الفصل الثاني

ديوان الإنشاء في العصر الطولوني والإخشيدي

كان للطولونيين مطامع سياسية واسعة، عملوا على تحقيقها، حتى أدركوا شطرًا منها؛ فاتسعت بذلك دائرة أعمالهم، واضْطُروا إلى أن يصطنعوا عددًا كبيرًا من الكتَّاب يساعدونهم في القيام بهذا العبء الثقيل؛ لهذا اضْطُر الطولونيون إلى أن يؤسِّسوا ديوان الإنشاء بمصر «فأحمد — يعني أحمد بن طولون — أول من أخذ في ترتيب الملك، وإقامة شعار السلطنة بالديار المصرية، ولما شمخ سلطانه، وارتفع بها شأنه، أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء؛ لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات.»١
وأول من تولى ديوان الإنشاء بمصر هو أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود المعروف بابن عبد كان، لم يصلنا عن حياة هذا الرجل شيء، وكل الذين ذكروه اكتفوا بمدحه وذكر كفايته، فابن النديم يقول: «كان بليغًا مترسلًا فصيحًا.»٢ ويقول القلقشندي: «كان ممن اشْتُهر من كتَّابهم — أي كتَّاب الطولونيين — بالبلاغة وحسن الكتابة أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود بن عبد كان كاتب أحمد بن طولون، وكان مبدأ الكتَّاب المشهورين بها.»٣ وفي مكان آخر يقول: «واستكتب ابن عبد كان، فأقام منار ديوان الإنشاء، ورفع مقداره.»٤
إذن تكاد تجمع النصوص التي وصلتنا عن ابن عبد كان أنه كان ماهرًا في صناعته، بليغًا في كتابته، حتى إن القلقشندي روى أن أهل بغداد كانوا يحسدون أهل مصر على طبطب المحرر وابن عبد كان، يعني كاتب الإنشاء لابن طولون، ويقولون: «بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما.»٥
ومهما يكن في هذا القول من مبالغة، فإنه يدل على أن رئيس ديوان الإنشاء بمصر في العصر الطولوني كانت له شهرته في فن الإنشاء، ولا ندري من أين استقى ابن عبد كان علومه التي ساعدته على أن يكون زعيم الكتاب في مصر، ولا ندري تمامًا أين نشأ، ولكنا نستطيع أن ندرك أن رجلًا يشغل هذا المنصب الرفيع الذي شغله ابن عبد كان لا بد أن يكون مُلمًّا بثقافة واسعة، تؤهله لهذا المنصب، لا سيما وأن الأمير أحمد بن طولون كان على جانب عظيم من العلم، ولعل ابن عبد كان كان أحد الذين يَصْدُق فيهم قول ابن خلدون: «إن صاحب هذه الخطة لا بد أن يتخير من أرفع طبقات الناس، وأهل المروءة والحشمة منهم، وزيادة العلم، وعارضة البلاغة، فإنه معرض للنظر في أصول العلم؛ لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك، مع ما تدعو إليه عِشرة الملوك من القيام على الآداب والتخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل، وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها.»٦
ولا أشك أن عددًا كبيرًا من الكتَّاب اطلعوا على رسالة عبد الحميد الكاتب التي وضعها نصيحةً للكتَّاب تعينهم في مهمتهم، فهو يقول عن العلوم التي يجب أن يحيط بها الكاتب: «فتنافسوا يا معشر الكتَّاب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم الله عز وجل، والفرائض، ثم العربية، فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط؛ فإنه حلية كتابكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك مُعِين لكم على ما تسموا إليه هممكم.»٧
لكن هذه العلوم التي تحدَّث عنها عبد الحميد هي العلوم العربية التي كانت في عصره؛ إذ لم توجد بعدُ العلوم الإسلامية التي سُمِّيت، فالعلوم الدخيلة التي كانت سببًا في تطور الحياة الأدبية العربية. ففي العصور التي تلت عصر عبد الحميد نجد الكتَّاب يأخذون بحظوظ مختلفة من العلوم الأجنبية التي نقلها المترجمون إلى العربية، وأقبل المسلمون على تفهمها والأخذ منها، فقلَّ أن تجد كاتبًا لم يُلِمَّ بالثقافة الفارسية أو الثقافة اليونانية وظهر أثر هذه الثقافات في الكتابة، ويقول الأستاذ الدكتور طه حسين بك: فالكتابة في العراق وفي الحجاز نشأت عربية خالصة دعت إليها الحاجة، وكان تطورها نتيجة طبيعية لتطور العرب، ولتأثر العرب بالفرس واليونان، ولوجود هؤلاء الموالي الذين أخذوا بحظٍّ من علوم بلادهم ولكنهم تعلموا العربية وكتبوا بها فاضْطُروا إلى أن يُدخِلوا على العربية كثيرًا مما ورثوه عن قوميتهم، ومن تأمل كتَّاب الدولة العباسية وجدهم جلهم من الموالي.٨

أما مصر فكان لها شأن آخر، فقد كانت يونانية العلم قبل الإسلام، وانتشر بها الأدب اليوناني، والفلسفة اليونانية، ولا أشك أن هذه الدراسات تركت أثرًا قويًّا في العقلية المصرية ظل عدة قرون، فاستقر بمصر ولا يمكن أن يمَّحِي إلا مع الزمن الطويل، قد لا نجد بين المصريين من نقل من كتب اليونان الفلسفية ما نقله غيرهم، ولم تلق كتب الفلسفة في مصر الإسلامية الإقبال الذي كان في غير مصر، ولكن المصريين منذ عهد البطالسة كانوا يذكرون الأدب اليوناني بما فيه من شعر ونثر وقصص، والفلسفة اليونانية بما فيها من طبيعيات وإلهيات، وعن اليونان أخذ المصريون نظم الكتابة، وعن المصريين أخذ العرب الذين استقروا بمصر، فإذا كان بعض كتاب العراق تأثَّر بالفارسية وبعضهم تأثر باليونانية، فكتاب مصر لم يتزودوا من الثقافة الفارسية إلا مَن كان منهم من العراق أو فارسي النشأة ووفد على مصر بعد تمام تكوينه.

وكانت مصر الإسلامية تسير نحو الأخذ بحظ وافر من العلوم فازداد عدد المشتغلين بها يومًا بعد يوم، فكان ذلك من الأسباب التي وجهت الكتابة العربية في مصر إلى ناحية خاصة، هي الناحية الفنية التي يتكلفها الكاتب، ويتعمد تجميلها وزخرفتها، وهذا ما نراه عند الكتاب الذين نراهم في العصر الطولوني وما بعده، كما كان ذلك سببًا في أن كتَّاب مصر في هذا العصر كانوا يُشْبِهون في كثير من الأحوال كتَّاب العراق الذين تأثَّروا بالثقافة اليونانية، فرسائل ابن عبد كان مثلًا كانت تشبه رسائل العراقيين؛ لهذا تستطيع أن تلمس التغيير الواضح في هذه الرسائل التي كتبها ابن عبد كان عن هذه الرسائل القديمة التي كُتِبَت في صدر الإسلام؛ فإنك تجد في كتابة ابن عبد كان شيئًا من الفن الذي يُحْدِث لذة عند القراء وعند السامعين لن تجدها في كتابة المتقدمين التي لم تُكتَب إلا لتؤدي معنًى خاصًّا دون مراعاة تنسيق اللفظ.

قسم ابن عبد كان رسائله إلى أجزاء أو فصول، مَثَله في ذلك مَثَل تلاميذ مدرسة الجاحظ من كتَّاب العراق الذين تأثروا بالثقافة اليونانية، كذلك يتفق الجاحظ وابن عبد كان في أن كتابتهما تميل دائمًا إلى الإطناب والتطويل، ولكنه ليس إطنابًا مملًّا ثقيلًا، بل هو فن وقدرة على الكتابة، كما كان ابن عبد كان يُدْخِل الدعاء حشوًا معترضًا في كلامه، ويتوجه إلى المخاطب بصيغة المفرد دائمًا، أما جمله فقصيرة يزيِّنها بالسجع غالبًا، فهو يطنب في اللفظ ويكرر المعنى ويقتبس من القرآن الكريم ويكثر من التشبيهات والمحسنات اللفظية، ففي الخطاب الذي كتبه ابن عبد كان عن أحمد بن طولون إلى العباس بن أحمد بن طولون — حين ثار على أبيه — تتجلَّى صورة الكتابة العربية السليمة، التي تأثرت بما كان في مصر من آثار الثقافة اليونانية، وآثار الثقافة الأجنبية التي نقلت إلى العربية، وهذا نص الخطاب:
من أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين، إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملم بذنبه، المفسد لكسبه، العادي لطوره، الجاهل لقدره، الناكص على عقبه، المركوس٩ في فتنته، المنجوس من حظ دنياه وآخرته. سلامٌ على كل منيب مستجيب، تائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم، وحلول الفوت والندم، وأحمد الله الذي لا إله إلا هو حَمْدَ مُعْترِف له بالبلاء بالجميل، والطول الجليل، وأسأله مسألة مخلص في رجائه، مجتهد في دعائه، أن يصلي على محمد المصطفى، وأمينه المرتضى، ورسوله المجتبى .
أما بعد، فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنحلة يكون حتفها في جناحيها، وستعلم — هبِلَتْك١٠ الهوابل، أيها الأحمق الجاهل، الذي ثنى على الغيِّ عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه، أيَّ موردة هلكة بإذن الله تورَّدت؛ إذ على الله — عز وجل — تمرَّدت وشردت، فإنه تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلًا: قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وإنَّا كنا نقرِّبك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا؛ طمعًا في إنابتك، وتأميلًا لفيئتك، فلما طال في الغيِّ انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك، ولم نر الموعظة تُلِين كيدك، ولا التذكير يقيم أَوَدَك، لم تكن لهذه النسبة أهلًا، ولا لإضافتك إلينا موضعًا ومحلًّا، بل لا نُكنَّى بأبي العباس إلا تكرهًا وطمعًا بأن يهب الله عنك خلفًا نقلده اسمك ونُكنَّى به دونك، ونعدُّك كنت نسيًا منسيًّا، ولم تك شيئا مقضيًّا، فانظر — ولا نظر بك — إلى عار نِسبته تقلَّدْتَ، وسخط من قِبَلنا تعرَّضت، واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك، والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذن بحرب وبويل، فإننا نقسم — ونرجو أن لا نجور ونظلم — أن لا نثني عنك عنانًا، ولا نؤثر على شأنك شأنًا، ولا تتوقل ذروة جبل، ولا تلج بطن وادٍ؛ إلا جعلناك بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أمَّمت منهما، منفقين فيك كل مالٍ خطير، ومستصغرين بسببك كل خطب جليل، حتى تستمر من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك، وتعرف من قدر الرخاء ما جهلت، وتودُّ أنك هبلت ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلك من غواتك قبلت؛ فحينئذ يتفَرَّى بك الليل عن صبحه، ويسفر لك الحق عن محضه؛ فتنظر بعينين لا غشاوة عليهما، وتسمع بأذنين لا وقر فيهما، وتعلم أنك كنت متمسكًا بحبائل غرور، متماديًا في مقابح أمور؛ من عقوق لا ينام طالبه، وبغي لا ينجو هاربه، وعذر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يودَى قتيله، وتقف على سوء رويتك، وعظم جريرتك في تركك قبول الأمان؛ إذ هو لك مبذول وأنت عليه محمول، وإذ السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح، وتتلهف والتلهف غير نافعك، إلا أن تكون أجبت إليه مسرعًا، وانقدت إليه منتصحًا.

وإن مما زاد في ذنوبك عندي، ما ورد به كتابك عليَّ بعد نفوذي على الفسطاط من التمويهات والأعاليل، والعدات بالأباطيل، من مصيرك بزعمك إلى إصلاح ما ذكرت أنه فسد عليَّ، حتى ملت إلى الإسكندرية، فأقمت بها طول هذه المدة، واستظهارًا عليك بالحجة، وقطعًا لمن عسى أن يتعلق به معذرة علم بأن الأناة غير صادة، ولا أنه خالجني شك، ولا عارضني ريب في أنك أردت النزوح والاحتيال للهرب، والنزوع إلى بعض المواضع التي لعل قصدك إياها يوديك، ولعل مصيرك إليها يكفينيك، ويبلغ إليَّ أكثر من الإرادة فيك؛ لأنك، إن شاء الله، لا تقصد موضعًا إلا تلوتك، ولا تأتي بلدًا إلا قفوتك، ولا تلوذ بعصمة تظن أنها تنجيك إلا استعنت بالله عز وجل في جد حبلها، وفصم عروتها، فإن أحدًا لا يؤوي مثلك، ولا ينصره إلا لأحد أمرين من دين أو دنيا؛ فأما الدين فأنت خارج من جملته لمقامك على العقوق، ومخالفة ربك وإسخاطه، وأما الدنيا فما أراه بقي معك من الحطام الذي سرقته وحملت نفسك على الإيثار به، ما يتهيأ لك مكاثرتنا بمثله، مع ما وهب الله لنا من جزيل النعمة التي نستودعه تبارك وتعالى إياها، ونرغب إليه في إنمائها، إلى ما أنت مقيم عليه من البغي الذي هو صارعك، والعقوق الذي هو طالبك.

وأما ما منَّيتناه من مصيرك إلينا في حشودك وجموعك، ومن دخل في طاعتك؛ لإصلاح عملنا، ومكافحة أعدائنا بأمر أظهروا فيه الشماتة بنا، فما كان إلا بسببك، فأصلح — أيها الصبي الأخرق — أمر نفسك قبل إصلاحك عملنا، واحزم في أمرك قبل استعمالك الحزم لنا، فما أحوجنا الله — وله الحمد — إلى نصرتك ومؤازرتك، ولا اضطررنا إلى التكثر بك على شقاقك ومعصيتك: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا.

وليت شعري على من تهول بالجنود، وتمخرق بذكر الجيوش، ومن هؤلاء المسخرون لك، الباذلون دماءهم وأموالهم وأديانهم دونك؟ دون رزق ترزقهم إياه، ولا عطاء تدرُّه عليهم، فقد علمت — إن كان لك تمييز، أو عندك تحصيل — كيف كانت حالك في الوقعة التي كانت بناحية أطرابلس، وكيف خذلك أولياؤك والمرتزقة معك حتى هُزِمت، فكيف تغتر بمن معك من الجنود الذين لا اسم لهم معك، ولا رزق لهم على يديك؟! فإن كان يدعوهم إلى نصرتك هيبتك والمداراة لك والخوف من سلطانك، فإنهم ليجذبهم أضعاف ذلك منَّا، ووجودهم من البذل الكثير والعطاء الجزيل عندنا ما لا يجدونه عندك، وإنهم لأحرى بخذلك، والميل إلينا دونك، ولو كانوا جميعًا معك ومقيمين على نصرتك، لرجونا أن يمكِّنَنا الله منك ومنهم، ويجعل دائرة السوء عليك وعليهم، ويجرينا من عادته في النصر وإعزاز الأمر على ما لم يزل يتفضل علينا بأمثاله، ويتطول بأشباهه. فما دعاني إلى الإرجاء لك، والتسهيل من خناقك، والإطالة من عنانك؛ طول هذه المدة إلا أمران: أغلبهما كان عليَّ احتقار أمرك واستصغاره، وقلة الاحتفال والاكتراث به، وإني اقتصرت من عقوبتك على ما أخلقته بنفسك من الإباق إلى أقاصي بلاد المغرب شريدًا عن منزلك وبلدك، فريدًا من أهلك وولدك، والآخر: أني علمت أن الوحشة دعتك إلى الانحياز إلى حيث انحزت إليه، فأردت التسكين من نفارك، والطمأنينة من جأشك، وعملت على أنك تحن إلينا حنين الولد، وتتوق إلى قربنا توقان ذي الرحم والنسب؛ فإن في رفقنا بك ما يعطفك إلينا، وفي تآخينا إياك ما يردك علينا، ولم يسمع منا سامع في خلاء ولا ملاء إنقاصًا بك، ولا غضًّا منك، ولا قدحًا فيك؛ رقة عليك، واستتمامًا لليد عندك، وتأميلًا لأن تكون الراجع من تلقاء نفسك، والموفق بذلك لرشدك وحظك، فأما الآن مع اضطرارك إياي إلى ما اضطررتني إليه من الانزعاج نحوك، وحبسك رسلي النافذين بعهد كثير إلى ما قبلك، واستعمالك المواربة والخداع فيما يجري عليه تدبيرك، فما أنت بموضع للصيانة، ولا أهل للإبقاء والمحافظة، بل اللعنة عليك حالة، والذمة منك برية، والله طالبك ومؤاخذك بما استعملت من العقوق والقطيعة، والإضاعة لرحم الأبوة، فعليك من ولد عاق شاق لعنة الله ولعنة اللاعنين، والملائكة والناس أجمعين، ولا قبل الله لك صرفًا ولا عدلًا، ولا ترك لك منقلبًا ترجع إليه، وخذلك خذلان من لا يُؤبَه له، وأثكلك ولا أمهلك، ولا حاطك ولا حفظك. فوالله لأستعملن لعنك في دبر كل صلاة، والدعاء عليك في آناء الليل والنهار، والغدو والآصال، ولأكتبن إلى مصر، وأجناد الشامات والثغور، وقنسرين، والعواصم، والجزيرة، والحجاز، ومكة، والمدينة كتبًا تُقرَأ على منابرها فيك باللعن لك، والبراءة منك، والدلالة على عقوقك وقطيعتك، يتناقلها آخر عن أول، ويأثرها غابر عن ماضٍ، ويخلد في بطون الصحائف، ويحملها الركبان، ويُتحدَّث بها في الآفاق، وتلحق بك وبأعقابك عارًا ما اطرد الليل والنهار، واختلف الظلام والأنوار.

فحينئذٍ تعلم — أيها المخالف أمر أبيه، القاطع رحمه، العاصي ربه — أيَّ جناية على نفسك جنيت، وأي كبيرة اقترفت واجتنيت، وتمنيتَ — لو كان فيك مسكة، أو فيك فضل إنسانية — أنك لم تكن وُلِدت، ولا في الخلق عرفت، إلا أن تراجع من طاعتنا والإسراع إلى ما قبلنا؛ خاضعًا ذليلًا كما يلزمك، فنُقِيم الاستغفار مقام اللعنة، والرقة مقام الغلظة، والسلام على من سمع الموعظة فوعاها، وذكر الله فاتقاه، إن شاء الله تعالى.١١
ونجد في رسائل المصريين شيئًا جديدًا لم نعهده عند القدماء، وكان له نظير عند كتاب العراق منذ القرن الثالث الهجري، ذلك أن المصريين كانوا يفتتحون رسائلهم بالدعاء غالبًا، فدعاء بصلاح الدنيا وغبطة الآخرة، أو الدعاء بكبت العدو، أو بطيب الحياة إلى غير ذلك من الأمور التي تتنوع بتنوع حال المرسل إليه، كقول أحد الكتاب المصريين داعيًا: «أطال الله بقاءك؛ ففي إطالته حياة الأنام، وأنس الأيام والليالي، وأدام عزك؛ ففي إدامته دوام الشرف، ونمو المعالي، وأتم نعمته عليك؛ فإنها نعمة حلت محل الاستحقاق، ونزلت منزلة الاستيجاب، ووقفت على من لا تكون الآلاء مكانه ولا تنكر الفواضل محله … إلخ.»١٢
وقد نجد بعض الكتاب يكتب مطرحًا الدعاء بدوام النعمة لتقيدها بموجباتها، كقول أحد الكتَّاب: «قد كفى الله — عز وجل — مؤنة الدعاء لنعمته بالنماء؛ لأنها توخت لديك محلها، فحلت بفنائك سارة، مطمئنة قارة، تستوثر مهادها قبلك، وتستهنئ مواردها عندك، ولم تزل تائقة إليك، متطلعة نحوك، بما استجمع لها من لطيف السياسة، وحسن الاحتمال لأعباء المغارم، فهنَّأكها الله متصلة البقاء، بطول مدة بقائك، ومتحلية بحسن فنائك، فلا زلت لعوارف النعم مستدعيًا، وللشكر بالزيادة فيها ممتريًا، وبدوام الحمد لردفها مستمريًا.»١٣

وقد لا نجد هذا ولا ذاك؛ إذ يهجم بعض الكتاب على موضوعه دفعة واحدة، ويكتب رسائله مفتتحًا بقوله: «كتابي إليك» أو «كتبت إليك».

أما في إجابة هذه الخطابات فنراهم يبتدئون بقولهم: «وصل كتابك»، ويختتمون بقولهم: «إن رأيت أن تفعل كذا وكذا» أو «فرأيك في كذا وكذا». وقد أفرد القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» بابًا عن هذه المكاتبات التي كانت بين الأصدقاء أيام الطولونيين أو ما قاربها وقد أتى بصور كثير من الفنون المختلفة التي ذكرنا بعضها.١٤
ومن المكاتبات التي هي من خصائص مصر، المكاتبة بالبشارة بوفاء النيل، والبشارة في الركوب بفتح الخليج، ولا يشارك مصر في ذلك غيرها من الممالك ولا يزال القائمون بالأمر في مصر من قديم الزمان يكتبون بذلك إلى ولاة الأعمال،١٥ ولكن لم يصلنا شيء من المكاتبات التي صدرت في العصر الذي نؤرخه عن ذلك.
ظهر عدد كبير من الكتاب أيام الطولونيين أمثال الحسن بن رافع ويعقوب بن إسحاق كاتب موسى بن طولون، وكان هذا الكاتب فيما يقال يعرف زيج السندهند، وعنده علم بالنجوم،١٦ وجعفر بن عبد الغفار المصري، وأحمد بن أيمن وكان كاتبًا للعباس بن خالد البرمكي في حداثته،١٧ وكثير غيرهم، وقد ذكر ابن الداية بعضهم في كتابه المكافأة. لم يكن هؤلاء الكتَّاب جميعهم من مصر بل كان أغلبهم من العراق، فأبو يوسف يعقوب بن إسحاق كان من سُرَّ من رأى، وابن الداية أصله من بغداد، والحسين بن مهاجر كان من الرقة،١٨ ولكن كان ابن طولون يفضل أن يتخذ كتَّابه من المصريين مع قصورهم عن العراقيين، فقد قيل إن ابن طولون استكتب جعفر بن عبد الغفار المصري، ولكن هذا الكاتب لم يستطع أن يؤدي عمله كما يجب، ومع ذلك احتمله ابن طولون، وقد سأله صديقه أحمد بن خاقان عن السر في ذلك، فقال له الأمير: «أنا أحتمله؛ لأنه مصري.» فقال ابن خاقان: «أراك، أيها الأمير، تفضل الكاتب المصري على الكاتب البغدادي.» قال: «لا والله، ولكن أصلح الأشياء لمن ملك بلدًا أن يكون كاتبه منه، وأن يكون شمل الكاتب فيه، فإنه يجتمع له في ذلك البلد أمور صالحة، منها أن يكون بطانة الكاتب وحاشيته في ذلك البلد، فيعود مرفقه على فريق من أهله، ومنها رغبته في اعتقاد المستغلات به، فيكون صفافًا لجناياته، وهو مع هذا وشمله ظاهرون ومستقرون في خدمتي، والكاتب العراقي ليس كذلك، لأنه يعتقد المستغلات في بلده النائي عنه وعني، وهو في كل وقت متطلع إلى بلده؛ فبهذا السبب زهدت في كتَّاب سر من رأى، مع علمي بتقدمهم في الكتابة والرجاحة.١٩
وكان للكتَّاب في مصر في هذا العصر شأن كبير فيما جرى من حوادث، وقد رأينا الكتَّاب الذين كانوا حول العباس بن أحمد بن طولون من أمثال جعفر بن جدار، وأحمد بن المؤمل، ومحمد بن سهل المنتوف، كانوا سببًا في قيام العباس ضد أبيه، كما كانوا سببًا في هزيمته؛ لأنهم لم يكونوا من رجال السيف ولا من رجال السياسة.٢٠
أما الذي تولى ديوان الإنشاء في عهد خمارويه، فهو علي بن أحمد المادرائي،٢١ ولكن هذا الكاتب لم يوفق إلى إرضاء خمارويه، فتولاها إسحاق بن نصير العبادي،٢٢ ويحدثنا ياقوت أن «إسحاق بن نصير الكاتب البغدادي كان كاتب الرسائل بديوان مصر بعد محمد بن عبد الله بن عبد كان»،٢٣ ثم يروي عن ابن زولاق: «وكان أبو جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان على المكاتبات والرسائل منذ أيام أحمد بن طولون، ومكاتباته وأجوبته موجودة إلى أن قدم عليه أبو يعقوب إسحاق بن نصير البغدادي من العراق، والتمس التصرف، فقال له ابن عبد كان: فيمَ تتصرف؟ فقال: في المكاتبات والأجوبة والترسل، وكان بين يدي أبي جعفر كتب قد وردت، فقال له: خذ هذه وأجب عليها. فأخدها ومضى إلى ناحية من الدار، فأجاب عنها، ثم وضع خفه تحت رأسه ونام، وقام أبو جعفر إلى الحجرة التي له فاجتاز به، والكتب بين يديه، فأخذها وقرأها، فلما تأملها جعل يروح إسحاق بن نصير حتى انتبه، فقال له: عمن أخذت الكتبة؟ وأجرى عليه أربعين دينارًا في كل شهر، فلم يزل مع أبي جعفر إلى أن تُوفِّي أبو جعفر وانفرد بالأمر علي بن أحمد المادرائي، فقال لإسحاق: الزم منزلك، وانصرف، فوردت كتب فأجاب عنها علي بن أحمد ودخل على أبي الجيش خمارويه فعرضها عليه، فقال له: ما هذه الألفاظ التي تخرج عني. فمضى علي بن أحمد وعاد إليه، فما أراد أبو الجيش الجواب والاستزادة، فخرج علي بن أحمد وقال: هاتوا إسحاق بن نصير، فجيء به، فقال: أجب عن هذه، فأجاب، ودخل علي بن أحمد على أبي الجيش فقرأ الأجوبة، فقال: نعم هذا الذي أعرف، إيش الخبر؟ فقال له: كاتب كان مع أبي جعفر فاعتل وأحضرتُه الساعة، فقال: هاته، فأحضره، فقال: كم رزقك؟ فقال: أربعون دينارًا، فقال لعلي بن أحمد: اجعلها له أربعمائة في الشهر، وقال لإسحاق: لا تفارق حضرتي. فمكث إسحاق حتى صار رزقه ألف دينار في الشهر، فكان يجود بذلك، ويُفضَّل به على الناس، وأرسل إلى بغداد إلى ثلاثة أنفس: إلى أبي العباس المبرد، وأبي العباس ثعلب، وإلى وراق كان يجلس عنده؛ دفعة واحدة ثلاثة آلاف دينار، لكل واحد منهم ألف دينار، وتُوفِّي هذا الكاتب سنة ٢٩٧ﻫ.٢٤

وإذا نظرنا إلى كتَّاب الرسائل في العصر الفاطمي نراهم يسيرون نهج ابن عبد كان ويتتبعون أثره في الكتابة، فابن عبد كان هو مؤسس مدرسة الرسائل في مصر وهي المدرسة التي تنسب خطأ إلى القاضي الفاضل، وسنتحدث عن ذلك بشيء من الإسهاب في كتابنا … في أدب مصر الفاطمية.

وكان إبراهيم بن عبد الله بن محمد النجيرمي زعيم كتَّاب الإخشيدين، وكان هذا الكاتب نحويًّا كَلِفًا بالعلوم العربية الخالصة، أخذ النحو عن الزجاج،٢٥ وأخذ عنه بعض المصريين أمثال أبي الحسين المهلبي وجنادة اللغوي وغيرهما،٢٦ فكان لدراسته هذه أثر في كتاباته، ومن إنشائه الخطاب الذي أرسله الإخشيد إلى المانوس ملك الروم، وكان قد ورد على الإخشيد كتاب منه، يفخر فيه، ويزعم أن له المنة عليه فلما قُرئ هذا الخطاب على الإخشيد، طلب من كتابه أن يجيبوه، فأجاب عنه جماعة فلم يختر إلا جواب إبراهيم النجيرمي، وكان عالمًا بوجوه الكتابة.٢٧
ومما جاء في هذا الخطاب: «من محمد بن طغج مولى أمير المؤمنين، إلى المانوس٢٨ عظيم الروم ومن يليه: سلامٌ بقدر ما أنتم له مستحقون، فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله .

أما بعد، فقد تُرجِم لنا كتابك، الوارد مع نقولا وإسحاق رسوليك، فوجدناه مفتتحًا بذكر فضيلة الرحمة، وما نما عنا إليك، وعمن شبهنا فيها إليك، وبما نحن عليه من المعدلة وحسن السيرة في رعايانا، وما وصلت به هذا القول من ذكر الفداء، والتوصل إلى تخليص الأسرى، إلى غير ذلك مما اشتمل عليه وتفهَّمْناه؛ فأما ما أطنَبْتَ فيه من فضيلة الرحمة فمن سديد القول الذي يليق بذوي الفضل والنبل، ونحن — بحمد الله ونعمه علينا — بذلك عارفون، وإليه راغبون، وعليه باعثون، وفيه بتوفيق الله إيانا مجتهدون، وبه متواصون وعاملون، وإياه نسأل التوفيق لمراشد الأمور وجوامع المصالح بمنِّه وقدرته.

وأما ما نسبته إلى أخلاقنا من الرحمة والمعدلة، فإنا نرغب إلى الله — جل وعلا — الذي تفرَّد بكمال هذه الفضيلة، ووهبها لأوليائه ثم أثابهم عليها؛ أن يوفِّقنا لها، ويجعلنا من أهلها، وييسرنا للاجتهاد فيها، والاعتصام من زيغ الهوى عنها، وعَرَّة القسوة بها، ويجعل ما أودع قلوبنا من ذلك موقوفًا على طاعته، وموجبات مرضاته، حتى نكون أهلًا لما وصفتنا به، وأحق حقًّا بما دعوتنا إليه، وممن يستحق الزُّلفى من الله تعالى، فإنا فقراء إلى رحمته، وحق لمن أنزله الله بحيث أنزلنا، وحمَّله من جسيم الأمر ما حمَّلنا، وجمع له من سعة الممالك ما جمع لنا، بمولانا أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه — أن يبتهل إلى الله تعالى في معونته لذلك، وتوفيقه وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور وأما ما وصفْتَه من ارتفاع محلِّك عن مرتبةِ مَن هو دون الخليفة في المكاتبة لما يقتضيه عِظَم مُلْككم، وأنه المُلْك القديم الموهوب من الله الباقي على الدهر، وأنك إنما خصصتنا بالمكاتبة لما تحققته من حالنا عندك، فإن ذلك لو كان حقًّا وكانت منزلتنا، كما ذكرته، تقصر عن منزلة من تكاتبه، وكان لك في ترك مكاتبتنا غنم ورشد؛ لكان من الأمر البين أنَّ أحظى وأرشد وأولى بمن حلَّ محلك أن يعمل بما فيه صلاح رعيته، ولا يراه وصمة، ولا نقيصة، ولا عيبًا، ولا يقع في معاناة صغيرة من الأمور تعقبها كبيرة، فإن السائس الفاضل قد يركب الأخطار، ويخوض الغمار، ويعرض مهجته فيما ينفع رعيته.

والذي تجشمته من مكاتبتنا، إن كان كما وصفته، فهو أمر سهل يسير لأمر عظيم خطير، وجُلُّ نفعه وصلاحه وعائدته تخصكم؛ لأن مذهبنا انتظار إحدى الحسنيين، فمن كان منَّا في أيديكم فهو على بينة من ربه، وعزيمة صادقة من أمره، وبصيرة فيما هو بسبيله، وإن في الأسارى من يؤثر مكانه من ضنك الأسر وشدة البأساء على نعيم الدنيا وخيرها لحسن منقلبه، وحميد عاقبته، ويعلم أن الله تعالى قد أعاذه من أن يفتنه، ولم يُعِذْه من أن يبتليه. هذا إلى أوامر الإنجيل الذي هو إمامكم، وما توجبه عليكم عزائم سياستكم، والتوصل إلى استنقاذ أسرائكم، ولولا أن إيضاح القول في الصواب، أولى بنا من المسامحة في الجواب، لأضربنا عن ذلك صفحًا؛ إذ رأينا أن نفس السبب الذي من أجله سما إلى مكاتبة الخلفاء عليهم السلام من كاتبهم، أو عدا عنهم إلى من حل محلنا في دولتهم، بل إلى من نزل عن مرتبتنا، هو أنه لم يثق من منعه، ورد ملتمسه ممن جاوره، فرأى أن يقصد به الخلفاء الذين الشرف كله في إجابتهم، ولا عار على أحد وإن جلَّ قدره في ردِّهم، ومن وثق في نفسه ممن جاوره، وجد قصده أسهل السبيلين عليه، وأدناهما إلى إرادته، حسب ما تقدم لها من تقدم، وكذلك كاتب من حل محلك من قصر عن محلنا، ولم يقرب من منزلتنا، فممالكنا عدة، كان يتقلد في سالف الدهر كلَّ مملكة منها ملكٌ عظيم الشأن.

فمنها ملك مصر الذي أطغى فرعون على خطر أمره، حتى ادعى الألوهية، وافتخر على نبي الله موسى بذلك، ومنها ممالك اليمن التي كانت للتبابعة، والأقيال العباهلة: ملوك حمير، على عظم شأنهم، وكثرة عددهم، ومنها أجناد الشام: التي منها جند حمص، وكانت دارهم ودار هرقل عظيم الروم، ومن قبله من عظمائها، ومنها جند دمشق على جلالته في القديم والحديث، واختيار الملوك المتقدمين له، ومنها جند الأردن على جلالة قدره، وأنه دار المسيح وغيره من الأنبياء والحواريين، ومنها جند فلسطين، وهي الأرض المقدسة، وبها المسجد الأقصى، وكرسي النصرانية، ومعتقد غيرها، ومَحَجُّ النصارى واليهود طرًّا، ومقر داود وسليمان ومسجدهما، وبها مسجد إبراهيم وقبره، وقبر إسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وأزواجهم عليهم السلام، وبها مولد المسيح وأمه وقبرها. هذا إلى ما نتقلده من أمر مكة المحفوفة بالآيات الباهرة، والدلالات الظاهرة؛ فإنا لو لم نتقلد غيرها لكانت بشرفها، وعظم قدرها، وما حوت من الفضل تُوفِي على كل مملكة؛ لأنها مَحجُّ آدم ومَحَجُّ إبراهيم وارثه ومهاجره، ومَحَجُّ سائر الأنبياء، وقبلتنا وقبلتهم عليهم السلام وداره٢٩ وقبره، ومنبت ولده، ومَحَجُّ العرب على مرِّ الحقب، ومحل أشرافها، وذوي أخطارها، على عظم شأنهم، وفخامة أمرهم، وهو البيت العتيق المحرم، المحجوج إليه من كل فجٍّ عميق، الذي يعرف بفضله وقدمه أهل الشرف من مضى ومن خلف، وهو البيت المعمور، وله الفضل المشهور.

ومنها مدينة الرسول المقدسة بتربته، وأنها مهبط الوحي، وبيضة هذا الدين المستقيم الذي امتد ظله على البر والبحر، والسهل والوعر، والشرق والغرب، وصحارى العرب على بعد أطرافها، وتنازح أقطارها، وكثرة سكانها في حاضرتها وباديتها، وعظمها في وفودها وشدتها، وصدق بأسها ونجدتها، وكبر أحلامها، وبعد مرامها، وانعقاد النصر من عند الله براياتها، وأن الله تعالى أباد خضراء كسرى، وشرَّد قيصر عن داره ومحل عزه ومجده بطائفة منها.

هذا إلى ما تعلمه من أعمالنا، وتحت أمرنا ونهينا ثلاثة كراسي من أعظم كراسيكم: بيت المقدس، وأنطاكية، والإسكندرية. مع ما إلينا من البحر وجزائره، واستظهارنا بأتمِّ العتاد، وإذا وفَّيت النظر حقه علمت أن الله تعالى قد أصفانا بجل الممالك التي ينتفع الأنام بها، وبشرف الأرض المخصوصة بالشرف كله دنيا وآخرة، وتحققتَ أن منزلتنا بما وهبه الله لنا من ذلك فوق كل منزلة، والحمد لله ولي كل نعمة.

وسياستنا لهذه الممالك قريبها وبعيدها على عظمها وسعتها بفضل الله علينا، وإحسانه إلينا، ومعونته لنا، وتوفيقه إيانا، كما كتبت إلينا، وصحَّ عندك من حسن السيرة، وبما يؤلف بين قلوب سائر الطبقات من الأولياء والرعية، ويجمعهم على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة، ويكسبها المودة والمحبة.

والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا على نعمه التي تفوت عندنا عدَّ العادين، وإحصاء المجتهدين، ونشر الناشرين، وقول القائلين، وشكر الشاكرين، ونسأله أن يجعلنا ممن تحدَّث بنعمته عليه شكرًا لها، ونشرًا لما منحه الله منها، ومن رضي اجتهاده في شكرها، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها، وكان سعيه مشكورًا، إنه حميد مجيد.

وما كنت أحب أن أباهيك بشيء من أمر الدنيا، ولا أتجاوز الاستيفاء لما وهبه الله لنا من شرف الدين الذي كرمه وأظهره، ووعدنا في عواقبه الغلبة الظاهرة، والقدرة القاهرة، ثم الفوز الأكبر يوم الدين، لكنك سلكت مسلكًا لم يجز لنا أن نعدل عنه، وقلت قولًا لم يسعنا التقصير في جوابه، ومع هذا فإنا لم نقصد بما وصفناه من أمرنا مكاثرتك، ولا اعتمدنا تعيين فضل لنا نعوذ به؛ إذ نحن نكْرُم عن ذلك، ونرى أن نكرمك عند محلك ومنزلتك، وما يتصل بها من حسن سياستك ومذهبك في الخير ومحبتك لأهله، وإحسانك لمن في يدك من أسرى المسلمين، وعطفك عليهم، وتجاوزك في الإحسان إليهم جميع من تقدمك مِن سَلَفِك، ومن كان محمودًا في أمره، رُغِب في محبته؛ لأن الخير أهلٌ أن يُحب حيث كان. فإن كنت إنما تؤهل لمكاتبتك ومماثلتك من اتسعت مملكته، وعظمت دولته، وحسنت سيرته؛ فهذه ممالك عظيمة، واسعة جمة، وهي أجلُّ الممالك التي ينتفع بها الأنام، وسر الأرض المخصوصة بالشرف، فإن الله قد جمع لنا الشرف كله، والولاء الذي جُعِل لنا من مولانا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، مخصوصين بذلك إلى ما لنا بقديمنا وحديثنا وموقعنا، والحمد لله رب العالمين الذي جمع لنا ذلك بمنِّه وإحسانه، ومنه نرجو حسن السعي فيما يرضيه بلطفه، ولم ينطو عنك أمرنا فيما اعتمدناه.

وإن كنت تجري في المكاتبة على رسم من تقدمك فإنك لو رجعت إلى ديوان بلدك، وجدت مَن كان تقدمك قد كاتب مِن قبلنا مَن لم يحل محلنا، ولا أغنى غناءنا، ولا ساس في الأمور سياستنا، ولا قلده مولانا أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه — ما قلدنا، ولا فوَّض إليه ما فوض إلينا، وقد كوتب أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، وآخر من كوتب تكين مولى أمير المؤمنين، ولم يكن تقلَّد سوى مصر وأعمالها.

ونحن نحمد الله كثيرًا أولًا وآخرًا على نعمه التي يفوت عندنا عددها عد العادين، ونشر الناشرين، ولم نرد بما ذكرناه المفاخرة، ولكنا قصدنا بما عددنا من ذلك حالات؛ أولها: التحدث بنعمة الله علينا، ثم الجواب عما تضمنه كتابك من ذكر المحل والمنزلة في المكاتبة، ولِتعلم قدر ما بسطه الله لنا في هذه المسالك، وعندنا قوة تامة على المكافأة على جميل فعلك بالأسارى، وشكر وافٍ لما توليهم وتتوخاه من مسرتهم إن شاء الله تعالى وبه الثقة، وفقك الله لمواهب خيرات الدنيا والآخرة، والتوفيق للسداد في الأمور كلها، والتيسير لصلاح القول والعمل الذي يحبه ويرضاه ويثيب عليه، ويرفع في الدنيا والآخرة أهله، بمنِّه ورحمته.

وأما المُلْك الذي ذكرت أنه باقٍ على الدهر؛ لأنه موهوب لكم من الله خاصة، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وإن المُلك كله لله، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير، وإن الله عز وجل نسخ مُلْك الملوك وجَبْرية الجبَّارين بنبوة محمد وعلى آله أجمعين، وشفع نبوته بالإمامة، وحازها إلى العترة الطاهرة من العنصر الذي منه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، والشجرة التي منها غصنه، وجعلها خالدة فيهم يتوارثها منهم كابر عن كابر، ويلقيها ماضٍ إلى غابر، حتى أُنْجِز أمر الله ووعده، وبهر نصره وكلمته، وأظهر حجته، وأضاء عمود الدين بالأئمة المهتدين، وقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وإليه يرجعون … إلخ.

ولعلك تلاحظ في هذا الخطاب هذه الصنعة الفنية التي امتاز بها كتاب الرسائل، فكثيرًا ما كان الكاتب يستعمل التكرار والإسراف في الإطناب، والإسهاب في المعنى الواحد، كما نرى هذي الجمل القصيرة المسجوعة التي تدل على أن الكاتب أجهد نفسه في الكتابة، وفي الملاءمة بين المعاني والألفاظ.

وقد أُعْجِب النجيرمي نفسه بهذا الكتاب؛ فنسخ منه نسخًا وأنفذها إلى البصرة وأعمالها يفتخر به.٣٠

ظل النجيرمي النحوي يعمل في خدمة الإخشيديين حتى اتصل بكافور ومدحه، قيل إن الفضل بن العباس دخل يومًا على كافور الإخشيدي وأبو إسحاق النجيرمي عنده، فقال الفضل: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ، ولحن في كلامه بأن كسر الأيام، فتبسم كافور، فأنشد أبو إسحاق على البديهة:

لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا
وغُصَّ من هيبه بالريق والبهر
فإن يكن خَفَضَ الأيام عن دهشٍ
من شدة الخوف، لا من قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا
والفأل نأثره عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب
وأن دولته صفو بلا كدر٣١

وقد أورد له ياقوت في معجم الأدباء بعض الأشعار، كما نقل الحصري في زهر الآداب كثيرًا من كتاباته وأشعاره.

ونجد الكاتب محمد بن كلا يكتب للإخشيديين أيضًا،٣٢ ويسفِر بين الإخشيد وبين ابن رائق، وقد كان هذا الكاتب ثقة الإخشيد ورسوله إلى العراق، ومع ذلك كان ممن نكبهم الإخشيد، «والإخشيد أول من أقام الراتب ونكب عماله وكتابه.»٣٣ قبض الإخشيد على ابن كلا آخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة من الهجرة، وصادره على ثلاثمائة ألف دينار، وقبض على أهله وصادرهم، وقبض على جماعة كانوا في داره وصادرهم أيضًا، ولكن ابن كلا أقسم أن لا يدفع مال المصادرة أو يلقى الإخشيد ويراه، فامتنع الإخشيد أولًا، وأغلظ ابن كلا في القسم حتى أمر الإخشيد بدخوله عليه، فمروا به عليلًا يتوكأ على رجلين — وكان به عرج — فنظر إلى الإخشيد، وقال: أما أنا فقد استحييت، فأطرق الإخشيد، وتم قبض المصادرة وأطلقه،٣٤ ولم يصلنا عن هذا الكاتب شيء نستطيع أن نعرف قيمة كتابته.

ومهما يكن من شيء فأنت ترى من ذلك كله أن النثر سهل، واستطاع الكاتب أن يتصرف كيفما أحب، دون أن يجد مشقة وجهدًا، كما أنا لا نجد مشقة في فهم جمله، بل نجد استقامة في المعنى، وخصوبة في هذه المعاني؛ مما زاد في جمال الكتابة، كما أن الكتَّاب استطاعوا أن يعبروا عما في نفوسهم، وما تجيش به خواطرهم بسهولة في أسلوب فني جميل يظهر فيه أثر صنعة الكاتب الفنية، وقدرته على الكتابة في ألوان الفنون المختلفة.

هوامش

(١) صبح الأعشى: ج١١، ص٢٨.
(٢) الفهرست: ص١٩٧.
(٣) صبح الأعشى: ج١، ص٩٥.
(٤) صبح الأعشى: ج١٠، ص٢٨.
(٥) صبح الأعشى: ج٣، ص١٧.
(٦) مقدمة ابن خلدون: ص٢١٥.
(٧) مقدمة ابن خلدون: ص٢١٦.
(٨) محاضرات الأستاذ الدكتور طه حسين بك سنة ١٩٣١ في النثر العربي.
(٩) الركس: هو رد الشيء مقلوبًا وقلب أوله على آخره.
(١٠) هَبِلتْه: ثكلته.
(١١) صبح الأعشى: ج٧، ص٥ وما بعدها.
(١٢) صبح الأعشى: ج٢، ص١٦٠.
(١٣) صبح الأعشى: ج٨، ص١٦١.
(١٤) صبح الأعشى: ج٨، ص١٦٠–١٦٦.
(١٥) صبح الأعشى: ج٨، ص٣٢٨.
(١٦) سيرة ابن طولون لابن الداية: ص١٤.
(١٧) المكافأة: ص٩٤.
(١٨) المغرب في حلى المغرب: ج٣، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
(١٩) سيرة ابن طولون: ص١٥.
(٢٠) سيرة ابن طولون: ص٥٨.
(٢١) معجم الأدباء: ج٢، ص٢٣٧.
(٢٢) المغرب في حلى المغرب: ج٣. مخطوط بدار الكتب: ج٤، ص١٤، طبعة ليدن.
(٢٣) معجم الأدباء: ج٢، ص٢٣٧.
(٢٤) معجم الأدباء لياقوت: ج٢، ص٢٣٧.
(٢٥) النجوم الزاهرة: ج٤، ص٦.
(٢٦) بغية الوعاة للسيوطي: ص١٨١، معجم الأدباء: ج١، ص٢٧٨.
(٢٧) المغرب في حلى المغرب: ج٤، ص١٨ طبع ليدن.
(٢٨) هكذا في المغرب وفي صبح الأعشى: ج٧، ص١١، جاء إلى «ارمانيوس»، وهو الإمبراطور رومانوس لوكابينوس Romanus Lucapenus الذي ولي عام ٩١٩م إلى عام ٩٤٤م.
(٢٩) نلاحظ هنا أن الضمائر لا تستقيم مع ما قبلها، مما يدل على أن بعض الجمل قد سقطت، ولم تثبت في صبح الأعشى ولا في المغرب.
(٣٠) المغرب: ص٢٣.
(٣١) معجم الأدباء: ج١، ص١٧٨.
(٣٢) المغرب: ص٢٥.
(٣٣) المغرب: ص٣٩.
(٣٤) المغرب: ص١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤