العيون

لأعذبنّ العين

قال الشاعر١ ابن الصفدي يصف العيون:

هي التي توقع القلب في التعب، وتوفر نصيبه من أسهم الهم والنصب، وترميه بدواعي الهوان، ودواعي الهوى، وتسلمه إلى مكايدة الغرام، ومكابدة الجوى، لو عذبت بطول السهر، وكثرة الدموع، وبفيض الشئون، وعدم الهجوع، وبمسامرة الأحزان والفكر، وبمراقبة النجوم إلى السحر، وبعدم الإغفاء وطول السهر، لكان استحقاقها وجود جود الدمع وإن ظما، وعدم منال المنام وإن نما:

لأعذبن العين غير مفكر
فيما جرت بالدمع أو سالت دما
ولأهجرن من الرقاد لذيذهُ
حتى يعود على الجفون محرما
هي أوقعتني في حبائل فتنة
لو لم تكن نظرت لكنت مسلما
سفكت دمي فلأسفحنّ دموعها
وهي التي بدأت وكانت أظلما

ولعل موجب هذه الواعظة، والألفاظ التي هي بالتحذير لافظة أني خرجت في بعض الأيام متفرجًا وسارحًا، وجائلًا بطرفي في الرياض وسائحًا، وصحبني صديق لي في المحبة صادق، ورفيق لي فيما أروم موافق، قد ملك كل حسن ولطافة، وجمع كل حذق وظرافة، ينصب لخدمتي لا يملُّ ولا يسأم، ويتعب في مرضاتي لا يكل ولا يندم، ويجتهد في موافقتي لا يمن ولا ينم، ويحسن مرافقتي لا يُذم ولا يَذم، قد اتخذته جهينة أخباري، وكنزًا لخزائن أسراري، لا أستطيع مفارقة وجهه الجميل، وهو عندي كما قيل:

بروحي من لا أستطيع فراقه
ومن هو أوفى من أخي وشقيقي
إذا غاب عني لم أزل متلفتًا
أدور بعيني نحو كل طريق

معاني لفظ العين

للعلامة أحمد السجاعي — المتوفي سنة ١١٩٧ﻫ — قصيدة رائعة في معاني لفظ العين، وهي في فنّها غريبة قد احتوت على معان في لفظ (عين)، وقد جعل حروف اسمه في أوائل أبياتها بالترتيب، وهذه هي القصيدة كما نقلت من خط الشيخ مصطفى البدري في كراسة «مجموعة لغوية»، وقد وضعنا تفسير كل لفظ عين فيها بين (قوسين) بعده:

أيا ظبيَ الفلا وكحيل عين
ويا بدر الدجى وضياء عين (الشمس)
حميت من المكاره يا غزالًا
حوى كل الكمال بدون عين (العيب)
ملكت القلب مني يا حبيبي
وحق المصطفى المجري لعين (الماء)
دعانا للهداية نعم طه
رسول قد أبان لطرق عين (حقيقة القبلة)
أمين سيد ما فيه شك
به تهدى الأنام بكل عين (الناحية)
له ذات خلت من كل سوء
وقلب قد خلا من شين عين (الرياء)
سما فوق السماء ونال قربًا
وخاطب ربه وحظى بعين (النظر)
جميل النفس والأفعال قطعًا
صفيّ خالص من قبح عين (الميل)
أذاع الخير فينا كل وقت
وعوذ أمة من شر عين (إصابة العين)
علا رتبًا فليس لها انتهاء
وأظهر دينه لخيار عين (الجماعة)
يقيم شريعة غراء فينا
بها … كم قد هدى من كل عين (الإنسان)
رؤوف بالعباد رحيم قلب
عظيم القدر سيد كل عين (الكبير)
كريم منتقى، بحر العطايا
فكم منح الأنام جزيل عين (المال)
عظيم مجتبى قد ظللته
لدى حر عظائم كل عين (السحاب)
خليل الله أحمد ذو كمال
مجير الناس من لحظ بعين (المطر)
رحيم بالعباد سريع بأس
على قوم لئام مثل عين (الطائر)
كبير القدر في الدارين حقًّا
مغيث الناس من حر لعين (شعاع الشمس)
رسول الله أنت لنا ملاذ
لنا فيك الرجا يا نسل عين (الخيار)
فكم صرفت عنا من كروب
بدُينا ثم أخرى عمد عين (الجد واليقين)
وخلقك مبدأ الأشياء حقًّا
حبيبي أنت أول كل عين (الشيء)
عليك الله صلى مع سلام
أصولك مثل ذا من هم كعين (الذهب)
وآل ثم أصحاب جميعًا
فهم بذلوا لدين كل عين (الدنيا أو النفس)
وكم قضبوا بسيف الله رأسًا
من الأعداء، وكم قهروا لِعين (الشديد)
وكم أحيا بهم ربي علومًا
مغيبة ومنها ذات عين (الحضور)
كذا أتباعهم ما قال عبد:
أيا ظبي الفلا وكحيل عين (الباصرة)

وصف العين وأسماء أجزائها

في أول كتاب (سحر العيون): الباب الخامس في وصف العين، وأسماء أجزائها، وعيوبها الخلقية وغيرها. قال المؤلف: اعلم يا نور الأعيان، وأعز من إنسان عيون الأجفان، أن (مقلة العين) في اللغة هي: الشحمة التي تجمع السواد والبياض، سميت بذلك من قولهم: مقلت الرجل في الماء: إذا غوصته فيه، وتماقل الرجل في الماء: إذا غاص فيه، وتماقل الرجلان في الماء: إذا تغاوصا فيه؛ ليعلم أيهما أصبر على الغوص، فلما كانت حبة العين غائصة في مائها سميت: المقلة، ويقال: ما مقلت عيني مثل فلان: أي: ما نظرت، قال الشيخ شهاب الدين أحمد الحاجبي:

لها عين غزل وغزْل
مكحلة، ولي عين تباكت
وحاكت في فعايلها المواضي
فيا لك مقلة غزلت وحاكت

و(الحدقة): هي السواد الأعظم (في العين)، سميت بذلك لأن البياض محدق بها، ويقال: أحدق القوم به وحدقوا به — لغتان — أي أطافوا به من جميع نواحيه.

وقال الشريف الرضي:

يا قلب مالك لا تفيق وقد رأت
عيناك كيف مصارع العشاق؟
فتكت بك الحدق المراض ولم تزل
تشجي القلوب جناية الأحداق

و(الناظر): السواد الأصغر الذي يبصر فيه الرائي شخصه، والعرب تقول: هو مثالها، وإنسانها، ودوابها، وناظرها، وبصرها، وضيّها، وغيرها ولعبتها، وبؤبؤها، وتمثالها، وسوادها، وحبها، ومذلكُها.

قال ابن مطرف: وهذه الأسماء كلها لموضع البصر الذي في حاسة البصر، والجمع: نواظر، وليس الذي يرى الرائي صورة نفسه في ذلك الماء لصفائه، ويستدل على صحة الحاسة بما تخيل فيه.

و(الناظران) أيضًا: عرقان في العين يسقيان الأنف، يقال إنه لمرتفع الناظرين، ويقال للذي استحيى من أمر: خفض له ناظريه، والناظر يجمع على: نواظر. قال شارح كتاب «الفصيح»: نظرت لعيني ونظرت: انتظرت وتنظرت.

و(نظرتُ) بمعنى: رحمت وتفكرت. وأنظرت الرجل: أخرته، وأنظرته: جعلته ينتظرني، وقوله تعالى: (انظرونا) أي: أمهلونا: قال الشيخ برهان الدين القيراطي:

يا قاتلي بنواظر أجفانها
بسيوفها الأمثال فينا تضرب
قل للغزال أو الغزالة إذ رنت
أو لاح يهرب ذا، وتلك تغيب

و(الحماليق): هي بواطن الأجفان، واحدها حملاق، قال ابن مطرف: هي التي تراها — إذ قلبت للكحل — محمرة. وقال الزبيدي: الحماليق: نواحي العين، ويقال لمؤخري العينين مما يلي الصدغين: الحقيمان، الواحد حقيم. والأشفار: هي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر، والواحد: شفر، ومنه شفير الوادي، وشفير كل شيء حرفه.

قال الشيخ جمال الدين بن نباته:

إذا كان شفر العين فوق محلها
فعندي أنا الأشفار خير من العين

و(الأهداب): الشعر النابت عليها، واحدها: هدب بضم الهاء وسكون الدال المهملة، قال الشيخ برهان الدين:

أهداب لحظك للورى شرك فمن
أوثقته فيهن لا يتفلت
كيف النجاة ورمح قدك مشرع؟
كيف الخلاص وسيف لحظك مُصلت؟

و(المحجر): ما دار بالعين، وهو ما يبدو من البرقع والنقاب، وجمعها محاجر، ويقال: محجر بفتح الميم وكسرها، وفتح الجيم وكسرها أيضًا، وإنما سمي المحجر محجرًا لأنه مفعل من الحجر وهو المنع، فكأنه مانع عن العين من جميع جهاتها، ومنه الحجرة المحيطة بالجدر، والجمع: الحجرات.

قال الأمير سيف الدين المشدّ وأجاد:

إن العيون لك الحصون: فهُدبها
شرفاتها، وجفونها الأسوار
وكذا محاجرها: الخنادق حولها
والحافظون بها همُ الأنوار

و(الماق) و(الموق): هو طرف العين مما يلي الأنف، وهو مخرج الدمع من العين، ولكل عين موقان، وفي الموق وفي جمعه لغات كثيرة يقال: مأق بالهمز، وجمعه آماق، ومُوق غير مهموز، وجمعه أمواق وأماقٍ ومآق. والمقية: لغة في الماق أيضًا، والجمع مقى. والماق: مقدمها. وقيل: الموق: مؤخر العين، وماق يجمع على مواق مثل: قاض، وقواض، وفي الحديث: «كان يكتحل من قبل موقه مرة، ومن قبل ماقه أخرى».

قال المتنبي يمدح كافور الأخشيدي:

قواصد كافور توارك غيره
ومن ورد البحر استقل السواقيا
فجاءت به إنسان عين زمانه
وخلّت بياضًا خلفها و(أماقيا)

و(الألحاظ): جمع لحظ: وهو مؤخر العين الذي يلي الصدغ وجمعها لحاظ، ولواحظ. فأما اللحظة: فهي النظرة، وجمعها: لحظات في القليل، واللحظ في الكثير، ويجوز أن يجعل موضع اللحظة. يقال: لحظ العين مثل: رأي العين، ويقال: لحظ السماء بطرفه يلحظ لحظًا فهو لاحظ.

قال شيخ الشيوخ الأنصاري بحماة:

يا نظرة قد جلت لي حسن طلعته
حتى انقضت وأدامتنا على وجل
عاتبت إنسان عيني في تسرعه
فقال لي: خلق الإنسان من عَجَل

و(الطرف): هو ما مال بأحد السوادين: السواد الأعظم، والسواد الأصغر. قال ابن مطرف: «طرف العين تحرك أشفارها»، ويقال: طرفة عين، والعين المطروفة منه مأخوذ، وهو أن يصيب سوادها شيء فيتأذى صاحبها به، وربما أبطلها، وهي «الطرفة»، قال الشيخ علاء الدين الوداعيّ:

كم دماء مطلولة في هواه
وبها ورد خده مطلول
وحديث من السقام صحيح
قد رواه عن طرفه مكحول

و(القبل): هو ميل الحدقة في النظر إلى الأنف، وأنشد الثعالبي — وقد استحسنه في «فقه اللغة» له — قول ذي الرمة:

أشتهي في الطفلة القبلا
لا كثيرًا يشبه الحولا

وقال جرير:

وما زالت القتلى تمج دماءها
بدجلة حتى ماء دجلة (أشكل)

وقول علاء الدين البديوى:

أنا جدّ أنصار النبي لأنني
يا أزرق العينين عبد (الأشهل)

وأنشدنى المولى أبو الفتح محمد الرسام الأزهري:

رنت رمت فأصابت
قلبي، وأذكت لهيبه
فهو المصاب بعين
(شهلاء) وهي المصيبه

وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:

وأغيد كل شيء فيه يعجبني
كأنما هو مخلوق على شرطي
أجفانه السود ما تخطي إذا رشقت
سهامها، وسهام الليل ما تخطي

وقال علاء الدين الوداعي:

رمتني سود عينيه
فأصمتني، ولم تبطي
وما في ذاك من بدع
سهام الليل ما تخطي

وقال شهاب الدين الزعفريني:

مليك على العشاق، سكران طرفه
فلا عجب للّحظ منه يعربد
شكوت إليه أسر قلبي في الهوى
فوقع لي: سحر الجفون يخلد

وقال بشار بن برد:

يا من برايق ريقه يحيي الورى
وبسحر عينيه النواعس تقبل
من سحر عينيك المهاة تعلمت
وكذلك الغزلان منها تغزل

وقال ابن عباد:

ونظرن من خلل الستور بأعين
مرضى يخالطها السقام صحاح

وله أيضًا:

وسنان قد خدع النعاس جفونه
فحكى بمقلته ذبول النرجس
مذ غضّ طرفًا بالحياء فإنني
منه استحيت بأن أقبّل مؤنسي

وقال الغزيّ:

كأنما سواد عين منيتي
كعنبر يا أنفسًا لوامه
لا تنكروا مقالتي تجاهلًا
مع علمكم بأنها لوّامه

وقال الشهاب بن القطان:

شاقني (مارس) فول
زهره حاكى عيونك
وابتغى التعريض، قلنا:
لعن الله قرونك

آفة النظر وغائلته

وكنت إذا أرسلت طرفك زايرًا
لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر

ولأبي العباس الصيني:

قم فاسقني بين خفق الناي والعود
ولا تبع طيب موجود بمفقود
كأسًا إذا أبصرت في القوم محتشمًا
قال السرور له قم غير مطرود
نحن الشهود وخفق العود خاطبنا
نزوّج ابن سحاب بنت عنقود

وله أيضًا:

يقر الله عينك يا جفوني
فقد أعتقت من رق السهاد
ويا عيني لك البشرى فنامي
وتهنيك السلامة يا فؤادي
رغبت عن الهوى وهربت منه
إليك وكنت دهري في جهاد

وله أيضًا:

سقتني لتروي الراح روحًا وحققت
مواعيدها ذات الوشاح بإنجاز
على نرجس حيت به فكأنها
أناملها انضمّت على حدق البازي

وله أيضًا:

إذا ضاق صدري وخفت العدا
تمثلت بيتًا بحالي يليق
فبالله نبلغ ما نرتجي
وبالله ندفع ما لا نطيق

وله أيضًا:

يغيب البدر يومًا ثم يبدو
فمالك غبت عن عيني ثلاثا
إذا لم تطلع الاثنين عصرًا
فلست بواجدي يوم الثلاثا

وله أيضًا:

ولقد مررت على الظباء وصادني
ظبي وعهدي بالظباء تصاد
نفذت لواحظه إلي بأسهم
أغراضها الأرواح والأجساد

وله أيضًا:

صبّ المداد وما تعمد صبه
فتورد الخد البديع الأزهر
يا من يؤثر حبره في ثوبنا
تأثير لحظك في فؤادي أكثر

وله أيضًا:

من شاء عيشًا رخيًّا يستفيد به
في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرن إلى ما فوقه أدبًا
ولينظرن إلى من دونه مالا

وله أيضًا:

أدرك بقية نفس روحها رمق
وقد أذابت هموم النفس أكثرها
وإنما سلمت منها بقيتها
لأنها خفيت ضعفًا فلم ترها

وله أيضًا:

ألا حل بي عجب عاجب
تقاصر وصفي عن كنهه
رأيت الهلال على وجه من
رأيت الهلال على وجهه

وقال آخر في شوق إلى حبيب:

إن غبت عن ناظري فأنتم
في القلب يا غاية التمني
والظن أن لا تخون عهدي
لا خيب الله فيك ظني

هوامش

(١) في لوعة الشاكي ودمعة الباكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤