حكاية الدكتور «نسيم»

كانت الكلاب تندفع نحوهما كأنها عاصفة من الشر أُطلقت من عِقالها … وشَلَّت لحظات الخطر الوشيكة الوقوع قدرتهما على الحركة حتى ظهرت عيون الكلاب في الظلام وهي تشتعل كالجمر … في هذه اللحظة فقط اندفع «محب» يجُر «تختخ» معه، واندفعا داخلَين إلى الكوخ … وأغلقا الباب خلفهما … ثم وقفا ينظران إلى المشهد أمامهما … كان «نسيم» يجلس محدِّقًا أمامه كأنه لا يرى شيئًا … وقد قبع كلب أسود من نوع «الطانين» بين ذراعَيه … وقد رُبط بالشاش والقطن في أكثر من موضع … ولم يشكَّ المغامران لحظةً واحدةً أنه لا بد أن يكون الكلب «مودي» …

أفاق «نسيم» مع وجودهما عندما سمع صوت الكلاب وهي تحاصر الكوخ وتدق الجدران بمخالبها، فنظر إليهما في دهشة وسأل: كيف دخلتما؟ …

ردَّ «تختخ»: تسلَّقنا السور … وحتى لا نضيع وقتًا طويلًا في الحديث … أقول لك إننا استمعنا إلى الحوار الذي دار بينك وبين المهندس «سامح»، ونحن نرجو أن تعتبرنا أصدقاءك وتقول لنا ما هي الحكاية بالضبط …

نسيم: أي حكاية؟ …

تختخ: من الواضح أنك لست بستانيًّا يعمل في هذا المكان … وقد عرفتُ هذا منذ رأيتك … وبعد الحوار بينك وبين المهندس «سامح» فهمنا أن لك حقوقًا في هذا المكان … وسمعنا أنه يتهمك بسرقة المجوهرات … والعِقد الأحمر على الخصوص … فما هي حقيقة كل هذا الموقف؟ …

نسيم: وماذا يهمُّكما في هذا الأمر؟

تختخ: ربما يكشف لنا عن سرقة العِقد الأحمر وبقية المجوهرات؟

ربت «نسيم» على الكلب وقال: سأقول لك كل شيء … الحقيقة أنني لست بستانيًّا بالمعنى المفهوم … وإن كنت أعمل بالزراعة … فإنني أحمل درجة الدكتوراه في أمراض النبات …

وبدا الذهول على وجه «تختخ» و«محب»، ونسيا نباح الكلاب حول الكوخ … ومضى «نسيم» يقول: وأنا أيضًا أخ للمهندس «سامح» فاسمي هو «نسيم صديق»، ولكننا لسنا شقيقين … الأب واحد … والأُمَّان مختلفتان … فعندما تُوفيت والدته … تزوَّج أبي وأنجبني …

وتنهَّد «نسيم» ومضى يقول: وقد عشت أكثر حياتي في ألمانيا حيث درست … وحيث حصلت على درجة الدكتوراه في الزراعة وعلاج أمراض النبات بالإشعاع الذري … وقد حدث في أثناء إحدى التجارِب أن أُصبت في رأسي … وفقدتُ الذاكرة … وبنوع من الهلوسة … وعدتُ إلى القاهرة … وكان أبي قد مات واستولى أخي «سامح» على كل شيء … ولم يبقَ لي إلا ما تركته أمي … وضمنه عِقد اللؤلؤ الأحمر … ولكن أخي «سامح» أنكر وجود هذا العِقد الذي يساوي ثروةً طائلة … حتى رأيت زوجة أخي بالصدفة تتحلَّى به في إحدى الحفلات … فعدتُ أُطالبه به … ونتيجةً لثورتي عاودتني حالة فقد الذاكرة والهلوسة … ودخلتُ مستشفى المجاذيب … وعندما خرجت أويت إلى هذه الحديقة … وأخذت أُجري تجارِبي فيها حتى جعلتُ منها شبه غابة … بها كل أنواع النبات في العالم تقريبًا … ولكن أخي كان بخيلًا معي … فلم يكن يعطيني إلا القليل … وكان يسخر من تجارِبي ولا يؤمن بها …

وساد الصمت لحظات، ثم مضى «نسيم» يقول: وعدت أُطالبه بالعِقد … وقامت مشاجرة بيننا قبل سرقة العِقد بأيام قليلة … ثم وقعت السرقة …

قال «تختخ»: وماذا بشأن الكلب الأسود؟

نسيم: في يوم السرقة حوالي الساعة السابعة والنصف … دخل هذا الكلب الحديقة وطاردته الكلاب الشرسة التي يربيها أخي … وكان في انتظار ضيف أجنبي، وتضايق لوجود الكلب في الحديقة … وهاجمت الكلاب الشرسة هذا الكلب الوديع … وكادت تمزِّقه، وقمت بإنقاذه في الوقت المناسب قبل أن تقضي عليه … وجاءت صاحبته للسؤال عنه … وفوجئتُ بأخي يأمر بإنكار وجود الكلب … وطلب مني أن آخذ الكلب … وألقيه بعيدًا عن الحديقة … وتظاهرت بأنني نفَّذت الأمر أمامه … فخرجت من الباب الخلفي أحمل الكلب … ولكني عدت بعد نحو ساعة … وقمت بتضميد جراح الكلب … ووضعته في الكوخ …

تختخ: ألم ترَ شيئًا في هذه الساعة التي سُرق فيها العِقد؟ … هل رأيت «روجر كولي» مثلًا وهو يدخل؟

نسيم: لا …

تختخ: هل تستطيع ترتيب أوقات ظهور الكلب … ثم حضور صاحبته … وتعليمات أخيك …

نسيم: آسف جدًّا … إن ذاكرتي ضعيفة … ولا أستطيع أن أتذكَّر هذه الأشياء بدقة …

ارتفع نباح الكلاب … وفجأةً سُمع صوت يزجرها فتوقَّفت … ومرةً أخرى ظهر المهندس «سامح صديق» على عتبة باب الكوخ … ولم تكَد عيناه تقعان على الصديقَين حتى احمرَّ وجهه … وثارت أعصابه … وفتح فمه ليتحدَّث … ولكن في هذه اللحظة سمع الجميع صوت خطوات تقترب … وحديثًا يدور … ثم ظهر المفتش «سامي» ومعه الشاويش «علي» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة» … وقال المفتش: معذرة … وشمل بنظره كل من في الكوخ … وقعت عيناه على الكلب الأسود النائم على فخذ الدكتور «نسيم» فقال: أليس هذا هو الكلب «مودي» التي أبلغَت صاحبته عن فقده؟

لم يُجِب أحد … فقال المفتش: إن عندي إذنًا من النيابة بتفتيش هذا الكوخ والفيلا للبحث عن الكلب الأسود … وسأقوم بالتفتيش فورًا …

صاح «سامح صديق»: إنه فعلًا الكلب «مودي» يا سيدي المفتش … لقد عثرنا عليه وقمنا بعلاجه …

قال المفتش بصرامة: لماذا لم تُبلغوا عن العثور عليه؟

ثم التفت المفتش إلى الباب وقال: حضرة الضابط «عصام»، تفضل وزملاؤك بتفتيش هذا الكوخ …

صاح «سامح»: لماذا يا سيدي المفتش؟ … لقد عثرتم على الكلب …

المفتش: سننفذ أمر التفتيش يا حضرة المهندس …

ودخل ضابط شاب ومعه بعض رجاله … وبدءوا في تفتيش الكوخ بدقة … بينما جلس المهندس «سامح» وقد بدا عليه الانهيار …

وبعد نحو نصف ساعة خرج الضابط «عصام» من الغرفة الداخلية ومعه مجموعة من الثياب والشعر المستعار … وقال: هل هذا ما تبحث عنه يا سيادة المفتش؟

صاحت «لوزة»: نعم! … لقد صحَّ استنتاجي …

المفتش: إنك رائعة يا «لوزة» … ولكن بقي أن نحدِّد الشخص الذي كان يلبس هذه الملابس ويمثل دور رجل الأعمال الإنجليزي «روجر كولي» …

لوزة: أؤكد لك يا سيادة المفتش أنه هو الذي كتب اسمه في الورقة …

نظر المفتش إلى المهندس «سامح صديق» وقال: هل أنت مُصر يا سيدي على أن لصًّا قد سطا على الفيلا … وسرق مجموعةً من المجوهرات من بينها العِقد الأحمر؟!

اصفرَّ وجه «سامح» حتى حاكى وجوه الأموات، فقال المفتش: إنني أُفضِّل أن تقول الحقيقة يا سيدي … أو سوف أتخذ ضدك الإجراءات القانونية …

رفع «سامح صديق» ذراعه قائلًا: سأقول كل شيء يا سيدي المفتش … سأقول لك الحقيقة … وأرجو أن تكون رفيقًا بي …

قال المفتش: إنني أستمع يا سيدي …

قال المهندس «سامح» مشيرًا إلى «نسيم» … هذا الرجل يا سيدي هو أخي من أبي … وقد ورثنا معًا هذه الأرض وما عليها، وقد كان يعيش في الخارج … ولم أتوقَّع أنه سيعود … وهكذا تصرَّفت في كل شيء تصرُّف المالك … وقد كسبت كثيرًا وضاعت الثروة التي تركها أبي …

وصمت «سامح صديق» قليلًا، ثم مضى يقول: لعلني كنت طامحًا أكثر ممَّا يجب … ولكن على كل حال كان ضمن هذه الثروة عِقد نادر من اللؤلؤ الأحمر كانت قد تركته والدة «نسيم» له ضمن ميراثه … ولكني تسرَّعت وقدَّمته لزوجتي هديةً على أنه مِلكي … وعندما عاد أخي مريضًا من ألمانيا أنفقت عليه الكثير … ولكنه طالب بحقه في الميراث … وضمنه العِقد الأحمر … واضطُررت أن أقول له إن العِقد ضاع …

ولكنه ذات ليلة شاهد زوجتي تتحلَّى به وعاد للمطالبة به …

وأخيرًا فكَّرت في تدبير سرقة أقوم فيها بدور السارق …

وأسرعَت «لوزة» تقول: كما استنتجتُ بالضبط …

نظر إليها «سامح صديق» في ضيق … فقال المفتش: إن هذه الفتاة الذكية كشفت الحقيقة منذ عرفت بتفاصيل ما حدث …

تمتم «سامح صديق»: مدهش! … مدهش! …

المفتش: استمرَّ يا سيدي …

سامح: وانتهزتُ فرصة وجود مستر «روجر كولي» في القاهرة … وقلَّدتُ صوته واتصلتُ بمكتبي … ثم بمنزلي لتحديد موعد لمقابلتي …

المفتش: أي إنك كنت تأخذ موعدًا لك … من نفسك …

سامح: بالضبط يا سيدي … فقد كان موعد سفر «روجر كولي» في صباح يوم السرقة … وقلت إنني عندما أبلغكم ويكون قد سافر ينتهي كل شيء بحفظ الموضوع …

وصمت «سامح» قليلًا … ثم مضى يقول: وهكذا أعددت ملابس تشبه ملابسه … وعدسات زرقاء … وباروكةً من الشعر الأشقر … ووضعت كل ذلك في هذا الكوخ، وطلبت من أخي أن يخرج للنزهة … وفي الساعة السابعة والنصف تظاهرت بأنني سأتمشَّى في الحديقة وجئت إلى هذا الكوخ عن طريقٍ مختصر، واستبدلت ملابسي بملابس «روجر كولي»، وأكملت التنكُّر، ثم عدت إلى غرفة المكتبة حيث قابلت السفرجي «فتحي» وطلبت منه الذهاب للبحث عن المهندس «سامح صديق»، وقمت بأخذ العِقد والمجوهرات معي … وخرجت حيث جئت إلى الكوخ … واستبدلت ثيابي مرةً أخرى … ولكن حدث في هذه اللحظة أن دخل هذا الكلب الأسود إلى الحديقة وطاردته كلابي …

وأثناء مطاردتها له اصطدم الكلب بي … ووقعتُ على الأرض … وأُصبت … وأسرع هو هاربًا حيث أمسكت به الكلاب وحاولت الفتك به … وكان «نسيم» ما يزال في الحديقة … فأمسكتُ الكلاب، وعاد بالكلب الأسود، فطلبت منه الخروج وإلقاء الكلب بعيدًا … ولكنه خالف تعليماتي وعالج الكلب وأبقاه عنده …

المفتش: ولماذا حاولت التخلُّص من الكلب؟

سامح: خشيت إن حققتم في طريقة دخوله … وفتك الكلاب به، أن ينكشف شيء من خطة السرقة …

التفت المفتش إلى «لوزة» قائلًا: إنك عبقرية يا صغيرتي …

قال «سامح» وهو ينظر إليها: ولكن كيف اكتشفت الحقيقة؟

ردَّت «لوزة»: لسبب بسيط …

  • أولًا: إن «روجر كولي» عندما اتصل بك في المكتب لم تكن موجودًا … وعندما اتصل بك في المنزل لم تكن موجودًا … وفي المرَّتَين كان في إمكانك أن تقوم أنت بالاتصال على أنك «روجر كولي» …
  • ثانيًا: … إن أي واحد من المتهمين الآخرين لم يكن يعرف «روجر» ويمكنه أن يتنكَّر في ثيابه وشكله سواك أنت … فأنت الذي رأيته … وأنت الذي تستطيع أن تقلِّده …
  • ثالثًا: … إن «روجر كولي» لم يكن يستطيع دخول الحديقة دون أن تفتك به الكلاب …
  • رابعًا: إن «روجر كولي» إذا تمكَّن من الدخول فكيف يتجه إلى المكتب؟ … إن الزائر العادي يتجه دائمًا إلى المدخل الرئيسي …

قال «عاطف» بغيظ: لماذا لم تقولي لنا هذا كله؟!

ردَّت «لوزة» ضاحكة: أولًا خشيت أن أكون مخطئةً فأتعرَّض لسخريتكم … ثانيًا: إنني أحببت أن أبتكر طريقةً حديثةً لحل الألغاز … بأن أضع النتيجة أولًا، ثم أبحث عن الأدلة لها … وليس العكس … فنحن في العادة نبحث الأدلة، ثم نذهب إلى النتيجة … وهكذا كتبتُ اسم المهندس «سامح صديق» في ورقة وطلبت من المفتش ألَّا يفتحها إلا بعد أن يتعذَّر حل اللغز … وعندما تأخَّر «محب» و«تختخ» أكثر من ساعتَين … اتصلتُ بالمفتش وطلبت منه أن يفتح الورقة التي أعطيتُها له ليعرف المتهم الذي حدَّدته منذ البداية …

وأكمل المفتش: وعندما قرأتُ الورقة … طلبتُ من النيابة إذنًا بالتفتيش حتى أتمكَّن من العثور على ملابس التنكُّر … وعلى المجوهرات المفقودة إذا أمكن …

نظر الأصدقاء بإعجاب إلى «لوزة»، وقال «تختخ»: لقد تعرَّضنا لمواقف كثيرة حرجة، وأخطار رهيبة حتى يتحقَّق لكِ ابتكار طريقة جديدة لحل اللغز …

فجأةً قال «نسيم»: سيدي المفتش … إنني متنازل عن العِقد لأخي … سوف أعود إلى ألمانيا مرةً أخرى للاستمرار في تجارِبي … فهل يُعفيه هذا من العقاب؟ …

فكَّر المفتش مليًّا، ثم قال: في هذه الحالة سنُوجِّه إليه اتهامًا بإزعاج السلطات دون مبرِّر، وسرقة الكلب، وعقوبتها بسيطة … ربما الغرامة فقط …

قام «سامح صديق» يعانق أخاه قائلًا: آسف جدًّا يا «نسيم»، آسف جدًّا. لقد كنتَ دائمًا أكرم مني … إنك لن تعود إلى ألمانيا … ستبقى في مصر … وسأضع بين يدَيك كل الأموال اللازمة لإتمام تجارِبك التي يجب أن تستفيد منها مصر … وليس أي دولة أخرى …

•••

بعد هذه الأحداث بنصف ساعة كان «تختخ» يدخل إلى منزله يحمل الكلب «الطانين» الأسود «مودي» … وعندما رأته والدته صاحت به: هل أحضرتَ الكلب فعلًا؟! …

قال «تختخ» ببساطة: وهل كنتِ تشكِّين في مقدرتنا يا أمي؟ … إن المغامرين الخمسة لا يعرفون الفشل …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤