الفصل الثالث

قبائل العرب بمصر

لا نغالي إذا قلنا إن مصر اتصلت ببلاد العرب منذ عهد بعيد جدًّا، بل ذهب علماء الجيولوجيا إلى أن صحراء مصر الشرقية من وادي النيل حتى البحر الأحمر تُعتبَر جزءًا من بلاد العرب، وذهبوا إلى أنه في العصور الجيولوجية القديمة كان الجزء الجنوبي الغربي من بلاد العرب يتصل بأفريقيا وكان البحر الأحمر عبارة عن بحيرة، ويقول الأستاذ دي مورجان: «كانت صحراء مصر الشرقية جزءًا من بلاد العرب، والآن تمنع منطقة سينا هذه الصحراء الشرقية من أن تنفصل نهائيًّا عن العرب.»١
وفي عصور التاريخ اتصلت مصر ببلاد العرب عن طريقين؛ أولهما: طريق النيل؛ إذ كانت السفن تسير في النيل إلى موضع قفط الحالية، ثم تسير القوافل في طريق وادي الحمامات؛ حيث المناجم والمحاجر التي اكتشفها قدماء المصريين، وينتهي هذا الطريق بالقرب من عيذاب والقصير، ثم استخدم المصريون البحر الأحمر للاتصال بالمواني العربية، وأول دليل قاطع لما قام به المصريون في البحر الأحمر كان في الأسرة الخامسة حين قام الملك ساهور حوالي سنة ٢٧٤٣ ق.م برحلته إلى شواطئ البحر الأحمر وترك صُوَرًا لأسطوله وتقريرًا عن أعماله على أسوار معبده، وفي وادي الحمامات عدد كبير من النقوش يتحدث عن رحلات المصريين في البحر الأحمر، ويقول المؤرخون: إن الملاحة في البحر الأحمر لعبت دورًا هامًّا في التجارة، ولا سيما تجارة البخور التي كان يطلبها المصريون من العرب؛ لاستخدامها في التحنيط وفي الشعائر الدينية، والقدماء حتى عصر هيرودوت قالوا: إن جزيرة العرب وحدها هي التي تُنْبِت العطور، وقد حدثنا الأستاذ نللينو: «أن قدماء المصريين كانوا على اتصال دائم بجنوب بلاد العرب التي تُعدُّ أكثر البلاد إنتاجًا للبخور.»٢

أما الطريق الثاني الذي اتصلت مصر عن طريقه ببلاد العرب فهو طريق سينا، وهو طريق قديم جدًّا، وإذا تصفحنا تاريخ مصر نجد أن المحور الأساسي الذي كانت تدور عليه سياسة الأسرة الثامنة عشرة هو تأمين البلاد من محاولة غزو القبائل السامية، ويدلنا على ذلك غزو سوريا أيام إمنحتب الأول، وأن تحتمس الأول أعلن أن الفرات هو حدود مصر الشرقية، وكان غزو البلاد الشمالية عن طريقين: طريق البحر الأبيض، وطريق سينا البري، وكان طريق سينا معروفًا لدى المصريين في عهد الأسرة الأولى بسبب وجود معدن النحاس، وفي عهد الأسرة الثالثة زار زوسر سينا، وعمل على إخراج النحاس وأحجار الزمرد، ونُقِشَت زيارته في وادي المنارة شمال مدينة الطور الحالية، وفي الأسرة الرابعة غزا سنفرو شبه الجزيرة ونقش أخبار حملته على الأحجار، وبنى حصونًا ليلجأ إليها عمال المناجم من هجمات قبائل العرب.

وفي الطرف الشرقي لشبه جزيرة سينا نجد تلَّ القلعة أو شربة الخادم — ولا أدري لمَ سُمِّيت كذلك — وفي قمة هذا التل نجد معبدًا مصريًّا لهاتور وبه عدة نقوش يرجع تاريخها إلى الأسرة الحادية عشرة، وقد وُسِّع المعبد في أيام الأسرة الثامنة عشرة، وبالقرب منه في وادي نصب وجد المصريون مناجم أخرى للنحاس، وبنى المصريون هناك معابد للعمال، كما عُثِر على كثير من النقوش المصرية شرقي شبه جزيرة سينا، وأكثر هذه النقوش أقامها موظفو المناجم الذين أرادوا أن تُسجَّل أسماؤهم وأعمالهم، وذهب بعض المؤرخين إلى أن الهكسوس من قبائل عربية، وضَرَبَ بعضُ المصريين في الصحراء العربية؛ حتى ذهب بعض المؤرخين إلى أن المصريين أسَّسوا مستعمرة مصرية في بلاد العرب مكان يثرب؛ أي المدينة المنورة.

إذن كانت الصلة بين مصر وبلاد العرب قديمة فرضتها طبيعة الجوار بين البلدان فنشأت هذه الصلات بينهما.

وبجانب هذه الصلة التجارية، كانت هناك صلة علمية؛ فالأستاذ M. Matter٣ يحكي أن تاجرًا من تجار الإسكندرية في القرن السادس الميلادي يُدعَى قزمان كان محبًّا للأسفار جريئًا على المخاطرة محبًّا للاطلاع على أحوال البلدان المجاورة؛ قام بعدة رحلات علمية إلى بلاد العرب والهند ووضع عدة مؤلفات عن هذه البلاد، ولكن مؤلفاته فُقِدَت ولم يبق منها إلا مقتطفات قليلة متفرقة، ومؤرخو الكنيسة المسيحية يقولون: إن الرهبنة نُقِلَت من مصر إلى بلاد العرب والشام، ويذكرون بين الرهبان الذين كان لهم أثر واضح في نشر المسيحية ببلاد العرب؛ الراهب هيلاريون وهو أحد تلاميذ مدرسة الإسكندرية، وسافر إلى غزة ودعا إلى الرهبنة فأجابه نحو ثلاثة آلاف رجل، فرقهم في فلسطين وسوريا وبلاد العرب، وتُوفِّي سنة ٣٥٦م، وكذلك يتحدث مؤرخو المسيحية عن الناسك موسى المصري الذي عُيِّن أسقفًا لمسيحيي العرب سنة ٣٧٢م، وذهب بعضهم إلى أن نسطور صاحب المذهب النسطوري نفاه الإمبراطور ثيودوسيس الثاني إلى بترا عاصمة بلاد النبط ثم نقله إلى مصر، ولكنه استطاع أن يهرب في صحراء طيبة ومنها إلى بلاد العرب سنة ٤٤٠م وقيل: إن مذهبه انتشر في مصر وبلاد العرب، ولا سيما بعد الاضطهاد الذي لحق بأتباعه.

وفي سيرة ابن هشام أن قريشًا حين بنت الكعبة قبل الرسالة بخمس سنين استعانوا برجل قبطي نجار كان بمكة، وشراح السيرة يقولون إن اسمه باقوم، وجاء في كتب الطبقات أن جبر بن عبد الله القبطي كان أحد الصحابة الذين أخذوا عن النبي دينه، ويقول السيوطي: إن قبط مصر يفخرون بأن منهم من صحب النبي.

وكما ذهب مصريون إلى بلاد العرب جاء عرب إلى مصر، فيحدثنا صاحب الأغاني أن بعض بطون خزاعة خرجوا في الجاهلية إلى مصر والشام؛ لأن بلادهم أجدبت، وفي أوائل القرن السابع الميلادي؛ أي حوالي سنة ٦١٦م غزا الفرس مصر، ويقول الأستاذ شارب: إن الجنود الذين فتح بهم كسرى مصر كان بعضهم من أهل الشام وبعضهم من العرب.٤ وذهبت مسز بوتشر٥ والأستاذ ميلن في كتابه٦ إلى أن جيش الفرس كان مستمدًّا من الشام وبلاد العرب، فلم يلقوا مشقة في حكم مصر؛ إذ لعل الأغنياء في مصر كان بينهم كثير من العرب فرحبوا بأقربائهم، ولا أدي ما الذي يقصده ميلن بهذه العبارة، ولا من أين أخذها، وهي إن صحت تدلنا على شدة الصلة بين المصريين والعرب.

وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن تمَّ له فتح الشام وقبل أن يفتح العرب مصر انتقلت بعض متنصرة غسان برئاسة أبي ثور بن عامر بن صعصعة إلى مصر، وأقطعهم حاكم مصر منطقة تنيس، وقال المسعودي: إن عددهم عشرون ألف رجل، ولكن بتلر في كتابه فتح العرب لمصر أنقص عددهم إلى ألفين، وروى ابن إسحاق الأموي في كتابه فتوح مصر أن رئيس الغساسنة ابن عم جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة، وأنه هرب بماله وأهله بعد أن تم للعرب فتح الشام.

ولما بُعِث النبي أرسل من قبله حاطب بن أبي بلتعة رسولًا إلى المقوقس عظيم القبط في مصر يدعوه إلى الإسلام، فأكرم المقوقس الرسول وأرسل معه هدية إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقبَّلها شاكرًا، وأوصى بالقبط خيرًا، ورُوِيَ عنه أنه قال: «استوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم ذمة ورحمًا.» قال ابن كثير: والمراد بالرحم أنهم أخوال إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، أمه هاجر القبطية وهو والد عرب الحجاز الذين منهم النبي عليه الصلاة والسلام وأخوال إبراهيم ابن رسول الله وأمه مارية القبطية من سناكورة انصنا.٧ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: «أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدًا، وأفضلهم عنصرًا، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة.»٨ وكان بين الأقباط مَن صَحِب رسول الله كجبر بن عبد الله القبطي، وروى السيوطي عن سعيد بن عفير أنه قال: «والقبط تفخر بأن منهم من صَحِب النبي ٩ وجاء ذكر مصر في القرآن الكريم صراحة أو كناية في أكثر من عشرين موضعًا، ولم يُذْكَر غير مصر من البلدان بمثل هذا العدد، فلا غرو إذن أن نرى العرب يعرفون شيئًا عن مصر، فراحوا يتحدثون عنها، ويخترعون الأحاديث الكثيرة عن عجائبها، كما طمع العرب في ثروة مصر؛ لهذا بعد أن تمَّ لهم فتح الشام جاء عمرو بن العاص إلى مصر ومعه عرب من قبائل مختلفة، يقال إن أكثرهم من عك ولخم، ويقال أيضًا إن عددهم لم يزد على أربعة آلاف نفس، ثم أتبعه الزبير بن العوام بمدد قُدِّر باثني عشر ألفًا، فلما تمَّ لهم فتح مصر وبُنِي مسجد الفسطاط أمر عمرو جنوده أن يختطوا حول المسجد الجامع كل بحسب قبيلته، فمن القبائل التي اختطت بالفسطاط وأقامت بها: مهرة وتجيب ولخم وغسان وغافق،١٠ ومن بني غافق بطن يُعرَفون بالقرافة سكنوا سفح المقطم، ثم تركوا أماكنهم وتفرقوا في البلاد المصرية، وصار مكانهم مقبرة المسلمين فسمِّيت المقبرة في مصر بالقرافة؛ نسبةً إلى هؤلاء القوم.١١
وكان مع عمرو جماعة العتقاء، وهم جماع من القبائل عُرِفوا بالصعاليك، كانوا يقطعون الطريق أيام النبي فبعث في طلبهم وأُتِي بهم أسرى، فأعتقهم، وكان بينهم كثير من طوائف الأزد وفهم.١٢
كذلك شهد فتح مصر واختلط بالفسطاط قوم من الفرس هم أبناء جندباذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام، وأسلموا ورغبوا في الجهاد، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر١٣ كما كان في جيش الفتح جماعة من الشام عُرِفوا في مصر بالحمراء؛ لنزول الروم بينهم، ولكنهم عرب من بَلي (قضاعة) وفهم وعدوان وبعض الأزد، وكانوا يسكنون قيسارية وما حولها، ورغبوا في الإسلام قبل واقعة اليرموك وساروا مع عمرو إلى مصر، وسُمُّوا بالحمراء؛ لأن العرب اعتادوا أن يسموا الموالي من الروم بهذا الاسم.١٤
واشترك في الفتح أيضًا عدد من قبائل مختلفة، من قريش والأنصار وخزاعة ومزينة وأشجع وجهينة وثقيف ودوس وليث، عُرِفوا في مصر باسم أهل الراية، ونُسِبَت الخطة إليهم؛ لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد من الديوان.١٥
أما همدان فلم يقبلوا أن يسكنوا الفسطاط، واختاروا الجيزة لهم مقرًّا، وحاول عمرو أن يرجعهم إلى الفسطاط فلم يستطع، فاضْطُر إلى أن يخاطب الخليفة في شأنهم، فكتب الخليفة إليه: «كيف رضيت أن تفرِّق أصحابك، ولم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينك وبينهم بحرٌ لا تدري ما يفاجئهم، فلعلك لا تقدر على غياثهم حين ينزل بهم ما تكره، فاجمعهم إليك، فإن أبَوا إليك وأَعْجَبَهم موضعُهم فابن عليه من فَيْء المسلمين حصنًا.» فبنى لهم عمرو بن العاص الحصن بالجيزة، وسكن مع همدان نافع وذو أصبح وطائفة من الحجر، وبرزوا إلى أرض الحرث والزرع.١٦
وبعد أن تمَّ فتح مصر رأينا الخليفة عمر يكتب إلى عامل الشام أن يُسيِّر ثلث من بالشام من قضاعة إلى مصر، فنظر الوالي فإذا «بلي» تعادل ثلث قضاعة فسيرهم إليها، فانتشروا في البلاد ولا سيما حول أخميم وما يليها، وتفرقت بلي بأرض مصر، ثم اتفقت هي وجهينة فصار لها من الشرق من عقبة قاو الخراب إلى عيذاب (بالقرب من القصير).١٧
وكان عمرو بن الخطاب يبعث كل عام غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية، وقسَّم عمرو بن العاص من معه، فكان يرسل ربع الناس يقيمون ستة أشهر في رباط الإسكندرية، والربع في السواحل والنصف يقيمون معه، ولم يختلط العرب بالإسكندرية كما اختلطوا في الفسطاط، بل كان بها أخائذ، من أخذ منزلًا نزل فيه هو وبنو أبيه.١٨ فلما استقامت لهم البلاد قطع عمرو بن العاص من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الناس، وكانت لخم أعز من ناحية الإسكندرية.
أخذ العرب يفدون على مصر أفواجًا حتى غصَّت بهم البلاد، وكان بين القبائل فضاء من القبيل إلى القبيل، فلما كثرت الأمداد في زمان عثمان بن عفان وما بعدُ، وكثر الناس وسَّع كلُّ قوم لبني أبيهم حتى كثر البنيان والْتَأم،١٩ ولما ولَّي معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه على البصرة، غرب جماعة من الأزد إلى مصر عام ثلاث وخمسين هجرية،٢٠ فنزل منهم نحو مائة وثلاثين، كما كتب معاوية إلى علقمة القطيفي عامل الإسكندرية: «إني قد أمددتك بعشرة آلاف من أهل الشام وبخمسة آلاف من أهل المدينة.» فكان في الإسكندرية سبعة وعشرون ألفًا،٢١ كما كان بمصر في خلافة معاوية أربعون ألفًا.٢٢
وفي إمارة الوليد بن رفاعة على مصر عام تسع ومائة٢٣ نزل بنو سليم (وهم من قيس) ولم يكن بأرض مصر أحدٌ من قيس قبل ذلك إلا من كان من عدوان الذين أنزلهم عبد الله بن الحبحاب والي الخراج في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان عدد بني سليم ثلاثة آلاف رجل، فأنزلهم الحوف الشرقي وأمرهم بالزرع فاشتروا إبلًا وكانوا يحملون الطعام إلى القلزم فأَثْرَوا، ولما بلغ ذلك عامة قومهم تحمَّل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية، فأقاموا سنة فأتاهم ألف وخمسمائة بيت من قيس، حتى إذا كان زمن مروان بن محمد صار بمصر ثلاثة آلاف أهل بيت، ثم زِيدوا إلى خمسة آلاف ومائتين، ولكثرة القيسية بمصر وتجمعهم في الحوف وثرائهم العظيم كانوا مصدر فتن وقلاقل، وكثيرًا ما حاربوا الولاة، وكان يجاورهم في الحوف جماعة من صلاح وطارق وهم من جذام؛ ولذلك قامت الحروب الكثيرة بين القيسية واليمنية، شأنهما في ذلك شأن هاتين الطائفتين في كل الأقطار الإسلامية.
وسكن بنو عقبة وهم من جذام أيضًا ما بين أيلة وحوف مصر،٢٤ كما ذهب قوم من جذام ولخم إلى الإسكندرية،٢٥ وكانت لهم هناك أيام معلومة ووقائع مشهورة ولا سيما في فتنة ابن الجروي. وكان كل أمير يتولى بمصر يأتي إليها ومعه عدد من الجند العرب كي يتقوَّى بهم ويقمع بهم الفتن التي تنجم في البلاد، فقد قيل إن حوثرة الباهلي سار إلى مصر في آلاف من العرب،٢٦ ولا أدري تمامًا من أي القبائل كان هؤلاء القوم، وأكبر الظن أنهم من القيسية عشيرة الوالي.
وبصعيد مصر أولاد الكنز، أصلهم من ربيعة وكانوا ينزلون اليمامة فقدموا أرض مصر في خلافة المتوكل عام نيف وأربعين ومائتين في عدد كثير، وانتشروا في البلاد، فنزلت طائفة منهم بأعالي الصعيد وسكنوا بيوت الشعر في براريها الجنوبية وأوديتها، وكانت قبائل البجة تشن الغارات على القرى الشرقية في كل حين، وخربوا كثيرًا من أملاك الأهالي، فقام الربعيون بمنعهم حتى كفوهم، ولم يلبثوا أن تزوجوا منهم وصارت لهم مرافق في بلاد البجة، واستولوا على مناجم الذهب بها فكثرت بذلك أموالهم.٢٧ وانتقلت بطون من قريش إلى الأشمونيين وكان بينهم بنو جعفر بن أبي طالب المعروف بالطيار، وبنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان وتحالفوا جميعًا وعاشوا سالمين، والجعافرة اليوم ينسبون إلى جعفر هذا.
ويقول المقريزي: «وجهينة أكثر عرب مصر.»٢٨ وهؤلاء كانوا يسكنون حول أسيوط وما بعدها، ووقع بينهم وبين بطون بلي من الخطوب ما أدى إلى دوام الفتنة بينهما، وفي الفيوم نزل بنو كلاب،٢٩ ومن منية غمر إلى زفيتا سكن سعود جذام، وأكثرهم مشايخ البلاد وخفراؤها ولهم مزارع وفسادهم كثير.٣٠
وانتقلت طوائف من فزارة إلى الغربية وقليوب.٣١ وفي الدقهلية سكن عرب ينتسبون إلى قريش.٣٢ وسكن حول تنيس ودمياط قوم ينتسبون إلى نصر بن معاوية وهم من هوازن، وكان لهم شوكة شديدة بأرض مصر، وكثروا حتى مَلئوا أسفل الأرض وغلبوا عليها، قويت إلى أن عَلِيَهم قبيلة من البربر تعرف بلواتة، تزعم أنها من قيس فأجلت بني نصر وأسكنتها الجدار، فصاروا أهل قرى في مكان عُرِف بهم وسط النيل وهو جزيرة بني نصر.٣٣ ثم تعاقب على مصر طوائف من العرب في العصور التي تلت عصرنا الذي نؤرخه، ولعل أكثرها كان في القرن الخامس الهجري؛ إذ أرسل الوزير الناصر اليازوري عام اثنين وأربعين وأربعمائة فاستدعى سنبس من فلسطين وأقطعهم البحيرة التي كانت منازل بني قرة، فعظُم أمرهم أيام الفاطميين، ولكنهم تفرقوا في الغربية وذلوا بعد واقعة ديروط عام إحدى وخمسين وستمائة أيام عز الدين التركماني، وكان يجاورهم فرقة من كنانة بن خزيمة وفرقة من بني عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب، ونزل العمريون في البرلس والكنانيون بقرب دمياط.
مما تقدم نستطيع أن نقول إن أكثر عرب مصر من اليمنين قد اختطوا دورهم في الفسطاط وغيرها، ورابطَ بعضهم في المدن الكبيرة التي هي ثغور مصر والتي كان يُخشَى عليها من مهاجمة الأعداء، وكان بمصر عدة من الثغور المعدة للرباط في سبيل الله تعالى، وهي البرلس ورشيد والإسكندرية وذات الحمام والبحيرة واخنا ودمياط وشطا وتنيس والأشتوم والفرما والواردة والعريش وأسوان وقوص والواحات، فيغزى من هذه الثغور الروم والفرنج والبربر والنوبة والحبشة والسودان.٣٤ كما كان لبعض العرب إقطاعات بمصر، كالذي قيل: إن عمر بن الخطاب أقطع ابن سندر منية الأصبغ، فحاز منها لنفسه ألف فدان، فلم تزل له حتى مات، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان٣٥ فسميت باسمه.
وكانت للعرب أيام خاصة في الربيع ينتقلون فيها من مرابطهم يجوسون خلال قرى الريف، فقد جاء في خطبةٍ لعمرو بن العاص: «فحي لكم على بركة الله ريفكم، فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها؛ فإنها جُنَّتكم من عدوكم وبها مغانمكم وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا … إلى أن قال: فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم، فإذا يبس العود، وسخن العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن وانقطع الورد من الشجر فحي إلى فسطاطكم على بركة الله.»٣٦
فإن صحت نسبة هذا القول إلى عمرو، فإنا نتبين أن العرب كانوا يخرجون من رباطهم، ويتصلون بالمصريين في قراهم ومدنهم، ويتحدثون إليهم ويتساومون، فمن المصريين من أُعْجِب بالعرب ودينهم فاعتنقه، ومنهم من دُفِع إلى اعتناقه اضطرارًا؛ لعجزه عن أداء الجزية، أو لأغراض أخرى، وكان عمرو يُعيِّن القرى التي تذهب إليها كل قبيلة؛ فكان يكتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا.٣٧ إذن في ابتداء الفتح كانت إقامة العرب في الفسطاط والثغور، ولم يكن لهم مقام بالقرى، وكان القبط متمكنين في بلادهم لا يتدخل في شئونهم عربي، على أن المسلمين في المائة الثانية انتشروا في قرى مصر ونواحيها، وما برح القبط يثورون على المسلمين، إلى أن جاء المأمون سنة سبع عشرة ومائتين فأسرف في تأديبهم حتى أخضعهم له، وغلب العرب على أماكن المصريين في القرى، وحوَّلوا بعض الكنائس إلى مساجد، فاضْطُر المصريون إلى أن يتعلموا لغة الفاتحين، وإلى أن يعتنق أكثرهم دين الإسلام.
ولما كثر عدد العرب بمصر طمعوا في ازدياد ثروتهم، فعمدوا إلى الزراعة والتجارة، حتى إذا كان أيام المعتصم أمر بإسقاط جميع العرب من الديوان، فاضْطُر عرب مصر إلى أن يجتهدوا في جمع المال، وصاروا كالمصريين سواء بسواء، وزاد اختلاط العرب بالمصريين وتزوج العرب من نساء مصريات، فلم يمض إلا زمن قليل حتى رأينا في مصر شعبًا إسلاميًّا عربيًّا،٣٨ وقد دفعهم تعصبهم للإسلام إلى الثورة لبناء كنيسة، فقد قيل: إنه في سنة ست وعشرين وثلاثمائة هُدمَت قطعة من كنيسة أبي شنودة؛ فبذل النصارى للإخشيد مالًا ليطلق عمارتها، فلم يقبل إلا بعد استفتاء الفقهاء، فأفتى أحدهم، وهو محمد بن علي، بأنَّ لهم أن يرموها ويعمروها، وعُرِف ذلك عنه فحملت الرعية إلى داره النار وأرادوا قتله فاستتر وندم على فُتْيَاه.٣٩

هوامش

(١) كتاب الشرق قبل التاريخ، الفصل الثالث.
(٢) محاضرات الأستاذ نللينو عن تاريخ جنوب بلاد العرب.
(٣) في كتابه Histoire de lecole d’Alexandrie.
(٤) History of Egypt. Chapter 21.
(٥) Story of The church of Egypt. V. I. P. 347.
(٦) Egypt under Rom: Rule, P. 114.
(٧) النجوم الزاهرة: ج١ ص٢٩ (طبعة دار الكتب المصرية).
(٨) النجوم الزاهرة: ج١ ص٢٩.
(٩) حسن المحاضرة للسيوطي: ج١ ص١٠٥.
(١٠) خطط المقريزي: ج٢ ص٧٦ وما بعدها.
(١١) ابن خلكان: ج١، ص٣٣٨.
(١٢) خطط المقريزي: ج٢، ص٨٨.
(١٣) خطط المقريزي: ج٢، ص٧٨.
(١٤) خطط المقريزي: ج٢، ص٧٩.
(١٥) خطط المقريزي: ج٢، ص٧٦.
(١٦) حسن المحاضرة للسيوطي: ج١، ص٨١.
(١٧) البيان والإعراب للمقريزي: ص٣٧، ٣٨.
(١٨) خطط المقريزي: ج١، ص٢٦٩.
(١٩) فتوح مصر لابن عبد الحكم: ص١٢٨.
(٢٠) خطط المقريزي: ج٢، ص٥٧٨.
(٢١) حسن المحاضرة: ج١، ص٩٨.
(٢٢) خطط المقريزي: ج١، ص١٥١.
(٢٣) البيان والإعراب: ص٣١.
(٢٤) البيان والإعراب للمقريزي: ص٣١.
(٢٥) البيان والإعراب للمقريزي: ص٣٥.
(٢٦) خطط المقريزي: ج١، ص٢١١.
(٢٧) البيان والإعراب للمقريزي: ص٤٨.
(٢٨) البيان والإعراب للمقريزي: ص٣٨.
(٢٩) البيان والإعراب للمقريزي: ص٣٦.
(٣٠) البيان والإعراب للمقريزي: ص٣١.
(٣١) البيان والإعراب للمقريزي: ص٦٢.
(٣٢) البيان والإعراب للمقريزي: ص٦٢.
(٣٣) خطط المقريزي: ج١، ص٣٦٥.
(٣٤) خطط المقريزي: ج١، ص٤٣.
(٣٥) خطط المقريزي: ج١، ص١٥٥.
(٣٦) النجوم الزاهرة: ج١، ص٧٣.
(٣٧) الخطط: ج٤، ص٢٨.
(٣٨) Lane Poole: History of Egypt in Middle Ages. P. 15.
(٣٩) المغرب لابن سعيد: ص٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤