الفصل السابع

في وارسو

سار سوبيسكي خارجًا من وارسو في أول الحرب قاصدًا ميدانها وبلاده تنظر إليه بعينين تائهتين كفتاة عذراء هجم عليها عدو ليغتصبها أو كاد؛ فبرز إليه من حيث لا يعلم قرن يناجزه فتناطحا وتبارزا.

هلعت الفتاة فاحتبست أنفاسها، ووقفت دقات قلبها، وسرى الدم باردًا في عروقها، منتظرة نتيجة الكفاح لترى هل ينصر الله منقذها أم يرديه فتموت معه.

هكذا كان شأن وارسو مع الأتراك وسوبيسكي؛ فإنها كانت ساكنة هادئة، والأهلون لا ينبسون ببنت شفة، كأنما على رؤوسهم الطير، منتظرين وصول الأتراك بخوف وقلق.

حتى إذا ما بلغهم خبر جوقزين وانتصار سوبيسكي فيها هبوا كأنهم كانوا في قيود وانطلقوا، فكانت أصواتهم بالغة عنان السماء، ولا غرو فإنهم انتصروا على الأتراك خير أمة حربية أُخرجت للناس.

ومن ثم وصلهم خبر لمبرج فزادهم سرورًا على سرور، وصار ليل بولاندا نهارًا، والاحتفالات آخذة مجراها، والشعب قد نسى إساءات نبلائه فاحتفل معهم بالانتصار.

وكيف لا ينسى في ذلك الوقت وهو زمن الفرح، زمن سرور الأمة.

ولكن في وسط تلك الاحتفالات اعتلت صحة ميخائيل مليك بولاندا وأميرها، وكانت صحته كل يوم تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وكان الأمل في شفائه قليلًا جدًّا.

فكان البلاط مقر النبلاء كل يوم، والأطباء من كل جانب، كل يسعى جهده ليخفف آلامه.

والمقربون منه يقولون: «أفي ساعة السرور والنصر تعتل صحة المليك؟» ولكن الشعب كان لا يهمه؛ مات الملك أو عاش، فإنه لم ينسَ أنه الرأس المدبرة، وأن النبلاء إنما كانوا اليد المحركة لإساءته؛ فلم يعبؤوا بمرضه أو موته.

بخلاف ذلك: إذا كان الملك مراعيًا خير شعبه ودولته؛ فإنه إذا اعتل لبست الأمة عليه ثياب الحداد، وتكدرت من طفلها إلى شيخها، ولا غرو فإن الرأس الصالحة إن مرضت مرض باقي الجسم.

أصيب ميخائيل بفالج عجز نطسة الأطباء عن مداواته، فكان هناك سؤال يدور في خلد جميع النبلاء، «وهو» من سيخلفه على عرش بولاندا ولا وريث له؟ إن الديت إذا اجتمع فلا بد أنهم ينتخبون سوبيسكي.

وهكذا أتى اليوم السادس من شهر فبراير سنة ١٦٧٦، ومات ميخائيل، فاحتفلت بجنازته؛ حيث دُفن باحتفال لائق لمليك مثله.

ولكن تلك الحفلات التي قامت كان الشعب لا يشاركه فيها، فكانت حفلات خالية من الروح الوطنية، والأسف العام.

وفي عصر ذلك اليوم عينه وَصَل وارسو جندي بولاندا يحمل رسالة إلى الكونت سمولنسكي رئيس الديت من جون سوبيسكي، فاجتمع النبلاء في الحال، ولما انتظم عقد المجلس قام الكونت رئيس المجلس خطيبًا، فقال:

أيها الإخوان

إنكم بلا ريب تعلمون خبر انتصار جنودنا الظافرة على الأتراك في واقعتي جوقزين ولمبرج، وإنه لانتصار سيذكره التاريخ، ويتحدث به الحربيون في كل آن.

وقد حوصر قائدنا الهمام جون سوبيسكي في قرية زراونو وهاجمهم الأتراك، ولكنهم أوقعوا على عمل معاهدة هي في جانبنا أكثر مما هي في جانبهم.

تلك المعاهدة تقضي أن يأخذ الأتراك بادوليا، ونأخذ نحن الأكرين مع دفع جزية معلومة.

وهي نتيجة لو تعلمون باهرة، كان الساعي في تحقيقها جون سوبيسكي، الذي كدَّ واجتهد لينتصر ذلك الانتصار الباهر.

والآن فقد مات الملك بلا وريث؛ فوجب على المجلس أن ينتخب رجلًا يقوم مكانه، فلنؤجل اجتماعنا إلى الغد؛ لأن المسألة في غاية من الأهمية، وإن غدًا لناظره قريب.

انتشر خبر رجوع سوبيسكي إلى وارسو؛ فعمَّ الفرح أرجاءها، ورقصت القلوب طربًا، وكان أشدها فرحًا قلب صوفيا، تلك الحبيبة التي كانت تقضي وقتها مصلية له داعية بالنصر والفوز، حتى إذا وصلها خبر رجوعه كاد يثبت قلبها من الفرح، وقبَّلت سرجيوس خادمها الأمين بين عينيه جزاءً لتلك البشرى التي لا يعادلها شيء.

لو عمر أحد البولانديين الأمناء إلى أبريل سنة ١٩٠٨ وشاهد دخول شوكت باشا ظافرًا، بل ولو رأى بعينيه احتفالات الأتراك ومعالمهم لقال: «حقًّا إن التاريخ يعيد نفسه.»

ولا ريب فقد كانت وارسو بعملها هذا تكافئ من أنقذها من الموت وهيأها لأن تكون مملكة قائمة مستقلة.

وصل الجيش وعلى رأسه جون سوبيسكي قبيل الغروب، فكانت وارسو شعلة من نار، بل كما قال أحدهم: لم يُعرف لها في ذلك اليوم ليل.

فقد كان في كل منزل احتفال، وفي كل طريق أعلام وسرادق، كل ذلك ليظهر البولانديون بمظهر العارفين للجميل، المقدِّرين الرجال حق قدرهم.

وفي منتصف الليل بينا كان الاحتفال بالغ أشده، والقوم لاهين غير محتفلين إلا بما هو أمامهم، انسلَّ جون سوبيسكي من بين إخوانه النبلاء إلى الخارج؛ حيث سار ميممًا غار السعادة ليلقى من يحب بعد أن غاب عنها زمنًا مديدًا.

فكان قلبه يكاد يثب من بين جنبيه في الطريق حتى إذا وصل إلى الغار وجد صوفيا واقفة فاتحة له ذراعيها.

فكانت مقابلة تجلَّى فيها الحب الطاهر بأسمى معانيه، وشوهد فيه مغرمان فرقتهما أيدي الدهر، ومن ثَم سمحت لهما بالتلاقي، جلسا وكل ينظر إلى وجه الآخر ليشبع منه النظر إلى أن قالت صوفيا: إيه أيها الحبيب، تلك فرص سمح بها الدهر فتلاقينا بعد أن كنت سائرًا في مواطن الخطر، ورجعت بحمد الله سالمًا، إن فرح وارسو وأهلها لا يعادل شيئًا من فرحي أنا التي كنت أهتز كالسنبلة حركتها الريح فرحًا بانتصاراتك على أمة كالأتراك.

وساعة وصلنا خبر حصار زراونو كاد قلبي تقف دقاته، ودمي يجف مع عروقي، وتجلى أمامي شبحًا للموت يريد أن يخطف روحي، وما أحلاه! فإن الموت يحلو إذا عيش السرور مضى، وكيف تحلو الحياة وأنت بعيد عني؟!

وكانت صوفيا تتكلم وسوبيسكي سكران بخمرة الانتصار والحب، إلى أن انتبه وقد قبَّلته صوفيا، فقال: الآن أيتها الحبيبة زالت الأشجان، وولت الأحزان، وابتسم ثغر الدهر بعد عبوسه، ونجا الوطن المفدَّى، وأديت واجبي، فلنبادل بعضنا غرامًا شريفًا طاهرًا، وحبًّا عذريًّا.

فآه أيتها المحبوبة! كم كنت أفكر في تلاقينا بعد تلك الحرب الشعواء، وهل نلتقي؟

ولكن هي العناية الإلهية تساعد المخلص وتقوي مركزه، وأنا قسمًا بحبنا الطاهر، والسماء اللازوردية، والشمس والقمر، لا يتأثر مثلي على هذا الوطن الأسيف الذي سوف يلاقي حتفه إن لم يلاقِ قائدًا رشيدًا، ولا يغرك ظواهر النبل التي على وجوههم، فإن بين تلك الجوانب قلوبًا كقلوب الذئاب وأشر، وتحت تلك الثياب شراهة النمر وفتكه، وبين تلك الرؤوس عقول أشد حلكًا من السواد.

فأنا أسأل الله أن يبقي هذا الوطن، وأن يقيض له من أبنائه من يقوده في دجى المشاكل، وغوامض المسائل بيد رشيدة، تعرف الصالح من الطالح، وذلك بعد موتي، وأما غرامي أيتها الحبيبة؛ غرامي الذي أقدسه وأعبده، أنتِ تعرفين ذلك، وبرهاني عيناي وقلبي، حركاتي وإخلاصي، وأنتِ على علم من ذلك كله.

والآن فاعلمي أن الانتخاب سيكون باكرًا، فبُعَيْدَهُ سأقدم لأبيك طلبي لأكون زوجك، فإني على ما أرى صرت كفؤًا لأن أخطب إلى نفسي ملاك وارسو الحارس، وأجمل غادة في الوجود، والآن أيتها الحبيبة آن الصبح أن ينبلج، فهيا بنا، وموعدنا بعد غد في منزلكم؛ حيث أتقدم طالبًا يدك.

– ساعدك الله أيها الحبيب في انتخابك وقرانك. دعوة صادرة من قلب يحبك ويهواك، والآن إلى الملتقى.

افترقا، فسار سوبيسكي إلى منزله مخترقًا طريق جونسكي، فوجد جماهير الشعب ترد زرافات ووحدانًا، فعلم أن الانتخاب أيقظ الشعب، وأن ذلك الحيوان — كما يلقبه إخوانه النبلاء — قام ليطالب بحقوقه المهضومة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤