًا ضد الاتفاق، كما أدرك أعضاء الوفد المصري المخاطر الكامنة في الاتفاق، وكتب إلى سيروس فانس يشكو من أن مذكرة الاتفاق موجهةٌ ضد مصر في ست عشرة نقطة: اتهامات مزعومة ضد مصر، عدم إبلاغ مصر إلا في اللحظة الأخيرة، مساندة ادعاءات إسرائيل، افتراض انتهاك مصر للاتفاق، التحالف بين أمريكا وإسرائيل ضد مصر، إعطاء أمريكا حقوقًا لم يجرِ التفاوض فيها مع مصر، إعطاء أمريكا حق فرض عقوبات على مصر، تعبيرات غامضة تُعطي لأمريكا سرعة توجيه الاتهامات إلى مصر، خضوع الإمدادات الاقتصادية والعسكرية لمصر لتقدير أمريكا وحدها، خضوع العلاقات المصرية الأمريكية لطرف ثالث هو إسرائيل، موافقة أمريكا على ما تقوم به إسرائيل ضد مصر، إعطاء أمريكا الحق في فرض وجودها العسكري في المنطقة، شكوك حول نية أمريكا في صنع السلام، الآثار العكسية لذلك على الصعيد العربي، حدوث تحالفات مضادة في المنطقة.١٠٤كانت الاتصالات السرية تجري على قدم وساق بين الرياسة والولايات المتحدة الأمريكية أو من خلال السعودية أو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالقاهرة، وبالرغم من وجود تعاطف بين إسماعيل فهمي وكسنجر في البداية، وافق السادات على أثرها على نقاط المناقشة بين كسنجر ونكسون فيما عدا تبادل الأسرى ودون استشارة وزير الخارجية وهي: وقف إطلاق النار، بدء محادثات للعودة إلى خطوط ٢٢، ١٠، إمدادات مدينة السويس المحاصرة، إمدادات تموينية للضفة الشرقية للجيش الثالث المحاصر، مراكز تفتيش للأمم المتحدة على طريق القاهرة السويس بالاشتراك مع ضباط إسرائيليين، تبادل أسرى الحرب.
كان من عادة الرئيس الموافقة على ما يُعرض عليه بصورة آلية دون أن يقرأه مع كسنجر كوسيط غير أمين مع إسرائيليين مراوغين، وقد لاحظ كسنجر نفسه ذلك على الرئيس الذي كان يميل إلى أخذ قرارات من وحي اللحظة دون التفكير فيها ودون استشارة الوفد المصري، وقد قام كسنجر نفسه بنفس الدور كالسادات، لا يستشير رئيسه ولا سفير أمريكا بالقاهرة، ولعب دور إسرائيل ومجده الشخصي كالسادات، أحيانًا يوافق الرئيس وزير خارجيته على ما يقول، استراتيجية كاملة مكتوبة، ثم ينفرد بالقرار، وعندما أراد إسماعيل فهمي إلغاء كلمة «إنهاء حالة الحرب» من اتفاق فصل القوات أخبره كسنجر أنها خط السادات أضافها على النص المطبوع. لقد كان الرئيس في الواقع لا يثق فيمن حوله ولا يوفهم حق قدرهم، وكان يهاجم كل مسئول في حكومته، لم تكن لديه أفكار واضحة عن السياسات الطويلة المدى بل كان يميل إلى أن يحيا يومًا بيوم، لحظة بلحظة. يتعامل مع المشاكل، كل على حدة، بمجرد ظهور كلٍّ منها، لقد تأثر الوزير بصفاته الإنسانية أكثر مما تأثر بعبقريته السياسية، وأصابه بعض القلق لما قد يحدث لمصر إذا استمر الرئيس على هذا المنهج. وكان يدير الدولة بأسلوب المقامر والمناضل الفردي ضد القصر والإنجليز، وفي اللحظة الحاسمة رفض الوزير التوقيع على وثيقة كامب ديفيد. كان هناك اعتقادٌ أن الرئيس يتصف بالمرونة بينما معاونوه المقربون يتصفون بالتشدد في حين أن رئيس الوزراء بيجين كان يتصف بالتشدد بينما معاونوه المقربون يتصفون بالمرونة. ويقول محمد إبراهيم كامل: «أشعر بالفخر إذ أقول إن سمعة وزارة الخارجية المصرية كانت رفيعة جدًّا في تلك الفترة، وإن أي شخص في الداخل أو في الخارج كان يستفسر من وزراء الخارجية إذا أراد إيضاحًا حول موقف مصر ولا يستفسرون من رياسة الجمهورية أو من هيئات أخرى.»١٠٥ وإذا كان عبد الناصر يعتبر أن وزير الخارجية إنما يعبر عن وجهة نظره فإن السادات كان يخبر أمريكا أن الخارجية أولاد متشددون.١٠٦ -
(جـ)
نموذج التكامل، ويعني هذا النموذج تجاوز التماهي المطلق في الجمهورية الأولى والتنافي المطلق في الجمهورية الثانية، إلى نوعٍ من التنسيق والتناغم والتكامل، الوحدة والتنوع، الجمع بين الدعوى ونقيضها في دعوى ثالثة لا هي الدعوتان الأوليان ولا هي غيرها في الجمهورية الثالثة. ويتطلَّب ذلك إبداعًا خلَّاقًا يتجاوز الطرفين الحدين، فإذا كانت الجمهورية الأولى قد قامت على قانون الهُوية، والثانية على مفهوم الاختلاف فإن الثالثة قامَتْ على أن الهوية في الاختلاف، وأن الاختلاف في الهوية.
وقد بدأت هذا التكامل في الجمهورية الثالثة على يد الوزيرين عصمت عبد المجيد وعمرو موسى، كلاهما مدنيان، أكاديمي دبلوماسي ودبلوماسي أكاديمي. تولَّى عصمت عبد المجيد أولًا مسئولية العلاقات الثقافية والتعاون الفني بالخارجية ترث وزارة العلاقات الثقافية التي رأسها د. حسين خلاف، تقديرًا لدور الخارجية في العلاقات الثقافية؛١٠٧ فمصر وريثة حضارات البحر الأبيض المتوسط، بلد الأزهر ومعقل الإسلام، قلب العروبة وثغر أفريقيا، وبدأ التنسيق مع باقي أجهزة الدولة في مجال الثقافة والتعليم، وزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي، والجامعات، والأزهر، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ووزارة الثقافة. وكانت الوزارة تضم عناصر ذات توجُّه يكاد يكون مستقلًّا عن الخط العام للحكومة، وتسعى باستماتة إلى استعادة ما كانت تتمتع به من نفوذ وسلطان قبل ثورة يوليو ١٩٥٢، وفي الجمهورية الأولى بعد الثورة. ومع ذلك كان الوزير أقرب إلى الجمهورية الثانية، مؤيدًا حركة التصحيح، ومبررًا طرد الخبراء الروس، وينقد الناصرية بعد انقضاء عهدها، ويتناول حرب أكتوبر على نحو إنشائي دون تحليل نتائجها السياسية.وتغير الحال في عهد الوزير عمرو موسى فأصبح التكامل أقرب إلى روح الجمهورية الأولى، فصدر قرار وزاري جديد رقم ٧٩٩ بتاريخ ١٤ / ٤ / ١٩٩٢ يحدد فيه الظروف الجديدة التي تعيشها مصر وتعمل فيها الخارجية مثل: العالم ذو القطب الواحد، والتجمعات الإقليمية، تحرير التجارة العالمية، وتعدد الأقطاب الاقتصادية، والحذر من المؤسسات المالية الدولية والثورة التكنولوجية، تجاوز البيروقراطية، التجمعات الأهلية مثل جمعيات حقوق الإنسان وحماية البيئة. وفي نفس الوقت نمو الجماعات غير الشرعية، وضرورة وضع منظورٍ استراتيجي شامل، والاعتماد على روح المنافسة والإيمان بالمبادرات، وترشيد الإنفاق. كانت أغراض التنظيم الجديد مواكبة التغيرات المستجدة إقليميًّا ودوليًّا، والإفادة من ثورة الاتصالات وشبكة المعلومات، والقيام بدور إقليمي رائد ودبلوماسية متعددة الأطراف، ومواجهة تحديات المجتمع المصري، ومزيد من التخصص في العمل الدبلوماسي، وتطوير المهارات الدبلوماسية وقدرات الدبلوماسي، وتحمُّل الأفراد مزيدًا من المسئوليات، وترشيد عملية صنع القرار. وتم تطوير المعهد الدبلوماسي وإدخال اللغات الحية ونظم المعلومات، وتنظيم الدورات العلمية والثقافية للمتابعة الشاملة وإقامة الندوات، ومعرفة المناطق التي يُرسل إليها الدبلوماسيون، وأسس الوزير المجلس الاستشاري للشئون الخارجية من دبلوماسيين وأكاديميين وخبرات، وفتح قنوات للتعاون مع مراكز الأبحاث العلمية، كما أُنشِئت إدارة لشئون مجلسي الشعب والشورى لأول مرة للتنسيق بين وزارة الخارجية والمؤسسات الدستورية التي ظلَّت على الهامش في الجمهوريتين الأولى والثانية.١٠٨وبدأت الخارجية مع الرياسة تعود إلى الثوابت الوطنية والقومية السياسية المصرية خاصة فيما يتعلق بقضايا الحرب والسلام مثل: تأييد المطالب الفلسطينية، معارضة السلام المنفرد ومشاريع الاستسلام، وعدم تجاوز السلام البارد بعد تحرير الأرض، وتأجيل المفاوضات المتعددة الأطراف، ومقاطعة مؤتمر الدوحة، وتجميد خطوات التطبيع … إلخ، وإبلاغ وزير الخارجية مجلس الجامعة العربية بتجميد خطوات التطبيع في أبريل ١٩٩٧ ثم أخيرًا سحب السفير احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وتطبيقًا لمؤتمر القمة العربي الأخير في القاهرة. وعادت الخارجية من جديد مؤسسة ولادة لجيل جديد من الدبلوماسيين المصريين المدافعين على الثوابت الوطنية في السياسة المصرية مثل فتحي الشاذلي نائب وزير الخارجية الذي أعلن أن لغة نتانياهو تبعث على الاشمئزاز، وأنها إطلاق لصيحات الحرب، وأن نتانياهو لم يعد شريكًا في عملية السلام.
وبدأ التفاعل من جديد بين الدوائر السياسية للخارجية المصرية تدعيمًا لنضال الشعب الفلسطيني والانتفاضة الأولى والثانية وبزوغ الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، والتضامن العربي، ورفع التناقض بين الثورة العربية والثورة الإسلامية في إيران، والعمل على تحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة في الجولان بعد أن تم تحرير جنوب لبنان. وعادت مصر تكتشف ريح الشرق، الصين واليابان وكوريا، وتتطلع إلى اللحاق بالنمور الآسيوية، وإعادة الجسور مع الاتحاد السوفيتي بالرغم من انهيار النظم الاشتراكية، وإقامة تجمعات إقليمية جديدة في مواجهة العولمة والشركات المتعددة الجنسيات، مجموعة الثمانية، مجموعة الخمسة عشر، ومجموعة الثمانية عودًا إلى الدائرة الآسيوية الأفريقية، وتحييد أوروبا ومبادرات الحوار بين الشمال والجنوب، والتفاعل مع مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطة دون أن تكون الباب الخلفي للتطبيع مع إسرائيل أو تكون بديلًا عن القومية العربية، وتغيير الرأي العام الأمريكي دون التفريط في استغلال الإرادة المصرية.١٠٩ ولما كانت الثقافة السياسية للخارجية المصرية هي نفسها الثقافة السياسية الداخلة فتم التأكيد على ضرورة توسيع الهامش الديمقراطي في مصر؛ فالسياسة الخارجية تعبيرٌ عن السياسة الداخلية، يصنعها الشعب قبل أن تصوغها الرياسة.ويدل على ذلك تحليل مضمون خطب وبيانات وتصريحات الوزير عمرو موسى على مدى أربعة أعوام ١٩٩٤–١٩٩٧ في منتصف عهده منذ ١٩٩١ حتى الآن على سلم الأولويات في الثقافة السياسية للخارجية المصرية، وهي: أمريكا (بيانات وخطب نيويورك، وواشنطون، وجورج تاون، وهيوستن) ثم أفريقيا ثم الأمم المتحدة، ثم الشرق الأوسط ومجلسا الشعب والشورى والمتوسطية ثم أوروبا وآسيا وجامعة القاهرة، ومرة واحدة تل أبيب.١١٠ومن حيث الموضوعات تعود مصر بؤرة للدوائر الثلاث، الدائرة العربية والدائرة الأفريقية الآسيوية التي تختلف كثيرًا عن دول عدم الانحياز أو الدول الإسلامية ثم يضاف إليها دائرة العالم كله في عصر العولمة، ولا فرق بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية؛ فالمجتمع واحد في الداخل والخارج، وقوة الخارج في قوة الداخل كما هو الحال في كل التحولات الثورية، الثورة الفرنسية وخروج نابليون من الداخل للخارج، والثورة الأمريكية، والثورة الاشتراكية، والثورة الإسلامية في إيران.
فعلى الصعيد الوطني تظهر موضوعات التنمية والخصخصة والمرأة والسكان وحقوق الإنسان والبيئة، وهي الموضوعات التي أرادها عصر العولمة أن تشغل الدول النامية بعيدًا عن الدولة الوطنية. وعلى الصعيد العربي تظهر بطبيعة الحال القضية الفلسطينية، وحقوق شعب فلسطين، وإقامة السلام على العدل، وضرورة تطبيق قرارات الأمم المتحدة ٢٤٢، ٣٣٨، ١٩٤، والالتزام بالشرعية الدولية، وفضح جرائم إسرائيل، وعدم شرعية المستوطنات، وضرورة إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل. ثم تأتي باقي الموضوعات العربية ليبيا والعراق والسودان وإريتريا ضد مخاطر الحصار والتهديد والتقسيم والحروب الأهلية والعرقية والطائفية دفاعًا عن الأمن القومي العربي، وضرورة تفعيل دور الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، ومجموعة الثمانية، ومجموعة الخمسة عشر، والكوميسا، والحوار العربي الأوروبي، وحوار الشمال والجنوب، وبرشلونة والوقوف ضد سياسية التطهير العرقي في البوسنة والهرسك وكوسوفو والشيشان. كل هذه التجمعات الإقليمية والدولية إنما هي دوائر لتحركات مصر بما فيها الشرق أوسطية المتوسطية دون أن يكونا بديلين عن القومية العربية أو بابين خلفيين للتطبيع مع إسرائيل. وعلى الصعيد الدولي تعي الخارجية المصرية تغير العالم وثورة الاتصالات والتحول إلى الألفية الجديد، والانتقال من قرنٍ إلى قرن، ونظام العولمة ومؤسساته مثل منظمة التجارة العالمية، واتفاقية الجات والديون التي تثقل كاهل دول العالم الثالث، وإصلاح المنظمات الدولية بعيدًا عن سيطرة الدول الكبرى، وضرورة حل المنازعات بالطرق السلمية، ونهاية النظم العنصرية من العالم مثل جنوب أفريقيا، في عالم متعدد الثقافات، تتحاور فيه الحضارات ولا تتصارع، تلتقي ولا تتصادم. هذه هي الموضوعات الغالبة على خطب وبيانات عمرو موسى تذكر بالجمهورية الأولى فقد كان من تنظيمها الطليعي. يمكن إذن طي صفحة الماضي الذي خرج على الثوابت الوطنية في الثقافة السياسية للخارجية المصرية باسم الواقعية السياسية دون الوقوع في أحلام الجمهورية الأولى وطوباوياتها.
ومن ثم تعود مصر إلى مركز العالم أفريقيا في جنوبها وأوروبا في شمالها والمغرب العربي، وأمريكا عبر الأطلنطي في غربها، وآسيا في شرقها.
(٣) الجيش، والرأي العام، والأحزاب، والمجالس الدستورية والقضاء
إذا كانت الرياسة والخارجية هما أهم دائرتين سياسيتين في صنع القرار وفي الاتفاق أو الاختلاف أو التكامل بينهما فإن باقي دوائر الثقافة السياسية أقل فاعلية لظروف وأوضاع كل منهما مثل الجيش، والرأي العام، والأحزاب السياسية، والمجالس الدستورية؛ فالجيش طبقًا للدستور لا يتدخل في السياسة وإن كان هو الحامي للمكتسبات الشعبية. والرأي العام كان في معظمه حكرًا على الحزب الواحد بالرغم من تحوله تدريجيًّا إلى التعددية الحزبية من الجمهورية الأولى حتى الجمهورية الثالثة. والأحزاب السياسية في غالبيتها هي الحزب الحاكم الذي هو الرياسة، وضعف أحزاب المعارضة، والمجالس الدستورية، الشعب والشورى يتحكم فيهما الحزب الحاكم أي الرياسة بالانتخاب أو التعيين.
-
(أ)
الجيش: وهو المدافع عن سلامة الوطن مع مجلس الأمن القومي في الحرب والسلم. كان الجيش جزءًا من الحياة السياسية قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ وازداد دوره بعدها. كان هناك إعجاب في الجيش بالعسكرية الألمانية في الأربعينيات عند الثلاثي الحربي «كما تصفهم السفارة البريطانية» في حكومة علي ماهر: عبد الرحمن عزام وزير الأوقاف، وصالح حرب وزير الدفاع، وعزيز المصري رئيس هيئة الأركان.١١٢ فعدو عدوي صديقي.١١٣
وحركة الضباط الأحرار هي استمرارٌ للحركة الوطنية في الأربعينيات، وإلغاء النحاس لمعاهدة ١٩٣٦، مثل تأميم ناصر للقناة عام ١٩٥٦ والذي وضع حدًّا لمعاهدة الجلاء في ١٩٥٤. كان وجود العسكريين المصريين في الخارجية نادرًا، فبعد عودة الوزارة في ١٩٢٢ بعد ثورة ١٩١٩ تم اختيار السلك الدبلوماسي من موظفي الحكومة من مختلف الوزارات أو من الموظفين من خارج الحكومة أو من أصحاب المهن الحرة أو من صفوف العسكريين مثل البكباشي صالح عبد الرحمن أفندي قنصلًا من الدرجة الثانية في جدة؛ لذلك تمثل ثورة ١٩٥٢ بداية عهد جديد للخارجية المصرية؛ فقد تغلغل العسكريون في الخارجية، وخرجت الطبقة الأرستقراطية لتحل محلها الطبقة الوسطى. لم يدخل العسكريون قبل الثورة إلا ثلاثة؛ اللواء علي نجيب الوزير المفوض في سوريا، واللواء أركان حرب محمد إبراهيم سيف الدين الوزير المفوض في الأردن، والفريق عزيز المصري الوزير المفوض في الخاصة ثم الوزير المفوض في الاتحاد السوفيتي. وفي عام ١٩٦٢ بلغ عدد العسكريين اثنين وسبعين ضابطًا من مجموع عدد السفراء بالخارجية وهم مائة أي بنسبة ٧٢٪. وكان سفراء مصر في أوروبا كلهم من الضباط عام ١٩٦٢ باستثناء ثلاثة من المدنيين.
وكما أن هناك اتفاقًا بين الخارجية والرياسة، هناك أيضًا اتفاق مشابه بين الخارجية والرياسة والمؤسسة العسكرية باستثناء ما قبل هزيمة ١٩٦٧ في الجمهورية الأولى وما بعد انتصار ١٩٧٣ في الجمهورية الثانية؛ فالعمل السياسي عمل عسكري تمهيدي، والعمل العسكري عمل سياسي تنفيذي، العمل السياسي تتويج للعمل العسكري، والعمل العسكري تحقيق للإرادة السياسية؛ فحرب ١٩٧٣ تمَّت بناءً على خطة جرانيت ٢٠٠٠ التي أعدَّها ناصر ورياض وفوزي في عمق سيناء. كما طلب ناصر من فوزي تقريرًا عن الموقف العسكري قبل مبادرة روجرز، وكان التعاون بين الخارجية والمؤسسة العسكرية في ١٩٧٣ رد فعل على الفصل بينهما في ١٩٦٧، وكان رياض على صلة بفوزي؛ فكلاهما زملاء دراسة من دفعة ١٩٣٦.
ويمكن للجيش القيام بضغوط على القيادة السياسية في حالة التراخي العسكري؛ فقد تململ الجيش بعد إعداد فوزي له من التراخي في تحرير سيناء وتأجيل سنة الحسم إلى ما لا نهاية والرغبة في استرداد كرامته وكرامة الشعب الوطني. وكانت القوات المسلحة قبل ذلك تلحُّ على عبد الناصر للقيام بعمل عسكري ضخم ضد إسرائيل خصوصًا سلاح الطيران كرد فعلٍ على غارات إسرائيل في العمق. وقد أخطرت الخارجية موسكو بالاستياء في أوساط الجيش لعدم تزويدهم بمعدات سبق التعاقد عليها مثل الصواريخ الخاصة بفتح الثغرات في حقول الألغام وأدوات التنشين للمدفعية بعيدة المدى وأجهزة الرؤية الليلية للمدرعات. وبعد الغارات الإسرائيلية في العمق طالب ضباط سلاح الطيران بضرورة تماسك الجبهة الداخلية؛ فالجيش جيش الشعب، والشعب شعب الجيش.١١٤ ودون التنسيق بين الخارجية والجيش تحدث النكسات العسكرية كما حدث في ١٩٦٧ أو السياسية كما حدث في ١٩٧٣، ففي حرب ١٩٦٧ لم يكن هناك تنسيق بين الخارجية والجيش. وقبلها ببضعة أسابيع فقط تم إنشاء غرفة عمليات سياسية بالخارجية لوضع تقييم دقيق للنتائج، مركزة على عبد الناصر ودائرته المقربة، وكان عبد الناصر قد أخذ قراراته بسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء، دون استشارة أحد من الخارجية، عن طريق وزير الخارجية إلى الجنرال ريكي الذي رفض استلام الطلب إلا عن طريق الأمم المتحدة؛ فطلب عبد الناصر انسحاب قوات الأمم المتحدة من بعض المواقع فحسب، ثم تم إبلاغ الخارجية، ورفض عبد الناصر مذكرة الخارجية والتحليلات العقلانية، واتخذ سلسلة من القرارات الفردية الذاتية، واندلعت الحرب وهُزمت مصر، وأفل نجم عبد الناصر، وانتهى مستقبله السياسي، وكان الأمر مجرد وقت، لا فرق إذن بين هزيمة ٦٧ العسكرية وهزيمة ١٩٧٣ السياسية إلا أن الأولى كانت لصالح الوطن والثانية كانت لصالح الغرب، الولايات المتحدة وإسرائيل. كانت الفردية في قائد الجيش ١٩٦٧، وفي الرياسة في ١٩٧٣، فرح الأول بدخول طائرتي ميج ٢١ للاستطلاع فوق بير سبع التي لا تبعد إلا بضع دقائق عن الحدود المصرية لإثبات مدى قوة سلاح الطيران. وبعد هزيمة ١٩٦٧ قدم عامر طلبًا بنقل أسماء عشرة من ضباط إلى الخارجية منهم أحمد إسماعيل، ولم يقبل ناصر إلا بعد استشارة رياض، ثم انتحر قائد الجيش في ١٩٦٧؛ فهو المسئول عن الهزيمة العسكرية كما أنه مسئول عن الانفصال مع عسكري آخر عبد الحميد السراج في ١٩٦١. وكان الجيش قد أصبح مؤسسة سياسية وليست عسكرية، وتخيل أكاليل النصر بدلًا من التدريب فكانت هزيمة ١٩٦٧.١١٥وقامت حرب الاستنزاف ١٩٦٨–١٩٧٠ بضغوطٍ من الجيش، بل لقد حدث عدة مرات عبور جزئي إلى الضفة الشرقية، كما اقتحمت قوات الصاعقة موقعًا بالضفة الشرقية، ورفع العلم المصري عليه في يوليو ١٩٦٩ بالرغم من استمرار غارات إسرائيل في العمق، بعدها بدأ التغير الأمريكي بناءً على قدرة القوات المسلحة الدخول في معركةٍ عسكرية لتحرير الأرض.
كان رياض يحادث عبد الناصر في المسائل السياسية والعسكرية معًا، سياسة الوصول إلى المضايق مما يؤدي إلى تحريك الموقف الشامل. كانت الخطة دفاعية هجومية، ووافق عبد الناصر على الخطة ٢٠٠٠، وأخطره فوزي أن القوات المسلحة جاهزة لتنفيذها ابتداءً من مارس ١٩٧١، وهو الموعد الذي حدده ناصر، واستدعى السادات الفريق محمد صادق وزير الحربية للحصول على طائرةٍ بعيدة المدى لتحرير كل الأراضي العربية، وكان رأي أحمد إسماعيل تحريك الموقف سياسيًّا دون الوصول إلى المضايق، ثم تبنى رأي فوزي ورياض.
ولم يتعلَّم السادات دروس ١٩٦٧ بضرورة الدراسة أولًا، وفي اجتماع مجلس الوزراء قالوا له: «إحنا وراءك يا ريس ونؤيد المعركة.» وكان الجيش السوري قد تعاطف مع الجيش المصري في ١٩٥٦، بل إنه هو الذي فرض الوحدة في ١٩٥٨ عندما استدعى المجلس العسكري السوري الملحق العسكري المصري بسفارة مصر في دمشق لعرض الوحدة. واجتمعت أركان حرب الجيوش العربية لوضع خطة لعمل جماعي عربي مشترك. وكثف الجيش اتصالاته مع الجيش السوري تحت قيادة المشير أحمد إسماعيل لتحديد موعد المعركة، وأثناء سير حرب ١٩٧٣ تدخَّل السادات بقراراتٍ عشوائيةٍ فحدثت الثغرة لعدم وجود قيادات ميدانية للتعامل معها تكرارًا لأخطاء ١٩٤٨ لولا دفاع اللواء صادق عن قطاع غزة، غيَّر السادات خطة الهجوم إلى خطة عبور، وحول النصر إلى هزيمة، وضغط الجيش لتصفية الثغرة والرئيس يرفض ويسوف ويماطل. وكان الخطأ أمر فرقة مدرعة بالعبور إلى شرق القناة من الاحتياطي الذي يدافع عن غرب القناة لتطوير الهجوم يوم ١٤ / ١٠.١١٦وبعد وفاة عبد الناصر عقد السادات اجتماعًا مشتركًا لمجلس الدفاع يضم وزراء الحربية والخارجية والداخلية والإعلام ورئيس المخابرات العامة والحربية. وقرر وقف إطلاق النار ثلاثة شهور أخرى.١١٧ كما استشار خبراء وزارة الخارجية في كيفية تطبيق القرار ٢٤٢، ولما تصور الرئيس أن عبد الناصر كان ينفرد بالقرارات أراد أن يقوم بنفس الشيء كأحد مظاهر الزعامة، مع أن عبد الناصر منذ يونيو ٦٧ لم ينفرد بقرارٍ سياسي أو عسكري دون الرجوع إلى وزيري الخارجية والحربية، وأحيانًا كان يستمع إلى أكبر عددٍ من الآراء، والرئيس في النهاية صاحب القرار. وبعد اجتماع السادات بروجرز وسيسكو استبعد الحل العسكري والاستعداد له على قدم وساق، كان يتصل بأمريكا مباشرة، وكان وزير الخارجية يعلم ذلك فيما بعد عن طريق السفارات المصرية والأجنبية في الخارج، ويقول لكسنجر «جيشي! أولًا وجدت صعوبة في إقناعه بالحرب والآن أجد صعوبة في إقناعه بالسلام.» وهي إهانة لجيش مصر مرتين.وبعد أن اندلعت الحرب في ١٩٧٣ غيَّر السادات خططها من خطة تحرير إلى تحريك، ومن استرداد سيناء على الأقل إلى ما بعد المضايق إلى إثارة الرأي العام للحل المنفرد، فأدى النصر العسكري للقوات المسلحة إلى هزيمة للإرادة السياسية. وقد انفرد بالقرار أيضًا بعيدًا عن شريك الحرب الحليف السوري. غير خطة الهجوم إلى خطة عبور، وحول النصر إلى هزيمة، وفي اتفاقية فصل القوات رفض الجمسي سحب القوات المصرية غرب القناة بعد العبور. كان السادات يثق في الخبراء العسكريين الأمريكيين أكثر من المصريين لمعرفة خطوط الهدنة ومدى انسحاب إسرائيل في حالة الحل الجزئي. وأبلغهم أن وزيري الخارجية والدفاع يعارضان سياسته. في حين وافق السادات فجأةً على قصر الوجود العسكري المصري على شرق القناة على ٧٠٠٠ جندي بعد أن عبر ١٠٠٠٠، ٣٠ دبابة بعد أن عبرت ١٠٠٠ في حين أن كسنجر كان يتوقع ألَّا يقبل السادات بأقل من ٢٥٠ دبابة، وبكى الجمسي بعدها.
وانتهت المكاسب العسكرية التي تحققت في المراحل الأولى لحرب أكتوبر إلى خسارة سياسية بسبب سيطرة كسنجر على المسرح السياسي خاصة في تجزئة القضية واتباع سياسة الخطوة خطوة أي الحل المنفرد، واعترف كسنجر لبوتفليقة وزير خارجية الجزائر أنهم لا يعتبرون السادات عدوًّا لهم، ووقعت المنطقة في حالة اللاسلم واللاحرب.١١٨وفي خطبة السادات الشهيرة أمام مجلس الشعب في نوفمبر ١٩٧٧ لاحظ الجمسي وعرفات أنه أعاد عبارة استعداده للذهاب إلى آخر العالم، إلى الكنيست الإسرائيلي، مرة ثانية. وقد ادَّعى البعض أن السادات قد عرض فكرته على مجلس الأمن القومي ووافق عليها، وأنه بعد العودة من بوخارست وطهران والرياض دعا مجلس الأمن القومي في ٥ / ١١ ليعطي ملخصًا عن الرحلة ويقول في النهاية عرضًا: «إني مستعد للذهاب إلى القدس وإلقاء خطاب في الكنيست لو كان في هذا إنقاذ لدم أبنائي.» وقد صرخ الجمسي رافعًا يديه: «الكنيست كلا، الكنيست كلا … هذا غير ضروري.» وهو رجل نظام، واستمر السادات وكأنه لم يسمع صراخ الجمسي، وبعدها زار دمشق والسعودية اللذين رفضا الزيارة. ولما سأله وزير الخارجية إسماعيل فهمي: «أهذه دكتاتورية أم ديمقراطية؟ ولماذا لم تبلغ أعضاء مجلس الأمن القومي؟» قال: «لن أتناقش مطلقًا مع أي فرد. إني لا أهتم برأي أي شخص. لن أفعل هذا مطلقًا.» واستقال الوزير. كما استقال محمد رياض، وزير الدولة للشئون الخارجية قبل أن يستلم عمله خلال ست دقائق، وعرض عليه مصطفى خليل أن يذهب معه إلى الرحلة، ومع ذلك اعترض تفصيليًّا على مشروع المعاهدة الذي قدم للوفد المصري أربعًا وعشرين ساعة قبل الاجتماع.١١٩ -
(ب)
الرأي العام: والرأي العام له ضغوطه على الخارجية والرياسة بل والجيش؛ فأبناؤه من الشعب. والرأي العام هو الوعاء للثوابت في الثقافة السياسية للخارجية المصرية. ويؤكد إسماعيل فهمي ذلك بقوله: «وفي الداخل جعلت سياستي أن أقيم حوارًا مستمرًّا مع مجلس الشعب والصحافة وأن الصلة بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية موطن القوة.»١٢٠ ويتجلَّى الرأي العام أولًا وقبل كل شيء في المظاهرات الطلابية؛ فالطلاب هم المؤشر على الحياة الوطنية في مصر، مظاهرات الطلاب في ١٩٦٨ ضد أحكام الطيران، وفي ١٩٧١ ضد تأجيل معركة التحرير بعد سنة الحسم، وفي يناير ١٩٧٧ ضد غلاء الأسعار والتي دفعت الرئيس إلى زيارة القدس في نوفمبر نفس العام للبحث عن أحلاف الخارجية، وفي ١٩٩١ وفي ١٩٩٨ لإيقاف العدوان الأمريكي على العراق والثاني، وفي ١٩٩٩ تضامنًا مع الانتفاضة في فلسطين، وكثيرة المناسبات الأخرى مثل غزو جنوب لبنان وحصار بيروت، حرب المفاعل النووي العراقي، إنزال الطائرة المصرية من فوق مالطة، ومظاهرات ٩ / ١٠ يونيو لإرجاع عبد الناصر في ١٩٦٧. وعندما سأل شوين لاي عن أسباب مظاهرات الطلاب أخبره رياض بسبب الاحتلال ونفاد الصبر. كان في بداية عام ١٩٧١ توتر شديد في مصر وأزمة داخلية في البلاد، فبعد مد عام الحسم انخفضت شعبية الرئيس، وقامت مظاهرات الطلاب، واعتصموا في ميدان التحرير. واندلعت مظاهرات العمال ضد الوضع الاقتصادي المتدهور. وعُرف هذا الجيل بجيل السبعينيات، وتبلغ الذروة في جنازة عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠ عندما حملته الملايين على الأعناق وإغماء العشرات في مقابل جنازة السادات التي حضرها أربعةٌ من رؤساء أمريكا السابقين، والشوارع فارغة من الناس، وجنازة كنيدي التي قدمت فيها المرطبات والفطائر للمعزين. ومثلها مظاهرات التأميم في ١٩٥٦، والوحدة مع سوريا في ١٩٥٨. وأحيانًا تتحول المظاهرات إلى مقاومة شعبية مثل ١٩٥٦ وفي ١٩٧٣ أثناء حصار السويس أو إلى صمود عسكري مثل معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات بعد الهزيمة في ١٩٦٧. يعبر الرأي العام عن نفسه أيضًا من خلال مواقف المثقفين الوطنيين والكتاب والأدباء والفنانين الذين يماثلون الدبلوماسيين المثقفين في الخارجية المصرية، وهناك مؤشرات أخرى مثل فيلم ناصر ١٩٥٦ الذي فجر حنين الناس إلى المقاومة بدل حالة الاسترخاء والضياع، وتمثيلية أم كلثوم أو التمثيليات التليفزيوينة لأسامة أنور عكاشة «ليالي الحلمية»، «زيزينيا»، «الراية البيضاء» … إلخ، وهناك أيضًا انتخابات اتحادات الطلاب والنقابات المهنية، المهندسون والأطباء والمحامون، وقد أنشئت لجان شعبية لمقاومة التطبيع ومساندة شعب العراق، بل إن مراكز حقوق الإنسان والمجتمع المدني والمرأة وجماعات التنوير خرجت عن إطارها الفردي التقليدي وأصبحت جزءًا من حركة الاحتجاج العام في المجتمع.
-
(جـ)
الأحزاب: كانت الأحزاب وصحافتها خاصةً حزب الوفد تقوم بدورٍ مؤثر في الرقابة على السياسة الخارجية المصرية التي تخرج على الثوابت الوطنية في الثقافة السياسية. ولما اصطدمت الثورة بها في أول سنتين تم إلغاء الأحزاب، وتأميم صحافتها، وتأسيس نظام الحزب الواحد في الجمهورية الأولى، ونشأت المنابر في الجمهورية الثانية كأجنحةٍ في الحزب الحاكم قبل أن تتحول إلى أحزاب معارضة نشأت في حضن السلطة وبقرار منها أو من القضاء، فإذا اشتدت وخرجت عن دور المعارضة «المستأنسة» اصطدمت بالسلطة، وهو ما حدث بعد حل الاتحاد الاشتراكي والقبض على أعضاء اللجنة المركزية فيما سمي بثورة التصحيح في ١٥ مايو ١٩٧١، وبعد الانتفاضة الشعبية في يناير ١٩٧٧، وغلق صحف المعارضة ثم إدخال كل المعارضين على كافة خصائلهم، الناصرية والإسلامية والماركسية والوفدية في مذبحة سبتمبر ١٩٨١.
كانت مهمة الحزب الواحد الحاكم ولجنته التنفيذية العليا أثناء الجمهورية الأولى التصديق على قرارات الرياسة والموافقة على سياستها أو مجرد إخبارها بما اتخذ سلفًا من قرارات؛ فقد طلب عبد الناصر وهو في المستشفى علي صبري عضو اللجنة التنفيذية العليا لاستطلاع رأي اللجنة في مبادرة روجرز. واجتمع بهم الرئيس بعد عودته لمناقشة المبادرة معهم، وقد قام الرئيس بشرح المبادرة بنفسه في المؤتمر القومي للحزب وعرض أسس الحل الشامل، كما طالب عبد الناصر علي صبري بزيارة موسكو اشتراكًا للحزب في المفاوضات مع دولة الحزب فيها له السلطة العليا. وأدرك عبد الناصر بعد هزيمة ١٩٦٧ ضرورة التحرر من جماعات الضغط ومراكز القوى عن طريق إجراء انتخابات حرة على أساس حزبين، ثم تخلى عن الفكرة إلى ما بعد إزالة آثار العدوان.١٢١ وكان قد أدرك من قبل أن أحد أسباب الانفصال التعددية الحزبية في سوريا والحزب الواحد في مصر، وفرض نظام الحزب الواحد في سوريا بعد حل الأحزاب.ولم يتغير الأمر في الجمهورية الثانية حتى بعد التجربة الحزبية التي تقوم على التعددية المحدودة نظرًا لسيطرة الحزب الحاكم. واستمر الأمر كما هو عليه في الجمهورية الأولى، حزب واحد غير مؤثر، مهمته الاحتفالية أو الموافقة بعد العرض. ففي اجتماع طارئ مشترك للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي ومجلس الوزراء في ٢٨ / ٩ / ١٩٧٠ كان الهدف ترتيب جنازة عبد الناصر، وعرض على اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء ترتيبات الجنازة، وقرأ البيان السياسي الذي كتبه وزير الخارجية محمود رياض يؤكد فيه على الاستمرار في سياسة عبد الناصر، والتمسك بالتحالف مع الاتحاد السوفيتي، ثم اجتمعت اللجنة المركزية في ١٦ / ١٢ / ١٩٧٠ لرفض اقتراح ديان بانسحاب إسرائيل إلى منطقة المضايق وفتح قناة السويس للملاحة الدولية، وهي المبادرة التي نسبها السادات إلى نفسه، كما احتجَّت اللجنة في ٢٥ / ٤ لمناقشة موضوع الوحدة مع ليبيا الذي اقترحه الرئيس ذرًّا للرماد في العيون. ودعا الرئيس مجلس الدفاع الوطني لمناقشة مهمة يارنج مبعوث الأمم المتحدة ومشروع السلام في ٢ / ٢ / ١٩٧١ ودراسة الموقف السياسي والعسكري بعد ٥ / ٢ موعد انتهاء فترة إطلاق النار، وشارك في الاجتماع عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا: حسين الشافعي، علي صبري، محمود فوزي، عبد المحسن أبو النور، عزيز صدقي، محمود رياض، الفريق فوزي، شعراوي جمعة، سامي شرف، أحمد كامل رئيس المخابرات، والفريق صادق رئيس الأركان لإبداء الرأي، واستجاب الرئيس لنداء السكرتير العام بمد فترة وقف إطلاق النار ثلاثين يومًا لإعطاء السلام فرصة وللفريق فوزي الوقت الكافي للاستعداد للمعركة، ثم جددت المدة إلى أجل غير مسمى حتى بدأت ضغوط الجيش والشعب لتحرير الأرض المحتلة بالقوة.
-
(د)
المؤسسات الدستورية: وأهمها مجلسا الشعب والشورى، وهما مجرد مجلسَيْن يُخطَران بما استقر عليه الرئيس للعلم والإحاطة دون مناقشات لما اتخذه من قراراتٍ حاسمة في الحرب والسلام، تسوده أغلبية من الحزب الحاكم، الحزب الواحد في الجمهورية الأولى أو حزب الأغلبية في الجمهوريتين الثانية والثالثة؛ لذلك تضعف المعارضة اليسارية أو الوفدية في غياب المعارضة الإسلامية الشرعية والمعارضة الماركسية بالرغم من وجودها في الشارع المصري، ولما كانت انتخاباته في كثير من الدوائر مزورة كثيرًا ما صدرت أحكام قضائية ببطلان بعض النواب أو ببطلان مجلس الشعب كله؛ لأن القوانين الانتخابية والتي تمت الانتخابات طبقًا لها غير دستورية، مثل الانتخابات بالقائمة التي تعارض الدستور الذي يقر بالانتخابات الفردية، «صوت واحد لفرد واحد.» الرئيس مركزه وملهمه وقائده وليس له إلا التصفيق والتهليل مثل مشهد رقص أحد النواب بعد تراجع عبد الناصر عن تنحيه يوم ١٠ يونيو ١٩٦٧ بينما في الكنيست صلاة على أرواح مئات الشهداء الذين سقطوا في الحرب التي كسبتها إسرائيل. وبعد إشراف القضاء على الانتخابات في الجمهورية الثالثة تحمس الناس قليلًا للإدلاء بأصواتهم بالرغم من تدخل أجهزة الدولة قبل الاقتراع بإرهاب مرشحي المعارضة ورشوة الناخبين لمرشحي الحكومة، ونجاح المرشحين المستقلين ثم انضمامهم إلى الحزب الحاكم مما يطعن في دستورية تمثيلهم لخداعهم ناخبيهم، وقد صدرت ضد عديدٍ من نوابه أحكام قضائية بالرغم من الحصانة البرلمانية، وظهرت عبارات «نواب القروض»، «نواب المخدرات»، «جماعات الضغط». أما نسبة ٥٠٪ من العمال والفلاحين فموجودة كمًّا لا كيفًا، نسبة رياضية وليست واقعًا سياسيًّا.
وعادة ما يتوجه وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء الأحزاب ورؤساء تحرير الصحف مع الرؤساء لإلقاء كلماتهم أمام مجلسي الشعب والشورى للإخطار بالعلم. ففي يوم ٤ / ٢ / ١٩٧٥ توجه محمود رياض إلى مجلس الشعب لسماع خطاب الرئيس الذي أعلن فيه مبادرة فتح قناة السويس وتطهيرها للملاحة دون إخبار وزير الخارجية مسبقًا، وبعد زيادة التقارب المصري الأمريكي أعلن الرئيس إلغاء معاهدة الصداقة المصرية السوفيتية في خطابه أمام مجلس الشعب في مارس ١٩٧٩؛ لأن السوفيت لم يلتزموا بمواعيد تسليم السلاح طبقًا للعقود المتفق عليها دون مناقشة وبتصفيق حاد. وكان الرئيس قد ناقش قراره مع وزير الخارجية والسفير السوفيتي قبل أن يخطر مجلس الوزراء ثم مجلس الشعب الذي صادق وهلل، وكان قد أعلن من قبل في مجلس الشعب في مايو ١٩٧٢ أنه سوف يتخذ إجراءات حازمة ضد الذين ينتقدون روسيا الحليف الرئيسي لمصر بدلًا من عدوها الولايات المتحدة، وقد ظن إسماعيل فهمي أنها تحذير موجه ضد ندوة الأهرام وهي في الحقيقة ذرًّا للرماد في العيون.
-
(هـ)
القضاء: عُرف القضاء على مدى تاريخ مصر منذ «شكاوى الفلاح الفصيح» حتى الإشراف الأخير على انتخابات مجلس الشعب بنزاهته واستقلاله وحكمه لصالح المتهمين من النظام السياسي بالانقلاب وإثارة الشغب في قضايا أمن الدولة المعروفة، تصدر الأحكام بالإفراج عن صحف المعارضة والطعن في شرعية المجالس الدستورية وببطلان قرارات مذبحة سبتمبر لكل ألوان المعارضة عام ١٩٨١، الأساتذة والصحفيون والأحزاب ورجال الدين وبابا الأقباط، باستثناء مذبحة نادي القضاة في الجمهورية الأولى والعدوان على السنهوري رئيس المحكمة العليا في أوائل الثورة وهي ما زالت تواجه خصومها.١٢٢
تظل وزارة الخارجية هي الحارس والضامن للثوابت الوطنية في الثقافة السياسية، الاستقلال الوطني قبل ١٩٥٢ والعروبة بعدها، وتظل الرياسة هي الدائرة الأولى في صنع القرار السياسي، تتبعها الخارجية إذا كانت تعبيرًا عن الثوابت الوطنية وتختلف معها إذا كانت انحرافًا عنها.
إذا كانت لكل جمهورية مأساة فإن مأساة الجمهورية الأولى هزيمة ١٩٦٧، ومأساة الجمهورية الثانية المقامرة السياسية بعد نصر أكتوبر العسكري في ١٩٧٣ واتفاقات كامب ديفيد في ١٩٧٨، والسلام مع الكيان الصهيوني في ١٩٧٩ قبل أن ينسحب من باقي الأراضي المحتلة منذ ١٩٦٧، ومأساة الجمهورية الثالثة غياب الخيال السياسي والمبادرة التاريخية والرؤية الواضحة كرد فعل على البطولة في الجمهورية الأولى و«الخيانة» في الجمهورية الثانية.
وتمر مصر الآن بفترة مشابهة لما كان عليه الحال قبل ١٩٥٢ فيما يتعلق بالقضية الاجتماعية والتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وفساد الطبقة الحاكمة وقطاع الأعمال، وتشابه أيضًا ما كانت عليه قبل حرب ١٩٧٣، حالة السلم واللاحرب بالنسبة للأراضي المحتلة، وتمزق الشباب بين عار الهزيمة والشوق إلى النصر، قصرت المسافة بين الهزيمة العسكرية والنصر السياسي في ١٩٦٧، والنصر العسكري والهزيمة السياسية في ١٩٧٣، ونسي الناس النصر العسكري، ويشاهدون كل يوم آثار الهزيمة السياسية في استمرار احتلال الجولان، والضفة الغربية والقطاع، والانتفاضة بمفردها وسط محيطها العربي الواسع وعالمها الإسلامي الفسيح، طالت الفترة الآن من ١٩٧٣ حتى الآن ولم يعد الناس تذكر إلا كامب ديفيد ١٩٧٨ واتفاقيات السلام في ١٩٧٩ ووادي عربة في ١٩٩٤. وتكون جيل بأكمله في حالة مشتبهة بين النصر والهزيمة، القدرة والعجز، يشعر بانسداد تاريخي يكاد يقرب من التوقف، والسير في المكان، مع غياب رؤية واضحة لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها مصر، هناك حنين إلى الماضي عند كل التيارات السياسية الرئيسية التي تعبر عن تعدد الثقافة السياسية؛ حنين الإسلاميين إلى عصر الخلافة الراشدة، وحنين الليبراليين إلى ثورة ١٩١٩، وحنين القوميين إلى العهد الناصري، وحنين الماركسيين إلى الأممية الأولى التي ورثتها العولمة، ولا أحد يحن إلى الحاضر بل يئن منه ويرزح تحته، ولا أحد يرنو إلى المستقبل فقد غامت الرؤية، ولم يعد أحد يدري: في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟
• إسماعيل فهمي، التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٥.
• مذكرات محمد إبراهيم كامل، وزير خارجية مصر الأسبق، السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد، طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، القاهرة، ١٩٨٤.
• مذكرات محمود رياض (١٩٤٨–١٩٧٨)، (جزآن). الأول: البحث عن السلام والصراع في الشرق الأوسط. الثاني: (١) الأمن القومي العربي بين الإنجاز والفشل. (٢) أمريكا والعرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط٢، ١٩٨٧ بالرغم مما بين الموضوعين من ترابطٍ مما أدى إلى التكرار بين الجزأين.
• د. عصمت عبد المجيد، زمن الانكسار والانتصار، مذكرات دبلوماسي عن أحداث مصرية وعربية ودولية، نصف قرن من التحولات الكبرى، دار الشروق، دار النهار، القاهرة، بيروت، ١٩٩٩، وكان الدافع على كتابتها السيدة زوجته وليست أحداث الوطن، وهو أصغر المذكرات حجمًا.
الوزارات الثمانية هي: الداخلية والحربية والمالية والأوقاف والأشغال والمعارف. وأضيفت بعد الثورة وزارات الاقتصاد، وشئون رياسة الجمهورية، والإرشاد القومي والإصلاح الزراعي والصناعة والتخطيط والعمل والإدارة المحلية والسد العالي والإسكان والمرافق وإصلاح الأراضي. د. محمد جوادي، ص٢٢.
(أ) علي ماهر باشا ٢٤ / ٧ / ١٩٥٢–٧ / ٩ / ١٩٥٢.
(ب) أحمد محمود فراج طايع ٨ / ٩ / ١٩٥٢–٩ / ١٢ / ١٩٥٢.
(ﺟ) محمود فوزي ٩ / ١٢ / ١٩٥٢–١٤ / ١٢ / ١٩٦٤.
(د) محمود رياض ٢٥ / ٣ / ١٩٦٤–١٧ / ١ / ١٩٧٢. جهاد عودة، ص٣١.
(أ) محمد مراد غالب ١٧ / ٢ / ١٩٧٢–٨ / ٩ / ١٩٧٢.
(ب) محمد حسن الزيات ٨ / ٩ / ١٩٧٢–٣١ / ١٠ / ١٩٧٣.
(ﺟ) إسماعيل فهمي ٣١ / ١٠ / ١٩٧٣–١٧ / ١١ / ١٩٧٧.
(د) محمد إبراهيم كامل ٢٥ / ١٢ / ١٩٧٧–١٧ / ٩ / ١٩٧٨.
(ﻫ) مصطفى خليل ٢٧ / ٢ / ١٩٧٩–١٤ / ٥ / ١٩٨٠.
(و) كمال حسن علي ١٤ / ٥ / ١٩٨٠–١٦ / ٧ / ١٩٨٤.
(أ) أحمد عصمت عبد المجيد ١٦ / ٧ / ١٩٨٤–٢٠ / ٥ / ١٩٩١.
(ب) عمرو موسى ٢٠ / ٥ / ١٩٩١، حتى الآن.