الفصل الأول

المدارس الدينية

«أصبحت مصر منذ دخول العرب إليها مركزًا علميًّا في المملكة الإسلامية كما هي مركز سياسي.»١ وقد ذكرنا كيف كان العرب الذين وفدوا على مصر في شبه معزل عن المصريين وعلومهم؛ ولذلك لم يهتم عرب مصر في القرن الأول إلا بالدين الإسلامي، فاتخذوا من جامع الفسطاط مكانًا للدروس والمناقشات الدينية، ولسنا في معرض الحديث عن هذه العلوم التي كانت تُلقَى في مسجد الفسطاط، ولكنا مضطرون إلى الإلمام بها؛ لأن دراسة الآداب تضطرنا إلى تتبع تطور الحياة العقلية، ورقي النثر الفني لا يتأتَّى إلا من هذه الدراسات العميقة، والمناقشات العلمية العنيفة، التي تقوم على جهد في الفكر وذخيرة من العلم، كما أن ألوان الحياة العقلية وأنواع العلوم التي كانت تدرس تعيننا على معرفة نوع هذه الكتابات المختلفة وفنون الشعر وتطورها جيلًا بعد جيل.

علم القراءات

ففي مسجد الفسطاط نرى أول ما دُرِّس به كانت علوم الدين من تفسير للقرآن الكريم، ورواية قراءاته، ورواية الحديث الشريف، وكان للصحابة الذين شهدوا فتح مصر أثر بارز في هذه العلوم الدينية؛ إذ هم الذين تولوا أمر التدريس في المسجد الجامع، وأول من قرأ القرآن بمصر هو أبو أمية عبيد بن مخمر المغافري،٢ وكل القراءات بمصر رواية عن نافع، نقلها عنه إلى مصر عثمان بن سعيد المصري المعروف بورش، وكان مصريًّا صميمًا فهو عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان بن داود بن سابق، كان أصل أجداده من الأقباط، ثم اعتنقوا الدين الإسلامي، وُلِد ورش بمصر سنة ١١٠ﻫ واشتغل بقراءة القرآن وتعلم العربية، ورحل إلى المدينة فقرأ بها على نافع سنة ١٥٥ﻫ.٣
ثم عاد إلى مصر، وإليه انتهت رياسة الإقراء فيها، وتُوفِّي سنة ١٩٧ﻫ،٤ وساعده في نقل رواية نافع زميل له معاصر، هو سقلاب بن شنينة أبو سعيد المصري،٥ ولكن المقريزي قال: إن أبا ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة مولى الملامس الحضرمي كان أول الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل الخمسين ومائة من الهجرة، وتُوفِّي سنة ثمانٍ وثمانين ومائة من الهجرة، ولكن المعروف أن أَثَر ورش في القراءة أقوى من أَثَر أي مقرئ آخر، ويحدثنا السيوطي أن عمر بن عبد العزيز أرسل نافعًا إلى مصر ليعلم المصريين؛ فأقام نافع بمصر مدة طويلة،٦ ومهما يكن من شيء فإن مدرسة نافع قد قوي أمرها في مصر، وتعدَّد تلاميذ ورش، فمنهم أبو يعقوب الأزرق بن عمرو بن يسار المصري الذي لزم ورشًا مدة طويلة، وأتقن عنه الأداء، وخلفه في الإقراء، ولكنه انفرد عن ورش بتغليظ اللام وترقيق الراء، وكان له أثر كبير في مصر والمغرب، حتى إن المصريين والبربر ما كانوا يعرفون إذ ذاك غير ورش وأبي يعقوب هذا،٧ وقد تُوفِّي أبو يعقوب حوالي سنة أربعين ومائتين من الهجرة.
وأخذ الأندلسيون قراءة نافع عن عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم المصري المُتوفَّى سنة إحدى وثلاثين ومائة هجرية.٨

من ذلك كله نستطيع أن ندرك أن المصريين كان لهم أثر واضح في القراءات، وعين المصريين أخذ القراء في الأندلس والمغرب، كما كان للمصريين رأي خاص يختلف بعض الشيء عن قراءة نافع، كالذي ذكرناه عن قراءة أبي يعقوب المصري في تغليظ اللامات وترقيق الراءات.

الحديث

وفي الحديث نجد الصحابة الذين وفدوا على مصر يُكْثِرون من روايته، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص أكثر الصحابة رواية للحديث، فقد كان من نجباء الصحابة، ومن المكثرين لروايته،٩ ولأهل مصر عنه أكثر من مائة حديث،١٠ فقد كان عبد الله يعرف الكتابة، وكان يكتب كل ما سمعه من رسول الله فاستطاع بذلك أن يحفظ عددًا من الأحاديث كما سمعها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وكثيرًا ما كان يرجع إلى أوراقه عندما يُسأَل في أمر لا يستطيع أن يجيب عنه. روى ابن عبد الحكم أن عبد الله قال: «كنا عند رسول الله نكتب ما يقول، لا أو نعم.»١١ كما كان لغيره من الصحابة أثر بارز في رواية الحديث وقد أفرد ابن عبد الحكم في آخر كتابه «فتوح مصر» فصلًا خاصًّا بالأحاديث النبوية التي رواها المصريون، وكذلك نجد في كتاب السيوطي «در السحابة في من دخل مصر من الصحابة»، ذكر هؤلاء الصحابة وما رووه من الأحاديث، واعتمد أصحاب الكتب الستة في الأحاديث على رواية كثير من المصريين، فسعيد بن عفير ويحيى بن بكير وعبد الله بن صالح، وغيرهم كانوا من شيوخ البخاري، وكان أحمد بن يونس ويحيى التميمي وغيرهما من شيوخ مسلم وأبي داود، ولا داعي للإفاضة هنا عن كل المحدثين المصريين.

عبد الله بن وهب والمدرسة المالكية

ولكن لا بد أن نقف عند رجل مصري يُعَد من أوائل جامعي الحديث، ذلك هو عبد الله بن وهب المصري صاحب كتاب «الجامع في الحديث»، وقد عُثِر على معظم هذا الكتاب حديثًا في مدينة إدفو، ويُعَد من أقدم المخطوطات العربية في جميع مكاتب ومتاحف العالم، إن لم يكن أقدمها جميعًا، وهذه النسخة مكتوبة على ورق البردي الذي عُرِفَت به مصر منذ القدم، ويرجع تاريخ كتابتها إلى القرن الثالث الهجري. أما مؤلفه، فهو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي بالولاء.١٢ وقد شهد ابن وهب هذا العصر الذي ابْتُدئ فيه تدوين الحديث والفقه والتفسير، فقد كان العلماء قبل ذلك العصر يتكلمون عما حفظوه، وقد يدونون ما سمعوه في صحف مبعثرة متفرقة ولم تكن لهم كتابات مرتبة، ولكن جاء بعض الأئمة والمجتهدين ودوَّنوا ما رأوه وما رووه؛ فكتب مالك كتابه الموطأ بالمدينة، وكتب الأوزاعي مذهبه بالشام، وصنَّف ابن إسحاق في المغازي، وكتب ابن وهب في مصر كتابه «الجامع في الحديث» فهو بذلك من أول الذين جمعوا الحديث، والغريب أن هذا الرجل على ما هو عليه من فضل وعلم ليس معروفًا عند كثير من المؤرخين والكتاب؛ وذلك في أغلب الظن لأن «جامعه» كان مفقودًا، وقد يكون هذا الكتاب هو الأثر الوحيد الذي يدلنا على فضل هذا الرجل، ولعل رأي العلماء والمؤرخين في هذا المُحَدِّث يتغير بعد أن كُشِف عن جزء من كتابه، كما نرجو أن تعمل الهيئات العلمية على طبع هذا الكتاب.
ولد ابن وهب بمصر في ذي القعدة من سنة أربعين أو خمس وعشرين ومائة من الهجرة، وكان كغيره من متعلمي هذا العصر، يرحل في طلب العلم إلى الحجاز والعراق، فوفد على المدينة سنة ثمانٍ وأربعين ومائة ﻫ، وهناك أخذ عن مالك، وما زال مقيمًا معه حينًا ويفترق حينًا آخر، إلى أن تُوفِّي مالك سنة ١٩٧ﻫ، ويقول ابن خلكان: إن مالكًا كان يكتب إلى ابن وهب: «إلى عبد الله بن وهب المفتي، ولم يكن يفعل هذا مع غيره.»١٣ فهذا يدل على أن مالكًا كان يعترف بفضل ابن وهب ومنزلته فلقَّبه بالمفتي، ويروي ابن خلكان أيضًا قصة عنه فيقول: «كتب الخليفة جعفر المنصور إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فخبَّأ نفسه، ولزم بيته، فاطَّلع عليه سعد بن سعد وهو يتوضأ في صحن داره، فقال له: «ألا تخرج إلى الناس تقضي بكتاب الله وسنة رسوله.» فرفع له رأسه، وقال: «إلى هنا انتهى عقلك؟! أما علمت أن العلماء يُحشَرون مع الأنبياء، وأن القضاة يُحشَرون مع السلاطين؟»١٤ فإن صحَّت هذه الرواية فهي تحدثنا عن عقيدة ابن وهب وشدة تقواه، وقيل إن سبب موته أنه قُرِئ عليه كتاب الأهوال من «جامعه»، فأخذه شيء كالغَشْي، فحُمِل إلى داره، فلم يزل كذلك إلى أن قضى نَحْبَه، في شعبان سنة سبع وتسعين ومائة من الهجرة.١٥
أخذ ابن وهب أكثر مادة كتابه عن مصدرين هما: مالك بن أنس، وعبد الله بن لهيعة المصري، وليس لنا أن نتحدث عن مالك؛ لأنه لم يكن مصريًّا في شيء، وإن كان مذهبه قد دخل مصر وكثر تلاميذه الذين كانوا يدرسون مذهبه في المسجد الجامع، وكان ابن وهب من أجلِّ تلاميذه في مصر، وعنه أخذ كثير من المصريين، حتى إن السيوطي حين عقد فصلًا عمن كان بمصر من الفقهاء المالكية، كان يذكر ابن وهب كأستاذ لمعظم هؤلاء الفقهاء، مثل عبد الحكم بن عبد الله الذي كان أكبر أولاد ابن عبد الحكم وأفقههم وأجَلَّ أصحاب ابن وهب،١٦ ولم يكن ابن وهب وحده هو أستاذ المدرسة المالكية في مصر، بل نجد كثيرًا غيره، أمثال: أشهب ابن عبد العزيز العامري فقيه ديار مصر، وكانت إليه الرياسة بها، وبلغ من العلم درجة كبيرة، حتى قال الشافعي: «ما أخرجتْ مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه.»١٧ وكان ثقة في روايته، حتى قيل: إن أشهب ما كان يزيد في سماعه حرفًا واحدًا،١٨ وكان أساس المدرسة المالكية هو رواية الموطأ، وهذا الكتاب كغيره من الكتب الإسلامية التي أُلِّفت في هذا العصر يقوم على الرواية، ولكن ابن وهب لم يشأ أن يقبل الروايات كما هي في الموطأ، بل كان يدقق في اختيار الأحاديث، ولعل هذا هو السبب الذي جعل المحدثين جميعًا يثقون به.
أما المصدر الثاني الذي أخذ عنه ابن وهب أكثر مادة كتابه فهو عبد الله بن لهيعة الحضرمي الغافقي،١٩ ولد سنة ست وتسعين هجرية من أصل عربي، وكان والده لهيعة من مشاهير التابعين الذين رووا الحديث،٢٠ ونشأ ابنه عبد الله محبًّا للحديث، جامعًا له، فكان يرحل في طلبه،٢١ وكان ابن لهيعة يُكنَّى أبا خريطة؛ وذلك أنه كانت له خريطة مُعلَّقة في عنقه، فكان يدور بمصر، فكلما قَدِم قوم كان يدور عليهم، فإذا رأى شيخًا سأله: من لقيت؟ وعمن كتبت؟٢٢ وابن لهيعة هذا تلميذ يزيد بن أبي حبيب، الذي وصفه الليث بن سعد بقوله: «هو سيدنا وعالمنا.»٢٣ وقيل إن يزيد هذا أول من أظهر العلم بمصر والمسائل في الحرام والحلال، وقبل ذلك كانوا يتحدثون في الترغيب والملاحم والفتن؛٢٤ ولهذا كان يزيد بن أبي حبيب أحد الثلاثة الذين جعل عمر بن عبد العزيز إليهم الفُتْيا في مصر، وهم: جعفر بن ربيعة وهو عربي، وعبد الله بن أبي جعفر، ويزيد بن أبي حبيب، وهما من الموالي، ولكن العرب أنفوا أن تكون الفُتْيا إلى الموالي فأجابهم عمر بقوله: «ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدًا وأنتم لا تسمون؟!»٢٥ ولا تقف شهرة يزيد بن أبي حبيب عند الفقه أو الحديث، بل نراه من الذين اعتمد عليهم عبد الرحمن بن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر، والكندي في كتابيه الولاة والقضاة، والطبري في تاريخه وغيرهم؛ وذلك لكثرة علمه بالفتن والحروب، وخاصة ما يتعلق منها بمصر وشئونها وحكَّامها.
كان يزيد أستاذ ابن لهيعة وأستاذ عالمٍ مصري آخر هو الليث بن سعد، ولكن ابن لهيعة اختلف عن أستاذه ابن أبي حبيب، وعن قرينه الليث، فلم يكن حَذِرًا في قبول الروايات الكثيرة التي كانت تصل إليه، ولم يحتط في إسناد الأحاديث والأخبار إلى الثقات؛ لهذا قلَّ من يثق بأحاديثه وأخباره، مع كثرة ما نُقِل عنه، يقول ابن خلكان: إن ابن لهيعة كان مكثرًا من الحديث والأخبار والرواية، وكان يُقرَأ عليه ما ليس من حديثه فيسكت، فقيل له في ذلك، فقال: ما ذنبي، إنما يجيئوني بكتاب يقرءونه عليَّ ويقومون، ولو سألوني لأخبرتهم أنه ليس من حديثي،٢٦ وأظن أن هذا السبب الذي جعل ابن سعد يقول عنه: «إنه كان ضعيفًا.»٢٧ ومن يدري لعل هذا الرجل كان سببًا في اختراع هذه الأخبار الكثيرة التي رواها ابن عبد الحكم والكندي وغيرهما، وأخذها عنهما غيرهما من المؤرخين؛ إذ إن أكثر ما ورد عن مصر مروي عن طريقه.
وروى ابن وهب كثيرًا عن ابن لهيعة، ولست أدري كيف يأخذ ابن وهب عنه، وهو الذي يدقِّق في كل وراية. فقد قيل إن ابن وهب روى عن رسول الله مائة ألف حديث ما جُرِح في حديث واحد.٢٨

أما زملاء ابن وهب في نشر مذهب مالك بمصر فنستطيع أن نقول إن خاصة أصحاب مالك كانوا مصريين كابن القاسم وأشهب وعبد الله بن عبد الحكم.

أما ابن القاسم فهو أبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم العتقي، ينسب إلى جماعة العتقاء الذين وفدوا على مصر منذ الفتح، واختطوا بالفسطاط كما ذكرنا، وُلِد سنة ١٢٨ﻫ وصحب مالكًا وروى عنه مسائله كلها، وكان يقول: رجلان أقتدي بهما في ديني: مالك بن أنس في العلم، وسليمان في الورع.٢٩ وكان يفرِّع على أصول مذهب مالك، وصارت إليه رياسة المالكية بمصر إلى أن تُوفِّي سنة ١٩١ﻫ، وخلفه منافسه وزميله أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي، تلقَّى العلم عن مالك والليث بن سعد والفضيل بن عياض،٣٠ وكان من أكثر الناس علمًا وجلالة، وقد وصفه ابن وهب بقوله: كان أشهب فقيهًا في علوم شتى، ما سُئِل عن شيء إلا أجاب.٣١ وقال الشافعي: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه.٣٢ وكان ينافس ابن القاسم في رياسة المالكية، حتى انتهت إليه بعد وفاة ابن القاسم، وقد انتصر لأشهب بعض المصريين أمثال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الذي كان يفضِّل أشهب على ابن القاسم، وتُوفِّي أشهب سنة ٢٠٤ من الهجرة.٣٣

ويروي السيوطي أن أوَّل من أَدخل مذهب مالك في مصر هو عثمان بن الحكم الجذامي المُتوفَّى سنة ١٦٣ﻫ.

الليث بن سعد

وما دمنا نتحدث عن هؤلاء العلماء والفقهاء الذين كان لهم أثر في مصر، لا بد لنا من وقفة قصيرة عند عالم مصري شُهد له بالعلم والفقه، حتى قيل عنه إنه إمام أهل مصر في الفقه والحديث؛ ذلك هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن، لم يكن عربيًّا أصيلًا في عروبته، ولم يكن مصريًّا عريقًا في مصريته، بل كان فارسيًّا من أصبهان، وكان مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي، وُلِد الليث في قرية من قرى مصر هي قلقشندة، ويقول الليث: إن بعض أهله حدَّثوه أنه ولد سنة اثنتين وتسعين للهجرة، ويوقن هو أن ولادته كانت سنة أربع وتسعين للهجرة، ولكن السمعاني يقول إنه ولد سنة أربع وعشرين ومائة، ويقول السيوطي إنه ولد سنة أربع وتسعين،٣٤ ويقول غيره إنه ولد سنة ثلاث وتسعين،٣٥ نشأ بمصر وتثقَّف على علمائها أمثال: يزيد بن أبي حبيب، وجعفر بن ربيعة، وخير بن نعيم وغيرهم، ثم لم يقنع بهذا كله، فنراه يطوف ببعض البلدان طلبًا للعلم، فذهب إلى مكَّة للحج سنة ثلاث عشرة ومائة، وهناك أخذ عن نافع مولى عبد الله بن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، وقتادة وغيرهم، وزار بيت المقدس سنة تسع وثلاثين ومائة ﻫ، وزار بغداد سنة تسع وخمسين ومائة،٣٦ ففي هذه الزيارات كلها قابل عددًا كبيرًا من التابعين وأخذ عنهم الحديث ورووا عنه، ونرى له شأنًا آخر من الناحية الفقهية؛ فقد كان الليث فقيهًا مُبرَّزًا، حتى إن الشافعي كان يقول: «الليث بن سعد أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.»٣٧ فهذا حكم إمام من أئمة الفقه لليث بن سعد، كذلك نجد ابن خلكان يروي أن ابن وهب كان يقرأ عليه مسائل الليث بن سعد فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكًا يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب للرجل: بل كأن مالكًا يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو، ما رأينا أحدًا قط أفقه من الليث.٣٨ ويروي السيوطي أن ابن بكير قال: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث، كان فقيه النفس، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث٣٩ والشعر، حسن المذاكرة.٤٠ وقال سعيد بن أيوب: لو أن مالكًا والليث اجتمعا كان مالك عند الليث شبه أبكم ولباع الليث مالكًا فيمن يزيد،٤١ وكان مالك يقول: «حدَّثني مَنْ أرضى من أهل العلم.» يريد به الليث.٤٢ ومن تلاميذ الليث عبد الله بن المبارك وأبو النضر هاشم بن القاسم ويونس بن محمد المؤدب وعبد الله بن وهب وأشهب وأكثر هؤلاء من شيوخ ابن حنبل، وسعيد بن عفير وعبد الله بن صالح كاتب الليث وعبد الله بن يونس التنيسي، وقد روى البخاري عن أكثرهم، كما أخذ عنه قتيبة بن سعد.
من هذا كله نستطيع أن نعرف مكانة الليث بن سعد في نفوس المصريين المعاصرين له، حتى قيل إن القاضي والوالي كانا من تحت أمره ومشورته، لا يقطعان أمرًا إلا بعد أن يرى هو فيه رأيه،٤٣ واضْطُر أحد الشعراء من خصوم الليث إلى أن يرسل إلى الخليفة أبي جعفر المنصور يقول:
لعبد الله عبد الله عندي
نصائح حكتها في السر وحدي
أمير المؤمنين تلاف مصرا
فإن أميرها ليث بن سعد
وكان الليث ثريًّا كريمًا، ومع فقهه وتدينه كان يأخذ بنصيبه في الحياة الدنيا التي لم يحرمها الله، وقد كتب مالك إليه يقول: «بلغني أنك تأكل الرقاق، وتلبس الرقاق، وتمشي في الأسواق.» فأجابه الليث بن سعد: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ إلخ الآية٤٤ وقيل إن مالكًا أهدى إليه صينية فيها تمر، فأعادها مملوءة ذهبًا … كما كان يتخذ لأصحابه الفالوذج ويعمل فيها الدنانير، فمن أكل أكثر من صاحبه ناله دنانير أكثر.٤٥

كان الليث على حظٍّ كبير من المال، وقسط وافر من العلم، وكان يساجل مالكًا بالمراسلة، ويأخذ عليه أمورًا لا يراها هو، وقد عثرنا على إحدى هذه الخطابات التي أرسلها الليث إلى مالك مدوَّنة في كتاب «إعلام الموقعين» لابن قيم الجوزية، وفي هذه الرسالة نرى بعض المسائل الفقهية التي لا تعنينا في بحثنا هذا، ولكنا نستطيع أن نتخذ هذه الرسالة مثلًا للكتابة الدينية في هذا العصر.

تدلنا الرسالة على أن لغة التأليف التي كانت عربية ساذجة قد دخلها شيء من الصعوبة والتعقيد، ليس معنى هذا أن اللغة أصابها الفساد، بل خرجت عن سهولتها الأولى، وصارت لغة تأليف علمي بعد أن كانت لغة مخاطبة وحديث، واللغة لا بد لها من تغيير حتى تحتمل هذا التجديد الذي طرأ على العقلية العربية، من ذلك كله نجد شيئًا من الغرابة في هذه الكتب العلمية والدينية، ونجد ضعفًا في تأليفها، ولكن عربيتها صحيحة في الغالب، فلم يبق إلا أن المؤلفين لم يتمكنوا من تأدية المعنى الذي قصدوا إليه في قالب عربي صحيح إلا بمشقة وجهد؛ ولهذا لا تستطيع أن تفهم هذه المتون الدينية التي كتبها المؤلفون في هذا العصر وما بعده إلا بعد شرح وإطالة نظر. لم يشأ الليث في رسالته هذه أن ينمق كتاباته أو يزخرفها بالزينة اللفظية؛ لأن هذه الألوان من الزينة لم تكن قد انتشرت بعدُ؛ لهذا استعمل الأسلوب العربي القديم الذي نراه في كتب الحديث وغيرها والذي نجده في رسائل صدر الإسلام؛ فهو يبدأ بالسلام وحمد الله على طريقة المتقدمين، ثم يدعو الله للمخاطب ولنفسه، وبعد هذا كله يعرض لموضوع الرسالة:

سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعدُ، عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك بكم وأتمَّه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا، فجزاك الله عما قدمت منها خيرًا، فإنها كُتُبٌ انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أَبْلُغ حقيقتها بنظرك فيها، وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلًا، إلا أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق عليَّ الخوف على نفسي؛ لاعتماد مَن قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تَبَعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك، إن شاء الله تعالي، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا يُنسَب إليه العلم أكره لشواذ الفُتْيا، ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين، لا شريك له.

ثم نراه بعد ذلك يحدثه في أمور فقهية خالصة، ويُفتي له فيها، ومن هذا الخطاب يظهر لنا أثر ثقافة الليث، فهي ثقافة عربية خالصة، وثقافة دينية إسلامية تمثلها هذه المسائل الفقهية التي يتحدث عنها، ثم إنا لا نجد أثرًا لهذه الجمل المسجوعة، ولا التكرار والحشو، ولا ذلك الإطناب الذي نراه في الرسائل التي تكلَّف أصحابها الزينة البديعية، فهذا خطاب ديني كتب بأسلوب علمي، هو هذا الأسلوب الذي نراه في كتب الفقه، ثم نراه يختم خطابه بالدعاء لمالك، والسؤال عنه وعن آله وحاله:
وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستَيْقِنه، ولا تترك الكتاب إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يصل لك؛ فإني أُسَر بذلك. كتبتُ إليك ونحن صالحون معافون، والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله.٤٦
هذا هو إمام مصر الذي أسف الشافعي على فوات لَقْيِه،٤٧ ولو كان تلاميذ هذا الإمام عنوا بعلمه وفقهه لكان له شأن آخر غير هذا الشأن، ولما أهمله الفقهاء وعلماء المسلمين لا سيما هؤلاء المصريين الذين كان لهم أن يفخروا بعالمهم، ويحتفظوا بعلمه، ولكن كانت المالكية مستأثرة بنفوس المصريين أو كما قال الليث: «إن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة.» ثم إن الليث لم يصنف من الكتب كغيره من الفقهاء، ولم يدوِّن أصحابه المسائل عنه؛ ولهذا قال الشافعي: ضيَّعه أصحابه.٤٨
ومن أكبر تلاميذ الليث بن سعد إسحاق بن الفرات صاحب مالك وقاضي مصر، والذي قال الشافعي عنه: «ما رأيت بمصر أعلم منه باختلاف الناس.»٤٩ وقال ابن علية: «ما رأيت ببلدكم أحدًا يحسن العلم إلا ابن الفرات.»٥٠ وتُوفِّي سنة ٢٠٤ﻫ، وكذلك إسحاق بن بكر بن مضر المصري وكان يجلس في حلقة الليث ويفتي بقوله وتُوفِّي سنة ٢١٨ﻫ،٥١ وأحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي وكان وكيل الليث ومحدِّثًا عنه.٥٢ ونستطيع أن نقول إن أكثر فقهاء مصر الذين عاصروا الليث أمثال عبد الله بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم وأولاده قد تفقَّهوا بالليث بن سعد، ولكنهم كانوا يُؤْثِرون مذهب مالك على مذهبه.

المدرسة الشافعية

قويت المدرسة المالكية في مصر كما رأينا، ولكن وفد الشافعي على مصر وأقام بها، فاجتمع له المصريون، ومنهم كثير من أنصار مالك مثل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيره، فانقسم المصريون بعد أن كادوا يُجْمعون على آراء مالك، فلما وجد بعض وجوه المصريين اختلاف التعاليم الشافعية عن المالكية رموا الشافعي بأشياء كثيرة، من ذلك ما يرويه ابن خلكان عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه قال: «كنت أتردد إلى الشافعي، فاجتمع قوم من أصحابنا إلى أبي — وكان على مذهب الإمام مالك — فقالوا له: يا أبا محمد، إن محمدًا ينقطع إلى هذا الرجل، ويتردد إليه، فيرى الناس أن هذا رغبة عن مذهب أصحابه، فجعل يلاطفهم، ويقول: هو حدث، ويحب النظر في اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك، ويقول لي في السر: يا بني، الزم هذا الرجل.٥٣
ويحدثنا الكندي أن عيسى بن المنكدر — الذي تولَّى قضاء مصر من سنة ٢١٢ إلى سنة ٢١٤ﻫ — كان يصيح بالشافعي ويقول له: «يا كذا، دخلت هذه البلدة وأمرنا واحد، ورَأْيُنا واحد، ففرَّقت بيننا وألقيت بيننا الشر! فرَّق الله بين روحك وجسمك.»٥٤
ويحدثنا ياقوت أن رجلًا من أتباع مالك يُسمَّى فتيان كان يناظر الشافعي كثيرًا فيظهر الشافعي عليه، فضاق فتيان بذلك، وشتم الشافعي شتمًا قبيحًا، فلم يرد عليه الشافعي، وتعصَّب قوم لفتيان، فقصدوا حلقة الشافعي حتى خلت من أصحابه، وبقي وحده، فهجموا عليه وضربوه ضربًا مبرحًا، فحُمِل إلى منزله ولم يزل فيه عليلًا حتى مات.٥٥
وهكذا انقسم المصريون بين فقه المالكية والشافعية، واشتدَّ النزاع بين المدرستين، حتى أدَّى الأمر إلى وقوع مناقشات عنيفة بل إلى قتال أحيانًا، فقد جاء في كتاب المغرب: «وفي سنة ٣٢٦ﻫ عاد أصحاب مالك والشافعي إلى القتال في المسجد الجامع العتيق، وكان في الجامع للمالكيين خمس عشرة حلقة، وللشافعية مثلها، ولأصحاب أبي حنيفة ثلاث حِلَق، فلما زاد قِتالهم أرسل الإخشيد ونَزَعَ حصرهم ومساندهم وأغلق الجامع، وكان يُفتَح في أوقات الصلوات، ثم سُئِل الإخشيد فيهم فردهم.»٥٦
من ذلك نستطيع أن نقول إن المدرسة الشافعية استطاعت أن تنافس المدرسة المالكية بمصر، وقد هيَّأت الشافعية جوًّا جديدًا في العلم لم تعهده مصر من قبل؛ إذ استطاعت أن تناقش المذاهب الأخرى وأن تناظرها، فابتدأت أذهان المصريين تنتبه لهذه المجادلات العنيفة والمناظرات العلمية، ونحن إذا قرأنا كتاب «الرسالة» الذي بين أيدينا، وهو كما يقول المؤرخون مكتوب في مصر، نجد الشافعي يستعمل فيه أحيانًا طريقة المناظرة، فيتخيل شخصًا يعارضه في تفسير نص أو فتوى، فيجيبه ويفنِّد آراءه حتى يُلزِمه الحجة، ويقنعه برأيه، وطريقة المناظرة هذه لم تُعرَف قبله في مصر، ولم نجد لها أثرًا قبل الشافعي، بل هي من آثار دراسة الشافعي في العراق والحجاز؛ حيث كثر المتكلمون وأصحاب المذاهب، وتشعبت الآراء، وكثُر الجدل بين الطوائف الإسلامية وغيرها من المذاهب الدينية الأخرى، كمناظرة الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني، والشافعي وابن علية، ونجد الخلفاء العباسيين ووزراءهم يحضرون هذه المناظرات ويقيمونها عندهم، أما في مصر فقد رأينا كيف كاد المصريون يعتنقون مذهبًا واحدًا، ولم تكن بمصر مناظرات كثيرة تشغل العلماء ورجال الدولة كما كان في العراق، ونرى بعض أمراء مصر لا يحبون أن تقام مناظرات بين العلماء أمامهم، فقد قيل إنه تنازع أبو بكر بن الحداد الفقيه وبكر بن محمد القاضي المالكي وعبد الله بن الوليد، وجرى بينهم لغط كثير في حضرة الإخشيد، فلما انصرفوا قال: «يَجْرِي هذا في مجلسي؟! كدت والله أن آمر بأخذ عمائمهم.»٥٧ ومهما يكن من شيء فالشافعي هو الذي شجَّع روح المناظرة العلمية في مصر، فكان يناظر بعض المصريين؛ ليستفيد من علمهم، كالذي يرويه السيوطي أن الشافعي كان يقول للربيع بن سليمان: يا ربيع، ادع لي سرجًا — يريد سرج الغول، وهو رجل من أهل مصر، عالم باللغة، ولا يقول أحد شيئًا من الشعر إلا عَرَضَه عليه — فيأتي به، فيذاكره ويناظره، ثم يقوم سرج الغول فيقول الشافعي: يا ربيع، نحتاج أن نستأنف طلب العلم.٥٨ كما كان يناظر مخالفيه من الفقهاء، كالذي يرويه صاحب تاريخ بغداد أن صالح بن أبي صالح كاتب الليث بن سعد قال: كنا مع الشافعي في مجلسه فجعل يتكلم في تثبيت خبر الواحد عن النبي فكتبناه وذهبنا به إلى إبراهيم بن إسماعيل المعروف بابن عُلية — وكان أحد المتكلمين، وممن يقول بخَلْق القرآن، وكانت له مع الشافعي مناظرات ببغداد، وكان مجلسه بمصر عند باب الضوال — فلما قرأنا عليه جعل يحتج لإبطاله، فكتبنا ما قال ابن علية، وذهبنا به إلى الشافعي فنقضه الشافعي، ثم كتبنا ما قال الشافعي، وذهبنا به إلى ابن علية، فجعل يحتج بإبطال ما قال الشافعي فكتبناه، ثم جئنا به إلى الشافعي، فقال: إن ابن علية ضال قد جلس عند باب الضوال يُضِل الناس.٥٩ وكان من أثر مناظرات الشافعي مع ابن علية أنْ وضع ابن علية وعيسى بن أبان كتابًا عن الشافعي والرد عليه، ورد عليهما داود بن علي الأصبهاني.٦٠ وهكذا أخذ المصريون يؤلفون كتبًا في المذاهب والدفاع عنها، وأخذوا عن الشافعي طريقته في الكتابة العلمية؛ إذ كان يأتي بالآية أو الحديث ويشرحه، ثم يستنبط منه ما ينتهي إليه رأيه، وكان يختار من الألفاظ الجياد الدقيقة ما تلائم المعاني، وجاء تلاميذ الشافعي فحوَّلوا العبارة إلى نصوص علمية، محذوفة السند، كالتي نراها في مختصر المزني مثلًا، فقد أخذ كلام الشافعي وفهمه وكتبه على طريقة أستاذه دون أن يأتي بالأسانيد، فوُجِدَت بذلك روح الكتابة عند المؤلفين المصريين.

وكان كتاب «الأم» مثالًا يحتذيه رجال المدرسة الشافعية في كتاباتهم، وهذا الكتاب ليس كتابًا واحدًا، بل هو مقسَّم إلى عدة كتب، وفي كل كتاب موضوع خاص، وكما قلت كان يأتي بالآية أو الحديث فيفسره، ويعلق عليه بجمل قصيرة متينة التركيب والأسلوب، وفي مقدمة الرسالة نجد الشافعي يبدأ قوله بالحمد ويكرِّر في ذلك، وهذه الطريقة ليست مصرية، بل هي طريقة عبد الحميد الكاتب، واستعملها كتَّاب العراق في رسائلهم المطوَّلة، ثم نراه بعد ذلك يستطرد في الموضوع الواحد، فبينما هو يحمد الله يذكر آية أو نصًّا ويفسرها، ثم يعود إلى الحمد مرة أخرى، ويكرره بالعطف، وقد أكثر من الاستطراد وأطال، ثم يصلي ويسلم على النبي في الديباجة، وهذه الصلاة وذلك التسليم لم يوجدا في الرسائل والكتب، حتى جاء الرشيد فاستعمل ذلك في رسائله، حتى عُدَّت من مناقب الرشيد وقد اتبعها الكتاب بعده.

والشافعي كان فصيحًا في تعبيراته وألفاظه، فكان لذلك أثره في تلاميذه الذين أخذوا ما كتب ورووا عنه ما قال حتى اختلف الكتَّاب أخيرًا في كتاب «الأم» أهو للشافعي أو للبويطي تلميذ الشافعي.٦١

والذي أراه أن تلاميذ الشافعي رووا ما في الأم عنه، وجمع البويطي ما رواه عن الشافعي، وسماه الأم، فالشافعي نفسه — في أغلب الظن — لم يسمِّ كتابه الأم، بل كان يُملِي على تلاميذه دروسًا مُقسَّمة إلى الكتب أو النصوص التي يتكوَّن منها الأم فسماها البويطي الأم. كذلك كان الأمر في كتاب الأصول لأبي حنيفة، فإن أبا الحسن الشيباني هو الذي جمع ما في الأصول وسمَّاه بهذا الاسم، ولكنا نلاحظ أن الشافعي كتب بعض فصول الأم بنفسه، وروى الربيع بعضها عنه، وإذن فالشافعي هو صاحب الكتاب وتلاميذه هم الذين جمعوه ورتَّبوه حتى أخذ مظهره الحالي.

وكما أثَّر الشافعي في المصريين تأثيرًا محسوسًا، كذلك نراه يتأثر بالحياة المصرية نفسها، فالشافعي كان من مدرسة الحديث؛ أي من تلاميذ مالك، وقد هاجم مدرسة الرأي — أي مذهب أبي حنيفة — أثناء زيارته للعراق، ولكنا نجده في مصر يهاجم مدرسة الحديث ممثلة في مذهب مالك، ويكوِّن مذهبه الجديد في مصر. كذلك نراه قد كتب الرسالة مرتين؛ كتبها أولًا في العراق، ثم أعاد كتابتها في مصر بعد أن غيَّر فيها بعض التغييرات التي تلائم الحياة المصرية، وكذلك نقول عن مذهبه فقد كتبه مرتين، كتب في العراق مذهبه القديم، وكتب في مصر مذهبه الجديد، ويستطيع رجال الفقه أن يفرِّقوا بين المذهبين لو قُدِّر للمذهب القديم البقاء.

أما تلاميذ الشافعي الذين كان لهم الفضل في حفظ مذهبه ونشره فقد عدَّهم الحافظ السلفي في قصيدة نظمها هي:٦٢
فعليك، يا من رام دين محمد
بالشافعي وما تلاه وقالا
أعني محمدًا بن إدريس الذي
فاق البرية رتبة وكمالا
وأجب كذا عن صحبه وأحبهم
وأجلهم لله جل جلالا
فأجلُّهم شيخ الأئمة أحمد٦٣
فيما رواه من الحديث وقالا
والأعيني٦٤ ويونس الصدفي٦٥ والـ
ـمزني٦٦ آخر من إليه مالا
وكذاك حرملة٦٧ بن يحيى والبويـ
ـطي٦٨ الذي قد أعجز الإشكالا
واذكر أبا ثور٦٩ فقيه عراقه
وفريدها والحارث البقالا
ثم الربيعان٧٠ اللذان تفنَّنا
في فقهه وتحمَّلا الأثقالا
والزعفراني٧١ الصدوق ورهطه
في كل قطر وأعرف الأبطالا
وأول قاضٍ شافعي ولي مصر هو أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم الثقفي، ولي القضاء سنة ٢٨٤ﻫ، ولما عُزِل رجع إلى دمشق، وكان الغالب على أهلها قول الأوزاعي، فأبو زرعة هو الذي أدخل مذهب الشافعي دمشق، وتبعه من بعده كثير من القضاة،٧٢ وقيل إن أبا زرعة شرط لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار يهبها له.٧٣
وهناك قاضٍ آخر كان له أثره في الأدب والفقه هو أبو عبيد على بن الحسين بن حرب المعروف بحربويه، وهو من أهل بغداد ودخل مصر في شعبان سنة ثلاث وتسعين ومائتين من الهجرة، وظل قاضيًا على مصر إلى أن عُزِل سنة إحدى عشرة وثلاثمائة فخرج من مصر إلى بغداد؛ حيث تُوفِّي سنة تسع عشرة وثلاثمائة من الهجرة، حدَّث عن النسائي، وتفقه على أبي ثور صاحب الشافعي، وحدَّث في زمن ولايته، فلما صرف أملى على المصريين وكتبوا عنه المجالس، وروى عنه أبو جعفر الطحاوي وأبو بشر الدولابي، وكان له مركز قيم في مصر حتى إنهم أخذوا أقواله أمثالًا كقوله: «إن البغاث بأرضكم يستنسر.» قال الطحاوي: كنت أذكر عنده ابن أبي عمران الحنفي فقال لي: «إلى كم تقول ابن أبي عمران؟ قد رأيت هذا الرجل بالعراق، إن البغاث بأرضكم يستنسر.» قال: فصارت هذه الكلمة بمصر مثلًا.٧٤
وقال الطحاوي أيضًا: كان أبو عبيد يذاكرني بالمسائل، فأجبته يومًا في مسألة، فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي، أوَ كل ما قاله أبو حنيفة أقول؟ قال: ما ظننتك إلا مقلِّدًا، فقلت له: وهل يقلد إلا عصبي، فقال لي: أو غبي، فطارت هذه الكلمة بمصر حتى صارت مثلًا.٧٥ وكانت توقيعات أبي عبيد تخرج مُعَنْوَنة مختومة وكتبت بمصر ألفاظه، وجمعت توقيعاته وكانت محشوة فقهًا وبلاغة،٧٦ ولكن فقدت كل هذه التوقيعات ولم يبق منها شيء.

المدرسة الحنفية

وضع الإمام أبو حنيفة النعمان مذهبه متأثِّرًا بما كان في العراق من مذاهب المتكلمين وأهل الرأي، وقد رأينا المصريين لا يقبلون من المذاهب والآراء إلا ما كان صادرًا من المدينة أو مكة، فلا نجد مصريين اهتموا كثيرًا بمذهب أبي حنيفة في أول الأمر، إنما نَقَلَ المذهب إلى مصر القضاة الذين كانوا يُعَيَّنون من العراق، ولعل أول قاضٍ تولى مصر ممن دان بمذهب أبي حنيفة هو إسماعيل بن اليسع الكندي٧٧ الذي ولي سنة ١٦٤ﻫ، وقد كرهه المصريون؛ لأنه كان يذهب مذهب أبي حنيفة، ولم يكن أهل مصر يعرفون هذا المذهب٧٨ حتى إن الليث بن سعد كتب إلى الخليفة يطلب عزل هذا القاضي، ويقول: «إنك وليتنا رجلًا يكيد سنة رسول الله بين أظهرنا، مع إنا ما علمناه في الدينار والدرهم إلا خيرًا.» فاضْطُر الخليفة إلى عزل القاضي.٧٩

وأشهر قضاة مصر الحنفيين في ذلك الوقت، هو القاضي بكار بن قتيبة بن عبيد الله بن أبي برذعة من نسل ابن أبي بكرة الثقفي مولى رسول الله وصاحبه، ولد بكار بمدينة البصرة وأخذ الفقه عن هلال بن يحيى، وعيسى بن أبان وغيرهما من مشايخ البصرة، وروى عنه أبو داود السجستاني، وابن خزيمة، وأبو عوانة وأكثر عنه الإمام الطحاوي فقيه الحنفية بمصر وغيرهم.

وَلِيَ قضاء مصر من قبل المتوكل، فدخلها سنة ست وأربعين ومائتين من الهجرة، وكان يحدِّث في المسجد الجامع، وكثيرًا ما كان أحمد بن طولون أمير مصر يجيء إلى بكار وهو على الحديث فما يشعر به بكار إلا وهو جالس إلى جنبه.٨٠ ويذكر ابن حجر عن ابن زولاق أنه كان لبكار اتساع في العلم والمناظرة، ولما رأى مختصر المزني، وما فيه من الرد على أبي حنيفة شرع هو في الرد على الشافعي، فقال لشاهدين من شهوده: اذهبا إلى المزني فقولا له سمعت الشافعي يقول ما في هذا الكتاب؟ فمضيا وسمعا المختصر كله من المزني، وسألاه عما إذا كان هذا كلام الشافعي، فرد بالإيجاب، فعادا إلى بكار فأخبراه بذلك، فقال: الآن استقام لنا أن نقول: قال الشافعي، ثم صنف الرد المذكور.٨١
وكان بكار يشتهي أن يسمع كلام المزني، فاجتمعا يومًا في جنازة، فأشار بكار إلى أبي جعفر التل — وكان حنفيًّا أيضًا — أن يسأل المزني عن مسألة، فقال التل: ما رأيت أعجب من أصحابنا الشافعيين، لهم أحاديث في تحريم قليل النبيذ، ولنا أحاديث في تحليله، فمن جعلهم أولى بأحاديثهم منا بأحاديثنا؟ فقال المزني: ليس يخلو أن يكون أحاديثكم قبل أحاديثنا أو بعدها، فإن كانت قبلها فهكذا نقول إنها كانت محللة ثم حرمت، فما نحتاج إلى أحاديثكم، وإن كانت أحاديثكم بعد أحاديثنا فهذا لا يقول أحد إنها كانت حلالًا ثم صارت محرمة ثم حللت! فأُعْجِب بكار بقول المزني، وقال: سبحان الله! إن يكون كلام أدق من الشعر فهو هذا.٨٢ وكان بكار يخالف أصحابه في تحليل قليل النبيذ ويذهب إلى تحريمه.

ظل بكار قاضيًا على مصر، ويحدث المصريين بمذهب أبي حنيفة حتى دعاه ابن طولون إلى خلع الموفق ولعنه، فرفض بكار فحبسه ابن طولون، ولما طال حبسه طلب أصحاب الحديث إلى الأمير أن يأذن لهم في السماع منه، فأذن لهم، فكان بكار يحدثهم من طاق في السجن إلى أن تُوفِّي سنة ٢٧٠ﻫ.

أما الطحاوي فهو يُعَد إمام المصريين، في مذهب الحنفية؛ لكثرة تلاميذه وخصب نتاجه، وُلِد سنة ثمانٍ وثلاثين ومائتين من الهجرة، وصحب المزني الشافعي وتفقه به، ثم ترك مذهب الشافعي وصار حنفيًّا، وكان كاتبًا للقاضي بكار، وسمع الحديث منه ومن خَلْق من المصريين، ومن الغرباء القادمين، وتُوفِّي سنة ٣٢١ﻫ، بعد أن ترك عدة كتب في الفقه، أُولِع الناس بها لا سيما كتابه «المختصر في الفقه» الذي وضع له الفقهاء شروحًا عدة.

واشتد تنافس المذاهب في مصر فإذا قُلِّد قاضٍ شافعي كادَ لأصحاب المذاهب الأخرى، كالقاضي إسماعيل بن عبد الواحد المقدسي الذي ولي سنة ٣٢١، فقد تحدث مع الأمير تكين فبعث صاحب الشرطة فأقام من كان بالجامع الكبير من المالكيين والحنفيين.٨٣ ويروي ابن حجر عن ابن زولاق أن الإخشيدية كلها كانت تكره ابن الحداد الفقيه؛ لكراهتهم في الشافعية.٨٤ وأمر القاضي الحارث بن مسكين بإخراج أصحاب أبي حنيفة من المسجد وأصحاب الشافعي وأمر بنزع حصرهم.٨٥ وروى الكندي أن القاضي ابن أبي الليث انتهز محنة خَلْق القرآن فأوقع بأصحاب مالك والشافعي ومنع فقهاءهم من الجلوس في المسجد، ومدحه الشاعر الحسين الجمل الأكبر بذلك.٨٦

التصوف في مصر

مضي القرن الأول من الهجرة ولم نعرف أنه كان بمصر نزعة صوفية لها شعائرها وتقاليدها الخاصة المعروفة حتى كان أواخر القرن الثاني ظهر ذو النون المصري أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم، كان من أخميم من أسرة نوبية، ولا ندري عمن أخذ هذا اللون من التعبُّد، فقد قيل إن أستاذه شقران العابد، وقيل عن فاطمة النيسابورية، وقيل إنه كان يتصل بالرهبان في الأديرة فأخذ عنهم الزهد والانقطاع عن ملاذِّ الحياة والإقبال على العبادة والتفاني في الحب الإلهي، وإنه أخذ عن هؤلاء الرهبان شيئًا من العلوم الفلسفية التي خلفتها الغنوسطية والأفلاطونية الحديثة، فأدخل ذلك كله في تعبيراته عن حبه الإلهي والمعرفة، وقيل إن بعض الرهبان الذين اتصل بهم كانوا يقرءون النقوش المصرية القديمة، وأطلعوا ذا النون عليها، وعلَّموه أسرارها فكان يذهب إلى البرابي ويحاول فك طلامسها ورموزها، وكان ذا النون صاحب خيال رائع فليس ببعيد أن يستفيد ذو النون من هذه الرموز بما يغذِّي خياله ويوحي إليه بما نراه في أقواله وأفعاله وأشعاره من تفانٍ في الذات الإلهية، كل هذه خلافات حول المنبع الذي استقى منه ذو النون، ولا نستطيع أن نرجِّح إحداها؛ لغموض شخصية ذي النون نفسه، ولأن ما بقي لنا من آثاره لا تكفي لأن نحكم عليه حكمًا صحيحًا أو قريبًا من الصحيح، ومهما يكن من شيء فإن ذا النون روى الموطأ عن مالك ولكنه قام يدعو إلى طريقته في أخميم وتبعه خلق كثير، ولكنه رُمي بالزندقة؛ لأنه ابتدع في مصر الإسلامية ما لم يكن معروفًا من قبلُ، ورفع علماء أخميم أمره إلى والي مصر الذي حاكمه أمام عبد الله بن عبد الحكم زعيم المدرسة المالكية بمصر، ومن الطبيعي أن تختلف نزعة ذي النون عن نزعة الفقيه عبد الله بن عبد الحكم، وتاريخ الإسلام مملوء بالنزاع بين الصوفية والفقهاء، ذلك أن الفقهاء يميلون دائمًا إلى ظاهر القرآن والسنن النبوية والعناية باستخراج الأحكام منهما حسب ما تؤديه اللغة والاستدلال المنطقي، ثم يراعون دائمًا أن يقسموا الأعمال إلى أركان وفروض وأعمال، أما الصوفية فلا يفرقون بين واجب ومسنون، وإن الأعمال الظاهرة ليست بذات قيمة بجانب الباطن، ولكل فرض من فرائض الدين أسرار، ولكل شعار من شعائر الدين رموز، ويفضلون الطهارة القلبية قبل كل شيء، ولِتضارب النزعتين سمَّى الفقهاء أنفسهم رجال الشريعة، وسمى الصوفية أنفسهم رجال الحقيقة، ولما كانت الصوفية جديدة في الحياة الإسلامية المصرية في القرن الثاني والثالث من الهجرة وكانت الصوفية مضطهدة في كل بقاع العالم الإسلامي، ويكفي أن نذكر قصة الحلاج والمحاسبي مع أحمد بن حنبل وغيرها، وكان ذو النون أول صوفي اضْطُهد في مصر بسبب نزعته، فترك مصر ورحل إلى بلاد عديدة كبلاد المغرب والحجاز واليمن، وبعد أن هدأت الحالة عاد إلى مصر بعد أن تُوفِّي عبد الله بن عبد الحكم، ولكن ثار الفقهاء ضده من جديد وكان قاضي مصر إذ ذاك محمد بن أبي الليث الذي امتحن المصريين بخلق القرآن، فأراد ذو النون أن يهرب من مصر مرة أخرى ولكنه لم يفعل، فقُبِض عليه وأرسل إلى بغداد؛ فقِيدَ وسيق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، وأنشد:

لك من قلبي المكان المصون
كل يوم عليَّ فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلًا
فيك والصبر عنك ما لا يكون

وكان بعض رجال حاشية المتوكل اعتنق الصوفية، فسعى في إطلاق سراحه، فأحضره المتوكل وتأثر بوعظه ورأى أنه ليس بذي النون مظهر من مظاهر الخوف على الدولة أو الدين، فأطلق سراحه وبذلك نصر المتوكل الصوفية على الفقهاء متأثرًا بشخصية ذي النون، وتُوفِّي ذو النون بمصر سنة ٢٤٨.

وكان ذو النون من أوائل الصوفية الذين استعملوا كلمة الحب وتوسَّع في معنى الحب الإلهي، وفسره تفسيرًا لا يزال أساسًا من أسس الصوفية إلى اليوم. كما قيل إنه أول من تكلم في الأحوال والمقامات، وينسبون إليه أنه أول من وسَّع الكلام عن الولاية، وبحث من أيهم أفضل النبي أم الولي، وكذلك ينسبون إليه كلمة الإبدال وأنه أول من فصَّل مسألة المعرفة إلى غير ذلك من الآراء الصوفية التي نراها اليوم.

ولأول مرة في تاريخ مصر الإسلامية نجد شيئًا اسمه الصوفية، لهم كيان وتدخل في أمر البلاد، ويقول الكندي٨٧ وابن حجر: كانت بمصر جماعة من الصوفية يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وكان عيسى بن المنكدر منهم، فلما ولي القضاء كانت تأتيه وهو في مجلس الحكم، ثم أتت تلك الطائفة فقالوا: إن أمير المؤمنين المأمون قد ولَّى أبا إسحاق بن الرشيد مصر، وإنا نخافه ونخشى أن يشدَّ على أهل العدوان فاكتب لنا كتابًا إلى المأمون بأنك لا ترضى بولايته، ففعل ذلك ابن المنكدر وبلغ الكتاب المأمون وأطلع عليه أبا إسحاق المعتصم فعزل ابن المنكدر عن قضاء مصر.

فهذا يدلنا على أن الصوفية أصبح لهم مكانة وعصبة في مصر؛ من ذلك كله نستطيع أن نقول إن الحركة الدينية بمصر كانت حركة كبيرة قوية، وأخرجت مصر عددًا كبيرًا من القراء والمحدثين والفقهاء، بجانب هذه الحركة الأدبية التي سنتحدث عنها في الفصل القادم.

هوامش

(١) فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين: ص٢٢٨ (الطبعة الأولى).
(٢) خطط المقريزي: ج٤، ص١٤٣.
(٣) معجم الأدباء: ج٥، ص٣٣.
(٤) حسن المحاضرة: ج١، ص٢٢٧.
(٥) شرحه.
(٦) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٢.
(٧) حسن المحاضرة: ج١، ص٢٧٨.
(٨) شرحه.
(٩) حسن المحاضرة: ج١، ص١٢٤.
(١٠) فتوح مصر لابن عبد الحكم.
(١١) النجوم الزاهرة: ج١، ص١٧١.
(١٢) ابن خلكان: ج١، ص٢٤٩.
(١٣) ابن خلكان: ج١، ص٢٤٩.
(١٤) شرحه.
(١٥) ابن خلكان: ج١، ص٢٤٩.
(١٦) حسن المحاضرة: ج١، ص٢٥٤.
(١٧) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٦.
(١٨) النجوم الزاهرة: ج٢، ص١٧٥.
(١٩) انظر النووي: ج١، ص٣٦٤، والسمعاني: ص٤٠٥.
(٢٠) حسن المحاضرة: ج١، ص١٤٥.
(٢١) تاريخ الإسلام للذهبي.
(٢٢) النجوم الزاهرة: ج٢، ص١٧٥.
(٢٣) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٣.
(٢٤) النجوم الزاهرة: ج١، ص٣٠٨.
(٢٥) خطط المقريزي: ج٤، ص١٤٣.
(٢٦) ابن خلكان: ج١، ص٢٤٩.
(٢٧) الطبقات الكبرى لابن سعد: ص٢٠٤. طبعة ليدن سنة ١٣٣٨ﻫ.
(٢٨) الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة لابن الزيات: ص٤٥ (مطبعة بولاق سنة ١٩٠٧).
(٢٩) الكواكب السيارة: ص٣٩.
(٣٠) الديباج لابن فرحون: ص٩٨ (طبعة السعادة سنة ١٢٩٣).
(٣١) الكواكب السيارة: ص٣٧.
(٣٢) ابن خلكان: ج١، ص٧٨.
(٣٣) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٦.
(٣٤) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٤.
(٣٥) ابن خلكان: ج١، ص١٣٨.
(٣٦) يراجع ما كتبه الأستاذ Guest في مقدمة كتاب الولاة للكندي عن الليث ابن سعد.
(٣٧) ابن خلكان: ج١، ص٤١٨.
(٣٨) شرحه.
(٣٩) في الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة: «يحسن القرآن والفقه والنحو والطب والشعر.»
(٤٠) حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٤.
(٤١) كتاب الرحمة الغيثية للعسقلاني: ص٦ (طبع بولاق سنة ١٣٠١ﻫ).
(٤٢) شرحه: ص٨.
(٤٣) النجوم الزاهرة: ج٢، ص٨٢.
(٤٤) شرحه.
(٤٥) ابن خلكان: ج١، ص٤٣٨.
(٤٦) نص هذا الخطاب في كتاب إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: ج٣، ص٨٢ (طبع فرج الله زكي سنة ١٣٢٥ﻫ).
(٤٧) ابن خلكان: ج١، ص٤٣٨.
(٤٨) الرحمة الغيثية للعسقلاني: ص٩.
(٤٩) حسن المحاضرة: ص١٦٦.
(٥٠) الكندي: ص٣٩٣.
(٥١) حسن المحاضرة: ص١٦٧.
(٥٢) الكواكب السيارة: ص٨٣.
(٥٣) ابن خلكان: ج١، ص٤٥٦.
(٥٤) الكندي: ص٤٣٨.
(٥٥) معجم الأدباء: ج٦، ص٣٩٥.
(٥٦) المغرب في أخبار المغرب: ج٤، ص٢٤.
(٥٧) المغرب: ص٣١.
(٥٨) بغية الوعاة: ص٢٥٢.
(٥٩) تاريخ بغداد: ج٦، ص٢٠.
(٦٠) شرحه: ج٦، ص٢٢.
(٦١) راجع بحث الدكتور زكي مبارك عن كتاب الأم (مطبعة حجازي بمصر سنة ١٩٣٤).
(٦٢) الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة لابن الزيات: ص١٥١.
(٦٣) يقصد الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب المعروف.
(٦٤) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الكريم بن أعين بن ليث، وُلِد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتُوفِّي سنة ٢٦٨، سمع من ابن وهب وأشهب، ثم صحب الشافعي وتفقه به وحُمِل في محنة خلق القرآن إلى القاضي بن أبي دؤاد ببغداد ثم رُدَّ إلى مصر وانتهت إليه رياسة المالكية بعد وفاة أبيه والشافعي، وله كتاب السنن على مذهب الشافعي.
(٦٥) يونس بن عبد الأعلى بن موسى الصدفي المصري، روى عن ابن عيينة، وتفقه على الشافعي، وقرأ على ورش وتصدَّر للإقراء والفقه، ولد سنة ١٧٠، ومات سنة ٢٦٤، وروى عنه مسلم والنسائي وابن ماجة، وكان الشافعي يقول عنه: ما رأيت بمصر أعقل من يونس بن عبد الأعلى (ابن خلكان: ج٢، ص٤١٨).
(٦٦) أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني، يعتبر إمام الشافعيين وأعرفهم بطرق الشافعي وفتاويه، صنَّف كتبًا كثيرة في مذهب الشافعي منها الجامع الكبير والصغير والمختصر ومختصر المختصر والمنثور والمسائل المعتبرة وغيرها، وكتابه المختصر أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي وعلى مثاله كتب المؤلفون أو فسروا ما فيه (ابن خلكان: ج١، ص٧١، والفهرست: ص٢٩٨-٢٩٩) ويقول السيوطي: إن الشافعي قال في المزني إنه لو ناظر الشيطان لغلبه (حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٨). ولد سنة ١٧٥، وتُوفِّي سنة ٢٦٤.
(٦٧) حرملة بن يحيى بن عبد الله التجيبي أبو حفص المصري، كان له مذهب لنفسه وصنَّف المبسوط والمختصر، وروى عن مسلم وابن ماجة، ولد سنة ١٦٠، ومات سنة ٢٤٣ (حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٨).
(٦٨) أبو يعقوب يوسف بن يحيى المصري البويطي، سمع من عبد الله بن وهب والشافعي وسمع منه كثيرون منهم أبو إسماعيل الترمذي وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وفي تاريخ بغداد أن الشافعي لما مرض مرضه الذي مات فيه جاء محمد بن عبد الحكم ينازع البويطي في مجلس الشافعي فاحتكما إلى أبي بكر الحميدي، فقال لهما: إنه سمع الشافعي يقول: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى (يعني البويطي) وليس أحد من أصحابي أعلم منه، وجلس البويطي في مجلس الشافعي (ابن خلكان: ج٢، ص٣٤٦). وكان ابن أبي الليث الحنفي قاضي مصر يحسده، فسعى به إلى الواثق بالله أيام محنة خلق القرآن فأُمِر بحمله إلى بغداد مغلولًا مقيدًا وأُرِيد منه القول بذلك فامتنع؛ فحُبِس في بغداد في القيد والسجن يوم الجمعة من رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين (حسن المحاضرة: ج١، ص١٦٧). وللبويطي كتاب المختصر الكبير والصغير وكتاب الفرائض (ابن النديم: ص٢٩٨).
(٦٩) أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي صاحب الإمام الشافعي وناقل الأقوال القديمة عنه، له الكتب المصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه، وكان أول اشتغاله بمذهب أهل الرأي حتى قدم الشافعي العراق فاختلف إليه واتَّبعه ولكنه خالفه في أشياء وأحدث لنفسه مذهبًا اشتقه من مذاهب الشافعي، وله مبسوط على ترتيب كتب الشافعي وأكثر أهل أذربيجان وأرمينية يتفقون على مذهبه (الفهرست: ص٢١٧) وتُوفِّي سنة ٢٤٠ﻫ.
(٧٠) هما الربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان بن داود الأزدي الجيزي، أما الربيع المرادي فهو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي المؤذن المصري، وهو الذي روى أكثر كتب الشافعي، وقال الشافعي في حقه: «الربيع راويتي.» (ابن خلكان: ج١، ص١٨٤). وكان الربيع المرادي أقدم أصحاب الشافعي بمصر صحبة وأشهرهم محبة له (الكواكب السيارة: ص١٢٢) روى عنه أصحاب السنن الأربعة والطحاوي وأبو زرعة وغيرهم، وكان يملي الحديث بجامع ابن طولون، وهو أول من أملى به، وتُوفِّي سنة ٢٧٠ (حسن المحاضرة: ج١، ص١٩٦).
أما الربيع الجيزي فهو أبو محمد الربيع بن سليمان بن داود بن الأعرج الأزدي الجيزي صاحب الإمام الشافعي، ولكنه كان قليل الرواية عنه وأكثر روايته عن عبد الله بن عبد الحكم، وروى عنه أبو داود والنسائي وغيرهما، وتُوفِّي سنة ٢٥٦ بالجيزة، وهو الذي ينسب إليه جمع الأم وترتيبه بعد البويطي، ونلاحظ أن اسم الربيع تكرر كثيرًا في كتاب الأم فيلتبس الأمر على القارئ مَن مِن الربيعين هو المقصود، وقد وُفِّق الأستاذ زكي مبارك إلى التفرقة بين الربيع المرادي والربيع الجيزي في بحثه عن كتاب الأم ص٧٣.
(٧١) أبو عبد الله الحسن بن محمد الصباح، روى المبسوط عن الشافعي على ترتيب ما رواه الربيع وخالف في شيء يسير؛ ولذا لا يعتمد عليه الفقهاء بل يعتمدون على ما رواه الربيع، وقد ضاع أكثر كتب الزعفراني وتُوفِّي سنة ٢٦٠ﻫ (الفهرست: ص٢٩٧).
(٧٢) الكندي: القضاة والولاة ص٥٢٣، ورفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(٧٣) تاريخ الإسلام للذهبي، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(٧٤) الكندي: ص٥٢٩.
(٧٥) الكندي: ص٥٢٨.
(٧٦) رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر.
(٧٧) ذكر في حسن المحاضرة: ج١، ص٢٦٣ إسماعيل بن سميع.
(٧٨) الكندي: ص٥٧١.
(٧٩) تاريخ الإسلام للذهبي.
(٨٠) رفع الإصر.
(٨١) شرحه.
(٨٢) الكندي: ص٥١١.
(٨٣) الكندي: ص٥٤٤.
(٨٤) رفع الإصر، والكندي: ص٥٥٥.
(٨٥) الكندي: ص٤٦٩.
(٨٦) الكندي: ص٤٥٠.
(٨٧) الولاة والقضاة: ص٤٤٠، وابن حجر في كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤