مقدمة

لقد ابتعدتُ بالفعل كثيرًا عن كتابة القصص القصيرة، حتى إنني أشعر بالحرج من مجرد تقديم مجموعة قصص قصيرة لي. ولكن ذلك الابتعاد لم يكن بسبب اتِّباعي لتيار عصر الصحافة الحالي الذي يُقال عنه إنه يمثل مرحلة اضمحلال القصة القصيرة؛ فقمت بالإقلال من تأليف القصص القصيرة، وكأن الأمر مثل عملية تقليل الإنتاج في مصنعٍ للغزل. ولكن الذي حدث أن قلبي ابتعد بشكل طبيعي عن تأليف القصص القصيرة. أما عن فترة شبابي وفتوتي فقد خصصتها لتأليف الشعر والقصص القصيرة، والتعبير فيهما عن أفراحي وأحزاني. فأعتقد أنه مع التقدم في العمر، أني تحولت من كتابة الشعر إلى كتابة المسرحيات، ومن القصص القصيرة إلى الروايات. وكلاهما، المسرحيات والروايات، يحتاج إلى جهد كبير لإنتاج أعمال أعمق بنيةً، تحتوي على عدد أكبر من الكلمات، وهو عمل يحتاج كذلك إلى صبر أطول وقوة تحمل أكبر. وليس أدل على هذا من أنني كنت أُرغم نفسي على ذلك. ويوضح ذلك أنني أصبحت أحتاج إلى التحفيز والتوتر اللازمين لإنتاج الأعمال الضخمة والأكثر شمولية.

وأنا أعتقد أن لهذا الأمر علاقة بتحول أفكاري من شكل الأمثال والحكم القصيرة إلى شكل الأفكار البنائية المتكاملة؛ فعند التطرق إلى فكرة ما واحدة أصبحتُ أكثر ميلًا إلى الاستطراد فيها وإعطائها وقتًا أطول، ثم السير معها بتأنٍّ ورويَّة؛ من أجل إقناع القارئ بها، وأصبحت أتلافى أكثر وأكثر قول الأمثال والإبيجرامات. ربما لو قلت إنه النضوج الفكري لكان لهذا التعبير رونق وجمال، ولكن الأمر عبارة عن توافُقِ تقدُّم العمر مع اضمحلال تدفق الأفكار السريع المتوالي في خفة وانسيابية، وإن كان المرء متعجلًا؛ أي إنه يمكنني القول إنني تحولت من فارس خفيف التسليح في سلاح الفرسان إلى فارس ثقيل التسليح.

حسنًا، القصص التي تحتويها هذه المجموعة هي بالتالي أعمال من المرحلة التي كنت فيها فارسًا خفيف التسليح، لكن الأمر ليس بهذا الإطلاق ولا بذلك التعميم؛ فهناك أعمال تنتمي فعلًا إلى مرحلة الفارس الخفيف بشكل صرف، وهناك كذلك أعمالٌ تنتمي إلى مرحلة التحول إلى فارس ثقيل التسليح، وتتضمن داخلها ذلك بشكل مثقل ومتعب، وقد كُتبت خصيصًا من أجل التدريب على ذلك.

إذا نظرنا نظرة خاطفة إلى قصص «فتًى يكتب الشعر»، و«البحر والغروب»، و«الخوف على الوطن»، فستبدو لنا القصص الثلاث، وكأنها في نطاق الحكايات البسيطة السهلة. ولكن تلك القصص تحتوي ضمنًا على أكثر القضايا إلحاحًا بالنسبة لي. بالطبع من حق القارئ أن يستمتع بها كحكايات بسيطة وسهلة، بدون أي اعتبار لتلك القضايا، (لقد اعترفت لي بالفعل مالكة بار شهير في حي غينزا أنها قرأت قصة «الخوف على الوطن» كقصة غرامية خليعة، وأنها لم تستطع النوم ليلتها بسببها) ولكن هذه القصص الثلاث كان من المحتم عليَّ ككاتبٍ أن أكتبها بأي شكل كان. فقصة «فتًى يكتب الشعر» تحكي عن العلاقة في فترة شبابي، بيني وبين الكلمات (الأفكار)، وتحكي عن نقطة انطلاقي في عالم الأدب، وتكويني النرجسي والقَدَري في الوقت ذاته. في هذه القصة يظهر فتًى ذو مشاعر باردة يملك عينًا ناقدة. لكن لهذا الفتى ثقة بالنفس لا يعلم هو ذاته من أين جاءت، بل وهو هنا يختلس النظرَ إلى جحيم لم يسبق له شخصيًّا أن فتح بابه من قبل. إنها سعادة «الشعر» التي تجتاح هذا الفتى، ثم تقوده في نهاية الأمر إلى خلاصةِ أنه لم يكن شاعرًا من الأساس. ولكن هذا الفشل المفاجئ يصدم الفتى، ويقوده إلى «مكان لا يتذوق فيه طعم السعادة وإلى الأبد مرة أخرى».

أما قصة «البحر والغروب» فتحكي عن أعجوبة عدم حدوث المعجزة رغم الإيمان الكامل بحدوثها، لا بل أعتقد أنني حاولت تلخيص موضوعها، وتركيزه في أنها أعجوبة تتفوق على أعجوبة حدوث المعجزة نفسها. هذه القضية أعتقد أنها قضيتي المحورية التي واصلتُ حملَها على عاتقي عمري كله. أعتقد أن الناس ستتذكر على الفور اليأس الأكثر رعبًا، ذا المذاق الشاعري الذي قيل وقت الحرب العالمية الثانية في شرق آسيا: «لماذا لا تهب رياح الآلهة؟» إن سؤال «لماذا لا يأتي العون من الإله؟» هو السؤال المحوري النهائي والحاسم بالنسبة لمن يؤمن بالإله، ولكن قصة «البحر والغروب» ليست مجرد تجسيد أسطوري لتجربتي مع الحرب كما هي، ولكن على العكس من ذلك؛ فأنا أعتقد أن تجربة الحرب هي أكثر الأشياء التي أوضحت لي مشاكلي وعيوبي الذاتية، تمنِّي المعجزة الذي يتلخص في قول «لماذا لم ينشق البحر وقتها إلى نصفين؟» كان بالنسبة لي أمرًا لا يمكن تلافيه، وفي نفس الوقت، من المفروض أنني قد وعيتُ بوضوح، وفي الواقع منذ كنت في عمر قصة «فتًى يكتب الشعر»، أن ذلك مستحيل الحدوث.

أما قصة «الخوف على الوطن»، فهي ببساطةٍ عبارةٌ عن سيرة خيالية لحادثة ٢٦ فبراير،١ إن ما تم رسمه هنا من مشاهد الحرب والموت، وتأثير التعاون والاندماج الكامل بين الإيروتيكا والولاء للحق، ربما يمكن القول إنها السعادة الوحيدة التي أنتظرها أنا من هذه الحياة. ولكن الأمر المحزن في النهاية أن هذه السعادة لا يمكن وقوعها إلا على الورق فقط. إذن لو كان الأمر كذلك فربما يجب عليَّ، ككاتبٍ، الرضا والاكتفاء بقدرتي على الانتهاء من كتابة قصة «الخوف على الوطن». لقد سبق لي أن كتبت في الماضي: «إذا كان هناك شخصٌ ما ليس لديه متَّسع من الوقت، ويريد قراءة قصة واحدة فقط من قصص ميشيما ورواياته، تكون بمثابة خلاصة تكثف أدب ميشيما كله بحلوه ومره، فمن الأفضل له قراءة قصة الخوف على الوطن؛ فإنها تكفيه.» وشعوري هذا لم يتغير حتى الآن.

حسنًا، هناك كذلك حالات يميل فيها ذوقي إلى الاعتماد تمامًا على الإبداع الفكري الصرف في شكل موقفٍ فكاهي سريع. هذه الأعمال لا يوجد لها موضوع يمكن أن نصفه بأنه موضوع، بل تكون كالسهم الذي تمَّ سحبه لتوجيهه إلى هدف وتأثير محدد؛ إذ تحتفظ القصة بِسِمَة التوتر في كل ركن من أركانها، ويكون الهدف هو «لا وعي» القارئ. فإذا أصابت الهدف تكون «متعةً له»، وتكون القصة بمثابة التوتر الفكري الذي يتذوقه لاعب الشطرنج من المعركة؛ إذ يكفيه تشكيل معركة ليس لها أي معنًى محدد. وقد اخترت من بين القصص التي كُتبت بهذا القصد قصص «ورق جرائد»، و«في سن التاسعة عشر»، و«التاجر»، و«إلهة الجمال»؛ لأنها الأعمال الأجود نسبيًّا في ذلك الإطار.

يوكيو ميشيما
سبتمبر ١٩٦٨م
١  حادثة ٢٦ فبراير في اليابان: محاولة انقلاب فاشلة من صغار الضباط في الجيش الإمبراطوري الياباني المعترضين على انتشار الفساد في الجيش والحكومة، وقعت في ٢٦ فبراير من عام ١٩٣٦م. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤