الفصل السابع

الفُتوحُ

في سبع سنين قصار فتح العرب كل ما اقتحموه من بلاد الفرس والروم …

فتقوضت في الشرق دولة الأكاسرة، وتداعت في الشمال والغرب دولة القياصرة، وزال سلطانها من الشام وفلسطين ومصر وإفريقية الشمالية، وشغلت بنفسها زمانًا عن الفاتحين وما فتحوه.

عجيبة من أعظم عجائب التاريخ …

لا يبرح المؤرخون حتى أيامنا هذه يأتون في تعليلها كل يوم بعلل جديدة، ويفيضون في شرح السوابق واللواحق على النحو الذي يفسر العجب بالمألوف، ويرد الدهشة الجامحة إلى قرار البحث والتدليل.

وهو جهد لا نعرض له في هذا الكتاب، ولا يلزمنا هنا أن نستقصيه ونحاول البت فيه.

إنما يعنينا منه شيء واحد هو تقدير عمل خالد، وتقدير الكفاية التي تضطلع بذلك العمل، وليس تقدير ذلك بعسير ولو بقي التاريخ متشعب اللسان في استقصاء علل الهزائم التي نزلت بالفرس والروم.

فالأسباب التي قضت على الفرس والروم بالهزيمة — كائنة ما كانت — ليست هي الأسباب التي قضت للعرب بقيام دولة وانتشار عقيدة؛ لأن استحقاق أناس للزوال لا يُنْشِئ لغيرهم حق الظهور والبقاء.

كذلك لم يكن انتصار العرب على الفرس والروم لأنهم عرب وكفى، ولم تكن المسألة في لبابها كفاحًا بين الأجناس والعناصر بما لها من المزايا وما فيها من العيوب.

فقد كان في أرض الدولتين عرب كثيرون يدينون لهما بالطاعة وينظرون إليهما نظرة الإكبار والمهابة، وكان القادرون منهم على القتال أوفر من مقاتلة المسلمين عددًا وأمضى سلاحًا وأقرب إلى ساحات العراق والشام من أولئك النازحين إليها من جنوب الجزيرة العربية.

وقد كان هناك عرب كثيرون انهزموا أمام المسلمين وهم كذلك أوفر في العدد والسلاح وأغنى بالخيل والإبل والأموال.

فهي نصرة عقيدة لا مراء …

وينبغي أن يذكر المؤرخون هذه المسألة من جانبيها ولا يقصروا النظر فيها إلى جانب واحد …

فاستحقاق النظم القائمة للضياع هو في وقت واحد سبب ضياعها، وهو حجةالعقيدة التي تخلفها وتنتصر عليها في ساحة النزاع.

إذ كان أدعى الدواعي لظهور عقيدة جديدة أنَّ النظم القائمة قبلها لا تتماسك ولا تصلح لحماية ذمارها.

فإذا قيل: إنَّ العقيدة الجديدة قد انتصرت لتداعي النظم التي اصطدمت بها فليس هذا تعليلًا وكفى، ولكنه كذلك شفاعة وحجة للظهور، ودليل على أنها حق صالح كأصلح الحقوق الكونية، وأنها علاج عالمي مطلوب جاء في الأوان.

لكن القول بانتصار العقيدة هنا لا يغني عن كل قول …

أفكل مناضل متذرع بالعقيدة صالح في تلك الآونة للانتصار؟

ينبغي أن يكون الأمر كذلك لو كان تعليل النصر بالعقيدة مغنيًا عن كل تعليل …

ولكن الواقع أنَّ الذين انتصروا بالعقيدة كانوا رجالًا أولِي خبرة وقدرة يؤمنون بها ويعرفون كيف يتغلبون بها على أعدائها.

وقد أفلح أناس وأخفق آخرون.

فانهزم عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة حيث انتصر خالد في اليمامة …

وخرج خالد وعياض بن غنم لفتح العراق من طرفيه في وقت واحد، فسار خالد من نصر إلى نصر، ومن توفيق إلى توفيق … ولبث عياض يتردد ويقدم خطوة ثم يحجم أخرى حتى أدركه خالد بالمعونة في دومة الجندل …

وسبق خالد بن سعيد خالد بن الوليد إلى الشام، فغرر به الروم حتى استدرجوه إلى مرج الصفر، فأوغل وراءهم ولم ينتظر حتى تدركه أمداد الخليفة التي أرسلها إليه تباعًا بقيادة عكرمة بن أبي جهل والوليد بن عقبة وذي الكلاع الحميري، فأحدقت به جحافل الروم وأوشكت أن تلتف به من ورائه، ولولا يقظة الخليفة وتلاحق أمداده في أوقاتها لقضوا عليه …

فلا انحلال الدولتين الفارسية والرومانية بمغنٍ عن الاعتراف للعقيدة المنشئة بحقها في الغلب وحاجة العالم إليها في تلك الآونة …

ولا العقيدة المنشئة بمغنية عن فضل رجالها وحماتها، وكفاية سواسها وقادتها …

فهي عقيدة منشئة يذود عنها حماة قادرون، وكان خالد بن الوليد في طليعة هؤلاء الحماة.

•••

سبقه اسمه إلى أطراف الدولتين، فحارب أعداءه بهيبته قبل أن يحاربهم بسيفه، وكانت هذه أول مزية لاختياره، وأول فضل يحسب له في ميزانه ويضاف إلى قيادته، ويعمل عمله في نفوس أعدائه كما يعمل عمله في نفوس أتباعه …

قال صاحب دومة الجندل لقومه حين سمع بمسيره إليه: «أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرًا منه، ولا أصمد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدًا — قلوا أو كثروا — إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم …»

وكان الرجل من العرب يعيش في الشام ويهجر موطنه الأول ولكنه يسمع باسم خالد، ويتلقى أنباءه من وراء المهامه والدروب، فما هو إلا أن ينضوي إليه حتى يوقن بيمن طائره ويسرع إلى طاعة أمره، عليمًا بأنه لا يأمر الأمر إلا وهو قادر على إنجازه، كما قال الشاعر الفارسي عمرو بن العمرد:

إذا قال سيف الله كروا عليهم
كررت بقلب رابط الجأش صارم
ويتناقل الرواة قصة لقائد من قادة الروم لا تقل فيها دلالة الخيال عن دلالة الحقيقة، إن كانت القصة من توليد الخيال:

قيل إنَّ قائدًا من قادة الروم اسمه جورج برز له في أكبر وقائع الشام وسأله: أحقٌ أنَّ الله أنزل على نبيكم سيفًا من السماء، فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟

قال خالد: لا.

قال: فبم سميت سيف الله؟

قال: تابعناه … فقال: «أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين»، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

وكل هذا شبيه بأن يكون …

فإن لم يكن نبأ خالد قد وصل إلى كل عدو من أعدائه، فالذي لا ريب فيه أنَّ أتباعه كانوا على علم بنبئه، فكانوا على ثقة بسداد رأيه ومضاء عزمه، وكانوا يطمئنون إليه فيعلمون معه عمل المطمئن إلى نجاح سعيه، وهذا هو فضل القيادة الصالحة في نفوس الأتباع.

خرج خالد وزملاؤه للقاء الفرس والروم بعد وفاة النبي — عليه السلام — بسنة واحدة، وبعد حروب طالت في الجزيرة العربية عدة سنين …

فلو كانت الفتن وموت الزعماء قاضية على كل أمة كيفما كان السبب وكانت البيئة لكان مصاب العرب كمصاب الفرس والروم في تلك الأعوام: فتن وفتن … ونبي مات أو قيصر شاخ … فهؤلاء وهؤلاء في العلة سواء …

لكن حركة العرب حركة إنشاء ونماء …

وحركة الروم والفرس حركة اختلال وتفويض …

وجسم الفتى اليافع مضطرب لا يستقر على حال …

وكذلك جسم الهرم الذاهب، ولكن شتان اضطراب واضطراب …

•••

كانت علل الفناء قد اصطلحت على بنية الدولة الفارسية يوم قصد خالد إلى تخومها من ناحية السواد.

وكانت علل مثلها — وإن كانت أخف منها — قد اصطلحت على بنية الدولة الرومانية الشرقية، يوم قصدها زملاؤه القواد من شتى نواحيها قبل الشام والبلقاء … وهذه خلاصة وجيزة عن الحالة يومئذ في الدولتين؛ يقول شراح الحضارات إنَّ الحضارة تبتدئ بمعنى روحي قليل المظهر، ثم تنتهي إلى مظهر ضخم يتراخى به الزمن حتى لا تبقى فيه بقية من المعاني الروحية …

وهذه هي الحالة التي كانت عليها دولتا الفرس والروم عند اصطدامهما بالدعوة الإسلامية في نهضتها الأولى.

ففي بلاد الفرس، خَفَتَ صوت الدين ومضى على ظهور «زرادشت» مصلحهم الديني الكبير زهاء أربعة عشر قرنًا، فرث الصالح من مذهبه وازداد الطالح سوءًا على سوء.

وخلف في بيت الملك أمراء ضعفاء بعد آبائهم الأقوياء فشغلوا بالنزاع بينهم وأسقطوا هيبتهم في بلادهم وغير بلادهم ونهكوا قوة الدولة في فتن وبيلة وخيمة وترف أوبل وأوخم، وما برحوا في طغيانهم وتهافتهم حتى ولي الملك أردشير فرأب صدعه وأوشك أن يعيده إلى سابق مجده وتركه في القرن الثالث للميلاد وهو موحد بعض التوحيد بالقياس إلى ما كان عليه قبل ذلك من التفرق بين العشائر والرؤساء.

ثم نُكس النكسة الأخيرة وشاع فيه الفساد علوًّا وسفلًا قبيل ظهور الدعوة الإسلامية، وكان الملك المعاصر للنبي — عليه السلام — كسرى أبرويز، فثار به ابنه شيرويه فقتله ونكل بذوي قرباه، وأعقب طفلًا صغيرًا فلم يلبث أن قُتل وتولى بعده قائد الجيش شهر يزار، فنفس عليه القواد والعظماء منزلته المغصوبة فقتلوه وولوا عليهم بوران بنت كسرى أبرويز، فلم تتم في الملك سنة وبضعة أشهر حتى ماتت وخلفها فتًى من بني عمومتها الأبعدين، ثم قتل وخلفته بنت أخرى لكسرى أبرويز فقتلت، وقُتل من بعدها، إلى أن تولى الأمر يزدجرد بن شهريار والدولة تترنح من فرْط الإعياء.

ومنيت في أيامها الأخيرة بضربة قوية في حروبها الخارجية: وهي غلبة الروم عليها وانتزاع مصر والشام منها، ورد حدودها إلى دجلة والفرات بعد أن طغت على حدود آسيا الصغرى، وقبل هذا منيت بضربة دون هذه الضربة في القوة والضخامة، ولكنها أشد منها أثرًا فيما نحن بصدده من أحوال الدعوة الإسلامية. وتلك هي ضربة الهزيمة ﺑ «ذي قار» التي تقدم وصفها في أول هذا الكتاب … فإن هذه الهزيمة أطمعت فيها العرب بعد مخافة وهيْبة، ولا سيما العرب المقيمين بجوار ذي قار وأرباض السواد، ومنهم جند خالد وزملاؤه الذين تقدموا لمنازلة الفرس في العراق.

وساءت من جراء ذلك كله شئون الأمة في الديار الفارسية، فتهالك العلية على المظاهر وانغمسوا في الترف واستكثروا من النفائس والأموال، وشغلوا عن سواد الأمة؛ فشاع بينهم الفقر والضنك والتذمر وبُغض الحكام، ولم يعلموا فيم هم مسوقون وعلى أي شيء يقاتلون ويتفانون، وهي حال تؤذن بالتصدع والانهيار لأول صدمة تهز الأركان والجدران.

ومن أعجب العجب أن يفطن رجل كالمغيرة بن شعبة لدلالة هذه الحال، وهي معدودة في عصرنا من دروس علوم الاجتماع والتاريخ التي لا يصل إليها الباحث إلا بعد مقارنة واطلاع واسع مستفيض، ولكنه العجب الذي يفسر لنا ما هو أعجب منه، وهو وفرة نصيب العرب يومئذ من أقطاب الرجال ذوي الحِنكة والنظر البعيد، وأنهم قد ظفِروا؛ لأنهم كانوا على أُهْبة في هذا الباب حرمتها كلتا الدولتين، على كثرة من بهما من الزعماء أصحاب المظاهر والشارات.

دخل المغيرة بن شعبة على رستم بطل الفرس المشهور في التواريخ والأساطير فجلس معه على سريره، فاستكبر أعوانه هذه الجرأة من ذلك البدوي «المغرور» واجتذبوه من مكانه على السرير في عنف شديد، فما اهتزَّ المغيرة ولا استكان ولا زاد على أن قال: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى أسفه منكم، إنَّا معشر العرب لا يستعبد بعضُنا بعضًا، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى — أي نتساوى — فكان أحسن من الذي صنعتموه معي أن تخبروني أنَّ بعضكم أرباب بعض، إنَّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد. وإني لم آتكم ولكن دعوتموني … اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأنَّ مُلْكًا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول …

كلمات من ذهب …

لو كان فيمن سمعها من الفرس من يضارع المغيرة لقال في جوابه: «واليوم علمنا أنكم غالبون، وأن أحق الملك أن تقوم له قائمة لهو الملك الذي قوامه من هذه السيرة وهذه العقول» …

على أنَّ الأمم لا تقفُر من الأحلام كل الإقفار في أظلم ظلمات الجهالة والإدبار، فقد وزن «يزدجرد» شأن العرب والفرس بالميزان الصحيح؛ حين قال لرستم: «إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عُقاب أوْفَى على جبل يأوي إليه الطير بالليل، فتبيت في سفحه في أوكارها، فلما أصبحت تجلت الطير فأبصرته يرقبها، فإن شذ منها شيء اختطفه، فلو نهضت نهضة واحدة ردته، وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجو كلها إلا واحدًا، وإن اختلفت لم تنهض فرقة إلا هلكت، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم.»

وصف صادق من جملة أطرافه …

وعلامة من علامات الانحلال ألاَّ ينفع الوصف الصادق ولا يهدي العارفين به إلى رأي متفق عليه، كما يُعرف المرض ولا ينتفع بعرفانه في العلاج إذا شارف الجسم الفناء؛ ولهذا اتفق يزدجرد ورستم على الصفة ولم يتفقا على العمل النافع مع العرب، فافترقا مختلفين.

وكما بقيت في أهل فارس يومذاك مسكة من حلول بقيت لهم كذلك مسكة من مروءة الفرسان، أو على الأصح مسكة من المراسم والمأثورات الحربية، وهم أولع أمة بالمراسم والمأثورات كافة …

وهذه المسكة شرف للقادر ولكنها بلاء على العاجز المتخاذل، كأنها الوثبة التي تعجل بالهلاك إن وثبها المريض الهزيل، وإنها في الأقوياء لمعوان على المجد والطموح.

فربما أقدموا على القتال وهم يحسبون أنهم مقدمون على مباراة في حلقة صراع، ينظرون عدوهم حتى يصل إليهم كما ينظر المصارع نده حتى يأخذ بعضديه في أمان.

ففي وقعة الجسر أقبل بهمن جاذويه ومعه راية الفرس الكبرى من جلود النمور طولها عشر أذرع وعرضها ثمان، وبين يديه جيش يربو على جيش المسلمين مرات، فأرسل إلى أبي عبيد قائد المسلمين يقول له: إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تخلوا بيننا وبينه، فتعجل أبو عبيد وعبر النهر على جسر نصبوه، والفرس ينتظرون.

مثل هذه المراسم جهل بحقيقة الحال، وحقيقته أنه صراع حياة وموت بين أمتين، وليس بحلبة سباق أو حلقة رهان بين لاعبين في ملهاة.

•••

أما دولة الرومان الشرقية، فقد كانت في حال لا تفضل حال جارتها وعدوتها في محنة العقيدة ومحنة النزاع على الملك والولاية.

ضرب المثل بالجدل البيزنطي في التاريخ القديم والحديث من جراء الخلاف على المذاهب الدينية في الدولة الرومانية الشرقية، وكان معظم أبناء الولايات من النساطرة واليعاقبة يخالفون مذهب الدولة الرسمي ويمقتون رجاله ويرمونهم بالهرطقة١ والوثنية، وكان القائلون منهم بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح أقرب إلى الإسلام منهم إلى المسيحية …

وابتذل عرش الملك بالقتل والاغتصاب؛ فضعف الولاء له في نفوس العلية وقواد الجيوش، وقد استقر الأمر زمنًا للقيصر هرقل الذي حضر عهد النبي — عليه السلام — ولكنه شقي بالفتن في أخريات عهده وركبته الوساوس في شيخوخته، ولا سيما بعد بنائه ببنت أخته، فاعتقد أنه مغضوب عليه مستحق لعقاب السماء.

ومن كان من الرعية ذا دين غير المسيحية فهو ساخط ناقم كاليهود والوثنيين؛ لأن رؤساء الكنيسة والدولة اتهموهم غير مرة بالتواطؤ على فتح البلاد مع المغيرين عليها من الفرس والبرابرة، فأثخنوا فيهم قتلًا وتشريدًا حتى قيل إنهم كانوا يفتكون في المذبحة الواحدة بعشرات الألوف من الرجال والنساء والأطفال.

وعاشت في ظل الدولة الرومانية قبائل غسان وجذاع وكلب وتنوخ وغيرها من قبائل العرب، فكانت تعينها وتستعين بها على منافساتها من قبائل المناذرة في الحيرة … ولكن غلبة الفرس تارة وغلبة الروم تارة أخرى على تلك البقاع ضيع الثقة بالدولتين، وهيأ نفوس العرب لقبول دعوة جديدة ولا سيما الدعوة التي تأتيهم من أبناء جنسهم في الجزيرة العربية وبها اعتزازهم على العجم كافة من فرس وروم، واتفق في تلك الفترة انقطاع الهبات التي كان رؤساء العشائر يتلقونها من قياصرة الدولة وولاتها فبرموا بها وودوا لو انقلبوا عليها ساعة يأمنون كيدها ويوثقون الصلة بينهم وبين خصومها.

ويؤخذ من رسالة فجيتيوس Végétius في علم الحرب أنَّ نظام الجيش الروماني في الغرب والشرق، كان قد تعاوره الخلل قبل ظهور الدعوة المحمدية بأكثر من قرنين، ففي هذه الرسالة يقول فجيتيوس الذي يعدونه إمام أساتذة الحرب بين الغربيين: إنَّ «اللجيون» قد وهن واضمحل ويذكر من أسباب وهنه واضمحلاله أنَّ مناصبه الكبرى أصبحت تمنح للمحاباة والصنيعة بعد أن كانت وقفًا على الكفاية والخدمة الطويلة، وإنَّ عامة جنوده يهربون منه ويؤثرون الخدمة في الفرق المتطوعة؛ لأنهم يستثقلون تمريناته وأسلحته ويستثقلون جزاءه ويضيقون ذراعًا بوطأة نظامه.

وقد أتيحت للرعية في الشام والبلقاء فرصة حسنة للمقارنة بين حكم العرب وحكم الرومان، قبل الوقائع الفاصلة التي دارت فيها الدائرة على الجيوش الرومانية. فقد كان رجال الجيش الروماني يهبطون المدينة فينهبون بيوتها وغلاتها ويستبيحون أعراضها ويهتكون حرماتها ويسكرون ويعربدون فلا يأمنهم أحد مطموع في ماله أو غير مطموع منه في شيء على الإطلاق، وإنما هي العربدة والضراوة والاستخفاف، ثم جاءهم قوم لا يعتدون على عرض ولا يقربون الخمر ولا يعفون عمن يقربها منهم ولو كان من عليتهم، ويقيمون في المدينة ثم يرحلون عنها فيردون الجزية إلى أهلها؛ لأنهم إنما أخذوها لحمايتهم وحمايتها، فكانت المقابلة بين الحكمين مدعاة إلى التراخي في الدفاع عن الحكم القديم وتمني الغلبة للحكم الجديد، وقد تتجاوز ذلك إلى المساعدة الظاهرة كما حدث من بعض العرب المسيحيين والوثنيين على السواء.

•••

بل ربما تجاوزت كل هذا إلى إزعاج ثقة القادة بأنفسهم عند المقابلة بينهم وبين قادة خصومهم … فمما يروى في هذا المعنى وهو كثير أنَّ أخا القيصر وقائده سأل رجلًا من قضاعة عن شأن المسلمين بعد ما أقام بينهم أيامًا، فقال له: «هم رهبان بالليل فرسان بالنهار، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه إقامةً للحد، فقال القائد: لئن كنت صادقًا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.»

ولما بدأت المعارك بين العرب والدولتين كان العرب ربما أخطأوا فلم يضربوا ضربتهم في موضعها فيتسع لهم الوقت لإصلاح الخطأ والرجوع إلى الخليفة لطلب النجدة والمشورة؛ لأن أعداءهم مشغولون أبدًا بنزاع أو فتنة أو ريبة. أما الروم والفرس فلم يكن لهم متسع لإصلاح خطأ يخطئونه وكثيرًا ما كانوا يخطئون، فبدأت المعارك بين الفريقين وعند أحدهما كل مظاهر الأسباب التي تدعو إلى النصر، وعند الآخر كل حقائق الأسباب التي تدعو إليه.

وقد اتفقت كلمة الصحابة على حرب فارس والروم، وسيف الله بوادي الوبر في اليمامة لم يطل استقراره في غمده بعد وقعة عقرباء.

وهناك حلقات من الحوادث تسوغ لنا أن نعتبر حرب فارس الثانية امتدادًا للوقعة الأولى بذي قار، أو استئنافًا لتلك الوقعة بعد فترة لا تحسب طويلة في تواريخ النزاع بين الأمم، وهي نيف وعشرون سنة، فالقبائل التي ارتدت بالبحرين وقبائل تغلب التي انحدرت مع سجاح من الجزيرة كانت كلها من أتباع الدولة الفارسية على صورة من صور التبعية في ذلك الزمان، وكانت تعيش كلها في ظل تلك الدولة من أيام المناذرة إلى زوال ملكهم بعد وقعة ذي قار.

والبطلان اللذان تعودا ضرب الفرس والإغارة على دهاقينهم في تلك الأصقاع كانا من بني بكر الذين نهضوا بالعبء الأكبر في وقعة ذي قار، وما برح العداء بينهم وبين الفرس والقبائل التي تواليهم على أشد ما يكون: وهما المُثَنَّى بن حارثة الشيباني وسويد ابن قطبة العجلي، وكلاهما على ذكر من هزيمة الفرس وعلى خبرة بقتالهم في أطراف العراق، وقد صحب المثنى النهر في غاراته حتى بلغ القطيف وهجر ولم يقف له أحد في طريقه، فهذا مع عجز الفرس عن تأديب رعاياهم في اليمن لدخولهم في الإسلام قضيا على تردد الخليفة في أمر البعثة الفارسية، فصحت عزيمته وعزيمة أصحابه على تجريدها بعد الفراغ من حروب الردة بأسابيع معدودات.

•••

وقد علمنا من دأب الخليفة الصديق أنه كان لا يبرم أمرًا إلا أحكم تدبيره مرحلة مرحلة من طريقه إلى منتهاه …

وهكذا كان شأنه في البعثة الفارسية: فإنه ندب لها قائدين هما خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، وأمر خالدًا أن يتجه إلى الأبلة ثغر الهند كما سماها، وأمر عياضًا أن يتجه إلى المصيخ بشمال العراق، فأيهما بلغ الحيرة قبل الآخر كان هو قائد الجيشين معًا ووجبت طاعته على زميله، وقال لهما: «إذا اجتمعتما بالحيرة وقد فضضتما مسالح فارس أمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءًا للمسلمين ولصاحبه وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم.»

خطة محكمة يبلغ بها الخليفة مقاصد شتى في وقت واحد … ففيها ذكاء المنافسة بين القائدين، وفيها تشتيت جهود الفرس في الدفاع عن بلادهم، وفيها تدبير النجاة سلفًا لمن يحتاج إليها من الجيشين، وفيها تيسير أمر الماء والكلأ في الطريق للجيشين معًا؛ لأن أمواه الطريق ومراعيه تضيق بالجيشين المجتمعين إذا سارا في طريق واحد.

وكان الصديق وإخوانه يعلمون أنَّ المسألة في هذه الحرب مسألة يقين وعزيمة وليست مسألة كثرة وهيئة …

فحرص لهذا على أن يجنب الجيوش الإسلامية مخاوف المرتدين ونكساتهم، وأوصى القائدين بألا يقبلا أحدًا منهم، وألا يكرها أحدًا من غير المرتدين على المسير في جيشهما ما لم يقبل على الحرب برضا منه ورغبة، ولما نظر خالد إلى من حوله يرفض كثيرهم ويبقى قليلهم كتب إلى الخليفة يستمده، فأمده بفارس واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي … فعجب أصحابه وقالوا له: أتمده برجل واحد؟ قال: نعم؟ لا يهزم جيش فيهم مثل هذا؟

ولم تمض أيام حتى ظهر للمسلمين أنه مدد كافٍ وأي كفاية، فإن ثقة الناس بجيش يكون القعقاع فيه ويتولى قيادته خالد بن الوليد قد جاءت بالمتطوعين للقتال من كل صوب وحدب. فبلغ جيش خالد يوم شارف ميدان القتال قرابة عشرة آلاف عدا جيش المثنى بن حارثة وهو يبلغ ثمانية آلاف، ولم يتقدم المسلمون خطوة في ميدان القتال حتى كانت للقعقاع وقفة لعلها أنقذت الجيش كله وأنقذت البعثة كلها من بدايتها، ولم يكن أحد ليعلم ماذا تكون العاقبة لولا تلك الوقفة التي تعلق بها الكثير من مصير جيش الفرس ومصير جيش المسلمين.

ففي الوقعة الأولى، دعا القائد الفارسي — هرمز — خالدًا للمبارزة قبل التحام الجيشين، وأضمر نية الغدر به حين يخرج منفردًا بين الصفين، فوكل به شرذمة من فرسانه ينقضُّون عليه وهو مشغول بمبارزته فيراع الجيش العربي بمقتل قائده كما سبق إلى وهمه، ويطبق الجيش الفارسي بعدده الكبير على الجيش العربي بعدده القليل، فتكون الغلبة لأكبر الجيشين وأكمل العدتين.

وأوشكت هذه المكيدة أن تتم على النحو الذي دبره هرمز لولا أنه أخطأ الحساب في اغتراره بقوته وجهله بصولة خالد في مبارزته، فظن أنَّ الجولة بينهما تطول قبل أن يخرج فرسانه للغدر بخالد، ولكنه صرع في جولة واحدة وفوجئ أصحابه بهذه السرعة، فاقتربوا من خالد على عجل وهو مشغول بالإجهاز على قائدهم، وإذا بالقعقاع أسرع إليهم من لمح البصر ومن ورائه جيش المسلمين بجملته يضرب في قطيع مذعور مأخوذ بالمفاجأة ومهابة هذه الصولة العاجلة، فكانت وقعة اليوم وقعة رجلين في جولة واحدة، تلتها الجولات اللاحقات التي ترسمت خطاها وسارت على هداها.

سار خالد إلى العراق في أوائل السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية، وأتمَّ في سنة واحدة مما أعيى الرومان أن يُتِمُّوه في أجيال.

وقد تكتب في شرح وقعاته بالعراق مجلدات طوال يستغرق بحثها ومعارضة رواياتها مئات الصفحات، ولكننا لا نتوسع في ذلك الشرح هنا؛ لأن أعمال خالد تعنينا في هذا الكتاب لمقصد واحد، وهو الرجوع بها إلى مصدرها من نفسه وعقله ومقومات شخصه.

وفي هذا حسبنا أن نقول على الإجمال قبل الإشارة إلى وقعاته إنه لقي الفرس وأولياءهم في خمسة عشرة وقعة لم يهزم ولم يخطئ ولم يخفق في واحدة منها، وأنَّ قوادًا من المسلمين أخطأوا في حروب الردة وحروب الفرس والروم كما حدث من عكرمة وشرحبيل وأبي عبيد وخالد بن سعيد، ولكنَّ خالدًا لم يخطئ قط عن خدعة أو عجلة أو قلة أُهبة، وكان يسير بجيشه أبدًا على تعبئة كاملة؛ ليقاتل عدوه حيث لقيه مفاجئًا أو غير مفاجئ، وكان أبدًا كما وصفه عمر بن العاص: «في أناة القَطاة ووثبة الأسد» فلا يهمل الحيطة ولا يجعل التعويل كله على الشجاعة دون الحزم والحيلة، ولا يعز عليه أن يتحامى لقاء عدوه في بعض الساحات لينتقل به إلى المكان الذي هو أصلح لحركاته وأعون له عليه، ومن علمه فنون القتال أنه كان يحارب بثمانية عشر ألفًا وكأنه كان يحارب بخمسة أضعاف هؤلاء. فإذا أرسل أربعة آلاف أو ثلاثة آلاف إلى مكان يغنون فيه، فذاك أجدى من تسيير الجيش كله أو تسيير عدد منه يربو على الحاجة الضرورية … فإن طرأ في خلال مسيره ما ليس في الحسبان، فمعوله في هذه الحالة على سرعة خاطفة كسرعة الباشق وهو ينقض على فريسته، فلا تشعر الفرقة التي أشخصها إلى مكانها بالحاجة إليه حتى يكون معها كأنها لم تفارقه ولم يفارقها.

فهي شجاعة ويقظة وخبرة وسرعة ومعرفة بما هو لازم في وقت لزومه، ولم تخذله خصلة من هذه الخصال قط في ساحات فارس ولا في ساحات الشام مع اختلاف الميادين واختلاف الأحوال واختلاف الأعداء.

وقد كانت تعبئة خالد في المسير تشبه التعبئة التي جرى عليها العرف في أيامه، وهي قسمة الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب وطليعة تسبقه وردء يلحق به؛ ليحمي ظهره أو يلبث في موضع من المواضع كمينًا ينزل إلى الساحة على غير انتظار؛ لتقوى به سواعد أصحابه وتنخذل به عزائم أعدائه … ولكنه كان عند القتال يفتن باتخاذ طريقة الهجوم أو الدفاع كما توحي بها ضرورة الساعة، فيقاتل بالصفوف كما يقاتل بالكراديس، ويواجه خصمه أو يدور عليه، ويتراجع أمامه أو يمعن في الهجوم على كُبَّة جمعه، ويحصره أو يخلي له سبيل الهرب، حسبما تدور به المعركة في أثنائها أو توحي به طوالعها قبل ابتدائها.

فلما عقدت له القيادة على البعثة الفارسية أرسل جيشه على فرق ثلاث من طرائق مختلفة، فقدم المثنى على رأس فرقة، ثم ألحق به عدي بن حاتم صاحبه في حرب بني أسد، ثم لحق بهم على رأس جيشه وواعدهم موضعًا إلى الجنوب الغربي من البصرة الآن، ولعله توخى تسهيل السقي والمرعى بهذا التقسيم، ثم اختبار الطريق بقيادة الرجل الذي كانت له سابقة الدراية بهذه الدروب.

وكتب إلى هرمز قائد الفرس يخيره بين الإسلام والجزية أو الحرب ويقول له في ختام كتابه الوجيز: «جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» ثم عدل إلى كاظمة بعد أن كان موعده الأول «الحفير»؛ لأنها كانت على ما يظهر أوفق لتعبئة جيشه.

وهناك التقى بجيوش الفرس — وعلى رأسهم هرمز — فوقعت بينهم الوقعة التي سبقت الإشارة إليها وتعرف باسم ذات السلاسل؛ لأن الفرس كانوا يوثقون أنفسهم فيها بالسلاسل جماعات جماعات ليثبتوا في القتال ولا يتأتى لهم الفرار إن أرادوه ولئن صح هذا لقد كانت مخاوف الشك فيه أظهر من صدق العزيمة والطمأنينة إلى النية القوية.

ولما تبدد جيش هرمز تعقبه المثنى بن حارثة وعبر الفرات؛ ليأخذه متفرقًا قبل أن تتجمع فلوله حيث تأمن احتثاث الملاحقة وراءها، ولكن الفرس علموا بعد مقتل هرمز وتفرق جيشه أنهم مهددون في «المدائن» عاصمة ملكهم فحشدوا لملاقاة المسلمين جيشًا عظيمًا بقيادة قارن بن قريانس يعاونه أميران من بيت أردشير. فأدرك فلول هرمز في «المذار» وضمهم إليه، وكان المثنى قد علم بخروج هذا الجيش العظيم واجتماع الفلول المتفرقة إليه فكتب إلى خالد يستأمره ويستمده، فكان خالد هو الجواب …

ووصل خالد إلى المذار وهو كامل التعبئة، فتصدى قارن لمبارزته على عادتهم قبل بداية القتال، فنهض إليه خالد ومعقل بن الأعشى يستبقان وأراد معقل أن يحمي خالدًا من مثل مكيدة هرمز فيتلقى الضربة دونه أو يسبقه إلى قتل قارن، وبرز عدي بن حاتم وعاصم بن عمر لمنازلة الأميرين، فظفروا بهم جميعًا ثم اشتبك الفريقان في ملحمة حاربوا فيها، كما قال المؤرخون حرب حنق وضغينة، وبلغ بغضهم بعدد القتلى من الفرس ثلاثين ألفًا، ولولا النهر ولياذ الفرس بالسفن لكانت المقتلة أعظم من ذلك ولم يكد يفلت من الموت أحد.

•••

ورانت الحيرة بعد وقعة المذار على عقول القادة من الفرس، فخيل إليهم أنَّ في هؤلاء العرب سرًّا لا يدركونه، وأحبوا أن يحاربوا آفتهم بآفة من جنسها، فاستعانوا بأوليائهم من أبناء القبائل العربية فيما بين النهرين، واشترك هؤلاء في كثير من الوقائع التي دارت بين الفرس والمسلمين بعد وقعة المذار، وضايقوا المسلمين غير قليل في الوقعتين التاليتين بالولجة وأليس.

وكان خالد كعادته في الحيطة والمبادرة، فاستبقى طائفة من جيشه في البلاد التي فتحها حماية لظهره واستعدادًا لمن يجترئ عليها بعد مسيره، وتقدم إلى الولجة على تعبئة كاملة بمن معه جميعًا، ثم فصل طائفتين من الجيش في أثناء الطريق؛ ليكمنا على مقربة من الولجة ويلتفا في ساعة الحرج بالجيش الفارسي من ورائه. فطالت المدافعة والمراوغة بين الفريقين قبل أن يظهر الكمينان، وتردد النصر بين الفرس والمسلمين تارة هنا وتارة هناك حتى ظن الفرس أنهم من النصر قاب قوسين أو أدنى، ثم ظهر أحد الكمينين وظهر الكمين الآخر قبل أن يفيق الفرس من دهشة الكمين الأول، فتولاهم إعياء اليأس بعد إعياء المصابرة والمجاهدة، وولوا مدبرين وهم يتخففون من السلاح والعتاد في مهربهم … فكثر منهم القتلى والأسرى كما كثر نصيب المسلمين من الغنائم والأسلاب.

وجاءت بعد وقعة الولجة وقعة «أليس» وهي أعجب الوقائع في حرب العراق بما اتفق فيها من صنوف الحيلة وصروف المقادير ومعارض النقمة وعواقب الرجاء مع الغالب وعواقب اليأس والقنوط مع المغلوب، ولعلها هي الوقعة الحاسمة في النزاع بين المجوسية والإسلام.

راع الشاهنشاه تلاحق الهزائم على جيوشه، وغاظ العرب الموالين له أن يؤخذوا في حماهم، وأنفوا أن يهانوا ولا يراهم الناس كفاء لتلك القبائل الواغلة عليهم، فتلاقوا في الرقعة الوسطى بين ديارهم جميعًا وهي «أليس» وانتظروا هناك جحافل من الفرس وعَدُوهم أن تَرْبَى في العدد والعدة على كل جيش نزلوا به إلى الميدان في المعارك الماضية.

وهنا تتراءى في الموقف أصبع المقادير …

فإن «بهمن جاذويه» قائد الفرس الذي أمره الشاهنشاه بالمسير إلى «أليس» أناب عنه قائدًا آخر يدعى جابان، وشخَّص هو إلى المدائن ليلقى مولاه ويقلب معه الأمر على وجوهه في مسائل شتى لا تغني فيها المراسلة غناء الحديث والمشاهدة، وليأتي من المدائن بمدد آخر يضاف إلى جيشه الأول وإلى جموع القبائل العربية عند الفرات، وقال لجابان وهو يودعه «كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك، إلا أن يعجلوك.»

وبلغ المدائن فإذا مولاه مريض يجود بنفسه، وليس نظام الوراثة على عرش فارس في ذلك الحين من الوضوح والاستقرار بحيث يطمأن إليه إذا مات الملك والجيش بعيد والمتربصون كثير والشيع في البلاد أكثر من المتربصين …

فبقي «بهمن» في المدائن، ووصل جابان إلى «أليس» قبل أن يصل إليها خالد فألقى أثقاله وأمر بتهيئة الطعام، ووصل خالد وهم مقبلون على طعامهم لا ينتظرون وصوله، فلبثوا على طعامهم؛ لأنهم أمروا من جهة ألا يعجلوا إلى القتال حتى يوافيهم قائدهم الكبير، ولأنهم من جهة أخرى لم يحسبوا أنَّ خالدًا ليس بالذي يلقي أثقاله وهو على تعبئة كاملة مستعد للنزال في كل لحظة؛ ولأنهم على ما يظهر كانوا يواجهون القتال أبدًا كأنهم يواجهون ساحات الصوالج والأكر٢ أو ساحات المباراة في «الألعاب الرياضية»: إنما تبدأ فيها المباراة باتفاق الطرفين …

ولكن خالدًا ضرب ضربته الأولى في الجموع العربية، فقتل قائدها وأثخن القتل في صفوفها، وثار الفرس إلى السلاح مكرهين؛ لئلا يمهلوا خالدًا حتى يفرغ من الجموع العربية ويتحول إليهم بين لحظة وأخرى.

فثبتت الجموع العربية حين أسعفتها النجدة، وثبت الفرس وطال بهم الثبات لعلمهم أنه صبر ساعات ثم يدركهم قائدهم الكبير، وابْتُلِي المسلمون من هؤلاء وهؤلاء ببلاء لم يعهدوه من القوم قبل ذلك اليوم، فاشتد الأمر بخالد وثاب إلى الله يستلهم العزم للمسلمين وينذر له الضحايا إن منحة أكتاف أعدائه، «فلا يستبقي منهم أحدًا يقدر عليه حتى يجري نهرهم بدمائهم» … وفي هذا النذر بقية من البدوية المخزومية لا تخفى على اللبيب.

وطال صبر الفرس فنفد …

وتساقط رءوس العرب الموالين لهم فجزعوا …

ولاحت لخالد لوائح النصر الذي سأله الله، فلم ينس نذره ونادى في المسلمين: «الأسر … الأسر … لا تقتلوا إلا من امتنع»؛ لأنه نذر ليجرين النهر بالدماء، فليجر إذن بالدماء.

وأمر بضرب أعناق القوم في النهر وقد حبس ماءه، فلم يجر بالدماء! لأن الدماء تترقرق ولا تسيل ولو قتل أهل الأرض، كما قال له أصحابه … فأطلق الماء فسال بالدم أحمر قانيًا ثلاثة أيام.

•••

وحمادى ما يقال في الاعتذار لخالد من هذه النقمة المفردة في تاريخه صدر الإسلام أنها كانت شرعة الحرب في تلك الأيام، وأنه كان يدين بها أناسًا صنعوا بالملل الأخرى مثل ما صنع بهم في هذه المعركة، وعاملوا أسرى الحرب ومن لم يحاربوهم قط مثل هذه المعاملة في حروبهم مع العرب والدولة الرومانية، وأنَّ خالدًا حسب أنَّ هذه الذبائح قربان إلى الله … ودماء المشركين أشبه القرابين بميادين الحروب، وهو حسبان يوائم صرامة طبعه ويحيك في صدر رجل الحرب وسليل رجال الحرب منذ أمد بعيد، وأكبر الظن عندنا أنه لو كان قائد الجيش رجلًا ممن طالت صحبتهم للنبي — عليه السلام —كأبي عبيدة أو سعد بن أبي وقاص أو عمر بن الخطاب لتوسل إلى الله بغير هذه الوسيلة حين أزم الموقف وجد الجد في معركة «أليس» … فقد صفح عمر بن الخطاب عن أسرى السواد وظفر المسلمون بألوف الأسرى في معارك العراق والشام ومصر، فسرحوهم وعاملوهم بحكم الأسرى في القرآن الكريم، وقد اختلف فقهاء المسلمين في جواز قتل الأسرى من غير مشركي العرب، فلم يجزه من أجازه منهم إلا لحسم مادة الفساد، إن خيف ألا تحسم بغير هذه الذريعة، وقد كانت مادة الفساد في أعقاب الدولة الساسانية خليقة — ولا نكران — بضربة من أمثال هذه الضربات … فقد أعيت فيها الحيلة من دعوة وإقناع ومصابرة، وكانت النكبة بدوام هذه الدولة أشد على الفرس أنفسهم من نكبة القتلى في تلك المعركة الشعواء، وهي في غرابة صروفها أدنى أن تحسب من معارك الأقدار، وتلك هي المعارك التي يراد فيها الغالب والمغلوب على الأمر، ولا يريدان فيه.

وقديمًا علمنا من طوارق الحرب والسلم أنَّ الشر المحض والخير المحض في هذه الدنيا عزيزان أو مستحيلان، فهذه النقمة الخالدية جاءت على غير المألوف في حروب صدر الإسلام، ولكنها عجلت بختام عهد موبوء كان لا بد له من ختام، فخلعت القلوب وصكت الركب وزلزلت سلطان الطغاة في بلاد الفرس بل في بلاد الروم، وكان من جرائها أنَّ الأمصار التي كانت تفزع من حصار خالد لها كانت تلقي بأنفسها في أحضان غيره من قادة المسلمين، كما أسرع أهل دمشق إلى ابن الجراح يلتمسون مصالحته؛ مخافة الفتح عنوة على يد ابن الوليد.

•••

كانت هذه الوقائع تتوالى يومًا بعد يوم وتتوالى معها البُرُد٣ إلى المدينة بأخبار النصر وغنائم القتال، فلا يفزع الناس من حديث بريد حتى يتبعه ما وراءه بنصر جديد … وسبقت ضربات خالد كل آمال الآملين في سرعة الظفر بدولة الأكاسرة، فقال أبو بكر وهو يبلغ الناس أنباء الظفر ليزفوا بشراها إلى الجزيرة العربية: «يا معشر قريش … عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله٤ … أعقمت النساء أن يلدن مثل خالد؟»

ثم سلمت الحيرة — بلد النعمان وموئل نابغة بني ذبيان — فكان لتسليمها صدًى بين أبناء العروبة لا يعدله صدى الفتح في بلد من البلدان؛ لأنها كانت في عالم الشعر والبلاغة حديثًا على كل لسان.

إلا أنَّ الخليفة الذي عرفناه رجلًا حصيف الجرأة، جريء الحصافة، لم ينس اليقين مع الحيطة ولم ينس الحيطة مع اليقين … وأدركه الحذر في هذه المرحلة من مراحل الحرب الفارسية، فجنح إلى الأناة والتريث وأخذ بعنان خالد فلم يأذن له أن ينطلق وراء الحيرة حتى يوافيه زميله عياض بن غنم ويأمن كلاهما من ورائهما غدرات الطريق، وحجة الخليفة في ذلك أظهر من أن تخفى. فمن تجاوز الحيرة أحاط به الفرس من اليمين والروم في الشام من اليسار، ثم إنَّ السواد نفسه إقليم حديث العهد بالإسلام لم ترسخ فيه قدمه ولا يؤمن تركه والتطوح بعده إلى حمى الدولة الفارسية في عواصمها من وراء النهرين، وقد نمى إليه ولا شك أنَّ فلول العرب المهزومين هجروا حوض العراق وأوغلوا في الصحراء إلى دومة الجندل يتجمعون ويتربصون، وفي الشام أراجيف عن تعبئة القيصر لجيوشه لا تغمض عنها العيون قبل أن تستقر الطرق وتتمهد مواطئ الفتوح، فإن لم يخرج عياض بن غنم من معاقل دومة الجندل بين العراق والشام مالكًا زمامها وزمام ما حولها، فكل خطر هناك محتمل، وكل عجلة قد تجر إلى وبال.

ولكن الفرَسَ الكريم الذي يحبس في الحلبة يعاني من أمان الحبس ثقلة لا يعانيها من تعجل العواقب ومكافحة الأخطار. فحز في طبع خالد جذب العنان وأقام في انتظار زميله قرابة عام وهو يسميه سنة نساء، ولو كثب لرجل غيره أن يظفر في هذه السنة المستريحة بمثل ما ظفر به لارتضاه لنفسه سِجَلَّ عُمْرٍ كامل، لأنه خاض ثماني وقائع فيما يليه من البلاد لم يحسبها وقائع تحصى، وله في كل وقعة منها نصر يعتز به قائد فخور.

وقد عرضت لخالد في هذه السنة وما قبلها عوارض شتى تدخل في الحساب أو تأتي من هنا وثَمَّ على غير حسبان. فتصرف فيها جميعًا تصرف الرجل الذي خلق للتقلب في أجواء الحرب كما خلق السمك للتقلب في الماء، فلا تفجؤه حالة من حالاتها بما يربكه أو يعيبه.

البدوي لا عهد له بسفينة غير سفينة الصحراء — وهي الجمل — ولكنَّ خالدًا غنم السفن الفارسية بعد وقعة «أليس» فأركب جيشه فيها ليكفيه ويكفي مطاياه مشقة السير، فلم تنقله السفن إلا قليلًا حتى جف الماء ولصقت بالقاع؛ لأن الفرس تسامعوا بمسيره في النهر فأوصدوا قناطر الحيرة وحبسوا الماء عن مجراه، ولو بدوي غير هذا البدوي فوجئ بهذه الحيلة الحضرية وهذه اللعبة الهندسية لوقع في «حيص بيص» وترك السفن في قاعها ورجع إلى مطاياه … ولكنه أبى إلا أن يبلغ بالسفن إلى حيث شاء، فانبعث في نفر من أصحابه كالبزاة إلى القناطر وأطلقوا ماءها ولبثوا هناك في حراستها وفي انتظار السفن التي ارتفعت براكبيها كأنهم يشهدون غريبة من غرائب السحرة تعبث بالسفينة بين بر يابس ونهر غزير …

وحفروا له في الأنبار خندقًا، ثم احتموا وراء الخندق بحصن ينظرون إليه من أعلاه، كأنهم يهزأون به ويستعجزونه أن يعبر الخندق وأن يفلح في علاج الحصن إذا وصل إليه، فلم يلبث أمام الخندق كثيرًا ولا قليلًا بل أمر لتوه بنحر الإبل العجاف وألقى بها في الخندق فسدته ودعا جيشه إلى العبور عليها، فأصبح من في الحصن سجناء في يديه، وتوسلوا إليه أن يرسلهم في سبيلهم مجردين من السلاح والمتاع، وهم يحمدون الله على النجاة من يوم كيوم «أليس»، فأجابهم إلى ما طلبوه.

وعلم أنَّ عقة بن عقة يحشد له في عين التمر حشودًا من تغلب وإياد وأصحاب المتنبئة سجاح، ويوهم الفرس أنه ند للعرب؛ لأنه أخبر بهم من غيرهم، فوثب على معقله بالصحراء وهو كدأبه على تعبئة كاملة، وبصر ﺑ «عقة» حين دنا من الموقع فقال لصحبه: اكفونا ما معه فإني حامل عليه بنفسي … ثم احتضنه وحمله أسيرًا وهو لا يتوقع أن يؤخذ من أساليب القتال العربي بهذا الأسلوب العجيب في كل قتال. وقد كان خالد يعمد إليه كلما بدا له أن يوجز في الحركة ويضرب قلب أعدائه بضرب عميدهم المطاع فيهم، فيصيب ما أراد.

وأعطى الدعوة حقها كما أعطى القتال حقه في كل معركة بما تقتضيه وتوحيه إليه …

فكان إذا لقي العرب سألهم مذكيًا فيهم نخوة العروبة: «ويْحكُم! أأنتم عرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم، فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟»

وكان يعين الحمية الدينية في جيوشه بما يغري النفوس من نعيم الدنيا ومتاع الحياة، فأباح الأسلابَ من سلَبَها بالغًا ما بلغ قدرها، وربما قسم للمقاتل الواحد في بعض الوقائع ألف دينار، فلا يستكثرها عليه ولا ينتزع منه غنيمة وقعت في يديه. وقال لهم يومًا بعد وقعة المذار: «ألا ترون إلى الطعام كرفع التراب؟ والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثَّاقل عما أنتم عليه.»

وأحكم الصلح كما أحكم الحرب، فكان عهده مع أهل الحيرة نموذجًا للعهود من قبيلة، وكان يصالح المستسلمين صلح من يعني كل حرف يخطه بيمينه، فلا يزيد ولا ينقص … قال في عهد أهل الحيرة «هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد … نقباء أهل الحيرة ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به، عاهدهم على مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء على أيديهم في الدنيا، رهبانهم وقسسهم إلا من كان منهم على غير ذي يد حبيسًا عن الدنيا تاركًا لها … وعلى المنعة، وإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بفعل أو قول فالذمة منهم بريئة … وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة هجرية»، وعلى قدر سطوته الجائحة بمحاربيه ومعانديه كانت رعايته ورفقه بأولئك المظاليم الخالدين من زراع تلك البلاد … فللمرة الأولى في التاريخ من قبل بابل ونينوى، رأى فلاحو السواد حاكمًا يحفظ لهم غلاتهم وينصفهم من دهاقينهم — أو مستغلِّيهم — ويستمع شكاية ضعيفهم من قويهم ويشرع بينهم شرعة المساواة والأمان، وبلغ من رفق الحكم الجديد برعاياه — مسلمين وغير مسلمين — أنه تكفل بالعبد إذا تحرر، وبالغني إذا افتقر، وبالعائل إذا انقطع عائلوه، وهذا مثل مما تكفل به الحكم الجديد في كتاب خالد … قال: «إني دعوتهم إلى الله وإلى رسوله فأبوا أن يجيبوا، فعرضت عليهم الجزية أو الحرب، فقالوا لا حاجة لنا بحربك، ولكن صالحنا على ما صالحت عليه غيرنا من أهل الكتاب في إعطاء الجزية وإني نظرت في عدتهم، فوجدت عدتهم سبعة آلاف رجل، ثم ميزتهم فوجدت من كانت به زمانة ألف رجل، فأخرجتهم من العدة، فصار من وقعت عليه الجزية ستة آلاف فصالحوني على ستين ألفًا وشرطت عليهم أن عليهم عهد الله وميثاقه الذي أخذ على أهل التوراة والإنجيل: ألا يخالفوا ولا يعينوا كافرًا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلوهم على عورات المسلمين، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه، أشدَّ ما أخذه على نبي من عهد أو ميثاق أو ذمة، وإن خالفوا فلا ذمة لهم ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمعاهد وعلينا المنع لهم، فإن فتح الله علينا فهم على ذمتهم، لهم بذلك عهد الله وميثاقه أشد ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك ألا يخالفوا، وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم. وأيما عبد من عبيدهم أسلم أقيم في أسواق المسلمين فبيع بأغلى ما يقدر عليهم في غير وكس ولا تعجيل ودفع ثمنه إلى صاحبه، ولهم كل ما لبسوا من الزي إلا زي الحرب، من غير أن يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم، وأيما رجل منهم وجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك، فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب، وشرطت عليهم جباية ما صالحتهم عليه حتى يؤدوه إلى بيت مال المسلمين، عما لهم منهم، فإن طلبوا عونًا من المسلمين أعينوا به، ومؤونة القواد من بيت مال المسلمين.»

وقد عزلت هذه الرعاية من جانب وتلك السطوة من جانب آخر عزلًا فاصلًا بين الرعاة والرعية في السواد وفي الديار الفارسية، فنظرت الدهماء إلى الحرب كأنها حرب على الرعاة وحدهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فلا هي تعنيهم ولا هم يخشون من عواقبها العاجلة أو الآجلة، بل هم بهذه العواقب ينعمون وإليها يتشوقون.

•••

وكانت وقعة الفراض آخر أعمال خالد الكبار في العراق وأوفاها دلالة على عجز الدولتين معًا، دولة الفرس ودولة الرومان الشرقية، عدا ما فيها من الحوادث التي هي أصلح ما تكون للتفرقة بين مغبة العمل الواحد تأتيه الأمة في عهد إقبالها وتأتيه الأمة في عهد إدبارها، فهو ضربة موت من ناحية وهو من الناحية الأخرى كالضربة التي تشحذ عزيمة المضروب وترد التوازن إليه.

الفراض في أعلى العراق بين مسالح الفرس والروم يوشك هؤلاء وهؤلاء فيها أن يتناظروا متقابلين، وقد هبط عليها خالد في وثبة من وثباته، فتألب عليه هنالك عرب البادية وجيش الروم، وكان وشيكًا أن يتألب معهم جيش من الفرس لولا ما شغلوا به من أمر العرش ووراثته والمتنازعين عليه، وقال الروم لخالد كما قال الفرس بعد ذلك لأبي عبيد: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فلم يصنع خالد صنيع أبي عبيد بل قال لهم: اعبروا أنتم إن شئتم، وتركهم حتى يعبروا ليحصرهم بينه وبين النهر فلا يهرب منهم هارب، وأرسل الفرسان والرامحين ليعزلوهم قطيعًا قطيعًا ويضيقوا عليهم مسالكهم، ثم يحصدوهم حصدًا وهم أشبه بالمحكوم عليهم في ساعة التنفيذ منهم بالمقاتلين …

على أنه لم يثب على الفراض وثبته تلك حتى كان قد «طهر» جوف الصحراء من جموع الأعراب التي تكونت إلى دومة الجندل وعوقت عندها زميله «عياضًا» قرابة عام، فلما ترامت أنباء فتوحه إلى عياض كتب إليه يستشيره ويستنجده، فكان هو على عادته أول جواب بعد رجع الخطاب، وكتب إليه يقول:

لبث قليلًا تأتك الحلائب
يحملن آسادًا عليها القاشب٥
كتائب تتبعها كتائب

وكانت تفصله من دومة الجندل مسيرة أسبوعين فقطعها هو في أقل من عشرة أيام، ووجد حصن الدومة مكتظًّا بمن فيه وحوله زرافات ضاق بها الحصن فعسكرت بالعراء، فجعل القوم جميعًا بينه وبين عياض، وتولى عياض حرب من قبله فهزمهم لما جاش في نفسه من نخوة المنافسة وما جاش في نفوسهم من الوجل والحيرة. وتدافع المنهزمون إلى الحصن يريدون بابه فسبقهم خالد إليه وانتزعه وحال بين النازلين في الحصن ومن حوله، ثم استبى كل من أصابه من رجال ونساء … ومن هؤلاء السبايا ابنة الجودي بن ربيعة، استباها خالد لنفسه وقيل إنه اشتراها، ثم بنى بها وأقام معها في دومة الجندل أيام مقامه فيها.

وكان أهل الدومة قد عاهدوا المسلمين غير مرة ونكثوا بعهودهم فأمعن القتل فيهم وجعلهم نكالًا لغيرهم، ثم قفل إلى العراق وهو مطمئن إلى غزوة الفراض بأعلى الفرات، فغزاها وفرغ منها كما تقدم، وبقيت له في العراق عزمة خالدية أخرى ولكنها من نوع غير هذا النوع، فلم يلبث أن قضاها.

بقي على موسم الحج أسبوعان وهو أول حج حان بعد تلك الغزوات المتلاحقات التي أمده الله فيها بنصره وعونه.

أيفوته قضاء الشكر في هذا الموسم وأداء الفريضة في موعدها؟ ولم؟ ألخوف من الأعداء؟ ألعائق من بعد الشقة ووعورة الطريق؟ ألعذر من الأعذار التي يعتصم بها القاعدون عن الحج برخصة من الفقهاء؟ كل أولئك عوائق لا يستهان بها ولكنها خلقت ليذللها لا لينكص عنها … ففي خطفة الريح العاصفة خرج من أعلى العراق إلى أقصى الحجاز وأدى الفريضة وعاد إلى معسكره دون أن يعلم أحد من الأعداء ولا من المسلمين إلا أقرب خاصته المقربين، بل دون أن يعلم الخليفة نفسه وقد كان على الحج في ذلك العالم.

ويروق بعض المؤرخين أن يحسب هذه العزمة الخالدية من مغامراته التي تنمُّ على فرط الثقة بنفسه، ولا تنمُّ على شيء غير ذلك، ولكنها في الواقع دلت على ثقته بغيره كما دلت على ثقته بنفسه … فقد علم أنَّ معه بالجيش من فيه غنًى وكفاية إذا جد في غيبته طارق داهم، أو خطب حازم … وكفى بالمثنى رائده المقدام، وبالقعقاع صاحبه القديم وموضع ثقته الحميم.

•••

علم الخليفة بمغامرته هذه فجاءه منه ملام وإعجاب وتكليف، ووصاة؛ أمره بحرب الدولة الرومانية بعد هذا الفوز الذي أصابه في حروب الدولة الفارسية، وأن يسارع إلى مرضاة الله وقتال أعداء الله، ويكون كمن يجاهد في الله حق جهاده.

وقال له: «سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا وإياك أن تعود إلى مثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجيك، ولن ينزع الشجا من الناس نزعك. فليهنك أبا سليمان النية والحظوة. فأتمم يتمم الله لك. ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن وهو وليُّ الجزاء.»

وكتب إلى أبي عبيدة في الشام يخبره بمقدم خالد إليه، ويقول له في كلام صريح: «سلام الله عليك. أما بعد … فقد وليت خالدًا قتال العدو في الشام، فلا تخالفه واسمع له وأطع، فإني لم أبعثه عليك ألا تكون عندي خيرًا منه، ولكنني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك … أراد الله بنا وبك خيرًا والسلام.»

فأرسل خالد إلى أبي عبيدة رسولًا يبلغه قبل مقدمه بكتاب يقول فيه: «أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالسير إلى الشام، وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته، فأنت على حالك الذي كنت عليه لا نعصيك ولا نخالفك، ولا نقطع دونك أمرًا … فأنت سيد المسلمين لا ننكر فضلك ولا نستغني عن رأيك.»

•••

وأول خاطر سبق إلى ظن خالد حين حوله الخليفة من حرب فارس إلى حرب الروم أنه عمل من أعمال «الأعيسر» كما يسميه ويعني به عمر بن الخطاب، وأنه نفس عليه أن ينفرد بفتح فارس فأرسله إلى ميدان له فيه شركاء من أعلام الصحابة ذوي الخطر والسابقة الملحوظة بين المسلمين.

وهو ظن بعيد يخطر على بال خالد؛ لأنه يتوقع شيئًا من صوب عمر ولكنه لا يخطر على بال غيره؛ إذ لا ينفس عمر على خالد أن ينفرد بغلبة الفرس، ثم يرسله ليغلب الروم بعد أن تأخر الفتح على أيدي كبار القواد من أجلاء الصحابة، فهذا مزيد من الفخر يتطاول إليه المتطاول، وليس بنقص منه يتعمده لخالد من يأباه عليه. وإنما اختار الخليفة خالدًا؛ لأن العراق كانت في هدأة من جانب الفرس بعد هزائمهم الكثيرة، وكان في جيش المسلمين وقواده بالعراق كفاية للمثابرة على الفتح بعد أن تم التدويخ والتمهيد؛ ولأن خالدًا كان أقرب مدد إلى الشام ولم يكن بالحجاز بقية من قوة فاضلة تضاف إلى قواتهم في حرب الرومان … فاختاره الخليفة وهو يقول: «لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.»

وليس من عادة خالد أن يضيع وقتًا — قل أو كثر — إذا نيط به أمر من الأمور، فلما ندب للجهاد بالشام نظر فإذا بينه وبين الشام يومئذ من خمسمائة إلى ستمائة ميل على حسب الطرق التي يسلكها، وهي أربع يختار منها أصلحها لإنجاز العمل الذي وكل إليه.

من هذه الطرق الأربع ما هو سهل موفور الماء والكلأ ولكنه من أجل هذا موفور الحراس والسكان، فهم يعوقونه بالمقاومة عن الإسراع بالمطلوب دون أن تكون للغلبة عليهم فائدة تذكر في القتال الحاسم بين المسلمين والرومان …

ومنها ما هو قليل الحراس والسكان وفيه الماء والكلأ، ولكنه بعيد يطول السير فيه …

ومنها ما هو وعر قليل الماء والكلأ، مخيف غير مطروق، أو كما قال الدليل الذي سأله خالد: «إنك لن تُطيق ذلك بالخيل والأثقال، والله إنَّ الراكب المفرد ليخافها على نفسه، وما يسلكها إلا مغرور. إنها لخمس ليال جياد لا يصاب فيها ماء مع مضلتها …»

وأيسر شيء على القارئ الذي عرف خالدًا أن يعلم أي هذه الطرق يسلكه خالد، فما هو بسالك حيث سلك إلا الطريق الذي هو أحوج إلى قدرة القائد وأدل على العزمة والمضاء وأبعدها جميعًا أن يتوقع العدو هجومًا منه، فأجمع عزمه على طريق من الطرق الأربع هو أصعبها وأقصرها، وهو الذي خوَّفه الأدلَّاء منه، وقال لدليله الأكبر رافع بن عميرة الطائي — ولا أحد يغني غناءه في السير بتلك المفازة المهلكة وإن كان يومئذ من حسر النظر كالمكفوف الضرير: «ويحك إنه والله إنْ لي بد من ذلك … إنَّ القوة تأتي على قدر النية، وإنَّ المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله.»

ويروي الرواة أنَّ الدليل قال لهم بعد ذلك: أكثروا من الماء، من استطاع منكم أن يصُر أذن ناقته على ماء فليفعل، فإنه المهالك إلا ما دفع الله.

ثم قال لخالد: ابغني عشرين جزورًا عظامًا سمانًا مسان، فأتاه بهن فظمأهنَّ حتى إذا أجهدن عطشًا أوردهن فشربن، حتى إذا تملأن عمد إليهن فقطع مشافرهن ثم كَعَمَهن لئلا يجتَرِرْنَ …

وأشار على خالد أن يقْتَطَّ أربعًا من هذه الجزور كلما نزل منزلًا ليسقي الخيل، وأن يشرب الجند مما حملوا من الماء. ففعلوا ما أشار به حتى كان آخر يوم في المفازة … فقال له خالد: ويحك يا رافع ما عندك؟ فأرسل رافع جماعة ينظرون شجيرة من عوسج في موضع كان يعهدها فيه ويعهد فيه الماء على مقربة منها فلم يجدوها؛ فصاح الرجل بالويل واسترجع قائلًا: «هلكتم والله إذن وهلكت لا أبا لكم، انظروا انظروا» فلما نظروا وأمعنوا النظر رأوا جذرًا قد بقي منها وقطع سائرها، فكبروا فرحًا وشكرًا وحفروا في أصلها فنبع لهم الماء، فشربوا ونجوا من هذا الخطر الأليم الذي دونه كل خطر من لقاء الأعداء.

وفي ذلك يقول أبو أحيحة القرشي:

لله عينا رافع أنَّى اهتدى
في مهمه مشتبه إلى سوى
والعين منه قد تغشاها الردى
معصوبة كأنها ملأى ثرى
فهو يرى بقلبه ما لا يرى
من الصُّوى تترى له بعد الصُّوى
فوز من قراقر إلى سوى
والسير زعزاع فما فيه ونى
خمس إذا ما سارها الجيش بكى
في اليوم يومين رواحًا وسرى
ما سارها من قبله إنس يرى
هذا لعمري رافع هو الهدى

وسواء صحَّت رواية الجزور المظمأة أو كان فيها شيء من توسع الخيال، فالطريق الذي سلكه خالد معروف، والقدرة عليه هي موضع العبرة والتأمل في هذا المقام … أما نحن فالذي نراه أنَّ خالدًا لم يكن لينتظر حتى تظمأ الإبل وهي لا تجهد من الظمأ إلا في أيام، وأنَّ الإبل لا تخزن الماء في جوفها وإن لم تجتره دون أن ينصرف منها، وأنَّ عشرين جزورًا تمتلئ كروشها بالماء لا تسقي الخيل في الجيش كله وعدته عشرة آلاف، فلا بد من تدبير آخر مع هذا التدبير تجتمع فيه السرعة إلى التخفف إلى الإقدام …

والأمر الذي لا شك فيه بعد هذا كله أنَّ خالدًا سار بجيشه — وعدته عشرة آلاف — من عين الثمر إلى قراقر، ثم من قراقر إلى سوى وبينهما تلك المفازة المهلكة، ثم إلى تدمر فالغوطة فبصرى، فقطع هذه المسافة في ثمانية عشر يومًا؛ لأنه كما قال الشاعر كان يطوي مسافة اليومين في يوم واحد …

«في اليوم يومين رواحًا وسُرى …»

خرج من الحيرة في أوائل صفر من سنة ثلاث عشرة للهجرة، وطوى تلك المسافة في تلك الأيام بعد أن قمع كل مقاومة لقيها من المسالح والحصون وراء المفازة الخاوية من كل ديَّار.

•••

واتفق خروجه من الحيرة، وجيوش المسلمين في الشام تشرع في خطة جديدة للتراجع إلى جنوب وملاقاة الجيوش الرومانية الجرارة في جمع واحد ينهض لها ويحول دون الإحداق بكل جيش منها على انفراد.

وكان الخليفة قد سيرها — بعيد منتصف السنة الثانية عشر للهجرة — مع أربعة من كبار القواد في طرق مختلفة إلى وجهات متعددة.

فسير يزيد بن أبي سفيان على رأس ستة آلاف أو سبعة آلاف إلى دمشق، وسير شرحبيل بن حسنة على مثل هذا العدد إلى الأردن، وسير عمرو بن العاص على رأس جيش يزيد على ذلك قليلًا إلى فلسطين، وسير أبا عبيدة بن الجراح على رأس خمسة آلاف أو ستة آلاف إلى الجابية، وأمدهم بعكرمة بن أبي جهل في جيش صغير؛ ليحمي ظهور من يحتاج منهم إلى الحماية ويسرع بالنجدة إلى من يطلب منهم المعونة …

ولا نعلم على التحقيق حكمة التفرقة بين هذه الجيوش في طرائقها ووجهاتها، ولكنها على ما يظهر مسألة الماء والكلأ من جهة، ثم رغبة الخليفة في تشتيت جموع الروم وتوزيع أغراضها، ولا يخلو الأمر من الحيطة لمنع الالتفاف بالجيش الواحد إذا أوغل في البلاد كما حدث قبيل ذلك لجيش خالد بن سعيد، فإن الجيوش الأربعة يكون كل منها مددًا لصاحبه ومانعًا للالتفاف به أو منقذًا له من الالتفاف إذا وقع فجأة، وهذا مع علم الخليفة يومئذ بتفوق الحاميات الرومانية في مواقع البلاد الداخلية، إذ كان الرومان على ما يظهر قد اطمأنوا من جانب الفرس بعد انتصارهم عليهم، واطمأنوا إلى جانب العرب بعد رجوع حملاتهم الثلاث على النحو المعروف، وهي حملات مؤتة وتبوك وجيش أسامة، وزادهم اطمئنانًا أنهم غلبوا الحملة الرابعة وهي حملة خالد بن سعيد، وأنهم عرفوا اشتغال العرب بحرب الفرس، فوقع في روعهم أنَّ العرب أضعف من أن يشغلوا أنفسهم بحرب دولتين عظيمتين في وقت واحد. فمن هنا خلت ربوع الشام من جيش كبير للرومان، وعلم الخليفة ذلك فاعتقد أنَّ تفرقة الجيوش في زحفها إلى الشام أقرب إلى توزيع العمل والإسراع فيه، فإن تغير الموقف وعمد الرومان إلى حشد الحشود الكبيرة، فقد أوصى القادة بالتشاور والتعاون في مقابلة هذه الطوارئ، كما أوصاهم بالرجوع إليه.

وقد نجحت هذه الجيوش في وجهاتها وتقدم بعضها إلى دمشق وبعضها إلى حمص وأوغل بعضها إلى فلسطين.

ثم نمى إليهم أنَّ القيصر يستعد لهم بجيش كبير في أنطاكية وجيش آخر في جوار بيت المقدس، وبلغت عدة الجيش الأول على تقدير بعض المؤرخين مائتين وأربعين ألفًا، وعدة الجيش الثاني سبعين ألفًا أو نحو ذلك، ولو نزلنا بعدة الجيشين إلى النصف حسبانًا للمبالغة وجهل الحقيقة لما كان نصف هذا العدد بالشيء القليل؛ لأنه يَربَى على ثلاثة أضعاف الجيش العربي كله بعد قدوم جيش خالد إليه، ولم يرتفع به أحد إلى ما فوق الخمسين ألفًا على أعظم تقدير …

فتشاور القواد فيما يصنعون، فاستقر رأيهم على التراجع إلى الجنوب؛ ليتجمعوا قبل أن يتلاقى الجيشان الرومانيان ويشتبكا بهم وهم متباعدون متفرقون، كل منهم في بضعة آلاف.

ولعلهم يصبحون في تراجعهم أقرب إلى الأمن إذا حاربوا وظهورهم إلى الصحراء، وقد علموا بالأمثلة الكثيرة أنَّ الجيوش الرومانية تحجم عند حدودها ولا تجسر على خوضها في أعقاب جيش كبير أو صغير.

والمؤرخون مختلفون فيمن هو صاحب المشورة الأولى بالتراجع إلى الجنوب … فمنهم من يقول إنه أبو سفيان بن حرب ومنهم من يقول إنه عمرو بن العاص.

وهذا القول الأخير أدنى إلى الواقع؛ لأن عمرًا كان يتراجع في الجنوب قبل أن تصل الجيوش الأخرى إليه، وكان من الموافق لخططه أن توافيه الأمداد في ميدانه بفلسطين.

وأيَّا كان صاحب الرأي الأول في هذا، فقد تم التراجع بإقرار الخليفة وكان شعوره بحرج المسلمين في أماكنهم هو الباعث له أن يستدعي خالدًا من العراق إلى الشام، فكتب لقواده بالشام يقول: «اجتمعوا فتكونوا عسكرًا واحدًا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى عشرة الآلاف والزيادة على عشرة الآلاف — إذا أتوا — من تلقاء الذنوب، فاحترسوا من الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.»

ومن المعتذر جدًّا تمحيص التواريخ في ترتيب الوقائع بعد وصول خالد إلى الشام، ولكن الأرجح فيما نرى أنَّ المعركة الأولى بدأت مع الجيش الأصغر في «أجنادين» بالجنوب؛ لأن البدء بأصغر القوتين وإخلاء الجنوب قبل الانتقال إلى الشمال أولى وأوفق من ترك هذا الجيش الأصغر وراء ظهور المسلمين ومواجهتهم الجيش الأكبر بين عدوين، ولأن معركة «أجنادين» لم يشترك فيها معظم القواد المسلمين، مما يرجح أنها وقعت قبل اجتماع هؤلاء القواد في صعيد واحد، ولو أنها وقعت بعد المعركة الكبرى في اليرموك لما كان مفهومًا أن يترك أولئك القواد جيشًا كجيش الرومان في فلسطين دون أن يتعقبوه جميعًا، مع فراغهم من أسر الجيش الكبير في اليرموك.

وعلى أية حال، هزم الروم في «أجنادين» وكانت الوقعة الحاسمة بينهم وبين المسلمين في اليرموك، على اختلاف كثير في التواريخ، واتفاق في تصوير خطة القتال.

ويحسن بنا قبل أن نستطرد إلى الكلام على المعركة أن نجمل حالة الجيشين المتقاتلين عند اللقاء …

فالجيش الروماني كان أوفر عددًا وأكمل عدة بغير خلاف، ولكنه خليط من عناصر عدة منها الروم والأرمن والعرب وأجناس أخرى، وقد يظن لأول وهلة أنه امتاز بالنظام والخطط الفنية على أعدائه، ولكنه في الحقيقة كان أبعد الجيشين عن النظام الصحيح إذا أردنا بالنظام وحدة الحركة والتوجيه؛ لأن المتطوعين فيه من أبناء القبائل كانوا يحاربون على ديدنهم والجنود النظاميين يحاربون على ديدن آخر، وتعوقهم العدد الكثيرة والشكك السابغة التي حسبت من مزاياهم، فهي إلى النقص هنا أقرب منها إلى المزية.

وقد أثيرت فيهم حمية الدين ولكنهم ثاروا لها متشككين متفرقين، وجعلتهم حماستهم الدينية يترقبون من الله عقابًا ينزله بهم على خطاياهم وخطايا قيصرهم ورؤسائهم المتهمين عندهم بالزيغ ومطاوعة الشيطان … فحمية الدين تثيرهم من ناحية وتضيرهم من ناحية، وليست هي من قوة اليقين المكين …

أما جيش العرب، فقد كان من أمة واحدة تدين بعقيدة واحدة وترجع إلى قيادة واحدة، وفي صدورهم من حمية القتال كل ما يحفز القلب الإنساني إلى الثبات والاستبسال؛ غَيرة على الدين وغَيرة على العرض وناهيك بالغيرتين، ويقين من نعيم الآخرة ونعيم الدنيا إذا كتب له الفلاح، وكفى بإغراء النعيمين.

كان في جيش المسلمين أصون كرائم البيوتات القرشية؛ بنت أبي بكر وأم معاوية وزوج عكرمة بن أبي جهل وعقائل أناس من الجند والقادة، وقد أمرهن أبو عبيدة قبل المعركة «أن يأخذن بأيديهن أعمدة البيوت والخيام ويجعلن الحجارة بين أيديهن، فإن كان الأمر للمسلمين أقمن على ما هن عليه، وإن رأين أحدًا من المسلمين منهزمًا ضربن وجهه بأعمدتهن وأرجعنه بحجارتهن، ورفعن إليه أولادهن وقلن له: قاتل عن أهلك وعن الإسلام …» ولم يقنع خالد بهذا، بل قال لهن: يا نساء المسلمين أيما رجل أقبل عليكن منهزمًا فاقتلنه.

ومن أجل هذا، لا نعجب أن يكون هرقل قد وزن القوى وفكر حقًّا في عرض الصلح على المسلمين وقال لبطانته وذوي شوراه «لأن تعطوهم نصف ما أخرجته الشام وتأخذوا نصفه وتقربوا من جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام كلها ويشاركوكم في جبال الروم»، ولكنهم استضعفوه وكبر عليهم أن يجيبوه.

أما المسلمون، فالصلح الذي فكروا فيه قبل القتال هو الصلح على شرطهم المعلوم؛ الإسلام أو الجزية، فإن لم يقبل شرط من الشرطين فالحكم للسيف.

وقد أفادهم عرض هذه الشروط قوة على قوة وزادهم في نفوس أعدائهم مهابة على مهابة، فلما ذهب وفدهم يعرض هذه الشروط قبل القتال على القائد تيودور — أخي القيصر — حسب هذا أنه يهولهم بالذبح والثراء ويكسر نفوسهم بما يريهم من حلل الأُبَّهة والنعيم. فأقام لهم سرادقًا من فاخر الحرير يستقبلهم فيه، فوقفوا عند بابه ولم يدخلوه قائلين: «إنَّ ديننا يمنعنا أن نفترش الحرير والديباج.»

فهالوه بزهدهم أكثر مما هالهم بترفه … وأعسر شيء على جنوده بعد ذلك أن يؤمنوا حق الإيمان أنهم — وهم الغارقون في المناعم والملذات — يقاتلون في سبيل الله قومًا، هذا مبلغ زهدهم في المناعم واللذات، وهذا مبلغ استعلائهم على الدنيا وما تبسطه لهم من غواية.

ولم يخفَ على أحد من قادة الرومان والعرب خطر المعركة الكبيرة التي هم مقبلون عليها؛ هي معركة فاصلة في مصير الشام ما في ذلك ريب. وقد تكون المعركة الفاصلة أيضًا في مصير الدولة الرومانية ومصير الأمة العربية، فإنَّ هزيمة الدولة الرومانية فيها تنزع من يدها الأماكن المقدسة ويعقبها ضياع مصر وثورة المتربصين بالقيصر وأهل بيته في بلاده الآسيوية والأوربية، وإنَّ هزيمة الجيش العربي معناها هزيمة الجيش الأكبر، الذي لا يتسع الوقت ولا تتسع الطاقة لتجريد جيش غيره على أثر الهزيمة، وقد تغري القيصر الروماني بإرسال قبائل الشام في أعقاب المسلمين إلى الحجاز والجزيرة العربية ولا يبعد أن تثير أبناء الجزيرة العربية أنفسهم على خليفة الإسلام ممن لا تزال لهم ترات تغلي في حنايا الصدور.

فاستعد الفريقان غاية ما في الوسع من استعداد.

وارتضى كلاهما موقع اليرموك للوقعة الفاصلة بينهما؛ لأنه يوافق طلبة القيصر من مكان «واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب» ولا يكرهه المسلمون؛ لأنهم رأوا أنَّ منزل الروم فيه منزل محصور بين النهر والبحيرة والوادي وجيش المسلمين. أو كما قال عمرو بن العاص حين رآهم: «أيها الناس: أبشروا … حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير …» تحاجز الجيشان أشهرًا لا يشتبكان إلى جمادى الآخرة أو رجب على قول بعض الرواة.

وكلاهما ينظر كيف يبدأ الآخر هجومه ليرتب له لقاءه، وكلاهما قد عبأ طاقته من سلاح الأيدي ولم يزل يعبئ طاقته من سلاح النفوس؛ سلاح العقيدة والفداء.

واستعان الرومان بالقسيسين يلهبون الحمية ويضرمون الحفيظة، ويهونون على أتباعهم بذل الأرواح في سبيل الملة والدولة والمجد القديم.

وأقبل المسلمون على القرآن يرتلونه وعلى العظات يذمرون بها القلوب، وجعلوا وراءهم حرسًا من الأعراض هو أقوى الحراس بعد الإيمان … ثم كثرت الحركة أيامًا في جيش الروم، فعلم القادة المسلمون أنهم مقتربون من الهجوم، ولم يشأ خالد أن تبتدئ المعركة بقيادة متفرقة لا تتحد في نظام واحد، فصرف همَّه الأول إلى تنظيم الفرق جميعًا في تعبئة واحدة يقودها رجل واحد، ووجد من زملائه قلوبًا مصغية فأجابوه إلى ما دعاهم إليه.

قال لهم قبل ابتداء القتال: «هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأرضوا الله بعملكم، فإن هذا اليوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم متساندون،٦ فإن ذلك لا يجمل ولا ينبغي … وإنَّ من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي.»

ثم قال وقد سألوه رأيه: «إنَّ الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من إمدادهم، ولقد علمت أنَّ الدنيا فرقت بينكم، فالله الله … إنَّ تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله … هلموا … فإن هؤلاء قد تهيأوا وهذا يوم له ما بعده. إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدًا والآخر بعد غد حتى يتأمَّر كلكم، ودعوني أليكم اليوم.»

فأسندوا إليه قيادتهم يومها، وكان توحيده القيادة أول خطوة في طريق النصر الحاسم بمعركة اليرموك … ثم أسرع إلى تعبئة قواده وجنوده على الوضع الذي رآه ملائمًا للتعبئة الرومانية، وهو الوضع الملائم للحرب «في العمق» — كما يقول العسكريون في هذه الأيام.

فأقام عمرو بن العاص على الجناح الأيمن، ويزيد بن أبي سفيان على الجناح الأيسر، وأبا عبيدة بن الجراح على القلب، واتخذ مكانه في كبة الجمع ولجأ إلى طريقته التي اختارها لحرب بني حنيفة وهي طريقة الكراديس؛ لأنها أصلح الطرق للنفاذ في الصفوف، وأدعاها إلى التنافس بين المقاتلين وتمييزهم بالتبعة أو بالثناء.

وكانت كل فرقة من الميمنة أو القلب أو الميسرة تتألف من كراديس عدة، على كل منها قائد معروف، ومنهم صاحبه القديم القعقاع، وزميله في حرب اليمامة عكرمة بن أبي جهل، وزميله في دومة الجندل عياض بن غنم، وابنه عبد الرحمن وهو يومئذ دون العشرين … وجملة الكراديس جميعًا ثمانية وثلاثون معظمها في القلب، وعدته ثمانية عشر كردوسًا، رئيسهم أبو عبيدة وفيهم عكرمة والقعقاع …

وكان موضع الميمنة بحيث يستطيع الالتفاف بالجيش الروماني إذا أمعن في الهجوم والإطباق عليه مع القلب إذا ارتد إلى الوراء.

وفرغ من التعبئة فعمد إلى «القوة الأدبية» يوليها حقها من عنايته الكبرى، وأخرج المقداد يقرأ على الجيش سورة الأنفال، ودعا كل رئيس أن يعظ جنده ويبصرهم بمرماه في حركاته، وجماع هذه العظات خطبة عمرو بن العاص حيث قال: «غضوا الأبصار. واجثوا على الركب واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا في وجوههم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانًا، لقد سمعت أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفرًا كفرًا وقصرًا قصرًا، فلا تهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الحملة تطايروا تطاير الجحول.»٧
وخطب مثله معاذ بن جبل وأبو سفيان، وبرز القعقاع وعكرمة قائدا المجنبة في القلب يرتجزان، واختير يوم القتال في يوم ريح سموم سافياء٨ في حَمارة القيظ فكانت طاقة المسلمين به أكبر من طاقة الروم.

ثم اشتبك الجيشان على نحو لا يعلم تفصيله على التحقيق، ولكنه بدأ كما تعودنا في حروب المسلمين بهجمة شعواء من جانب العدو يتزعزع لها العدد الصغير أمام العدد الفداء.

فلما انكشف المسلمون بعد الهجمة الأولى ثابوا إلى عزماتهم بنخوة الإيمان ونخوة العرض والأنفة، فضرب النساء في وجوه الخيل قائلات: «إلى أين يا حماة الإسلام وطلاب الشهادة!» وصاح عكرمة كأنه يؤنب نفسه: «قاتلت رسول الله في كل موطن وأفر اليوم؟! من يبايع على الموت؟» فبايعه أربعمائة من الفرسان المغاوير لا يقوم في وجههم قائم، وصدموا الروم حتى صدوهم غير حافلين بما أصابهم، وقد قتل في طليعتهم عكرمة وابنه ومعظم أولئك الفرسان، ولم ينج منهم قط إلا جريح مثخن بالجراح، وأفلحت الكرة الثانية، وتقهقر الروم.

•••

وقد اهتم خالد بالعزل بين خيل العدو ومشاته، فتضايقت الخيل وعجزت عن الجولان وولت هاربة فأخلوا لها الطريق، ورجع المشاة إلى الخنادق فلحقهم بها المسلمون، ثم أحاطوا بهم من ورائهم فشاع فيهم الذعر وسقطوا وهم مولون مهرولون في هوة الواقوصة أو وادي الرقاد وقيل: إنَّ موتاهم بالواقوصة كانوا أكثر من قتلاهم في حومة الوغى؛ لأنهم قدروا بثمانين ألفًا سقطوا في الوادي فُرادى وجماعات؛ إذ كان بعضهم يقرنون أنفسهم في السلاسل كل عشرة في سلسلة واحدة تثبيتًا لأقدامهم وتيئيسًا من الفرار، فإذا بالوجل يفل حديد السلاسل كما فل عزائم القلوب وبلغ اليأس مبلغه من أشراف القوم فقعدوا في أماكنهم ينتظرون الموت، فكأنهم قد فروا قاعدين!

وحق لهرقل وقد حبطت محاولاته جميعًا بعد اليرموك أن يودع الشام إلى عاصمة ملكه المتصدع وداعًا — كما قال — ليس بعده لقاء.

١  الهرطقة: هي الإلحاد في حق الله.
٢  الصوالج: جمع صولجان والأكر جمع كرة.
٣  البُرُد: (بضمتين) جمع البريد.
٤  الخراذيل: جمع خرذولة وهي القطعة الكبيرة من اللحم.
٥  السيف اللامع القاطع.
٦  أي كل قائد مستقل بجنده عن الآخرين.
٧  الجحول: أي أسراب النحل.
٨  أي محملة بالتراب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤