التقسيم الأخير

ماريا وكاترين وفريدريك

أتى على بولاندا حينٌ من الدهر بعيد حديثنا الأول عنها، فما لبث أن اختل نظام الأمور فيها، وقام كل نبيل في قصره كأنه ملك متوج يدبر أرضه كأنه سيد العالم المطلق.

أما سكان مقاطعته فكانوا كالعبيد يمثل بهم تمثيلًا؛ كأنه خالقهم أو أكثر، وعلى هذه الحالة صارت بولاندا إلى القهقرى خطوة كبيرة، ورجعت إلى الوراء شوطًا كبيرًا.

أما ملكها فقد ألقى مقاليد أموره إلى وزراء لا همَّ لهم إلا الحصول على الوظيفة، حتى إذا تم ذلك لهم تمسكوا بأهداب التزلف والتملق للملك، محبذين كل عمل، مقرظين لكل مشروع، سواء أردى البلاد أو أماتها.

وهم يكنزون الذهب أكوامًا، فكانت الحالة تشبه تلك التي كانت تركيا عليها أيام رب القسطنطينية، مشبع الحوت من لحوم البرايا، نزيل سلانيك عبد الحميد خان.

وفي هذه الآونة كانت دول أوروبا واقفة لها كالسنانير تنتظر وقوع الجرذ لتقتسمه.

قال جمال الدين الأفغاني للسلطان عبد الحميد يومًا: «يا أمير المؤمنين، إن الحيوانات التي تأكل لا تؤكل.»

ويا لها من كلمة جمعت فأوعت من صحيح الحكم ما لو فقه له عبد الحميد بقي للآن متربعًا على عرش الخلافة!

وعلى هذا النسق وقعت بولاندا، فإن الدول لما علمت أنها ضعيفة الجانب، ذليلة القدر، لا يمكنها حماية نفسها بجيش يدافع عنها ويذود عن حوضها، اجتمعت ثلاث منها؛ فقسمتها بينها كقطعة اللحم تنهشها ثلاثة كلاب كلية.

أما هذه الدول فقد كانت روسيا وعلى رأسها كاترين الثانية التي يقول عنها المؤرخون: إنها روح نابليون تجسمت في جسم امرأة.

وألمانيا وملكها فريدريك الأكبر خير من تولى إدارة الأمر فيها، بل أعظم ملك تربع على دست أمورها.

والنمسا ومليكتها ماريا تريزا التي كانت من خير الأميرات يذكرها التاريخ بكل خير لدفاعها أمام فريدريك في الحروب السياسية.

وقد استوزرت كاترين وزيرها تومكين الذي كان أول من أيقظ في فكرتها محاربة الدولة العلية.

فأخذت كاترين في حربها هذه جميع الولايات التي في شمال البلقان حتى إنها كادت تغص من كثرة ابتلاعها الولاية إثر الولاية.

فوجب إذن عليها أن تشركها تلك الممالك الأخرى الواقفة لها بالمرصاد ليمكنها أن تنال مآربها في جهة أخرى: «أطعم الفم تستحِ العين».

فعقدت لذلك محالفة ثلاثية سرية؛ ضمت وإياها النمسا وألمانيا، فقسمت بولاندا التقسيم الذي انتهى بابتلاعها وضياعها.

إن ألعن تلك المحالفات التي يعقدها أولئك الأوغاد السفلة المستعبدين للإنسان، المقرين على استبداده، الذين يشيدون دولًا للظلم على جدار من دماء الإنسان وعظامه.

بأي حق أكون أنا في منزلي، ويكون حالي مختلًّا، ونظامي معتلًّا، فيدخل الغريب بجراءته مدعيًا أنه يريد إصلاح ذات البين.

ماله ومالي؟ لِمَ لا يدعني مستريحًا بعيدًا عنه وعن سفالته وتعديه أن يقول إن ذلك باسم الإنسانية والمدنية، ورعاية الحقوق؟

ألا لعمري إن الإنسانية لبريئة من قوم أدنياء؛ يدخلون بيوت غيرهم بدعوى أنهم يريدون إصلاحها.

خير لهم أن يتركوا البيت لصاحبه، والبلاد لأهلها، والأوطان لسكانها، ولا يدخلوها فيعكرو عليهم صفو الحياة ولذة المعيشة، يدخلونها وكأنهم رسل عزرائيل يتقدمهم الموت، ويسير بين أيديهم الردى.

مالك أنت أيها الأجنبي النازح ليصلح وطنًا غير وطنه، المتطلع لبلاد غير بلاده؟ ألا خير لك أن تهتم ببلادك قبل أن ترحل إلى أخرى لتسلب أهلها الراحة أو تحتلها باسم الإنسانية وهي براء منها؟

لنرجع إلى حديثنا الأول إذ تركنا بولاندا تقسم كأنها سقط المتاع.

قام من وسط البولانديين جورج كوسكيوسكي، ذلك الرجل الذي يلقبه التاريخ بالبولاندي الوطني الحر.

وإنه لجدير بهذا اللقب وأكثر؛ فإنه قام في وجه ثلاث دول كبار تعتبر من أعظم دول الأرض مكانة، واستمر يجاهد ويناضل لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلًا، فكأنه كان متحققًا أن الله ناصره؛ فلم تتزعزع ثقته بنفسه وبجيوشه.

ولكن الذي أسقطه ودكَّ عزيمته هو مقاومته لثلاث دول مرة واحدة، فكان كناطح صخرة ليوهنها.

وعدا ذلك فإن سعي روسيا المتواصل في ضم القطعة التي أصابتها من التقسيم كان قاطعًا لآمال جورج وأمانيه.

فقد انتشر العمال الإداريون الروسيون في أنحاء المملكة، وزاد استبدادهم وعم، حتى ضج الآهلون لذلك، وقاموا كلهم يتألمون لحريتهم المفقودة، ولكن اليد الاستبدادية كانت شديدة الوطء، فضربتهم بيد من حديد، أخمدت بها أنفاس تلك الوطنية المستعرة، وأطفأت بحر أنفاسها ذاك اللهيب المتقد.

ولكن الوطنية الحقة لا تُمحى أبدًا ولو عاكسها الدهر، وناوأها الزمن، ولا ريب في ذلك؛ فإنه واجب محتم، يجب على الإنسان حفظه وكتابته بحروف من نار، خصوصًا إذا كان وطنه مهانًا ضاعت حقوقه.

ومن هذا الصنف كان وطنية كوسكيوسكي، فإنه لبث يناضل حتى قُبض عليه في مؤامرة، فقُتل برصاص الروس، وراح ضحية حب الوطن.

ولا زال البولانديون يقاومون إلى اليوم حكم أولئك الممالك الثلاث، ويجتهدون في التخلص من استبدادهم، ولكن لم يحن الوقت الذي تستقل فيه بولاندا المعدومة الذكر، والتي سوف تسمع عن قريب بأنها نهضت فزعزعت القيصر في سان بطرسبرج، والإمبراطورين في برلين وفينا.

فيا أيها البلد الأمين الذي قضى عليه الإنسان بالزوال، وحكمت عليه سنة الجشع الاستعماري بالضياع؛ فذهب ضحية لسفالة الإنسان ودناءته، تيقن أن ذكراك لا ينساها إنسان، ولا يخطر لك أن تلك الحوادث التي انتهت بانمحائك يطويها عالم النسيان، وأن البلاد المستعبدة إذا ذكرت مصيبتك هانت مصائبها.

وأنت يا روح جورج كوسكيوسكي خير وطني مثَّل على مرسح الفضيلة دوره بإتقان، تأكد أن حبك وذكراك راسخة في الأذهان، لا تبلى ما كرَّ الجديدان.

وكيف تفنى وأنت قدمت نفسك قربانًا لوطنك المقدس، وفدى لبلادك المحبوبة، فكنت خير مثال يتبع في الوطنية، وصار الكل يلهج باسمك والشكر قرينه، والمدح خدنه.

أي كوسكيوسكي نَم في قبرك واسترح، فقد صنعت الواجب وزيادة، جاهدت إلى أن قتلت في سبيل حب الوطن.

فإن ذُكر الوطنيون فإنك في مقدمتهم. وإن عُدَّ الشهداء فأنت في أولهم، فيا أيها القائمون في وجوه الأعداء، المتقدين حمية لإنقاذ أوطانكم من البلاء، إذا أردتم مثالًا صادقًا تتخذوه لكم في أعمالكم آية وشعارًا؛ فخذوا حياة جورج كوسكيوسكي، فإنها ذخيرة من خيرة الآثار، ولقنوها أبناءكم من بعدكم، وذروهم يحفظونها في قلوبهم، لتعلمهم حب الوطن وكيف يكون، بل كيف يسهل فيه شرب كأس المنون.

ودانتون يقول: «إذا أردت أن تتغلب فأقدم ثم أقدم ثم أقدم.» ومصطفى كامل كان ينادي: «لا معنى للحياة مع اليأس ولا معنى لليأس مع الحياة.» فجاهدوا في سبيل بلادكم، فإن مصر تناديكم أن اعملوا على خيرها، وكونوا يدًا واحدة حتى يمكنها أن ترتجي منكم خيرًا فتستقل استقلالًا مشهودًا يذكره العالم والتاريخ، والله يجازي كلًّا على قدر عمله إنه خير المحسنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤