يوكيو ميشيما بقلم يوكيو ميشيما١

بطلب مُلحٍّ من إدارة التحرير تقرر أن أتكلم عن الروائي الذي يُسمى يوكيو ميشيما، وأنا لا أعرف الكثير عنه. أمامي بعض المعلومات والبيانات عنه جمعتها لي إدارة التحرير، ولكن ما أعرفه عنه فيما مضى أنه كتب رواية «خيانة الفضيلة» (bitoku no yorumeki) وتسبب في انتشار كلمة yorumeki (الخيانة)٢ الغريبة في البلاد وقتها. وأما حديثًا فقد صدر ضده حكم ابتدائي في قضية انتهاك الخصوصية التي أُقيمت ضده؛ فأصبح أضحوكة الناس في اليابان، هذا هو مبلغ علمي به. إنه يؤكد أن «ما يميز الرجل هو الثقافة والعضلات»، ولأنه نفسه يملك الثقافة والعضلات (رغم أنها عضلات بديلة تم إضافتها فيما بعد عن طريق رياضة كمال الأجسام)، فهو يتفاخر بأنه شخصيًّا: النموذج المثالي للرجولة. ولكن رغم امتلاكه تلك الثقافة الأدبية وتلك العضلات المزروعة بواسطة رياضة كمال الأجسام، فهو لم يستطع الانتصار في ذلك العراك الكبير أمام محاكم الدولة؛ ولذا فهو بالفعل يستحق أن يصبح أضحوكة.

وكذلك يحمل هذا الشخص أفكارًا ينفرد بها، فها هو بعد أن وصل لسن التاسعة والثلاثين، يتردد على صالة الألعاب الرياضية (الجيم) راكبًا القطار، مرتديًا بنطلونًا من الجينز وجاكتًا من الجلد. وبالطبع فإن انجذاب النساء له بشكله هذا، أمر مشكوك فيه تمامًا. فالمرأة سواء أكانت عجوزًا أو شابة، في الغالب تكون من المعجبين بالرجل المتأنق الذي يرتدي بذلة غامقة ورابطة عنق رفيعة الذوق، فارتداء زي مثل جاكت جلد قذر وكأنه شجاعة، ستكون النهاية هي المضايقات. ورغم ذلك فلو فعل ذلك شاب في سن التاسعة عشرة أو العشرين من عمره، فلربما تشعر بظرفه، ولكن أن يفعل ذلك الأمر رجل شيخ قد بلغ من العمر مقدارًا معتبرًا، فإن من يراه يشعر بضيق التنفس.

بل ولأن هذا الذوق في الواقع أتي له كنوع من أنواع ذوق النبلاء متقمصًا شخصية الروائي الياباني «كافو ناغاي»،٣ فهو ما يدل أكثر وأكثر على تكلُّفه الزائد. إذا جعلناه هو يتكلم فسيقول: إذا كان فعلًا «نبيل الروح» (تلك الكلمة التي كان الأديب الذي يكرهها كاتبنا بشدة، أوسامو دازاي٤ يحب استخدامها كثيرًا)، فيجب أن يكون البنطلون الجينز «لائقًا» عليه تمامًا. فإن من يحاول أن يظهر نفسه حسن الذوق، بارتداء البذلات الغامقة، فمعنى هذا أنه في الواقع سيبدو مبتذلًا. وإذا كان ارتداء بنطلون من الجينز مع جاكت من الجلد تفوح منه رائحة نبل، فسيكون ذلك نبلًا حقيقيًّا. وليس ذلك فقط بل من أجل أن يكون نبلًا جسديًّا وليس نبلًا روحيًّا فقط، فلا بد من ممارسة رياضة كمال الأجسام. تلك هي نظريته. فهو يرى دائمًا أن الرجولة المثالية كما يقول: «هي امتلاك وجه شاعر وجسد مصارع ثيران». ولكن انطباعي عنه من خلال رؤية صوره، أنه على الأكثر يمتلك «وجه كاتب في محكمة، وجسد عامل باليومية». وهو ما يجعله يبتعد كثيرًا جدًّا عن الرجولة المثالية.

فأولًا، من الصعب علينا أن نفهم بالتحديد، من هو الذي يريد ميشيما إقناعه بأن ما يفعله أناقة؟ فقطعًا من المستحيل أن تفهم النساء تلك الأناقة الصعبة. إذن لا يوجد في نهاية الأمر إلا الاعتقاد أنه يفعل ذلك من أجل إرضاء غروره الذاتي فقط. ولكنني سمعت أنه يرد على المعترضين عليه بذلك القول، مستشهدًا بعبارة بودلير التالية: «جاذبية الذوق الرديء التي يصعب نسيانها، هي في تذوق متعة النبلاء من خلال امتعاض الآخرين منك.»

إذا كان الأمر كذلك؛ فيجب علينا أن نقول إنه حقق نجاحًا بالفعل في هذه النقطة إلى حد ما.

إذن هو في الحقيقة رجل من طراز قديم، لدرجة الاقتباس من بودلير شاعر القرن التاسع عشر. فلا يزال اتجاهه قديمًا جدًّا، بخلاف الشباب من الكتاب الذين يهيمون حبًّا في هنري ميلر ونورمان مايلر. ورغم ذلك فهو يحب كل جديد أضعاف حب البشر العاديين للجديد، فعندما نظمت اليابان دورة الألعاب الأوليمبية، تجده قد أهمل أعمالًا في غاية الأهمية، وأخذ يدور من ملعب إلى ملعب كل يوم ممسكًا بمنظار مكبر في يده لمشاهدة المباريات. وعندما يسمع أن هناك فندقًا جديدًا سيُفتتح، تراه قد لحقه سريعًا ليبيت فيه أول لياليه. وإذا سمع أن إحدى الطرق السريعة الجديدة سوف يبدأ المرور بها من الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، تجده ينتظر داخل سيارته أمام مدخل الطريق في هانيدا قبل خمس دقائق من الموعد. وهكذا تراه يعيش أيامه مشتت الذهن، منهك الأنفاس. ولكن أحد البراهين على أنه إنسان عتيق الطراز، هو كرهه للطائرات النفاثة كراهيته للموت، وإذا اضطر مرغمًا أن يستقلها، تجده وقت إقلاع الطائرة وقد امتلأ كفَّا يديه بالعرق، وهو يرتجف ويرتعش من الخوف.

إنه يشتهر بضحكاته العالية، فاتحًا فمه بدرجة كبيرة مثل البُلهاء، والتي بسببها انهارت كل لحظات الرومانسية الرقيقة التي حدثت له في حياته.

وهو كذلك يزين منزله بروبابيكا من التحف الغربية القديمة التي جمعها من خلال الشراء بمبالغ ضئيلة، مما يجعل المنزل ضيقًا بها، ويأتي ذلك فوق أرضية من بلاط أرضي من طراز رقعة الشطرنج باللونين الأخضر والأبيض، على نحو ما يظهر في مجلة «سانبون» للتصاميم المعمارية، وهو ما يجعلك تعتقد أن صالونًا للحلاقة تحوَّل كما هو فجأة إلى محل لبيع الخردوات القديمة.

في الواقع كلما بحثت في تفاصيل المعلومات التي جمَّعتها لي إدارة التحرير، كان من الصعب عليَّ معرفة هل هو يحمل إحساسًا مرهفًا بالجمال؟ أم هو إنسان خام غليظ الحس تمامًا تجاه ما يسمى بالتوافق؟ هذه النقطة غير معروفة إطلاقًا. إذا كان يحب التوافق، فهو يحب أيضًا التباين القوي، ورغم أنه من الأفضل الانحياز إلى أحدهما، فإنه وبسبب طمعه، يحاول الجمع بين حب الأمرين معًا. ألا يدل هذا على أنه هو نفسه أصبح لا يعلم من أمر نفسه شيئًا؟!

ويبدو أن كرهه للبشر قد ازداد سوءًا تدريجيًّا مع مرور السنين، وفي نفس الوقت قويت مشاعر الوحدة عنده، وسُمْعَتُه مؤخرًا أنه أصبح في الواقع إنسانًا يصعب التعامل معه. يا للمسكين! هذا الروائي الذي تربى تربية أرستقراطية مُدللة، بدأت عينه تتفتح تدريجيًّا على قاع هذا العالم البائس، وبعد أن تفتَّحت عيناه، أصبح له ميل لنبذ كل شيء، يرفض هذا ولا يرضى بذاك. ولذا فشخص بهذه المواصفات لا ضرورة إطلاقًا لسماع فلسفته التشاؤمية بشكل جدي، يكفي فقط أن تستمع له وأنت تقول له موافقًا: أجل … أجل.

الشخص الذي يريد أن يرى وجهه سعيدًا سعادة حقيقية (طبعًا هذا الحديث بافتراض وجود شخص رديء الذوق لهذه الدرجة)، فليذهب ليشاهده بعد أن ينتهي من ممارسة تمارين كمال الأجسام أو رياضة الكندو، وقد أخذ دشًّا، ثم بدأ يستمتع بشرب الكوب الأول من البيرة. في حالته النفسية تلك، لو أتيت أنت لتتطفل عليه وتحاول أن توجه له حديثًا في الأدب مثلًا، فلا أدري كيف سيقوم بتعنيفك، بأسلوب في غاية التعجرف والبرود.

أما من يقول: «إذا كان يحب الرياضة لهذه الدرجة ويكره الأدب، فلماذا لا يهجر الأدب سريعًا ويتحول إلى لاعب رياضي؟» فهو شخص معدوم الإحساس. فأولًا إنه لا يمتلك تلك الموهبة التي تجعله قادرًا على أن يصبح لاعبًا رياضيًّا، وفي الأصل الوقت متأخر جدًّا لفعل ذلك؛ ولهذا فهو كل ليلة يلوك الأدب الذي يفترض أنه يكرهه، ويقضي الليالي ساهرًا حتى الصباح مستمرًّا في كتابة الروايات على مدى ما يقرب من عشرين عامًا. ومهما لاقى في ذلك من مِحَن ومتاعب لمرات عديدة؛ فهو مستمر في كتابة الروايات دون أن يتعظ. وكلما استمر في الكتابة أصبحت رواياته أكثر صعوبة، مما يجعله يستشيط غضبًا، ثم يفرغ غضبه في تناول البوفتيك.

عند التمعن في صفات هذا الرجل، ومن خلال كتاباتي عن شخصيات الرجال التي داومت عليها حتى الآن، ربما يبدو لي أنه إنسان عبثي من الدرجة الأولى، ولكنه كذلك رجل من الرجال. وربما في المستقبل القريب يستطيع القيام بعمل هائل للغاية. فلنراقبه مع القراء بصبر وأناة.

١  هذه المقالة كتبها يوكيو ميشيما عن نفسه وهو في عمر التاسعة والثلاثين، أي قبل انتحاره بحوالي ست سنوات. المقالة يتكلم فيها ميشيما عن نفسه بصيغة الغائب وكأن الذي يكتب هو شخص آخر. وتشع روح السخرية من النفس في أغلب أجزاء المقالة التي يحلل ميشيما فيها نفسه كرجل وليس ككاتب أو روائي، بعد أن قام في مقالات سابقة بتحليل شخصيات لمشاهير من الرجال منهم يابانيون ومنهم مشاهير أجانب مثل ألفيس بريسلي وآلان ديلون وفيدل كاسترو. وربما تتنبأ نهاية المقالة بما سيئول إليه مصير الكاتب فيما بعد. (المترجم)
٢  المعنى الأصلي للكلمة هو تعثُّر أو ترنُّح ولكن صارت الكلمة تُشير إلى معنى الخيانة الزوجية بعد انتشار الرواية كما ذكر المؤلف. (المترجم)
٣  كايفو ناغاي (١٨٧٩–١٩٥٩م): روائي ومترجم ياباني شهير، كان والده من كبار موظفي الدولة، وكان عمه محافظًا لإقليم فوكوي. حصل على نيشان الثقافة من الحكومة اليابانية عام ١٩٥٢م. أشهر أعماله روايات «حكايات بوكوتو الجميلة»، و«حكايات فرنسا»، و«حكايات أمريكا». (المترجم)
٤  أوسامو دازاي (١٩٠٩–١٩٤٨م): أديب ياباني، ولد في أسرة غنية من كبار ملاك الأراضي في شمال اليابان تشتغل بالسياسة. وعائلته حتى الآن هي التي تمثل تلك المنطقة في البرلمان الياباني. أشهر أعماله «شمس غاربة»، و«زوجة ڤيون»، و«إنسان فاقد الأهلية». انتحر مع عشيقة له بإلقاء نفسيهما في أعالي نهر تاماغاوا غرب طوكيو. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤