تراث عالمي

يختار العالم شعراءه بقسطاس عادل مُنزَّه عن الجنف والمحاباة غاية ما يُستطاع العدل في حكم من أحكام الناس؛ لأن الجور في الحكم إنما يأتي من التحيز إلى جانب دون سائر الجوانب، والعالمية والتحيز إلى جانب واحد نقيضان.

والعالم يختار شعراءه على مهل، ولا يكون الحكم في اختياره للشاعر المختار ولا للأمة التي تنميه ولا لطائفة من الأمم يشملها هوى عارض في سنوات معدودات ولكنه حكم يرجع إلى قضاة متفرقين لأسباب متعددة، إذا تطابقت واستقامت على وجهة واحدة فهي بنجوة من أهواء الجور والمحاباة، ويكاد هذا الحكم يستقل عن منازعات الرأي في مدارس الأدب ومذاهب النقد؛ لأن حكم العالم باختيار الشاعر يتم عند تمام الاهتمام بتقديره ولا تنتظر مدارس الأدب حتى تفرغ من الأسماء والعناوين التي تطلقها على ذلك التقدير، ولا غبار على ميزان الاهتمام في جملته، إذ يكفي أن يطول اهتمام العالم كله بكلام شاعر لتثبت له القيمة الأدبية، أيًّا كان اسم تلك القيمة في مذاهب الأدباء والنقاد.

وآية الشاعر العالمي متى وُجِد في أمة من الأمم أن هذه الأمة لا تستطيع أن تحصره فيها؛ لأنه استحقَّ «العالمية» بمزاياه الإنسانية المشتركة بين الأقوام والأزمنة، ولم يستحقها بمزية مقصورة على قومه يكررونها ويعيدونها بما استأثروا به من صفاتهم المكررة المعادة، وإذا لم يكن في إنجلترا شكسبيران ولم يكن في اليونان هوميران فليست علاقة الوطن في أحدهما بأثبت من علاقة الإنسان حيث كان.

ولهذا يحدث أحيانًا أن يتشيع للشاعر العالمي أناس من غير وطنه على أناس من صميم وطنه، وقد يهجرونه في بلاده زمنًا ثم يعودون إليه بهداية جديدة من الغرباء عنهم، فهم يستوردونه مرات من «الخارج» ولا يحق لهم أن يَمُنُّوا على «الخارج» بأنهم قد أصدروه إليه.

تلك آية من آيات «العالمية» تتمثل في شكسبير كما تمثلت في نظرائه من عباقرة العالم، فلا تستأثر بلاده اليوم بمأثرة من مآثر العناية به فيما عدا القربى «المحلية» التي فرضتها اللغة والمكان، وفي بلاد اللغة الإنجليزية من أجل ذلك متاحف لآثاره ومعاهد لذكرياته وطبعات من أصول كتبه لا يضارعها بلد آخر يتكلم بلغة أخرى … أما دراسته ومراجعة أقواله وأقوال نقاده وشراحه، فذلك مجال يتسابق فيه قومه وغير قومه، ولا يندر أن يكون قومه هم المسبوقين فيه.

•••

على أن هذه الشهرة العالمية لم تتوطد لشكسبير على عجل، فقد مضى أكثر من مائة سنة قبل أن ينتقل اسمه من جزيرته شوطًا بعيدًا إلى أرجاء القارة الأوروبية، ثم سرى فيها على مهل، فاختلف مجراه ومجرى السياسة في دولته اختلافًا ينبئ عن كثير من أسرار العظمة الأدبية، وأظهر ما ينبئ عنه أن العظمة الأدبية التي ترتفع إلى أوج المكانة العالمية تسير بخطاها ولا تسير في ركاب دولة تحميها، فلو كانت في القارة الأوروبية بلاد تحتجب عنها شهرة شكسبير لسبب من أسباب السياسة الدولية لكانت فرنسا وألمانيا وروسيا أحق البلاد أن تحتجب عنها تلك الشهرة وأن تقف عند حدودها فلا تعبرها، فإنها الدول الثلاث التي أقامتها الحوادث منذ القرن السابع عشر مقام المنافسة — أو المنازعة — للدولة البريطانية في طلب السيادة على القارة وما وراءها، ومن لم يشتبك منها في حرب مع دولة شكسبير خلال القرن التاسع عشر فقد كان في ذلك القرن يجمع عدته لتلك الحرب ويتوقعها في أوانها، ولكن هذه الدولة كانت بين أسبق الدول الأوروبية إلى تعظيم الشاعر الغريب عن القارة وترويج أدبه والتنويه بقدره، وكان أسبقها في الزمن وفي التنويه فرنسا التي كانت خلال القرن كله تتلقى زحوف شكسبير زحفًا بعد زحف وتذود جيوش بلاده في ميادين القارات الأربع بين العالمين القديم والجديد.

وآية «العالمية» في تنويه فرنسا بالشاعر الغريب أن يكون له فيها أنصار يفضلونه على أعلام الشعر والفن في أمتهم من طراز كورني وراسين وموليير، ومن لم يفضله في جميع المزايا على إطلاقها فقد فضله في بعض مزاياه غير متحرج ولا متحفظ، ومن هؤلاء من رفعتهم «شهرتهم العالمية» في حينها إلى طبقة كورني وراسين وموليير، وهم: هوجو، ولا مرتين، وأناتول فرانس، وأندريه جيد، ورومان رولان.

•••

وفي ألمانيا ننظر إلى الأدباء والمفكرين الذين جعلتهم الأمة الألمانية فخرًا «وطنيًّا» لها فإذا هم أكبر أدبائها ونقادها إعجابًا بشكسبير، وقد كتب عنه هردر وجيتي وشلجل ولسنغ في ألمانيا، وكتب عنه كولردج وكارليل وهازليت وأرنولد في إنجلترا، وتقارب الوقت الذي كتب فيه هؤلاء وهؤلاء كأنهم في مباراة بينهم للتعريف به والإبانة عن معرفتهم بقدره، فلو كان قصب السبق في هذه المباراة لمن أعلن من فضله ما لم يعلنه الآخرون لتردد القارئ طويلًا قبل أن يسلم قصب السبق للإنجليز أو الألمان.

وبعد حربين من حروب الحياة والموت بين ألمانيا وإنجلترا يحصي الناقد الألماني ولفجانج كليمين Wolfgang Clemen ١٤٢٤ عرضًا لروايات شكسبير — ويشير إلى أسبوع خاص أفرد لتلقي الروايات على مسرح الدولة بدرسدن، ويذكر أن جماعة شكسبير استأنفت إصدار مجلتها الخاصة بأخباره وبحوثه، فصدر منها ثلاثة أعداد من الرابع والثمانين إلى السادس والثمانين بعد انقطاعها لضرورات الحرب، وعادت الجماعة إلى عقد جلساتها السنوية بمسرح بوشام Bochum، فانتخب لرئاستها الشاعر المؤلف إسكندر شرودر Schroder بعد موت رئيسها السابق في سنة ١٩٥١.١

•••

ويوم نبغ بوشكين رائد المسرح الروسي الحديث كانت دولته ودولة شكسبير قد وقفتا موقف الطرفين المتناجزين من المسألة الشرقية ومسألة الهند والشرق الأقصى، فكان إضعاف إحدى الدولتين وإحباط سياستها في آسيا وأوروبة هدفًا صريحًا للدولة الأخرى، وكانت روسيا وإنجلترا يومئذ كالعدوتين «الطبيعيتين» في عالم الأحياء.

وفي الحقبة التي استحكم فيها هذا العداء بين الدولتين نشأ بوشكين، وقرأ الأدب الفرنسي واطلع على أدب الأقدمين، ثم درس شكسبير فجعل وصيته الأدبية كلمتين: «اقرأ شكسبير!» وأنكر دستور الأقدمين ليأخذ بدستوره في وحدة الحركة دون وحدة الزمن والموقع، وفضل طريقته في الأحاديث المفردة والهمسات الجانبية على حيل المحدثين التي يظنونها أقرب إلى الطبيعة، وهي في رأيه أبعد من الطبيعة ومن الذوق السائغ في فن التمثيل.

وجاء تولستوي بعد عصر بوشكين، وكان سنيَّ الرأي في جميع الفنون الجميلة لأسباب تشبه أسباب المتطهرين من الإنجليز، ولم يكن من دأبه أن يكترث لنقد النظم والنثر أو يحفل بترجيح زي على زي في القصص أو التمثيل، ولكنه وجد «الفن الشكسبيري» قضية من القضايا الشاغلة لأذهان المثقفين من أبناء بلاده، ورأى أنه جدير منه بتأليف كتاب يخصصه لموضوعه؛ فألف كتابه عن شكسبير والدرامة ليقول إنه لا يتذوق مسرحياته ولا يدري سر تعظيمه والافتتان بأدبه، وكل ما يراه منه أن أبطاله تعوزهم الشخصية وأن مواقفه لا تجري على السجية، وأن فنه في أعماقه لا يصدر عن الينبوع الذي ينبغي أن يصدر منه كل فن أصيل وهو جوهر القداسة، فحمد قراء تولستوي صراحته ولم يأخذوا برأيه، بل عدلوا عنه إلى رأي قرين له يعادله في المنزلة الوطنية والعالمية ويدري من دقائق الفن والذوق ما يعجم عليه، وهو إيڨان ترجنيف الذي ذهب إلى رأي في شكسبير يناقض رأي تولستوي فيما قاله عنه في محاضرته عن هملت ودون كيشوت.

وظل شكسبير «العالمي» إلى ختام عهد القياصرة شقة وسطى يتلاقى فيها المحافظون والثائرون، ثم ذهبت الثورة بعهد القياصرة بعد الحرب العالمية الكبرى ولم تذهب بمكانة شكسبير على المسرح، بل زادته عليها مكانة مثلها في ساحة الموسيقى والغناء.

جاء في بريد السجل السنوي الذي يصدر عن أخبار الشاعر باسم «عرض شكسبير» بقلم خبيره الروسي الأستاذ موروزوف Morozov: «شهدت سنة ١٩٥٠ عددًا من عروض الإخراج الجديد لروايات شكسبير على المسارح السوفيتية وحافظت رواية عبد الله المغربي على مكانها الأول بين تلك العروض، فإن هذه الرواية الإنسانية النبيلة تستجيب لها أغلى الأوتار في قلوب النظارة منا، والنغمة التي وقع عليها شكسبير قصة الحب بين عبد الله وديدمونة تستجيش منهم أعمق العواطف، ويترجمها المسرح السوفيتي كأنها قصة الثقة المخدوعة ولا يترجمها كأنها قصة الغيرة الثائرة.»
ثم قال الكاتب: «إن شكسبير يعرض أيضًا في مسارح الموسيقى، وقد عُرِضت له في سنة ١٩٥٠ رواية عبد الله منغمة بتلحين فردي … وليست مسرحيات شكسبير فرصة للممثلين وحسب، بل هي فرصة للمنشدين وخبراء الإلقاء، وقد كان جولبنتسيف Golubentsev عند عرض روميو وجولييت يلقي شذرات منها بين حين وحين.»

وقد ذكر الكاتب خمس روايات فكاهية لها حظوة خاصة بين نظارة التمثيل أو مستمعي الموسيقى، وهي روايات ترويض السليطة، والليلة الثانية عشرة، والعناء الضائع، وزوجات وندسور المرحات، وملهاة الأغلاط، ومنها ما يُمثَّل في العواصم على مسارح الدولة.

وبعد، فإن روسيا وألمانيا وفرنسا هي الدولة الأوروبية الكبرى التي كانت تنافس إنجلترا في السيادة على القارة خلال القرن الذي استفاضت فيه لشكسبير شهرة عالمية أو شهرة أوروبية، وشأنها فيما نحن بصدده أن العناية فيها بالشاعر الغريب أدل على استقلال الفكرة الإنسانية أو استقلال رسالة العبقرية في عالم الفكر من نظائر هذه العناية في الأمم الأخرى، فهي فكرة تتخطى حواجز السياسة وتشق بين الأمم طريقها فهي غنية عن خطط السياسة ومساعي الحكومات.

أما فيما عدا ذلك فلا فرق بين كبار الدولة وصغارها في رعاية الأمم لحق الفكرة الإنسانية، فهي في جملتها تسهم بما عندها في أداء هذه الفكرة وتبليغها، فبدأ ڨردي بتلحين مكبث في سنة ١٨٤٧ قبل أن تظهر لشكسبير ملحنة واحدة في بلاده، وتلاها بتلحين عبد الله المغربي، وزوجات وندسور، والملك هنري الرابع. وكانت ترجمات الروايات إلى اللغة الإيطالية تتلاحق من أواخر القرن الثامن عشر إلى هذه السنوات.

وليس في القارة لغة لم تُترجَم إليها روايات من شكسبير ولم تسهم في تمثيله أو إخراجه بنصيب ملحوظ، وقد أصبح الاشتراك في إحياء هذه العبقرية على صورة من الصور واجبًا يتنافس فيه أبناء الأمم لغير ضرورة محتومة سوى الأنفة من فوات حصتهم في تلك العبقرية الخالدة، ففي بلاد البلجيك شعب من الفلمنكيين يستطيع أن يفهم شكسبير بلغة من اللغات التي يمثل بها على المسارح البلجيكية، فرنسية أو ألمانية، ولكنهم يغارون على لغتهم أن تخلو من ترجمة، ويغارون على مسرحهم أن تنقضي عليه سنة بغير عرض خاص باسم شكسبير، ومما يفخرون به أن مسرحهم لم يخلُ من عرض رواياته إلا في السنوات من ١٩١٤ إلى ١٩١٩ وهي سنوات الحرب العالمية الأولى.

•••

وقد وصل شكسبير إلى الأمم الشرقية في الشرقين الأدنى والأقصى مع المسرح الحديث، وتُرجِمت روايتاه الأوليان إلى اللغة العربية من الفرنسية، وهما: روميو وجولييت، وهملت. وسُمِّيت الأولى بشهداء الغرام.

وكان طلاب المدارس يدرسونه أجزاء متفرقة في سلك التعليم الثانوي في البلاد التي تقرر فيها التعليم باللغة الإنجليزية كالهند ومصر، ثم تقررت له دراسات مطولة في معاهد الدراسة العليا، وأصبحت قراءته من مطالعات البرامج المدرسية أو الجامعية، فعرفه طلاب الشرق كما عرفه طلاب الغرب على منهج هذه المطالعات.

ويتوق النقاد الغربيون كثيرًا إلى العلم بأثر شكسبير في أذهان الشرقيين المتعلمين وغير المتعلمين، ويسألون عن هذا الأثر من قرأوه ومن شهدوا تمثيله في المسارح الوطنية والمسارح الأوروبية التي تمثله بمختلف اللغات، ويُخيَّل إلينا أن أولئك السائلين يشعرون بخيبة الأمل كلما سمعوا جوابًا لا غرابة فيه؛ لأنهم يتوقعون من الشرقي دائمًا أن يكون إنسانًا غريبًا: يرى بعين غير الأعين ويفهم بفكر غير الأفكار.

وقد رأينا أحدهم يهتم بسؤال شيخ من الشرقيين «البحت» كما قال عنه؛ لأنه نشأ قبل أن ينشأ الجيل الذي تفرنج في الحواضر ودور التعليم، وكان هذا الشيخ يشهد رواية روميو وجولييت من فرقة متنقلة بمدينة الأقصر تعرض رواياتها في مولد من الموالد المشهودة التي تنتجعها فرق التمثيل والغناء في الإقليم، فاقترب منه وسأله عن رأيه في «الحكاية» التي يشهدها. قال الشيخ على ثقة وبراءة: لقد كان حقًّا أن تموت عجوز السوء التي كانت تتوسط بين الفتى والفتاة، فإنها أحق بالموت منهما وممن هلك من أهلهما، وما يأتي الفساد في البيوت إلا من هذه العجوز وأمثالها …

والنقاد الغربيون الذين يسألون عن أثر شكسبير بين نظارته من الشرقيين يستريحون لسماع هذا الجواب، ويصيبون إذا قالوا إنه جواب لا يسمعون مثله من عامة النظارة في البلاد الغربية، ولكنهم يعدون الصواب إذا اعتقدوا أن الشيخ الشرقي «البحت» قد أجاب بذلك الجواب؛ لأنه «إنسان غريب» إذ ليس بالغريب أن يرد ذلك الخاطر على فكر إنسان يستمد الرأي من تجاربه، سواء فهم الروايات تُكتَب للعبرة أو تُكتَب لحكاية الواقع كما ينبغي أن يكون في الحياة، ولو كان كاتب «روميو وجولييت» شرقيًّا لجاز أن يتلقى من الشيخ الشرقي اعتراضًا كذلك الاعتراض.

ونحن نحس الولع بقنص الغرائب فيما نقرأه من الآراء التي يُقَال عنها في الغرب إنها نماذج شرقية، ويعنون أنها تعبر عن الطبائع الشرقية في صميمها، ولا يقصرون معناها على حالة خاصة، إذا جاز أن تعرض للإنسان في الهند والصين ومصر والسودان، جاز أن تعرض له في كل مكان.

ونود أن نسوق بعض الأمثلة لهذه الغرائب من كتاب ألفه الأستاذ رانجي شاهاني الهندي Ranjee Shahani وسماه «شكسبير في الأعين الشرقية»، ورآه العلامة مدلثون موري والعلامة إميل ليجوي Legouis مثالًا مقبولًا لفهم شكسبير في نظر الشرقيين، وكلا العلامتين حجة في النقد الأدبي ولكنهما «غير حجة»، ولا ريب في إطلاق الحكم على الأفكار الشرقية بين أهل الهند وبين غيرهم من أمم الشرقين الأدنى والأقصى.

فمما أورده الكاتب شاهاني من مآخذ الشرقيين على شكسبير أنهم لا يحسون مأساة في أعماق ضمائرهم؛ لأن فجيعتها الكبرى هي الموت وليست النكبة الأبدية في الموت عند البرهميين والبوذيين الذين يدينون بالخلاص وتجدد الحياة.

ومما أورده من تلك المآخذ أن شكسبير يتناقض في المنظر الواحد وأنه أشد ما يكون تناقضًا في رواياته المفضلة على سواها.

قال: «إن هملت قد وُجِدت صادقة مصدقة للحياة، وأُعجِب بها الهنود المثقفون وغير المثقفين على السواء ولكنها تنطوي على تناقض محسوس في موضع أو موضعين؛ إذ يقول هملت في مناجاته الثالثة عن العالم الآخر: «إنه المملكة التي لا يرجع منها من ذهب إليها.» وهو لما يكد يفرغ من رؤية طيف أبيه على المعقل، فكيف نفسر هذا؟ إن شكسبير كما يقول عنه جيتي يرسل ألسنة أبطاله بالمقال المناسب لكل مقام ولا يبالي أن يتناقضوا، وهذا صحيح على الجملة ولكننا هنا أمام تناقض واضح، وكثير من مصاعبنا في فهم الرواية يأتي من أمثال هذا الخطل الدرامي، وما عدا ذلك من نقائض الرواية فهو أعمق وألصق بطبيعة هملت في تكوينها؛ إذ هو يضطرب بين قطبين متعارضين: قطب العقيدة وقطب الإنكار: نصفه مسيحي ونصفه إغريقي على غرار الأقدمين.»

وتكثر أشباه هذه المآخذ في ملاحظات الكاتب وفي الملاحظات الأخرى التي تُروى عن الشرقيين ويُراد بها أنهم يفهمون الفن بطبيعة غريبة عن الطبائع التي تعبر عنها فنون الغربيين، وليس فيما قرأناه منها ملاحظة واحدة يختص بها الشرقيون أو تصدر عن الشرقي لأنه شرقي، ولا يجوز أن تصدر من الغربيين، وأن يصدر عن الشرقيين أنفسهم ما يناقضها ويذهب إلى وجهة تقابل وجهتها، وإنما هي آراء تختلف كما تختلف الآراء دون أن تختلف الطبيعة في صميمها.

فالرأي الذي يقول به الكاتب البرهمي عن التناقض بين مأساة شكسبير وعقيدة الخلاص بعد الحياة، يقول الأستاذ مدلتون موري بمثله عن التناقض بين العقيدة المسيحية وبين المآسي جميعًا في أساسها، ويقدم ملاحظات الكاتب الهندي فيقول: «إن المأساة والمسيحية لفي تناقض يشبه هذا التناقض، ولولا أن المسيحيين تعوَّدوا ألا يدينوا أنفسهم باطراد التفكير، أو ربما تعوَّدوا ألا يؤمنوا حقًّا بعقائدهم لما تغاضوا عن هذا التناقض.»

وعندنا أن نصيب الأستاذ موري من الصواب لا يزيد على نصيب الأستاذ شاهاني منه، فما كان الإنسان ليتجرد من طبيعته؛ لأنه يؤمن بما وراء الطبيعة، وما كان ليبطل شعوره بالمأساة لاختلاف الطبيعة وما بعد الطبيعة في نظره، وإنما تأتي المأساة من هذا الشعور الذي يدور على محورين ولا يتيسر له أن يديره على محور متحد لا لبس فيه.

وليس بالحتم مع هذا أن يكون البوذيون أو البرهميون على رأي متفق في النظر إلى المأساة بهذه النظرة، فبعض البوذيين من بورما — كما جاء في الكتاب نفسه — يُعجَبون بشكسبير لأسباب دقيقة، ويقول أحدهم: «إن أدب شكسبير يعمل على تعليم أمثلة عالية من الأخلاق كالتي تعلمها الديانة البوذية بلا فارق من الوجهة الأدبية، وإنه لعلى الرغم من تقديره البالغ للدنيا ليضع يده في يد البوذي متصافحين حين ينظر هذا إلى الدنيا نظرة الزهد فيها.»

أما التناقض في رواية هملت فنحن — من قراء الرواية الشرقيين — لم نشعر قط أنه من المصاعب التي تحول دون القارئ الشرقي وفهمها، وأذكر أننا كنا نقرأ «هملت» مع صديقنا المازني، فكنا نتوقف عند هذا التناقض لنعجب من صدقه ودقته في التعبير عن شخصية بطل الرواية؛ إذ كان شكسبير يصوِّر لنا إنسانًا مخبول الحس، مضطرب الإرادة، يتردد بين الانتقام والإحجام؛ لأنه يشك في الطيف: هل هو شيطان من الجحيم يغريه بالإثم أو هو في الحق طيف أبيه يحضه على الواجب؟! ومن تردده أنه كان يحار في كونه ويتساءل: أيكون أو لا يكون؟ ثم يتقلب في الجواب ويتقلب في العمل كما يحدث لكل حائر مضطرب العقيدة بين الشك واليقين، ولو أنه ظهر لنا في الرواية على غير هذه الصورة لكان هذا هو التناقض الذي يُعاب على المؤلف ويوقع القارئ في صعوبة الفهم لهذه الشخصية التي يجب أن تكون متناقضة، ثم لا يرى منها في المواقف المختلفة إلا التوافق والاستقامة على مسلك واحد.

إن شكسبير لم يكن يعرف عن الشرق شيئًا من تواريخه أو أحواله أو مواقعه وأمكنته يزيد على القسط الشائع بين أبناء زمنه، مما تناقلوه عن الصليبيين ومن تقدمهم من رواد السياحة وطلاب الغرائب والأساطير، وكلما وردت الإشارة إلى الشرق في رواياته وقصائده فهو شرق الطيوب والعطور وشرق الأسرار والخفايا، وشرق الأرواح والجنة التي تفارق الهند لتلهو وتعبث في مفازة الغرب ثم تعود إليها، وربما حماه صدق البديهة فأورد تلك العجائب موردها من الفكاهة والتندر بالأساطير، وربما أومأ إليها متسائلًا كما أومأ إلى قصة نبي الإسلام والحمامة في روايته الأولى من تاريخ هنري السادس، فقد كان محمد — عليه السلام — يوهم العرب في زعمهم، أنه يتلقى الوحي من ملك في صورة حمامة تقف على كتفه وتضع منقارها في أذنه؛ لأنه — كما زعموا — عوَّدها أن تلتقط الحَبَّ منها! وقد سمع شكسبير بهذه القصة وسمعها معه الأوروبيون من رواة الحروب الصليبية، فلما أومأ إليها عرضًا لم يزد على أن يتساءل: أوكان محمد يسمع الوحي من حمامة؟! إنك إذن لتسمعينه من عُقاب!

فإذا كان العلم بالشرق علم أحوال وتواريخ فلا خبر من أخباره الصحاح عند شكسبير أصدق من صدق الحس في استغراب الغرائب وتلوين الروايات المنقولة بصبغة الأساطير، وليس للشرقيين لديه ذخيرة من التاريخ أو الجغرافية يستعيدونها من رواياته وأشعاره، ولكنه إذا تحدث إلى الناس عن طبيعة الإنسان فحصتهم عنده هي حصتهم في تلك الطبيعة الخالدة الشاملة كاملة غير منقوصة، وإنه ليحجز الشرق بغير حاجز ذلك الذي يظن أن الانتماء إليه حجاب بينه وبين رسالة من الرسالات العالمية في الأدب والفن، أو يظن أن هذه الرسالات تتخطى حدود الأقاليم واللغات والعصور ثم تقف عند حدوده، كأنه خارج من نطاق العالمية أو نطاق الإنسانية!

ولا مشاحة في اختلاف الأذواق والمشارب، ولكنه اختلاف موكل بالشكل والعرض وليس هو بالاختلاف الذي يتغلغل إلى أعماق الطبيعة وبواطن الحياة، بل هو الاختلاف الذي يطويه الأدب العالمي ويلفه في ساحته الضافية فوق الحواجز والسدود، وقد يتغير الذوق بين الأمتين المتجاورتين، وقد يتغير في الأمة الواحدة بين جيلين، ولكنه آخر الأمر كاختلاف الأجواء في الكوكب الواحد: صيف وشتاء، ودرجات من الحر والبرد ومن النور والظلام، لا يتحدث المتحدث بها عن شيء مجهول بين قطبيه.

فلم يبلغ اختلاف الذوق في فهم شكسبير وتمثيله أشد مما بلغ في المسرح الإنجليزي من منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، فإن هذا المسرح قد انقسم يومئذ إلى معسكرين ونشبت بينهما معركة فنية سُمِّيت بمعركة روميو وجولييت، كان مدارها على تمثيل الرواية بنصها أو تعديل بعض مناظرها وفقراتها وتحويل منظرها الأخير إلى «خاتمة سعيدة» تخرج الرواية من عداد المآسي المحزنة كما وضعها شكسبير، وظلت هذه الرواية تمثل للمتكلمين بالإنجليزية على نصوص متعددة إلى سنة ١٨٤٧ التي أُعِيدت فيها الرواية إلى نصوصها ومناظرها كما مثَّلها مؤلفها على مسرحه، ولم يحدث بين ذوقين في المشرق والمغرب أن يفترقا في فن العرض والإخراج أبعد من هذا الافتراق.

ففي مصر خرج المسرح العربي بين المعسكرين فحذف بعض المناظر وأبقى ختام الرواية على أصله موافقًا للعنوان الذي ارتضاه وهو شهداء الغرام، ولما تغنى الشيخ سلامة حجازي بالشعر في مواقفها الأخيرة كان مستمعوه المعجبون هم جمهرة النظارة على الفطرة، وكان نقاده هم نقلة النقد من المسارح الأوروبية، وكأنهم نسوا أن مواقف الغناء قد غُنِّيت على المسرح الفرنسي بتلحين Gounod، وأن الرواية تُمثَّل ملحَّنة ببعض أجزائها كما تُمثَّل ملحنة بجميع أجزائها من وضع موسيقيين آخرين.

وقيل غير مرة: إن فكاهة فلستاف في روايتي هنري الرابع ورواية زوجات وندسور المرحات إنما تعجب أهل الشمال وتضحكهم، ولكنها لا توافق الجنوبيين من أهل أوروبة ولا من الشرقيين، فجاء ڨردي الإيطالي فاستخرج «شخصية» فلستاف من الروايات الثلاث، وأطلق اسمه على ملحنته فتقبَّلها أهل الجنوب كما تقبَّلها أهل الشمال.

هذه الاختلافات في الذوق الصحيح أو المدَّعى تُوجَد في البلد الواحد وتُوجَد من باب أولى على تشعب واتساع بين الشرق والغرب وبين الأقطار المتباعدة، وقد تعوق أنواعًا من أعمال الفن التي تغلب عليها المسحة المحلية أو العوارض الموقوتة، فتصلح لبلدة ولا تصلح لأخرى وتروق طائفة من الناس ولا تروق غيرها، بل هي قد تروق الطائفة بعينها في وقت ولا تروقها في وقت آخر، أما أعمال الفن التي ترينا الإنسان على حقيقته الباقية فلا سبيل عليها لأمثال تلك الفروق والمفارقات، بل هي ذات رسالة في تاريخ الفكر الإنساني تتحقق بإلغاء تلك الفروق والمفارقات وإدماجها وتعبر الزمن من فوقها ومن ورائها في حياة واحدة باقية، هي حياة الإنسان الخالدة في مرآة العبقرية الخالدة، وهي كما رأينا تؤدي الأمانة الكبرى في طريقها الثابت لا تعتمد على سطوة تحميها ولا تجفل من سطوة تنازعها، وهذه هي أمانة الفكر الإنساني من قديم الزمن سبقت دعوة الداعين وعظات الواعظين، وعرفت الإنسان «إنسانًا» واحدًا قبل أن يلغط بها رسل الدول وسماسرة السلطان مخلصين وغير مخلصين.

وآخر ما نختتم به هذه الكلمة عن رسالة «الفن العالمي» أن روايات شكسبير تُنقَل إلى اللغة العربية تامة محققة في عهد استقلال، ولم تُنقَل على هذا المثال خلال سبعين سنة في عهد حماية أو احتلال.

سطوة الدولة لم تكن لها يد بالأمس في «ترويج» شكسبير بين الفرنسيين والألمان والروس، وسطوة الدولة لم تروجه بين المصريين وهم يعملون بأعينها ولا يفلتون من قبضة يدها.

أخذته الأمة حصة من التراث الإنساني لا تنزل عنها، ولم يفرض عليها ضريبة تدين بها لمن يغلبها ويتحكم فيها.

وتلك آية «الفكر» الإنساني في الآداب العالمية: كل أمة تُسأَل عن حصتها منه؛ لأنه تراث مدَّخر لجميع بني الإنسان.

١  العدد الخامس من الكتاب الدوري «عرض شكسبير» “Shakespeare Survey” لسنة ١٩٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤