أريد أن أراك

عندما فتح «تختخ» عينَيه وجد نفسه ممدَّدًا على ظهره … ورأى سقفًا من الخشب قد عُلِّقت عليه أشياء غريبة … رءوس حيوانات محنَّطة … زجاجات فارغة … قِطع من الحبال والجنازير الحديدية … وأدار رأسه … وعرف على الفور أنه في كوخ خشبي قديم، وتذكَّر حديثه مع البواب «حسنين»، لا بد أنه الآن في كوخ البستاني الأبله … «نسيم»، والتفت إلى الجانب الآخر من الكوخ … وطالعه وجه عجيب … واطئ الجبهة … عريض الأنف … ضيق العينَين … بارز الذقن … والشيء الغريب أنه كان شديد الأناقة … ولاحظ «تختخ» على الفور أنها أناقة أصيلة تنم عن ذوق رفيع …

كان «نسيم» يجلس في هدوء … وبجانبه بوتاجاز صغير مشتعل، عليه إبريق الشاي … وكانت عيناه مثبتة على «تختخ» في نظرة شبه نائمة ولكنها حادة … نظرة ثعبان … وأحسَّ «تختخ» بآلام في رأسه وساقه … وبشيء من القلق وهو يجلس مع هذا الأبله في مكان واحد … وتذكَّر شيئًا قرأه عن المجانين … تعريف يقول: إن المجنون شخص لا يعرف ماذا سيفعل في اللحظة التالية … فمع الشخص العاقل تستطيع أن تتوقَّع بعض التصرُّفات، أمَّا مع العبيط والأبله والمجنون فلا تستطيع أن تعرف في أي شيء يفكِّر … وكيف سيتصرَّف … والتقت عيناه في نظرة خاطفة … وفجأةً قال «نسيم»: إنك لا تبحث عن الكلب … إنك تبحث عن شيء آخر …

كانت كلماته تندفع من بين شفتَيه ناعمةً هادئة … ولكنها منذرة بالشر …

وردَّ «تختخ» بهدوء: هل هناك شيء آخر ضائع؟

قال «نسيم»: إن هذا العالم مِلكي أنا … ومن الخطأ أن تتحرَّك فيه دون أن تسألني …

تختخ: إنني لم أكن أعرف أنه مِلكك …

نسيم: سيقولون لك كلامًا كثيرًا عني … يجب ألَّا تصدِّقه … وفي نفس الوقت فأنا لن أدافع عن نفسي.

تختخ: ولماذا تدافع عن نفسك؟ … هل أنت متهم بشيء؟

ضحك «نسيم» فجأةً ضحكةً مدوية … ثم لاذ بالصمت … وانصرف إلى إعداد الشاي … ومرةً أخرى أدهش «تختخ» أنه قام إلى دولاب في الحائط … وأحضر طقمًا من الصيني الفاخر … وأعد الشاي بطريقة بارعة … ثم حمل الصينية ودفعها إلى مائدة صغيرة بجانب الفراش … ونظر «تختخ» إلى الصينية … ولاحظ كم هي نظيفة ولامعة … وبجوار الفناجين الأنيقة كانت هناك علب من البسكويت ماركة «ماكنشون» الشهيرة، وكان هذا شيئًا مدهشًا بالنسبة لبستاني …

قال «تختخ»: أشكرك كثيرًا …

وظلَّ «نسيم» صامتًا … واقترب بكرسيه من الفراش … وأخذ يصب الشاي بيد مدرَّبة … ثم مدَّ يده بالفنجان إلى «تختخ» فتناوله … ورشف منه رشفة … وأحسَّ بالراحة … فقد كان نوعًا فاخرًا من الشاي لذيذ الطعم …

مرةً أخرى جاءت المفاجأة …

قال «نسيم»: العِقد الأحمر …

وانتظر «تختخ» لاهث الأنفاس ما سيقوله «نسيم» بعد هذا … ولكن «نسيم» لاذ بالصمت … وأخذ يرشف الشاي في هدوء وكأنه لم يقل شيئًا … وتصوَّر «تختخ» فجأةً من يمكن أن يكون الزائر الغامض … ولكن «نسيم» عاد يقطع حبل تفكيره، وبدَّد الصمت قائلًا: ليس مُهمًّا ما يقوله الناس … وسكت لحظات، ثم عاد يقول … كان أبي يردِّد هذه الجملة كثيرًا … لا يهم ما يقوله الناس … المهم أن تكون مرتاح الضمير …

انتهز «تختخ» الفرصة وقال: ماذا عن العقد الأحمر؟ …

حوَّل «نسيم» عينَيه إلى «تختخ» وثبَّتهما عليه طويلًا دون أن يرد … وأدرك «تختخ» أن «نسيم» يعرف الكثير … وتمنَّى أن يحصل منه على أية معلومات، ولكن في هذه اللحظة سمعا صوت أقدام تقترب … ثم فُتح الباب فجأةً وظهر رجل طويل القامة شديد الأناقة … أدار بصره في الكوخ سريعًا حتى استقرَّ على «تختخ»، فقال على الفور: ما الذي جاء بك إلى هنا؟

وجد «تختخ» نفسه دون أن يدري يغادر الفراش … وأحسَّ بدوار خفيف … ولكنه استطاع أن يقف ثابتًا، ثم قال: أرجو أن أعرف من أنت يا سيدي؟

ردَّ الرجل في ضيق: أنا الذي أسأل في هذا المكان! … من أنت؟ وكيف دخلت هذا الكوخ؟

ردَّ «تختخ» على الفور: أمَّا من أنا … فاسمي «توفيق»، وأمَّا كيف دخلتُ هذا الكوخ فهذا ما لا أعرفه …

قال الرجل وهو يستدير خارجًا: إذن اتبعني من فضلك …

ووضع «تختخ» فنجان الشاي الذي كان ما زال يمسكه في يده … ثم تبعه على الفور … وعندما أوشك أن يغادر الكوخ نظر إلى «نسيم» وتبادلا نظرةً خُيل ﻟ «تختخ» أنها تعني أشياء كثيرة … فقال: أشكرك كثيرًا على ضيافتك الكريمة … وأرجو أن نلتقي سريعًا …

ولم يردَّ «نسيم»، وعندما أوشك «تختخ» أن يغادر الكوخ … وقعت عيناه فجأةً على شيء ملقًى بجوار أحد جذوع الأشجار التي يقوم عليها الكوخ … كان سلسلةً من سلاسل الكلاب … وفي الطوق عُلِّقت قطعة معدِنية … عرف على الفور أنها الرخصة التي تُعلَّق في رقبة الكلاب … ولكنه لم يستطِع أن يتبيَّن الرقم …

خرج إلى الهواء الطلق … كان الظلام حالكًا … ولكن بعض الأضواء البعيدة كانت تنير الطريق … وسار خلف الرجل … وعندما ابتعدا عن الكوخ بمسافة … التفت إليه الرجل وقال له: إنك لم تتعرَّف عليَّ … أنا المهندس «سامح صديق» …

قال «تختخ»: لقد توقَّعت ذلك يا سيدي …

عاد الرجل يقول: أرجو أن تغفر لي خشونتي معك … ولكني فوجئت بوجودك مع «نسيم» وهو أبله … وقد خشيت أن يصيبك بضرر …

تختخ: لقد كان رقيقًا معي …

سامح: هكذا هو أحيانًا … وفجأةً يثور ويحطِّم ما حوله … ويؤذي من هو قريب منه …

وانحرف المهندس «سامح» في طريق ضيق … وفوجئ «تختخ» أنه أصبح أمام الفيلا … ونظر إلى ساعته … كانت التاسعة …

فتح المهندس «سامح» بابًا … وأشار ﻟ «تختخ» فدخل … وعرف «تختخ» على الفور أنه في المكتبة التي وقعت بها السرقة … كانت غرفةً جميلةً لم يرَ مثلها في حياته. كانت صفوف الكتب الأنيقة تمتد في صفوف منتظمة على الأرفف الخشبية اللامعة خلف الزجاج، وقد وُضعت في أركان الغرفة مجموعة من الزَّهريَّات الكريستال الفخمة … تمتد منها سيقان من الأزهار النادرة … وفي طرف الغرفة وُضع مكتب ضخم … وبجواره مكتب آخر ممَّا يُستخدم في الرسومات الهندسية … وأشار المهندس «سامح» إلى «تختخ» ليجلس قائلًا: تفضَّل بالجلوس … وسأعود إليك بعد لحظات …

وخرج المهندس «سامح» من باب جانبي … ووقعت عينا «تختخ» على الخزانة … وقفز في خطوات خفيفة واقترب منها وأخذ يتأمَّلها … كانت تحفةً في الدقة والمتانة … وأدرك «تختخ» أنه لا يمكن للص مهما كان أن يفتح هذه الخزانة المصفَّحة بغير مفاتيحها الأصلية … ثم ألقى نظرةً على ما حوله … وتذكَّر الوقائع التي ذكرها المفتش عن سرقة المجوهرات … ثم عاد «تختخ» إلى مكانه … وجلس هادئًا وقد أحسَّ برأسه يدور لفرط ما رأى وسمع … كانت هناك حكاية «نسيم» الأبله … والكوخ الأنيق العجيب من الداخل … وسلسلة الكلب التي يعتقد أنها سلسلة «مودي»، وحكاية المهندس «سامح» عن «نسيم» … وقبل أن يسترسل في أفكاره … دخل المهندس «سامح» مبتسمًا وقال: آسف لأنني عَطلتك … لقد عرفت الآن من زوجتي أنك حضرت للبحث عن كلب أسود من نوع «الطانين» فقدَته صاحبته أمام الفيلا … هل هذه المعلومات صحيحة؟

تختخ: إنها صحيحة …

سامح: أؤكِّد لك أنه لم يدخل حديقة الفيلا — على حد علمي — أي كلب … فكلاب الحراسة التي في الحديقة تمنع كائنًا من كان أو ما كان من دخول الحديقة دون إذني … أو إذن «حسنين» البواب … وهو لم يخبرني بهذا الكلب …

تختخ: في هذه الحالة تنتهي مهمَّتي يا سيدي …

سامح: على كل حال إنني سعيد بأن أراك … فقد سمعت أنك مغامر جريء … ومن هواة حل الألغاز البوليسية … ونحن نشترك معًا في هذه الهواية …

تختخ: لقد لاحظت وجود مجموعة كبيرة من الروايات البوليسية بين كتب المكتبة …

سامح: نعم … وكلما سافرت أحضرت أحدث ما صدر منها في العالم …

وقف: «تختخ» مبديًا رغبته في الانصراف، فقال المهندس: ابقَ للعشاء؟

تختخ: شكرًا لك يا سيدي … ولكني تأخَّرت عن العود إلى منزلي … فلم أكن أتوقَّع أن أتغيَّب كل هذه المدة …

وقف المهندس «سامح» وقال: سآتي معك … فالكلاب طليقة الآن … ولا أظنك على استعداد لملاقاتها … إنها شديدة التوحُّش …

أحسَّ «تختخ» أن ثمة إنذارًا يوجَّه إليه فقال: بالطبع في هذه الظروف لا أظن أنني أرحِّب بمقابلتها …

وتحرَّك «تختخ» خارجًا … وتبعه المهندس «سامح»، وسارا معًا في ظلام الحديقة … على الأضواء البعيدة … وكانت الكلاب تتبعهما مزمجرة … والمهندس ينهرها بشدة حتى لا تقترب من «تختخ»، ومشيا طويلًا … ودُهش «تختخ» لمساحة الحديقة … وللمسافة البعيدة بين الفيلا والمدخل …

ووصلا إلى الباب الحديدي … وقال المهندس وهو يصافح «تختخ» مودِّعًا: أرجو أن تجد الكلب الذي تبحث عنه … وأؤكِّد لك أنه ليس في هذه الحديقة … فليس لنا أية مصلحة في إخفائه …

وخرج «تختخ» وأغلق البواب الباب الحديدي الضخم … ولا يدري «تختخ» لماذا توقَّف بعد لحظات، وعاد متلصِّصًا بجوار السور … ولكنه سمع صوت المهندس «سامح» الغاضب وهو يؤنِّب «حسنين» البواب … كان يصيح به: لقد قلتُ لكَ ألف مرة ألَّا يدخل أحد الحديقة دون إذنٍ مني! …

حسنين: ولكن يا سيدي … لقد أمرَت السيدة «عواطف» بذلك …

سامح: قلتُ لك لا بد من إذن مني … أنت تعرف «نسيم» … إنه مجنون … وكان من الممكن جدًّا أن يقتل هذا الولد ونقع في مشكلة …

حسنين: آسف يا سيدي … لن يتكرَّر هذا مستقبلًا … وسمع «تختخ» صوت أقدام «سامح» وهو يتحرَّك مبتعدًا … فسار مسرعًا في طريقه إلى منزله … كان يسير بجوار السور … وأحسَّ أن ثمَّة شخصًا يتبعه … وتوقَّف ونظر حوله … لم يكن هناك أحد على الإطلاق … ولكنه سمع صوتًا يأتي من خلف السور … صوت «نسيم» يقول له: عُد مرةً أخرى، عندما تتمكَّن من ذلك … إنني أريد أن أتحدَّث إليك …

وسَرت رِعدة في بدن «تختخ» وهو يسمع هذا الكلام … أيعود للحديث مع الأبله المجنون؟! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤