وظهر الشاويش

تسلَّل «تختخ» إلى غرفته … وكان في أشد الحاجة لأن يخلو إلى نفسه ويفكِّر في كل ما حدث … كان يشعر أنه عاد من رحلة بعيدة في قلب الأدغال … وليس من منزلٍ في المعادي لا يبعد سوى بضعة شوارع من منزله … وكان في رأسه طنين يدوِّي كالنحل من كثرة ما رأى وسمع … وعليه أن يرتِّب هذه المعلومات والمشاهدات كلها حتى يمكن أن يخرج منها باستنتاجات محدَّدة … واغتسل وتمدَّد في فراشه يفكِّر … ولكنه لم يفكِّر طويلًا؛ فقد استولى عليه النوم … ولم يستيقظ إلا في السابعة من صباح اليوم التالي … وعندما جلس على طرف الفراش أخذ يتذكَّر كل ما حدث بالأمس كأنه حلم من الأحلام … وأيقظته من هذه الأحلام معدته … فقد أحسَّ بآلام الجوع تقرصه … وتذكَّر أنه لم يتعشَّ أمس … فقفز سريعًا …

وبعد أن اغتسل وغيَّر ثيابه نزل سريعًا إلى المطبخ حيث تناول إفطاره وحيدًا، ثم أسرع إلى التليفون، واتصل ببقية المغامرين … وطلب منهم اللقاء فورًا في حديقة منزل «عاطف» كالمعتاد …

اكتمل عدد المغامرين الخمسة في التاسعة إلا ربعًا بالضبط … ولم يكن أي أحد منهم يتصوَّر ما حدث ﻟ «تختخ» أمس … لهذا قال «تختخ» متسائلًا: هل من معلومات جديدة حول سرقة عِقد اللؤلؤ الأحمر؟

هزَّ المغامرون رأسهم نفيًا فقال «تختخ»: بين الساعة السادسة مساءً حتى التاسعة والنصف تقريبًا … وقعت مجموعة من الأحداث الغريبة لي … يهمُّني جدًّا أن تلتفتوا إليها … لعلنا نعثر بين ما سمعنا من المفتش … وبين ما سمعتُه ورأيتُه أمس، على مفاتيح هذا اللغز …

وبدا الاهتمام على وجوه المغامرين الأربعة … حتى «زنجر» الذي صحب «تختخ» في حضوره هزَّ ذيله … ثم اعتمد على ساقَيه الأماميتَين … ورفع أذنَيه يستمع. قال «تختخ»: تركتكم أمس عندما استدعتني والدتي … وعندما وصلت إلى المنزل … وجدت إحدى صديقاتها معها … ولهذه الصديقة كلب من نوع «الطانين» يدعى «مودي» … وقد اختفى «مودي» في نفس موعد ومكان حادث سرقة اللآلئ …

قالت «لوزة» متسرِّعة: وهل هناك رابطة بين اختفاء «مودي» والسرقة؟ …

تختخ: هذا ما لا أستطيع أن أؤكِّده أو أنفيه … ولكن سأروي لكم كل ما حدث أمس … وعلينا جميعًا محاولة الربط بين الحادثَين …

وتنهَّد «تختخ»، ثم مضى يروي للمغامرين ما حدث له منذ وصوله إلى فيلا المهندس «سامح صديق» حتى عودته إلى منزله … وقد كانت المغامرة مشوِّقة، حتى إن المغامرين الأربعة لم يقاطعوه بسؤال واحد حتى انتهى من قصته كلها … ثم أخذ نفسًا عميقًا واستلقى في كرسيه إلى الخلف … كأنما كان يجري في سباق …

وساد الصمت فترةً طويلةً بعد أن انتهى «تختخ» من روايته، وأخذ كل واحد من المغامرين يدير المعلومات في رأسه … محاولَةً لاستخلاص النتائج … وقطع حبلَ الصمت «محب» سائلًا: هل وصلت أنت يا «تختخ» إلى نتائج محدَّدة فيما حدث أمس؟ …

تختخ: لا أستطيع أن أقول إنني وصلت إلى نتائج محدَّدة … ولكني أعتقد أن «نسيم» الأبله له دور هام في هذه الأحداث كلها … ومن المدهش أن المفتش «سامي» لم يذكر اسمه في موضوع السرقة …

نوسة: من الواضح أنهم أخفَوا اسمه تمامًا عن المفتش …

عاطف: بالطبع لأنه أبله … فما هو الدور الذي يقوم به رجل عبيط في هذه القصة كلها؟

لوزة: لا تنسَ يا «عاطف» أن الأبله «شعبان» هو الذي حل لغز «عبيط القرية» الذي قمنا به في قرية «برج البُرلس» … فعادةً يحصل الأبله على معلومات كثيرة لأن الناس تطمئن إليه … وتعتقد أنه ليس خطرًا على ما يفعلون؛ لأن أحدًا لن يصدِّقه …

محب: هذا معقول جدًّا … ولكن ما هو الدور الذي قام به «نسيم»؟

سارعَت «نوسة» تقول: هل يكون هو الزائر الغامض؟ …

كان سؤالها أشبه بقنبلة انفجرت في وسط المغامرين … فقد نظروا إليها جميعًا مدهوشين عدا «تختخ» الذي هزَّ رأسه في بساطة قائلًا: ليس هذا بمستبعد لسبب بسيط … إن ملابس «نسيم» وأسلوب حياته … والطريقة التي قدَّم بها الشاي، تؤكِّد أنه ليس بستانيًّا عاديًّا … إنه رجل مثقَّف إلى حدٍّ بعيد … وصحيح أنه يتحدَّث أحيانًا حديثًا غير معقول … أو لا رابط بينه … ولكن من المؤكَّد أنه يفهم كثيرًا … ويعرف كثيرًا …

عاطف: في هذه الحالة … هل من الممكن أن يتنكَّر في ملابس الزائر «روجر كولي» ويسرق المجوهرات بما فيها عِقد اللؤلؤ الأحمر؟

تختخ: إنني لم أرَ «روجر كولي» حتى أحكم … ولكن من الأوصاف التي أعطاها لنا المفتش أستبعد ذلك … «روجر» أشقر وأزرق العينَين … «ونسيم» أسمر … وأسود العينَين …

محب: ليست مشكلةً يا «تختخ» … فأنت تتنكَّر في أشكال مختلفة … وتضع باروكةً شقراء، ولا أحد يعرفك …

عاطف: ولون العينَين؟

محب: من المعروف أن هناك عدسات تلتصق بالعيون … يمكن أن تغيِّر لون العينَين تمامًا مثلما تلبس نظارةً زرقاء أو صفراء … وعدد كبير من الناس يضع هذه العدسات التي تلصق على حدقة العين، وتحل محل النظارات …

نوسة: في هذه الحالة ليس من المستبعد أبدًا أن يكون «نسيم» قد عرف بزيارة «روجر كولي» وقام بعملية تنكُّر … ودخل المنزل على أنه «روجر» وقام بالسرقة …

ساد الصمت بعد هذه الاستنتاجات المفاجئة التي كشفت عن شخصية الزائر الغامض، ولكن «لوزة» قطعت حبل الصمت قائلةً في صوت غاضب: إن استنتاجاتكم بعيدة جدًّا عن الحقيقة …

التفت إليها «عاطف» قائلًا: ولماذا أنتِ غاضبة؟ هل يهمك «نسيم» إلى هذا الحد؟

لوزة: ليس «نسيم» من يهمني … ولكن الحقيقة هي التي تهمني … إن «نسيم» لم يرَ «روجر كولي» مطلقًا … فكيف يتنكَّر في ثيابه وشكله؟

ابتسم «تختخ» قائلًا: معك كل الحق … ولكن هناك نقطة هامة … إن «فتحي» السفرجي … هو الوحيد الذي قابل الزائر الغامض … وبما أنه لم يرَ «روجر» من قبل … فمن الممكن أن يتصوَّر أن أي شخص أشقر أزرق العينَين هو «روجر كولي» …

نوسة: في هذه الحالة لا بد أن تتم مواجهة بين «روجر كولي» وبين السفرجي «فتحي» حتى يتم التأكُّد من شخصيته …

تختخ: في هذه الحالة علينا أن نتصل بالمفتش «سامي» ونطلب منه هذه المواجهة …

وأسرعت «لوزة» تُحضر التليفون … ولكن المفتش «سامي» لم يكن موجودًا في منزله أو مكتبه … وعاد المغامرون يتناقشون من جديد، وقالت «نوسة»: إننا نسينا أهم عنصر في هذا الموضوع كله … هو أن «نسيم» قد دعا «تختخ» لمقابلته، وإنني أعتقد أن هذه المقابلة ستكشف كل شيء عن هذا اللغز …

تختخ: لقد نسيتُ شيئًا هامًّا يا «نوسة» … إنني عثرتُ على سلسلة الكلب في كوخ «نسيم»، ومع ذلك لم يُشِر بشيء إلى «مودي»، وهذا يعني أنه يستطيع أيضًا إخفاء المعلومات، ومن يستطيع إخفاء المعلومات يستطيع أن يضلِّلنا …

محب: من الواضح أننا ندور في حلقة مفرغة … وفي كل لحظة يضاف مُتَّهم جديد إلى قائمة المتهمين … فبالإضافة إلى المتهمين الذين ذكرهم المفتش «سامي»، أُضيف مُتَّهم جديد هو «نسيم»، وليس عندنا أدلة كافية لإدانة أي واحد منهم …

وسكت الجميع بعد هذه الملاحظة … ولكن سكوتهم لم يستمرَّ طويلًا … فقد ظهر في هذه اللحظة شخص نسوه تمامًا في غمرة الأحداث التي مرُّوا بها … وعندما رأوه تحرَّك «زنجر» في مكانه … فقال القادم الذي لم يكن سوى الشاويش «علي»: إذا لم توقفوا هذا الكلب عند حده فسوف أتخذ الإجراءات القانونية ضدكم …

أشار «تختخ» ﻟ «زنجر» قائلًا: اجلس هادئًا يا «زنجر» …

وتثاءب الكلب متضايقًا … فقد كان يحب أن يمارس هوايته في العبث بساقَي الشاويش الذي أسرع بالجلوس في أقرب مقعد، ثم قال: طبعًا يدهشكم أن أظهر في هذا الوقت وأنتم مشغولون بالمناقشة في حل لغز اللآلئ المسروقة … لقد قال لي المفتش «سامي» إنكم تعرفون.

قال «عاطف»: لقد عثرنا على اللآلئ يا شاويش … واكتشفنا للأسف الشديد أنها مزيَّفة … ولا تساوي إلا بضعة قروش …

احمرَّ وجه الشاويش وتحرَّك شاربه حركةً غير إرادية، وقال بغضب: إنني لم أحضر من أجل هذه اللآلئ اللعينة … ولا لسماع تعليقاتك الساخرة … لقد جئت أبحث عن كلب …

تختخ: هل تقصد الكلب «مودي»؟ …

زاد احمرار وجه الشاويش وقال غاضبًا: أليس هناك شيء يحدث في هذا العالم لا تعرفونه؟!

إنني في النهاية سوف أترك لكم المعادي كلها …

عاطف: إن المعادي بدونك لا تساوي شيئًا يا شاويش «علي» …

الشاويش: إنني لن أردَّ عليك … المهم الآن أنني أريد أن أسألكم عن الكلب «مودي»، ألم يرَه أحد منكم؟ …

قال «تختخ»: لقد رأيته يا شاويش …

صرخ الشاويش منفعلًا: أين؟ هل عثرت عليه؟

تختخ: لا يا شاويش … لقد رأيته في صورة …

وأخرج «تختخ» من جيبه صورة «مودي» التي أخذها من صاحبته وقال: أليس هذا هو الكلب الذي تبحث عنه؟

قال الشاويش: نعم … إنه هو … هل عثرتَ عليه؟

تختخ: قلت لك إنني لم أعثر عليه … ولكني أنصح أن تبحث عنه في حديقة منزل المهندس «سامح صديق» في شارع «١٩» …

الشاويش: هل عرفتَ أنه اختفى هناك؟

تختخ: نعم … ولو بذلت بعض الجهد لعثرت عليه …

قام الشاويش واقفًا … وانطلق خارجًا من حديقة منزل «عاطف» و«لوزة» تصيح به: إنك لم تشرب شيئًا يا شاويش «علي»، وليس هذا من عادتك … ولا عادتنا …

ولكن الشاويش لم يتوقَّف … ولم يلتفت حتى قفز إلى درَّاجته واختفى …

قال «محب» موجِّهًا حديثه إلى «تختخ»: لماذا قلت له؟

تختخ: وهل نخفي معلوماتنا عن ممثلي القانون … إن الشاويش «علي» له سلطات ليست لنا … ولعله لو عثر على الكلب لكشف لنا بعضًا من غموض الأحداث التي تمر بنا …

محب: وما هي خطتنا القادمة؟

تختخ: لقد قرَّرت أن أزور «نسيم» في الحديقة … والمشكلة التي تواجهني … كيف أصل إليه … وقد سمعت المهندس «سامح» يأمر البواب بعدم إدخال مخلوق إلى الحديقة إلا بإذنه … وفي نفس الوقت هناك هذه الكلاب الشرسة …

نوسة: نستطيع أن نضع خطةً بسيطة … فبعد أن يهبط الظلام سنذهب جميعًا إلى الحديقة وندور حولها … وننادي على «نسيم»، فإذا ردَّ … طلبنا منه أن يسهِّل لك مُهمَّة الدخول إليه والحديث معه …

تختخ: إنها خطة معقولة جدًّا … المهم أن يكون «نسيم» جادًّا فيما قال … إنه كما يقولون أبله … وقد ينسى كل ما حدث ويرفض مقابلتي …

نوسة: إن علينا أن نحاول … خاصةً أنك قد رأيت سلسلة الكلب «مودي» في كوخه … ومعنى هذا أنه مشترك في الأحداث الأخيرة بشكل ما …

تختخ: موافق … ولنلتقِ في المساء هنا …

وفي المساء … اجتمع المغامرون الخمسة مرةً أخرى … وجلسوا يتحدَّثون فترةً من الوقت حتى مالت الشمس للمغيب … ثم انطلقوا واحدًا وراء الآخر حتى وصلوا إلى شارع «١٩»، ووزَّعوا أنفسهم حول سور الحديقة … وقد اختار كلٌّ منهم شجرةً يختفي خلفها عن العيون … وعندما هبط ستار الظلام … بدأ الخمسة ينادون من خلال السور الحديدي الضخم … «نسيم» … «نسيم» … «نسيم» … «نسيم» …

وفجأةً ردَّ «نسيم» بصوت هامس: من هناك؟

وكان على «لوزة» أن ترد فقد كانت أقرب الجميع إليه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤