اللغة والتاريخ
(١) النحاة واللغويون
رأينا كيف قامت بمصر مدارس دينية خالصة، استمرت منذ الفتح في نشاط ودأب، ولم نر في القرن الأول أثرًا لهذه الدراسات الأدبية واللغوية التي كَلِف بها العراقيون وغير العراقيين من الشعوب الإسلامية، ولكنا نجد تطورًا في القرن الثاني الهجري؛ إذ قامت بمصر دراسات أدبية ونحوية ولغوية، واطرد نمو هذه الدراسات حتى غمرت مصر وفاضت على غيرها من بلدان المغرب، ونبغ عدد كبير من علماء المصريين، وكثرت المؤلفات العلمية التي أفادت المصريين كما استفاد منها غير المصريين.
وكتاب المقصور والممدود هو الكتاب الذي نقده المتنبي في مصر، كما عرض لنقده المهلبي اللغوي النحوي على نحو ما سنذكر في حديثنا عن المتنبي، وقد طُبع هذا الكتاب لأول مرة في مصر سنة ١٩٠٨، وقد بدأه ابن ولَّاد بحرف الألف مخالفًا في ذلك مذهب الخليل بن أحمد، وقد قال ابن ولَّاد في مقدمة هذا الكتاب من ذلك: «ولعل بعض من يقرأ كتابنا هذا يُنْكِر ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم؛ لأنها حرف معتل، ولأن الخليل ترك الابتداء بها في كتابه كتاب العين، وليس غرضنا في هذا الكتاب فيما التمسناه بهذا النوع من التأليف كفرض الخليل في كتاب العين؛ لأن كتاب العين لا يُمكِّن طالب الحرف منه أن يعلم موضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكون قد نظر في التصريف وعرف الزائد والأصلي من المعتل والصحيح، والثلاثي والرباعي والخماسي ومراتب الحروف من الحلق واللسان والشفة وتصريف الكلمة على ما يمكن من وجوه تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزوائد بعد تصريفها بلا زيادة، ويحتاج مع هذا إلى أن يعلم الطريق التي وصل الخليل منها إلى حظر كلام العرب، فإذا علم هذه الأشياء عرف ما يطلب من كتاب العين، والذي نذهب إليه في هذا الكتاب غير هذا المذهب؛ لأنا نقصد إلى أن نقرِّب على طالب الحرف فيه ما يطلبه، وأن يستوي في العلم بموضعه منه العالم والمتعلم، فلم نراع أن يكون في أول الكلمة حرف أصلي دون أن يكون زائدًا أو زائد دون أن يكون أصليًّا أو صحيح دون أن يكون معتلًّا أو معتل دون أن يكون صحيحًا. فنكلِّف الطالبَ للحرف أن يعرف أولًا جميع ما ذكرناه؛ فلذلك بدأنا بالباب الذي يكون أول ما فيه من حروف المعجم الألف.»
ثم أخذ ابن ولاد يفصل بين المقصور والممدود، ويعدد أنواعهما على مذهب الكوفيين والبصريين، هذا كله في مقدمة كتابه ثم يتبع المقدمة بالمقصور والممدود من الألفاظ العربية مُرتَّبة حسب الحروف الأبجدية، فكان يأتي بالكلمة ويشرح غريبها مستشهدًا بالأشعار القديمة حينًا وبالآيات القرآنية حينًا آخر، وقد يأتي باشتقاق اللفظ مما يدل على سعة علم ابن ولاد بالعلوم العربية الخالصة وحفظه للأدب القديم واللغة العربية. وقد ختم كتابه ببحث طويل اشتمل على كثير من قواعد الصرف، والذي ألاحظه على هذا الكتاب سلاسة أسلوبه، وخلوَّه من التعقيد الذي نراه في كتب اللغة والصرف التي أُلِّفت في العصور المتأخرة.
(٢) المؤرخون
ولعل أكثر الكتب القديمة تضليلًا وتخبطًا هو كتاب «فتوح مصر» الذي يسنده بعض المؤرخين إلى ابن إسحاق الأموي، ويسنده بعضهم الآخر إلى الواقدي، وإن كنت أرجح أن للواقدي كتابًا غير الكتاب الذي يُنسَب إلى ابن إسحاق، ويتجلَّى ذلك في الاختلاف الذي بين الكتابين.
كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم
وهناك كتاب آخر لمؤلِّفٍ مصري له قيمته وأثره؛ إذ لا أكاد أعرف مؤرخًا كتب عن مصر دون أن يَذْكُر هذا الكتاب، أو يأخذ عنه؛ لهذا كان كتاب «فتوح مصر» مصدرًا هامًّا من مصادر تاريخ مصر منذ الفتح، كما أنه يمثل لنا ناحية أخرى من نواحي التأليف العلمي بمصر في هذا العصر، فقد رأينا الحركة العلمية والنشاط الفكري كانا متجهين إلى العلوم الدينية في أول الأمر، ثم أُضِيف إليهما العلوم العربية الخالصة، كما اتجه المصريون إلى القصص والعلوم التاريخية، ولقد لعبت يد الخيال في هذه الأخبار التاريخية، فأخرجتها عن جادَّة الحق، ولكنها تمثل لنا عقلية العرب الذين كانوا يأخذون كلَّ ما يُروَى لهم دون أن يحاولوا تحقيقه.
هذا النوع من العلوم كان عربيًّا خالصًا، اهتم به الجاهليون والمسلمون، وأخذه بعضهم عن بعض حتى دُوِّن في القرن الثالث الهجري، ومن أوائل المدوِّنين للتاريخ ابن عبد الحكم المصري صاحب «فتوح مصر» وأحد أفراد بني عبد الحكم.
بنو عبد الحكم
نحن مضطرون إلى الوقوف عند هذه الأسرة التي كان لها أثر كبير في الحياة العقلية والاجتماعية والسياسية بمصر في القرنين الثاني والثالث من الهجرة.
أما نشأته وحياته فلم يصلنا عنها شيء، كذلك لا نعرف إذا كان مصريًّا أو غير مصري، وصاحب الديباج يقول عن عبد الله بن عبد الحكم أنه مولى امرأة من موالي عثمان بن عفان، ويقال بل هو مولى نافع مولى عثمان، ولا ندري أيضًا أي لون من ألوان الولاء كان ولاؤه.
وأول شخصية لها قيمتها في هذه الأسرة هو عبد الله بن عبد الحكم بن أعين، ولد بالإسكندرية، وقيل بمصر سنة خمس وخمسين ومائة، وأخذ الفقه عن مالك وعن إمام مصر الليث بن سعد وسمع الحديث من عبد الله بن لهيعة، ولما مات أشهب بن عبد العزيز رئيس المالكية بمصر سنة أربع ومائتين، تولَّى عبد الله رياسة مذهب مالك، ونستطيع بسهولة أن ندرك خطر هذا المركز إذا علمنا أن المسلمين في مصر كانوا جميعًا يدينون بهذا المذهب.
وكان العلماء في مصر لا يدرسون غير هذا المذهب، واجتمع حوله المصريون والوافدون من الأندلس والمغرب يأخذون عنه مذهب مالك، وتُجْمِع المصادر التي تحدَّثتْ عنه أنه كان صالحًا متحققًا بمذهب مالك، وأجمعت أيضًا على علوِّ شأنه في الفقه، ووَضَع عدة كتب منها المختصر الكبير جمع فيه ثماني عشرة ألف مسألة، والمختصر الأوسط وفيه أربعة آلاف مسألة، والمختصر الصغير وفيه ألف ومائتا مسألة، وقصر هذا الكتاب الأخير على ما في الموطأ، وله أيضًا كتاب الأهوال، وكتاب القضاء في البنيان، وكتاب المناسك، وكتاب في سيرة عمر بن عبد العزيز.
هذا من الناحية العلمية، ومن ناحية أخرى نرى المؤرخين يجمعون على أن عبد الله كان ثريًّا جدًّا وله جاه عظيم بين المصريين، ونحن لا نعرف كيف أتتْه هذه الثروة.
وبلغ من ثراه أن الشافعي لما وفد على مصر سنة تسع وتسعين ومائة تلقاه عبد الله بن عبد الحكم، وأنزله في داره وبالغ في برِّه، وأعطاه من ماله الخاص ألف دينار، واستطاع بنفوذه أن يجمع له من بعض المصريين ألف دينار أخرى، وأخذ له من بن عسامة التاجر المصري ألفًا ثالثة؛ ليتمكن الشافعي من أن يعيش بمصر عيشة راضية فقد جهل المصريون قدر الشافعي في أول الأمر وكان يود الرحيل من مصر لولا وجود بني عبد الحكم.
ويروي المؤرخون أن عبد الله كان له تأثير كبير في تولية الشهود، فكان يزكيهم ويجرحهم، وكان بعض الولاة يستشيرون عبد الله في تصريف أمور الدولة، ويحدثنا الكندي أن الوالي عبد الله بن طاهر كان يقرِّب عبد الله بن عبد الحكم ويستشيره في بعض أموره، كما كان ابن عبد الحكم واسطة الصلح بين عبيد بن السري الثائر وبين ابن طاهر، كما كان ابن عبد الحكم أحد الفقهاء الذين جمعهم الوالي ابن طاهر لاختيار قاضٍ لمصر فرشح كل واحد من الفقهاء قاضيًا، ولكن الوالي عيَّن من رشحه ابن عبد الحكم، بل ذهب ابن عبد الحكم إلى أبعد من ذلك فقد طلب من الوالي أن يزيد مرتب القاضي ففعل الوالي وحفظ القاضي، وهو عيسى بن المنكدر، يد ابن الحكم فجعله على مسائله وهنا ظهر ما يدلنا على خلق ابن الحكم، فقد جرت العادة أن يكون الشهود من طبقة خاصة ممن لهم جاه، فلما تولى ابن الحكم على مسائل القاضي أدخل بين الشهود بعض الناس ممن لا جاه لهم ولا قدر، فلما عوتب على ذلك قال: «إن هذا الأمر دين وإنما فعلت ما يجب علي.» فهذا الخبر يدلنا على أن ابن الحكم كان قويًّا في خلقه وأنه لم يحاب وجوه المصريين لجاههم، وقيل إن الرعيني الفقيه لما سمع كلام ابن الحكم قال له: «أسأل الله أن لا يرفعك بالشهادة أنت ولا واحدًا من ولدك.» فكان الأمر على ذلك، فقد بلغ ابن عبد الحكم هو وولده بالبلد ما لم يبلغه أحد؛ ما قبلت لأحد منهم شهادة قط [هكذا روى الكندي عن ابن قديد] وهذه هي الدعوة التي قال عنها ابن خلكان: إن ابن عبد الحكم لم يشهد ولا أحد من ولده لدعوة سَبَقَتْ فيه.
واستمر عبد الله بن عبد الحكم رئيسًا لمذهب المالكية وعلى مسائل القاضي حتى جاء الخبر بولاية المعتصم على مصر سنة أربع عشرة ومائتين ٢١٤، وذهبت جماعة الصوفية إلى القاضي يطلبون منه أن يكتب إلى المأمون بأن المصريين لا يقبلون ولاية المعتصم عليهم، ولكن ابن عبد الحكم أشار على القاضي بأن لا يستمع لأقوال الصوفية وأن لا يكتب إلى الخليفة، فأبى القاضي وكتب إلى المأمون، فدفع المأمون كتابه إلى المعتصم، فلما جاء المعتصم مصر عزل القاضي وحبسه كما حبس عبد الله بن عبد الحكم، فأقام ابن عبد الحكم في السجن أيامًا ثم مرض ومات في رمضان سنة أربع عشرة ومائتين، ودُفِن بجوار الشافعي في منزل بني عبد الحكم.
ترك عبد الله بن عبد الحكم أربعة أولاد: عبد الحكم بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عبد الله، وسعد بن عبد الله، ومحمد بن عبد الله.
أما عبد الحكم وهو أكبر أولاده فكان فقيهًا أيضًا على مذهب مالك كأبيه، وأخذ الفقه عن أصحاب مالك من المصريين أمثال أبيه وعبد الله بن وهب، وقيل إنه لم يكن في أصحاب ابن وهب أتقى ولا أفقه منه بل ذهب صاحب الديباج إلى أن عبد الحكم أفقه إخوته كما عُرِف أيضًا بجودة خطه، ولم يصلنا عن هذا الفقيه شيء إلا ما قيل عن محنته التي تُوفِّي بسببها بل محنة بني عبد الحكم التي لم يقم لهم قائمة بعدها.
بدأت محنة بني عبد الحكم بمسألة خلق القرآن، فقد طلب إليهم القاضي محمد بن أبي الليث أن يعترفوا بخلق القرآن، فامتنعوا؛ فعذبهم القاضي وحمل عبد الحكم إلى العراق للإقرار هناك، فامتنع أيضًا فضُرِبَ بالسياط، وقيل إنه سجن ودخن عليه بالكبريت حتى مات في سجنه بسبب خلق القرآن، ولكن موت عبد الحكم لم يكن لهذا السبب بل كانت بسبب أموال الجروي الثائر بمصر والذي انتهت ثورته حوالي سنة ٢١٢ﻫ، وفي سنة ٢١٥ﻫ أتى الأفشين مصر وطالب علي بن عبد العزيز الجروي بالأموال التي عنده، فلم يدفع إليه شيئًا؛ فقتله الأفشين واستمر الولاة يبحثون عن أموال الجروي حتى سنة ٢٢٧ فقدم مصر يزيد التركي أحد قواد المتوكل العباسي في طلب هذه الأموال بعد أن علم الخليفة في بغداد أن بعضها عند بني عبد الحكم، وحكم القاضي ابن أبي الليث على بني عبد الحكم بألف ألف دينار وأربعمائة ألف وأربعة آلاف دينار، كما حكم على غيرهم أيضًا ونادى منادي الوالي بأن من كتم الأموال ضُرِب خمسمائة سوط وهُدِّمت داره، فأقر عبد الحكم بمالٍ عنده فبعث به إلى منزله فلم يخرج شيئًا ورُدَّ إلى يزيد التركي فعذبه حتى تُوفِّي لأربع بَقِينَ من جمادي الأولى سنة ٢٣٧ﻫ.
أما سعد بن عبد الله بن عبد الحكم فلم يصل إلينا شيء عنه إلا ما رواه صاحب نفح الطيب أنه كان أستاذًا لعدد من فقهاء الأندلس الذين رحلوا في طلب العلم إلى مصر، وذكر منهم أبا عبد الله محمد بن عبد الله الباجي الإشبيلي ومحمد بن عيسى ومحمد بن عمر بن لبابة وغيرهم كما كان أحد الذين روى عنهم أخوه عبد الرحمن بن عبد الله في كتابه فتوح مصر.
نتحدث بعد ذلك عن أشهر أولاد عبد الله بن عبد الحكم وهو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وُلِد محمد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وأخذ فقه مالك عن أبيه وأشهب وروى عن عبد الله بن وهب، ولما وفد الشافعي على مصر ونزل ضيفًا على بني عبد الحكم آخى محمدًا هذا، وكثيرًا ما سمع الشافعي يقول: «ما يُقِيمني بمصر غيره.» وعُدَّ محمد بن عبد الله من أشد تلاميذ الشافعي صلة به، وروى المزني: كنا نأتي الشافعي نسمع منه فنجلس على باب داره، ويأتي محمد بن عبد الحكم فيصعد ويطيل المكث وربما تغدَّى مع الشافعي، ثم ينزل الشافعي فيقرأ علينا فإذا فرغ من قراءته قرَّب إلى محمد دابته فركبها وأتبعه الشافعي بصره فإذا غاب شخصه قال الشافعي لمن معه: وودت أن لي ولدًا مثله وعليَّ ألف دينار لا أجد لها قضاء. وروى محمد بن عبد الحكم أنه كان يتردد إلى الشافعي فاجتمع قوم من أصحاب مذهب مالك إلى عبد الله بن عبد الحكم وقالوا: يا أبا محمد، إن محمدًا ينقطع إلى هذا الرجل ويتردد إليه فيرى الناس أن هذا رغبة عن مذهب أصحابه، فجعل عبد الله يلاطفهم ويقول: هو صغير ويحب النظر في اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك، ويقول لابنه محمد في السر: يا بني، الزم هذا الرجل. وكان الشافعي معجبًا بمحمد لفرط ذكائه وحرصه على الدرس والتحصيل حتى ظنَّ الناس من صدق مودتهما أن الشافعي يفوِّض أمر حلقته بعد وفاته إلى محمد بن عبد الحكم، وكان محمد نفسه يتطلع لرياسة مذهب الشافعية بعد الإمام الشافعي، ولكن الشافعي في مرض موته رشَّح البويطي لرياسة مذهبه، فغضب محمد بن عبد الحكم وترك الشافعية وتحوَّل إلى مذهب المالكية، وجعل لنفسه حلقة يدرس فيها مذهب مالك، وبعد موت أبيه اختاره المصريون لرياسة مذهب مالك، وذاعت شهرته في الأقطار الإسلامية حتى صارت إليه الرحلة لأخذ مذهب مالك، وروى السبكي عن الصدفي أنه قال: رأيت أهل مصر لا يعدلون به أحدًا، ويصفونه بالعلم والفضل والتواضع، وروي عن ابن خزيمة أن محمد بن عبد الحكم أعلم من رأيت على أَدِيم الأرض بمذهب مالك، وذكر صاحب نفح الطيب عددًا كبيرًا من علماء الأندلس الذين أخذوا عن محمد بن عبد الحكم.
ولما أُصِيبَت مصر بمحنة خَلْق القرآن سنة سبع وعشرين ومائتين مُنِعَ الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المسجد، واضْطُهد الفقهاء والعلماء وهرب أكثرهم من القاضي ابن أبي الليث، أما محمد بن عبد الله فقد أُهِين وعذِّب وأطافه القاضي ينادي بخلق القرآن حتى مرَّ بحلقة ابن صبيح المعتزلي بمصر فقال له ابن الصبيح: الحمد لله الذي هداك يا أبا عبد الله. يشير إلى أن محمد بن عبد الحكم أقرَّ بخلق القرآن، وفي ذلك يقول الشاعر الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل الأكبر يمدح القاضي بن أبي الليث:
وفي أيام أحمد بن طولون كان محمد بن عبد الحكم من جلسائه وممن أجرى عليه ابن طولون الأرزاق، ويروي المقريزي قصةً مُلَخَّصها أن ابن طولون لما حفر بئره بخطة معافر (عند القرافة) بلغه أن جماعة من الفقهاء لا يستحلون شرب مائها، فبينما محمد بن عبد الحكم في داره ليلًا إذ أتاه أحد خدام ابن طولون وقال له: إن الأمير يدعوك، فركب ابن عبد الحكم مرعوبًا مذعورًا، وعدل الغلام به عن الطريق فسأله ابن عبد الحكم فقال: إلى الصحراء والأمير فيها؟ فأيقن ابن عبد الحكم بالهلاك، فقال للخادم: الله الله فيَّ فإني شيخ كبير ضعيف مسن فتدري ما يراد مني فارحمني، فقال له الغلام: احذر أن يكون لك في السقاية قول. قال ابن عبد الحكم: فسِرْت معه وإذا بالمشاعل في الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية، فنزلت وسلمت عليه فلم يرد علي، فقلت: أيها الأمير، إن الرسول أعنتني وكدَّني وقد عطشت، فيأذن لي الأمير في الشرب؟ فأراد الغلمان أن يسقوني، فقلت: أنا آخذ لنفسي، فاستقيت وهو يراني، وشربت وازددت في الشرب حتى كدت أنشق، ثم قلت: أيها الأمير، أسقاك الله من أنهار الجنة، فلقد أرويت وأغنيت ولا أدري ما أصف، أطيب الماء في حلاوته وبرده وصفائه أم طيب ريح السقاية؟ فنظر ابن طولون إليه وقال: أريدك لأمر وليس هذا وقته فاصرفوه.
ويروي السيوطي أن كنيز خادم الخليفة المنتصر خرج إلى مصر وتفقه على مذهب الشافعي، وكان يأتي حلقة محمد بن عبد الحكم ويناظره، فسعى به إلى أحمد بن طولون بأنه جاسوس؛ فحبسه ابن طولون سبع سنين، وظل ابن عبد الحكم في رياسة مذهب مالك حتى تُوفِّي سنة ٢٦٨ﻫ.
أما عبد الرحمن بن عبد الله صاحب كتاب «فتوح مصر» فكان من أهل الحديث والرواية وشُغِف بالقصص والأخبار وكَلِف بالتاريخ وكان من أثر ذلك أنه وضع كتابه «فتوح مصر»، وقد أصاب عبد الرحمن ما أصاب إخوته في محنة خلق القرآن وأموال الجروي، وتُوفِّي عبد الرحمن سنة ٢٥٧ﻫ.
يعد عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم من أقدم مؤرخي الإسلام في مصر الذين وصلت إلينا كتبهم، كان كَلِفًا برواية الأخبار من ثقات المصريين أمثال والده عبد الله، ويحيى بن بكير، وعثمان بن صالح كاتب الليث بن سعد، وغيرهم، وعنه أخذ القاسم بن حبيش وأبو سلمة التجيبي، وابن قديد وغيرهم، وإذا عرفنا أن ابن قديد أحد رواة ابن عبد الحكم كان من أهم المصادر الذين استقى عنهم الكندي كتابيه: «الولاة» و«القضاة» أدركنا بسهولة السبب الذي من أجله نرى في كتاب الكندي بعض أخبار مذكورة في «فتوح مصر» مع أننا نعلم أن الكندي كان يحاول أخذ الأخبار من نفس المصادر التي استقى منها عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، ومع ذلك فالكندي اتخذ كتاب فتوح مصر أساسًا لكتابيه، ولا سيما في الفصل الذي عقده ابن عبد الحكم عن القضاة في مصر.
أما القسم الثاني من الكتاب، فهو يتحدث عن فتح العرب لمصر فذكر المؤلف شيئًا عن علاقة مصر ببعض أفراد من العرب قبل الإسلام وعن كتاب النبي إلى المقوقس، وجواب هذا إلى النبي عليه السلام، ثم ذكر الفتح العربي، وتحدَّث عن مسألة اختلف فيها المسلمون منذ القرن الأول الهجري، وهي: هل فُتِحَت مصر عَنْوَة أم صلحًا؟ فبسط روايات الطرفين، دون أن يذكر رأيه، فقد كان راويًا كغيره من المحدِّثين والمؤرخين، وفي الباب الثالث يذكر الخطط والأخائذ والقطائع، وهو الفن الذي لم يسبقه غيره إليه، وفي الرابع يتحدث عن الإدارة في عهد عمرو وابن أبي سرح وعن الفيوم وبرقة وطرابلس، وفي الخامس يذكر غزو شمال أفريقيا والأندلس، وفي السادس يسرد أسماء قضاة مصر حتى سنة ٢٤٦ﻫ؛ أي قبل وفاة المؤلف بعشر سنين، وفي السابع يروي الأحاديث التي حفظها الصحابة الذين جاءوا مصر، وقد بلغ عددهم اثنين وخمسين، فيروي لكل منهم أحاديثه التي سمعها من النبي وكان ابن عبد الحكم يعتمد على طريقة الرواية فإن تعاليمه كانت دينية كباقي أسرته، ولكنه اتجه إلى التاريخ والحديث مخالفًا في ذلك باقي أسرته الذين مالوا إلى الفقه.
ومما يحسن الإشارة إليه أن قبر بني عبد الحكم، الذي دُفِنَت فيه هذه الأسرة العلمية بجوار قبر الإمام الشافعي، فقبة ضريح الشافعي تجمع قبر الشافعي وقبر بني عبد الحكم، وهكذا كان الشافعي صديقًا لهم في حياته، فأصبح جارهم في مماته.
ابن الداية وكتاب المكافأة
ولكن أرى أن أتحدث عن مؤرخ مصري آخر، عاش في هذا العصر واتصل ببعض الأمراء المصريين، وبمختلف طبقات الشعب، ووضع كتابًا عن هؤلاء الأمراء، ثم تحدث في كتب أخرى عن هذا الشعب وحاله، ذلك هو الكاتب المعروف بابن الداية، وإذا تحدثنا عن ابن الداية فسنتحدث عن كتابه «المكافأة»؛ لأنه مصدر من مصادر التاريخ والأدب، ونستطيع منه أن نعرف حالة سكان مصر في هذا العصر واتجاه عقولهم.
جَمَع الكتاب عدة قصص خلقية، ولكنها لم تكن خيالية، بل هي حوادث واقعية حدثت للمؤلف، أو لوالده، أو لغيرهما من المعاصرين، ويتحدث في كل واقعة من هذه على مكافأة قُدِّمت نظير عمل أو معروف، فالكتاب من هذه الناحية يستحق التقدير والبحث.
لم يكن ابن الداية كاتبًا فحسب، بل كان شاعرًا أيضًا، وروى عن نفسه فقال: «كان أبو الفياض سوار بن شراعة الشاعر صديقًا لي، ومائلًا إلي، فلما اعتزم على الرجوع إلى العراق سألني أن أكتب له شيئًا من شعري، فكتبت له مقدار خمسين ورقة، وكان يستحسنه ويُعجَب به، فصار إلى بغداد، وعرضه على جماعة الأحرار، وأحسن وصفي لهم بسلامة مذهبه وطهارة نيته، ودخل محمد بن سليمان مصر وقد ردَّ البريد بها إلى أبي عبيد الله أحمد بن صالح، فسأل عند دخوله إياها عن أحمد بن يوسف، فأُحْضِر أحمد بن يوسف — وكان كاتبًا لأحمد بن وصيف ثم لابن الجصاص التاجرين — فقال له: تعرف أبا الفياض؟ قال: لا. فقال لهم: ليس هذا الرجل الذي طلبت. فأُحْضِرتُ، فلما رآني استشرف إليَّ وقال: تعرف أبا الفياض؟ فقلت: ذكرك الله وإياه بكل صالحة نعم أعرفه، وكان خلًّا لي. فقال: هل أنشدك من شعره؟
نستطيع — كما قدمت — أن نقول إن كتاب المكافأة هذا كتاب أدبي؛ لما فيه من طرائف ومكاتبات وأشعار، ونستطيع أن نتخذه كتاب قصص؛ لما فيه من حوادث واقعية، وأن نتخذه كتابًا في الأخلاق؛ لما فيه من موعظة حسنة، ومكافأة قُدِّمَت نظير عمل الخير، ونرى مؤلفه يقسمه إلى أبواب وفصول؛ فجعل قسمًا للمكافأة على الحسن، أو مكافأة على معروف صنعه، وختم هذا القسم بنُبَذ عن أفلاطون، أما القسم الثاني فهو الجزاء على ما يبدر من الإساءة، ثم أردف ذلك بفصل عمن ابْتُلي فصبر، فكان ثمرة صبره حسن العقبى، وختم هذا الفصل بطائفة من كلمات مأثورة لبعض الحكماء من الفرس واليونان، مما يدل على أن ابن الداية كان يلم ببعض الآداب الفارسية واليونانية، ويحفظ كثيرًا من كلمات الفرس واليونان ويستعمل ألفاظًا غير عربية في كتاباته كقوله: «إن ديوانيان خالد» بمعنى كتاب الديوان، ولفظ «تليس» بمعنى الحقيبة، وهو في هذا يشارك غيره من الكتاب والأدباء، فقد نقلت الكتب اليونانية والفارسية إلى العربية، واستطاع المسلمون أن يعرفوا شيئًا من الآداب والعلوم الأجنبية، ويمزجوا بين هذه الآداب والعلوم الدخيلة والآداب والعلوم العربية، فكان كتَّاب المسلمين يزينون كتاباتهم باقتباس حكم الفرس واليونان، وهذا ما نراه واضحًا في الكتب العربية أمثال كتب الجاحظ وابن قتيبة وابن الداية وغيرهم.
ومع هذا فالكتاب هو البقية الباقية من الكتب الأدبية التي أُلِّفت في هذا العصر؛ إذ لم نعثر على كتاب كامل غير هذا الكتاب.
•••