الكابوس

لم يكن هناك اتفاق بين المغامرين للقاء في المساء … وهكذا قرَّر «تختخ» أن يذهب وحده للبحث عن «مودي» … كانت حاسته كمغامر تؤكِّد له أنه سيعثر على شيء ما يربط بين اختفاء الكلب «الطانين» الأسود … وبين اختفاء المجوهرات … ولكن لم يكن قد وجد رابطةً مُعيَّنة … إلا أن الحدثَين وقعا في وقتٍ واحد …

ذهب وحده ولم يأخذ «زنجر» معه … فقد تذكَّر وجود الكلاب المتوحِّشة التي تحمي فيلا المهندس «سامح صديق»، ولم يشأ أن يعرِّض «زنجر» لهجوم هذه الوحوش …

وفي الخامسة أخذ طريقه إلى شارع «١٩» … وعندما اقترب من الفيلا رقم «٣١» هالَته مساحتها الكبيرة … والجدار الحجري الفخم الذي يحيط بالحديقة الواسعة …

وتوقَّف قليلًا يتأمَّل المكان ويفكِّر … ثم تقدَّم حتى وصل إلى البواب … ولم يكد يقترب من باب الحديقة الحديدي حتى اندفعت مجموعة من كلاب «الولف» الرمادية تنبح بشراسة من خلال القضبان الحديدية … وأحسَّ «تختخ» أنه من الصعب اقتحام هذا المكان دون رضا صاحبه …

تقدَّم من البواب العجوز «حسنين» وتذكَّر أنه أحد المشتبه فيهم … وتصوَّر ماذا يمكن أن يفعل مثل هذا الرجل بمجموعة من المجوهرات الثمينة … ولم يمضِ في تأمُّلاته كثيرًا … وقال له: السلام عليكم …

ردَّ الرجل السلام دون أن يسمع «تختخ» ما قاله لفرط ارتفاع نباح الكلاب … وعاد «تختخ» يقول: عندي موعد لزيارة المنزل …

قال البواب: الأستاذ «توفيق خليل»؟

ردَّ «تختخ»: نعم …

قال «حسنين»: آسف … إن المهندس وزوجته قد غادرا المنزل منذ قليل، ومن الصعب السماح لك بزيارة المنزل اليوم …

تختخ: هل يمكن زيارة الحديقة فقط؟

فكَّر «حسنين» قليلًا، ثم قال: أعتقد أن هذا ممكن … ولكن لحظةً من فضلك حتى أعيد الكلاب إلى أماكنها …

وقام البواب بفتح الباب الحديدي الضخم … وأخذت الكلاب تتقافز وقد بدا عليها الهِياج الشديد … وأحسَّ «تختخ» بالخوف … فلو أفلتَت الكلاب من الباب … فمن المؤكَّد أنه سيتعرَّض لهجوم ساحق … ولكن لحسن الحظ كانت كلمات البواب كافيةً لكي تتراجع الكلاب وأجسادها ترتجف من الغضب … وبعد لحظات عاد «حسنين» وقاد «تختخ» إلى مدخل الحديقة قائلًا: تفضَّل … وإن كنت متأكِّدًا أنك لن تجد ما تبحث عنه … فقد بحثت عن هذا الكلب الذي تتحدَّث عنه السيدة … ولم أجِد له أثرًا …

وقال «تختخ» في نفسه: من المؤكَّد لو أن هذا الكلب الصغير دخل الحديقة … لمزَّقته هذه الوحوش في ثوانٍ قليلة … ولكن لم يكن الكلب إلا ذريعةً يدخل من أجلها هذا المكان على أمل أن يعثر على شيء ينير الطريق إلى كشف ما حدث منذ ثلاثة أيام، وفشل رجال الشرطة في كشف غوامضه …

وقف «تختخ» لحظات في مدخل الحديقة … وقد بهره ما رأى … كانت أشبه بغابة أفريقية؛ فقد التفَّت الأشجار والنباتات في كثافة عجيبة … وانتشرت الأزهار الملوَّنة في كل مكان … وتدلَّت أغصان طويلة تشبه الجذوع … وامتلأ الجو بزقزقة مئات العصافير … بعضها كان في أقفاص سلكية … والبعض الآخر على أغصان الأشجار … وبالإضافة إلى نباح الكلاب المتوحِّشة … أحسَّ «تختخ» أنه فعلًا ليس في حديقة عادية … بل هو في غابة …

كان مستغرقًا في التفكير حتى إنه انزعج عندما سمع صوت البواب العجوز يقول له: تفضَّل يا أستاذ … سوف أسير معك حتى لا تتوه …

قال «تختخ»: من الذي يعتني بكل هذه الحديقة؟

ردَّ البواب: إنها حديقة قديمة … بدأها السيد «صديق الأكبر» جد المهندس «سامح»، وكل فرد من أسرة «صديق» أضاف إليها شيئًا، واهتمَّ بها حتى أصبحت بهذا الشكل …

تختخ: ولكن من الذي يهتم بها الآن؟

البواب: بالإضافة إلى المهندس نفسه … هناك بستاني اسمه «نسيم» مقيم هنا منذ مدة طويلة، لا يكاد يخرج من الحديقة مطلقًا … يساعده بستاني آخر يأتي على فترات متقطِّعة كلما كان هناك عمل كثير في الحديقة …

تختخ: وأين يقيم البستاني الدائم؟

البواب: في كشك خشبي قديم تغطِّيه الزروع … ولكنه عادةً لا يوجد فيه؛ فهو دائم التجوُّل في الحديقة ليل نهار …

تختخ: أريد أن أقابله …

بدا نوع من الاضطراب على وجه البواب قائلًا: لا داعي لهذا … إنه …

تختخ: إنه ماذا؟

البواب: لا أدري إن كان يجب أن أقول لك أم لا … ولكنه رجل مختل العقل إلى حدٍّ ما … لهذا لا يسمح الأستاذ «صديق» لأحد بمقابلته …

ساد الصمت بعد هذه الجملة … ولم يبقَ إلا صوت العصافير ونباح الكلاب …

وهبَّت ريح خفيفة حملت إلى أنف «تختخ» مزيجًا من رائحة الأزهار والورود والشجر والأرض المروية … وأحسَّ بأن سحرًا ما يسيطر عليه … سحر المغامرة والغموض والإثارة …

قطع «تختخ» الصمت قائلًا: سأتجوَّل وحدي في الحديقة.

البواب: ولكن يا أستاذ …

تختخ: لا تخشَ شيئًا … سوف أعرف طريقي … وأحدِّد مكاني بواسطة الشمس، ولا تقلق إذا لم أعُد إليك … فسأكون قد خرجت بطريقة ما …

سار «تختخ» في الممر الذي أمامه … وكان ممهَّدًا بحبات الزلط الملوَّن كما في حديقة الحيوان … وقد انتشرَت مساقي المياه الرفيعة على الجانبَين … وبرغم أن الشمس كانت ما تزال قوية … وبرغم أن هذه الحديقة في المعادي … وبرغم أن «تختخ» كان يسمع صوت أبواق السيارات من بعيد … برغم كل هذا، كان يشعر أنه دخل إحدى الغابات الأفريقية … وأنه بعيد جدًّا عن العالم المتحضِّر، وأخذ يتوقَّع بين لحظة وأخرى أن يقابل فيلًا أو أسدًا … أو يقفز على كتفَيه قرد من القرود …

سار ينظر حوله. لم يكن يدري بالضبط ما يبحث عنه … ولكن حاسته كانت تقول له إنه سيعثر على شيء ما … رابطة ما بين اختفاء «مودي» وبين سرقة المجوهرات … وفجأةً خطر له خاطر … ما هي حكاية البستاني الأبله في هذه الحديقة … ولماذا لم يَرد اسمه في التحقيقات الخاصة بسرقة المجوهرات؟ … هل أخفى الاسم عن عمد … أو تم استبعاده لأسباب لا يعرفها؟ أو لأنه أبله لا يفقه شيئًا؟ … كانت أسئلةً هامةً ولكنها بلا أجوبة …

شيئًا فشيئًا أخذ ظل الأشجار يخفي الشمس … ونسي «تختخ» نفسه وأخذ يسير ويسير … يبحث بين الممرَّات عن أي أثر للكلب … ولكن بلا جدوى … لم يكن هناك أي شيء يمكن كشفه في هذه الغابة المدهشة … وفجأةً أحسَّ أن شيئًا يتحرَّك قريبًا منه … والتفت فجأة … وخُيل إليه أنه يرى شبحًا يختفي خلف الأشجار الكثيفة … واستدار وعاد يبحث في مكان الشبح … ولكنه لم يرَ أحدًا … ولكن أنفه شم رائحةً قوية … رائحة سجائر أو تبغ ثقيل … وأدرك أن شخصًا ما يتبعه … وتنبَّهت حواسه … ونظر في ساعته … كانت قد تجاوزت السابعة … ومعنى هذا أنه أمضى ساعةً تقريبًا يسير دون أن يدري … وقرَّر أن يعود … ولكنه لم يكد يستدير لاستئناف السير … حتى سمع أزيزًا خفيفًا فوق رأسه … فارتمى على جانب … وفي نفس اللحظة هوت زهرية من الفخار الثقيل نزلت تمامًا في نفس المكان الذي كان يقف فيه منذ لحظات … ولم يتردَّد «تختخ» واتجه سريعًا إلى جذع الشجرة التي سقطت من فوقها الزهرية … وتسلَّق الجذع الذي كان ممتلئًا بالْتواءات … وصعد برغم سمنته إلى ارتفاع مترَين … ثم أخذ يحدِّق بين الأغصان … كان يتمنَّى أن يرى الشخص الذي حاول قتله … ولكن لم يكن هناك أثر لإنسان … فهل كانت مصادفة؟

جلس قليلًا على غصن سميك … وأحسَّ أن لغز اختفاء المجوهرات يخفي سرًّا كبيرًا لا أحد يعرفه … ومضت فترة من الوقت … وقرَّر «تختخ» أن يعود … فقد أخذ الظلام يهبط سريعًا على الحديقة الواسعة … وإذا كانت الشمس التي يعتمد عليها في تحديد خط سيره ستختفي بعد قليل، فمن الأفضل أن يعود قبل أن يفقد طريقه نهائيًّا … ولكن هذا القرار جاء متأخِّرًا … فعندما نزل من على الغصن إلى الأرض، وبدأ السير، أدرك أنه قد ضلَّ طريقه في الحديقة المترامية الأطراف … وأحسَّ بالارتباك؛ فقد سمع نباح الكلاب ينطلق من أماكن متعدِّدة في الحديقة … وتذكَّر أحجامها الكبيرة، ونظراتها الشرسة … وتأكَّد أنها إذا التقت به فستكون نهايته … خاصةً لن يتدخَّل أحد لينقذه منها …

وسار محاولًا أن يتذكَّر الطريق الذي سار منه … وأخذ يسير من ممر إلى ممر دون أن يجد علامةً تدلُّه … ووجد نفسه قد دخل في ممرَّات غير ممهَّدة … وبين فترة وأخرى كان يقع على الأرض … وخُيل إليه في بعض الأحيان أنه سمع ضحكةً بعيدةً تأتي من أماكن متعدِّدة … وساد الظلام والصمت … وأخذ نباح الكلاب يقترب …

بدأت أعصاب «تختخ» تتوتَّر تدريجيًّا … وأحسَّ أنه في حاجة لأن يصرخ بأعلى صوته على أحدٍ يأتي إليه … ووجد نفسه دون أن يدري يجري ويجري … كان يصطدم بالفروع المتدلية … ويرتطم بالأرض … ولكنه مضى يجري ونباح الكلاب يطارده …

وأدرك أنها ستصل إليه عاجلًا … وأنها ستمزِّقه … كان الحل الوحيد أمامه أن يصعد إلى إحدى الأشجار العالية ويربض فوقها؛ فإن الكلاب لا تتسلَّق الأشجار …

وأسرع إلى أقرب شجرة إليه … وفي هذه اللحظة ارتطم شيء قوي برأسه … ودار حول نفسه دورةً كاملة، ثم سقط على الأرض … ودارت الدنيا به …

وسمع نباح الكلاب … وفي نفس الوقت سمع الضحكة المجهولة التي كانت تتبعه … وخُيِّل إليه أنه يسمع صوت أقدام تقترب … ثم تتوقَّف … وسمع صوتًا ينهر الكلاب … فاستجمع كل قوته ووقف … وحاول أن يسير مرةً أخرى … كان رأسه ثقيلًا كأنه امتلأ بالرصاص … وساقاه ترتعدان بشدة كأنما تحوَّلتا إلى خيوط … وفجأةً انثنت إحدى قدمَيه تحته … ومال سريعًا وقد أحسَّ أنها ستنكسر … وارتمى على الأرض بشدة … وارتطم رأسه بجذع شجرة … وغام كل شي أمام عينَيه … وسقط ستار كثيف من الظلام على رأسه … وغاب عن وعيه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤