لغز نموذجي

وضع المفتش «سامي» ساقًا على ساق وقال: هذا لغز من النوع الذي تفضِّلونه؛ إنه حادث سرقة غامض … يقع في مكان واحد … والمتهم ثلاثة أشخاص … والمسروقات مجموعة من المجوهرات النادرة بينها عِقد من اللؤلؤ الأحمر … وكما تعرفون أن اللآلئ كلها بيضاء … ومن النادر جدًّا العثور على لؤلؤة ملوَّنة.

قالت «لوزة» وهي تبتسم ابتسامةً واسعة: لقد أثَرت شهيَّتنا يا سيادة المفتش، أرجوك قُل لنا الحقائق كلها بسرعة … فإنني لا أستطيع الانتظار …

قال المفتش: وكيف يمكن أن أروي لكم الحقائق كلها دون أن أتناول كوب عصير الليمون وفنجان القهوة …

صاحت «لوزة»: يا لي من فتاة بلهاء … كيف نسيت هذا؟!

وقفزت مبتعدةً وهي تقول: ولكن لا بد أن تَعِدني أولًا أنك لن تروي لهم شيئًا قبل أن أعود …

وابتعدت … وضحك الأصدقاء الذين كانوا يحيطون بالمفتش «سامي» في حديقة منزل «عاطف»، وقد أرهفوا آذانهم لِما يقول … ولكن المفتش — احترامًا لوعده ﻟ «لوزة» — قال: فلْيقل لنا «عاطف» شيئًا مسليًا حتى تعود «لوزة» … ردَّ «عاطف» وهو يعتصر جبهته: آسف جدًّا … إنني مصاب بصداع بعد نزلة البرد التي أصابتني طوال الأسبوع الماضي … وليس هناك حل إلا أن تضحكوا عليَّ أنا شخصيًّا …

قال «محب»: إن شكلك درامي جدًّا وأنت تلبس هذه الملابس الثقيلة في هذا الحر المرهق …

عاطف: إنها تعليمات والدتي … وهي في حكم الأوامر العسكرية، لا يمكن مخالفتها …

وابتسم المفتش «سامي» وقال: هكذا أنتم أيها الأولاد دائمًا … تبدو لكم تعليمات الآباء والأمهات كأنها أوامر عسكرية … وتنسَون أنها كلها لمصلحتكم … ومن أجلكم …

وعادت «لوزة» في هذه اللحظة تحمل كوب الليمون، وهو يهتز في يدها ويكاد يسقط على الأرض … فصاح بها شقيقها «عاطف»: على مهلك! …

لوزة: اسكت أنت … إن الألغاز الغامضة قد تظل غامضةً إلى الأبد بسبب دقيقة واحدة ضائعة … ومن يدري لعل اللص الآن يختفي ونحن جالسون هنا نتحدَّث.

المفتش: معكِ حق يا «لوزة» … إنه لغز من أغرب الألغاز التي مرَّت بي في حياتي الطويلة … برغم أنه لغز بسيط …

تحدَّث «تختخ» لأول مرة قائلًا: كثيرًا ما يكون أبسط الأشياء هو أشدها غموضًا …

عاطف: هذه فلسفة يا أستاذ …

لوزة: دعونا من هذه المناقشات … وهذا كوب العصير الذي تفضِّله يا سيادة المفتش … وستأتي الشغَّالة بفنجان القهوة بعد عشر دقائق بالضبط …

قال «المفتش» بعد أن رشف رشفةً عميقةً من كوب العصير: أظنكم تسمعون عن المالي الكبير المهندس «سامح صديق» …

قال «محب»: طبعًا … إنه يسكن في شارع ١٩ في قصر عظيم تحيط به حديقة رائعة … فقد ذهبتُ مع بعض زملائي في المدرسة إليه مرةً ليتبرَّع لمعونة الشتاء … وقد تبرَّع فعلًا بمبلغ ضخم …

المفتش «سامي»: إن «سامح صديق» هو الضحية … أقصد هو الذي سُرقت منه مجموعة المجوهرات … ومن بينها كما قلت لكم عِقد من اللؤلؤ الأحمر نادر المثال …

وسكت المفتش لحظات … ونظر إلى وجوه الأصدقاء فوجدهم جميعًا ينظرون إليه باهتمام، وقد أرهفوا آذانهم لسماع تفاصيل السرقة … فقال: منذ ثلاثة أيام كان المهندس «سامح» في انتظار صديق له قادم من إنجلترا … وكان المهندس «سامح» قد تعرَّف بالرجل ويُدعى مستر «روجر كولي» في إحدى رحلاته إلى الخارج، وعَرف أنه وكيل شركة عالمية من شركات البناء … وبالطبع فإن المهندس «سامح» وهو مهندس إنشاءات يعرف الشركة … وقد عرف «سامح» من «روجر» أنه يريد زيارة مصر لأن شركته تريد القيام باستثمارات في البناء فيها … فدعاه «سامح» لزيارته عندما يحضر إلى القاهرة … وأعطاه عنوانه في المعادي، وأرقام تليفوناته في المكتب والمنزل ليتصل به عندما يحضر …

ورشف المفتش «سامي» من كوبه، ومدَّ ساقَيه إلى الأمام وقال: وفي صباح يوم الأربعاء الماضي خرج المهندس «سامح» للمرور على بعض المشروعات التي يقوم بها في مصر الجديدة … وفي الساعة الواحدة ذهب إلى مكتبه في ميدان التحرير، فقالت له سكرتيرته إن مستر «روجر كولي» قد اتصل به، وأنه موجود في القاهرة ويريد أن يراه … وأنها لم تستطِع معرفة عنوانه في القاهرة؛ لأن خط التليفون انقطع في أثناء المحادثة … واتصل المهندس «سامح» بمنزله في المعادي … وقال لزوجته أن تحدِّد موعدًا الساعة السابعة مساءً للمستر «روجر» في المنزل … إذا اتصل بها …

كان المغامرون الخمسة ينصتون في انتباه … وهم يسجِّلون في أذهانهم المعلومات … فترتيب المعلومات من أهم وسائل حل الألغاز … وتناوَل المفتش «سامي» الرشفة الأخيرة من كوب العصير، ثم مضى يقول: وغادر المهندس «سامح» مكتبه في الثانية ظهرًا … واستقلَّ سيارته إلى المعادي … ولمَّا وصل إلى منزله … قالت له زوجته إن مستر «روجر» قد اتصل، وأنها حدَّدت له الموعد في السابعة كما قال زوجها …

وجاءت الشغَّالة بفنجان القهوة … وتوقَّف الحديث قليلًا، ثم مضى المفتش يقول: وقرَّر المهندس «سامح» أن يستقبل الضيف في قاعة المكتبة في منزله … وهي قاعة واسعة تقع في الدور الأرضي من الفيلا الكبيرة التي يسكنها المهندس «سامح» … وتُطل المكتبة على الحديقة الواسعة المترامية الأطراف …

قال «محب» مُقاطعًا: إنها أشبه بغابة صغيرة …

قال المفتش «سامي»: فعلًا … فإن المهندس «سامح» وهو لم ينجب أطفالًا … يحب الأشجار والأزهار والكلاب … وقد حوَّل حديقته إلى غابة أفريقية … وجلب لها من الأشجار والأزهار ما لا يخطر على البال … كما أنه يربِّي مجموعةً من كلاب الحراسة تجعل من الفيلا قلعةً حصينةً يصعب اقتحامها …

وفي السادسة والنصف نزل المهندس «سامح» إلى غرفة المكتبة، حيث أشرف على إعداد حفل شاي صغير للضيف … نظرًا لارتباط زوجته بموعد سابق … فقد خرجت في السادسة لحضور اجتماع لجنة النشاط النسائي في نادي المعادي …

وزاد انتباه المغامرين لحديث المفتش … فقد اقتربت اللحظات الحاسمة من الحديث، وكأنما أدرك المفتش «سامي» هذا … فتمهَّل قليلًا، ثم مضى يقول: وفي السابعة تمامًا كان كل شيء معدًّا … وجلس المهندس «سامح» في انتظار ضيفه، ولكن الوقت مضى دون أن يحضر … وفي السابعة والنصف خرج المهندس وطلب من بواب الفيلا أن يتجوَّل حولها … لعل الضيف لم يستطِع العثور على العنوان … ثم خرج المهندس يتجوَّل في حديقته مع بعض كلابه … وطلب من السفرجي «فتحي» أن يكون في انتظار الضيف إذا حضر … وأن يطلب منه الانتظار إذا لم يكن هو قد عاد بعد … فإذا حضر الضيف فعلى السفرجي أن يسرع باستدعائه من الحديقة …

قالت «لوزة» مقاطعة: لم أفهم هذه النقطة جيدًا …

المفتش: سأُعيد شرحها … المهندس «سامح» سيخرج للتنزُّه في الحديقة مع الكلاب … إذا حضر الضيف، على السفرجي «فتحي» أن يطلب منه الانتظار في قاعة المكتبة … ويسرع لإبلاغ المهندس بحضور الضيف …

لوزة: واضح الآن …

المفتش: وعلى حسب أقوال السفرجي «فتحي» إنه ظلَّ منتظرًا نحو نصف ساعة … ثم سمع خطوات مقبلة … وأسرع لاستقبال القادم … فوجد شخصًا قادمًا تبدو عليه ملامح الأجنبي؛ فهو أشقر الشعر … أحمر الوجه … أزرق العينَين … ولاحظ أنه يعرج عرجًا خفيفًا، فاستقبله وقاده إلى غرفة المكتبة … ثم أسرع لاستدعاء المهندس «سامح»، وقد ظلَّ ينادي عليه فترةً طويلةً قبل أن تدله أصوات الكلاب التي كانت تنبح … فلمَّا وصل عنده … وجده ملقًى على الأرض والدماء تنزف من رأسه …

وسكت المفتش لحظات، ثم مضى يقول: وأسرع «فتحي» إليه، وساعده على الوقوف … وقال له إن الضيف وصل، فاستند على ذراعه … واتجها إلى قاعة المكتبة … ولكن الضيف لم يكن موجودًا …

وصمت المفتش وأخذ ينظر إلى وجوه الأصدقاء الذين كانوا يتابعونه … وقد أرهفوا آذانهم، ومضى المفتش في حديثه: كان المهم في هذه اللحظة بالنسبة للمهندس «سامح» الاهتمام بإصابته … فصعد إلى غرفته حيث اغتسل وغيَّر ثيابه … ووضع بعض المطهِّرات على الجرح، ثم اتصل بأحد أصدقائه الأطباء فحضر على الفور … وقام بالإجراءات الطبية اللازمة …

وأنهى المفتش «سامي» فنجان القهوة، ثم مضى يُكمل حديثه: ووصلَت زوجة المهندس «سامح» نحو الساعة التاسعة … وعرفت بما حدث … وبعد أن اطمأنت على حالة زوجها، نزلت إلى المكتبة حيث توجد خزانة بها مجوهراتها وبعض النقود والأوراق الهامة … ولاحظت على الفور أن مفاتيح الخزانة موجودة على مكتب زوجها، فأحسَّت بالخوف من أن يكون قد سُرق شيء من الخزانة، خاصةً بعد أن علمت باختفاء الضيف … وفتحت الخزانة، وكانت محقةً في خوفها … فقد وجدت أن المجوهرات قد اختفت …

وتنهَّد المفتش قائلًا: وصعدت الزوجة إلى زوجها، وأخبرته بما حدث، فأسرع ينزل إلى المكتبة وهو يلوم نفسه لأنه نسي المفاتيح على المكتب، وخرج إلى الحديقة … واتصل المهندس بنا وأبلغنا بما حدث …

وضغط المفتش على شفته السفلى وهو يقول: وبالطبع قام الشاويش «علي» بكتابة محضر الحادث، وحضرتُ ومعي بعض زملائي، وقمنا بالإجراءات اللازمة …

قال «تختخ»: إن هناك عناصر كثيرةً للبحث والتحرِّي …

المفتش: نعم … قمنا أولًا باستجواب جميع شهود الحادث … المهندس «سامح صديق»، والسفرجي «فتحي»، والبواب «حسنين»، والسيدة «عواطف» زوجة المهندس، ثم قمنا برفع البصمات … والبحث عن «روجر كولي» …

وزاد اهتمام المغامرين، وقالت «لوزة»: هل عثرتم على أدلة؟

ردَّ المفتش: حتى الآن … لا … البصمات التي وُجدت كانت بصمات المهندس «سامح» على المكتب … وبصمات السيدة «عواطف» على سلسلة المفاتيح وباب الخزانة … وهذا يثبت أن «روجر كولي» قد أزال بصماته تمامًا عن سلسلة المفاتيح وباب الخزانة …

وتحدَّثت «نوسة» التي ظلَّت صامتةً كل الوقت فقالت: من هو المتهم؟ … أو من هم المتهمون في رأيك يا سيادة المفتش؟

قال المفتش: أمامنا ثلاثة متهمين … الأول: «روجر كولي» … والثاني: «فتحي» السفرجي؛ لأنه أمضى وقتًا طويلًا وحده في قاعة المكتبة مع الخزانة، وكانت المفاتيح أمامه …

نوسة: ومن هو الثالث إذن؟

المفتش: الثالث شخص مجهول تسلَّل إلى قاعة المكتبة في الفترة بين خروج مستر «روجر كولي» وخروج السفرجي «فتحي» للبحث عن المهندس «سامح صديق» …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤