الفصل السادس

إضفاء الطابع القومي على الأخبار

الأخبار والدولة

الأخبار الحقيقية الموضوعية هي أسمى مفهوم أخلاقي نشأ في أي وقت في أمريكا ومُنِح للعالم (كينت كوبر، المدير العام لوكالة أسوشيتد برِس (كوبر، ١٩٤٢)).

كتب بيليش أن في الأمم القائمة ثمة إشهارًا دائمًا ﻟ «راية» السيادة القومية، أو تذكيرًا دائمًا بها (بيليش، ١٩٩٥)، وإحدى طرق تذكير المواطنين بتبعيتهم القومية هي وضع الأعلام بالخبر. تُعَدُّ القصص الإخبارية القومية بمنزلة رايات تذكِّر دومًا المواطنين بأجندتهم القومية، وقد أشار الكثير من المؤلفين من قبلي، وأشهرهم بينيديكت أندرسون (١٩٩١)، إلى دور وسائل الإعلام في بناء الأمة. على حد ما كتبه أندرسون، تسمح قراءةُ الصحف المتزامنة للأفراد الذين لا يعرف بعضهم بعضًا، بتخيُّلِ أنفسهم ينتمون إلى الأمة نفسها؛ وتقوم حجة أندرسون القوية هنا على سلوك مستهلِكِي الأخبار لا على سلوك منتجيها. غير أن الدراسات في حقل وسائل الإعلام والاتصالات ذهبت إلى العكس تمامًا؛ فترى أن الأخبار القومية — ولا سيما المؤسسات التي تنتجها — لا تُعَدُّ جديرةً بأن تُؤسَّس فحسب، بل تستحق كذلك حمايتها، دون تحليل نقدي لدورها على أنها صانعة أوهام. من هنا يقرُّ الكثير من وثائق اليونسكو في الخمسينيات والثمانينيات (انظر اليونسكو ١٩٥٣؛ سريبيرني-محمدي وآخرون، ١٩٨٥) بأهمية وكالات الأنباء القومية و/أو الصحف القومية ودورها في إنتاج الأخبار التي تحمي صالح الدول القومية الموجودة بها. ومن المثير للاهتمام أن الأخبار القومية تُعَدُّ في الوقت نفسه في جوهرها أكثر «موضوعيةً» من الأخبار الدولية أو الأخبار القادمة من الدول القومية المجاورة.

من هنا كان مفهوم موضوعية الخبر متَّصلًا دومًا بجنسية الخبر؛ ولذا يُعَدُّ إكسابُ الأخبار طابعًا قوميًّا ابتكارًا حديثًا نسبيًّا بدأ مع صناعة الأخبار؛ فيرى جين تشالابي (١٩٩٦) أن المفهوم الحديث للأخبار ﮐ «توصيف موضوعي للحقائق» هو ابتكار إنجليزي أمريكي يرجع إلى القرن التاسع عشر؛ إذ كانت الأخبار قبل هذا الوقت كوزموبوليتانية تتركَّز بطبيعتها بالدرجة الأولى في المدن الكبرى، ووَضْعُ الأخبار الذي نراه «طبيعيًّا» اليومَ كان وليدَ ابتكارٍ يرجع لمائتَيْ عام، قام بالوقت نفسه في العديد من الدول ذات الأنظمة السياسية المختلفة. وأعرض في هذا الفصل ثلاثَ دراسات حالة حول تطوُّر وكالات الأنباء الألمانية والروسية والأمريكية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ كلٌّ منها تختلف عن الأخرى من المنظور السياسي والثقافي، لكنها تستخدم الحجج المنطقية نفسها فيما يتعلَّق بإكساب الأخبار طابعًا قوميًّا. كان التنافُس بين وكالات الأنباء وتدخُّل حكومات الدول التي تقع بها في عملها هو ما أرغمها على أن تصبح وكالاتٍ قومية، وما جعل الأخبار تتحوَّل إلى أخبار قومية وعالمية.

(١) التاريخ المبكر في أوروبا

أسَّس ميسرز هافاس، ورويتر، ووولف أولى وكالات التلغراف الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر في باريس وبرلين ولندن، واعتبر ثلاثتهم في بادئ الأمر وكالاتِهم شركاتٍ خاصةً، وعدُّوا الأخبارَ المنقولة إلكترونيًّا سلعةً خاصة أُنتِجت لتحقِّق الأرباحَ. نقلت هذه الوكالات منذ البداية الأخبارَ من «المدن» وإليها، وما تجدر ملاحظته في بواكير نسق هذه المدن هو أنها كانت في بادئ الأمر مدنًا كوزموبوليتانية وليست قومية أو دولية.

كانت هذه التجارة عبر حدود المدن التي قامت على سلعة بلا وزن — هي الأخبار الإلكترونية — غيرَ مسبوقة. لعلَّ هافاس ورويتر ووولف قد توهَّموا أنهم يبسِّطون من تدابير تجارتهم، لكن عمليًّا ثبت أن هذا يعقِّدها. لكن حتى لو كانوا قد توهَّموا في بادئ الأمر أنهم يديرون نشاطًا تجاريًّا يتجاوز الحدودَ القومية بين المدن التي تقع بها وكالاتهم والمدن الأخرى، فما لبث أن عارضت حكومات دولهم هذا، إضافةً إلى أنهم هم أنفسهم والوكالات المنافِسة لهم اعترضوا عليه؛ ونتيجةً لذلك أسَّسَتِ الوكالاتُ الثلاث نظامًا من التعاقدات (١٨٦٩–١٩٣٤) قسَّم تدريجيًّا سوق الأخبار العالمية بحسب مناطق مصالحها، وأضحى نظام تبادُل الأخبار الدولي قويًّا إلى حدِّ أن الحكومات نفسها ارتأَتْ ضرورةَ أن تصبح طرفًا في النشاط الإخباري، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة.

حتى الآن لا توجد دولة لم تتدخل حكومتها في مرحلةٍ ما في عملية نقل الأخبار، في وقت الأزمات الداخلية أو الخارجية عادةً؛ وقد أخذ هذا التدخُّل شكلين رئيسين: عبر التقنيات الحديثة أو عبر وكالات الأنباء، وفي كلتا الحالتين كان يمكن أن يكون التدخُّل مباشِرًا أو غير مباشِر، لكنه تمَّ دومًا باسم المصلحة القومية، وقام ضد المصلحة القومية لدولة أخرى؛ ومن ثَمَّ سرعان ما اعترَضَ إكسابُ الأخبار طابعًا قوميًّا عمليةَ إكسابها طابعًا كوزموبوليتانيًّا. ويُعرف إكساب الأخبار طابعًا قوميًّا — بعكس إكسابها طابعًا كوزموبوليتانيًّا — بأنه موقف تدعم فيه الحكومات باسم المصلحة القومية مؤسساتٍ كشركات التلغراف ووكالات الأنباء لتخدم هذه الشركاتُ والوكالات بالدرجة الأولى مصالحَ دولة قومية بعينها، وقد يتم هذا بصورة غير مباشرة عبر تملُّك الحكومات لشركات التلغراف أو وكالات الأنباء، أو منحها الترخيص أو الخصم من رسومها، أو تمويلها أو دعمها سياسيًّا؛ أو بصورة مباشِرة عبر تأسيس وكالات أو شركات التلغراف أو الاستحواذ عليها.

(٢) الدولة والأخبار

منذ نشأة وكالات الأنباء قبل ما يزيد عن مائة وسبعين عامًا، دار الكثير من الجدل حول الصورة المُثْلى لملكيتها، ولم يُنظَر إلى دور الدولة عادةً إلا في إطار صور ملكيتها لوكالة الأنباء. جرى تقسيم وكالات الأنباء في كثير من الأحيان في الماضي إلى ثلاث فئات أساسية بناءً على صورة ملكيتها؛ فقُسِّمت إلى وكالات: (١) أنباء خاصة. (٢) تعاونية. (٣) حكومية. كانت غالبية وكالات الأنباء الأوروبية الأولى من الوكالات الخاصة التي سُمِّيت في كثيرٍ من الأحيان باسم مؤسِّسيها (على سبيل المثال: وكالة فابرا في مدريد، ووكالة هافاس في باريس، ووكالة رويترز في لندن، ووكالة ستيفاني في روما، ووكالة توورا في فيينا، ووكالة وولف في برلين)، وفيما بعدُ سُمِّيت تقريبًا جميع وكالات الأنباء نسبةً إلى جنسيتها (على سبيل المثال وكالة التلغراف الروسية، ووكالة الأنباء السويدية، ووكالات الأنباء النرويجية)؛ مما أوضح أن جنسية الخبر كانت العنصر الأساسي به.

الوكالات الحكومية قديمة كقِدَم صور مِلكية وكالات الأنباء الأخرى. كانت أولى وكالات التلغراف الخاصة هي وكالة هافاس (١٩٣٥)، وأولى وكالات الأنباء التعاونية هي وكالة أسوشيتد برِس (١٨٤٦) في نيويورك، أما أولى الوكالات الحكومية فهي وكالة كيه كيه تيليجرافين كوريزبوندانز بيورو في فيينا، التي بدأت عام ١٨٦٠ في توزيع المقالات على الصحف التي تولَّتْ نشرَها الحكومةُ النمساوية المجرية (دورفلر وبينسولد، ٢٠٠١). ومع أن دور الدولة اختلف من بلد إلى آخَر، فسرعان ما حظيتْ وكالات الأنباء التي تديرها الحكومات باعتراف واسع النطاق في ألمانيا وروسيا وإيطاليا ودول البلقان على سبيل المثال. ومن جهة أخرى، فإن الكثير من وكالات الأنباء التي اعتُبِرت وكالات خاصة جمعتها مع ذلك علاقاتٌ وثيقة مع حكومات الدول التي عملت بها، وتُعَدُّ وكالة رويترز خيرَ مثال على ذلك، فقد تمتَّعت هذه الوكالة الكائنة بلندن بمعوناتٍ حكومية كبيرة على مدار القرن العشرين (ريد، ١٩٩٩).

ومع أن أولى وكالات الأنباء في أوروبا كانت وكالات خاصة، فإنه لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تغدو الحكومات والدولة في مختلف البلدان طرفًا في أنشطتها؛ فقد احتاجَتِ الحكوماتُ أولًا: إلى الأخبار السياسية والاقتصادية والمحلية والأجنبية لأخذ القرارات عن دراسة بشكل أكبر، وثانيًا: احتاجَتْ إلى ناقل لتوزيع أخبارها وآرائها (رانتانن، ١٩٩٠)، وثالثًا: وربما الأهم، استفادَتِ الحكومات بدرجة كبيرة من المساعدة في بناء صورة إيجابية لها داخل البلاد وخارجها (بويد-باريت، ١٩٨٦)؛ ومن ثَمَّ كان هناك العديد من الأسباب التي دعَتْ لضرورة إضفاء الطابع القومي على الأخبار، وإمكانية فعل ذلك عبر التدخُّل المؤسساتي.

غير أنه من الخطأ النظر إلى العلاقة بين الحكومات ووكالات الأنباء على أنها علاقة تسير في اتجاه واحد؛ فهي في الواقع علاقة ثنائية الاتجاه، وثمة العديد من الأسباب التي دَعَتْ وكالات الأنباء لتكون في حاجة للحكومات؛ فأولًا: احتاجت وكالات الأنباء بطبيعة الحال إلى الحكومات كعميل لها لاستيفاء رسوم الاشتراك التي تحتاجها بشدة، وقد كانت الدولة بعكس أغلب الصحف الخاصة عميلًا يعول عليه للمدى الطويل. ثانيًا: احتاجت وكالات الأنباء إلى الأنباء عن الحكومات ومنها، واحتاجت إلى الوصول إليها قبل أي جهة أخرى، ولهذا السبب أرادَتِ التمتُّعَ بحقوقٍ حصرية للحصول على أخبار الحكومات الرسمية (بويد-باريت، ١٩٨٠؛ رانتانن، ١٩٩٠). ثالثًا: احتاجَتْ وكالات الأنباء إلى دعم السلطات الحكومية في مواجهة منافسِيها في الأسواق المحلية والأجنبية، وكثيرًا ما كان التدخُّل الحكومي — سواء المالي والأيديولوجي، المباشر وغير المباشر — عامِلًا يحسم المنافسة مع مؤسسات الأخبار الأجنبية والمحلية.

كما كتب رانتانن وبويد-باريت (٢٠٠١) كثيرًا ما قلَّلَتِ الأبحاثُ السابقة حول وكالات الأنباء من طبيعة ملكيتها المعقدة. تقسيم صور ملكية وكالات الأنباء إلى ملكية خاصة وتعاونية أو حكومية هو ببساطة غير كافٍ؛ فأولًا: قد تُدرَج وكالة الأنباء الخاصة في أسواق البورصة؛ ومن ثَمَّ تكون نوعًا ما وكالةً «عامة» (وهو ما تحقَّقَ مع وكالة رويترز عندما غدَتْ وكالةَ أخبار عامة عام ١٩٨٤)، علاوةً على أن وكالة الأنباء الخاصة قد تنتفع — كما انتفعَتْ غالبيةُ هذه الوكالات — من الإعانات الحكومية المباشِرة أو غير المباشِرة. ثانيًا: ثمة أنماط مختلفة من الهياكل التعاونية؛ أي أن ملكية وكالة الأنباء قد تنحصر بين مجموعة من وسائل الإعلام المختلفة، لكنها تظلُّ وكالةَ أخبار خاصة.

على سبيل المثال: تأسَّست وكالة أسوشيتد برِس سابقًا كوكالة أخبار تعاونية غير هادفة للربح من أجل الصحف، لكن كان بمقدورها إقصاء الصحف من عضويتها إن كانَتْ صحفًا منافسة لأعضائها الفعليين، وبعض وكالات الأنباء التعاونية لم تضمَّ في عضويتها إلا الصحف، وبعضها الآخَر ضمَّ هيئات تمثيل حكومية وخاصة وعمالية. ثالثًا: يمكن لوكالات الأنباء الخاصة العمل كوكالات غير هادفة للربح، فيما قد تسعى الوكالات الحكومية لِجَنْيِ الأرباح، كما أن درجة تدخُّل الحكومات في وكالات الأنباء الحكومية تتبايَن تبايُنًا كبيرًا، بقدر ما تتبايَن الإجراءات السياسية التي تشدِّد أو تحدُّ في كثيرٍ من الأحيان من التدخُّل في أنشطة وكالات الأنباء اليومية (رانتانن وبويد-باريت، ٢٠٠١).

تتدخل الدولة في أنشطة وكالات الأنباء عادةً عبر التقنيات؛ ومن ثَمَّ لا يمكننا فهم إضفاء الطابع القومي على الأخبار إلا بدراسة ملكية وكالات الأنباء وملكية تقنيات نقل الأخبار وآليات التحكم بهما معًا، وليس أي منها بمعزل عن الأخرى كما فعلنا سابقًا. يُنظَر عادة إلى ملكية وكالة الأنباء على أنها العامل الأهم والوحيد الذي يؤثِّر في استقلالها، لكن بما أن الأخبار وتقنيات نقلها تترابطان ترابطًا وثيقًا، فقد تمارِس الدولة سيطرتها على الأخبار عبر تقنيات نقل الأخبار؛ فأغلب وكالات التلغراف تملكها الحكومات، ومع صدور قانون التلغراف في بريطانيا لعام ١٨٦٨ الذي خوَّلَ لمكاتب البريد شراءَ شركات التلغراف كافةً في المملكة المتحدة وإدارتها؛ أضحَتِ الولايات المتحدة وكندا الدولتين الوحيدتين اللتين ظلَّتْ بهما وكالات التلغراف تابِعةً لملكية خاصة (دو بوف، ١٩٨٤). اكتسبت شركات التلغراف الطابعَ القومي من البداية تقريبًا؛ ومن ثَمَّ فأيًّا كانت صورةُ ملكية وكالة الأنباء، ستظل متصلةً على الدوام بالدولة عبر تقنيات نقل الأخبار.

بما أن خطوط التلغراف ربطت البقاع بالدول المختلفة، ومن ثَمَّ شكَّلت العلاقات بينها؛ لم يمضِ وقت طويل قبل أن يُسفِر هذا عن السيطرة على هذه الخطوط باسم الدولة. اعتُبِرت خطوطُ التلغراف ملكيةً قومية، غير أن التعاون الدولي تطلَّبَ العملَ مع الدول الأخرى، ومن ثَمَّ عُقِد أولُ مؤتمر دولي لخطوط التلغراف في سانت بطرسبرج عام ١٨٧٥. كان من الصعب التحكُّم في خطوط التلغراف التي انتهَتْ في دول أخرى وعبرت أقاليم في بلدان أخرى، فكانت كَبْلات التلغراف تُصادَر في حالة الحرب، كما حدث عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وقطَعَ الإنجليزُ كَبْلاتِ التلغراف الألمانية في القناة الإنجليزية، واستولَوْا على الكَبْلات في أماكن أخرى (هيدريك، ١٩٩١). كان التلغراف من منظور الدولة تقنيةً «يسهل» التحكُّمُ فيها بالمقارنة بالموجات اللاسلكية التي لم تتطلَّب خطوطًا أو كَبْلاتٍ لعملها، بل كل ما تتطلَّبه هو الموجات الهوائية التي لا يمكن أن تتبع جبرًا الحدودَ القومية للدول، بل «تنتشر». غير أن موجات الراديو شأنها شأن خطوط التلغراف سرعان ما أضحَتْ ملكيةً حكومية — وإنْ كان ذلك لفترة وجيزة — في الولايات المتحدة الأمريكية.

أتناوَلُ في هذا الفصل ثلاثَ دراسات حالة لأقدِّم دليلًا تجريبيًّا على نظريتي عن إضفاء الطابع القومي على الأخبار، وتتمثَّل هذه الدراسات في وكالات أنباء تتبع ثلاثَ صور ملكية مختلفة، لكنَّ كلًّا منها تواجِه مرحلةً تتدخَّل فيها الحكوماتُ في عملها باستغلال الصفة القومية للخبر كذريعة، أو تستخدم فيها الوكالات ذاتها الصفةَ القومية للخبر لطلب التدخُّل من الحكومات.

(٣) التدخُّل الأول: وكالة وولف تغدو حكومية

من أشهر الأمثلة الأولى على التدخُّل الحكومي في عمل وكالات الأنباء محاولةُ وكالة رويترز في ١٨٦٥ اختراقَ سوق وكالة وولف بتأسيس مكاتب فرعية بسوق وكالة وولف، وسَعْيُ وكالة رويترز فوق ذلك عام ١٨٦٩ لشراء وكالة وولف بأسرها. كان من الطبيعي في السنوات الأولى أن يؤسِّس كلٌّ من هافاس ورويتر ووولف مكاتبَ فرعية لهم في عدة بلدان، وقد كانت المنافَسةُ بين الوكالات الأخرى من ناحية وبين هذه الوكالات الثلاث من ناحية أخرى أحدَ الأسباب الرئيسية التي دعَتْ إلى تحوُّل وكالة وولف إلى وكالة أخبار حكومية.

وقَّعَ رويتر ووولف أولَ عقد بينهما يغطِّي الأنباءَ المالية فقط عام ١٨٥٦، وامتدَّ هذا العقد عام ١٨٥٩ ليشمل الأخبار السياسية وليشمل هافاس؛ وبموجب شروط اتفاقية عام ١٨٥٩، احتكَرَ هافاس نقلَ الأخبار إلى مدينة أوسبورج وفورتسبورج وشتوتجارت. وفي الوقت نفسه، أخذ رويتر في توسيع نطاق شبكته، فأسَّسَ مع هافاس وكالةَ أخبار في بروكسل تتبعها مكاتب فرعية في أنتويرب وجينت. واشترى رويتر وكالةَ أخبار ديلامار في أمستردام، وأسَّسَ مكاتبَ فرعية لوكالته في هامبورج وفرانكفورت وهانوفر (باس، ١٩٩١). استاء وولف استياءً شديدًا من توسُّع رويتر في سوقه، وعقد اتفاقيةً سريةً مع الحكومة البروسية قضَتْ بأن تعدَّ كل رسالات التلغراف السياسية رسالاتٍ رسميةً؛ ومن ثَمَّ يُمنح نقلها في جميع خطوط التلغراف الحكومية الأولويةَ على البرقيات الصحفية من وكالة رويترز وغيرها من وكالات المراسلة الصحفية (ويليامز، ١٩٥٣).

لكنَّ رويتر الذي عاش وعمل من قبلُ في برلين وآخن، وكان على دراية بالسوق أكثر من أي شخص آخَر؛ زاد على ذلك وأسَّسَ مكتبَ تيليجرافيشن بيورو نورد دويتشلاند الذي ترأسه هوفرات ألبرتس في برلين، كما أسَّسَ مكتبَ سيديوتشين كوريزبوندانز بيورو في ميونيخ، الذي تبعته عدة مكاتب فرعية، ووقَّعت عام ١٨٦٥ حكوماتُ هانوفر الملكية تسويةً تقضي بمدِّ كَبْل على جزيرة نورديرني، بشرق جزر الفريزيين، قبالة ساحل هانوفر الشمالي، ومُنِح رويتر حقَّ تأسيس مكتب في هانوفر (ستوري، ١٩٥١). افتُتِح كَبْل جزيرة نورديرني لنقل الأخبار عام ١٨٦٦، وسمحت اتفاقيةٌ جديدة بمدِّ خطَّيْن أرضيَّيْن جديدين — يشيدهما رويتر من هانوفر لهامبورج وبريمين وكاسل — للاستخدام الحصري لوكالته (ويليامز، ١٩٥٣)، وفي غضون عام بات مكتب هانوفر يدرُّ على رويتر ربحًا قوامه ألفَيْ جنيه استرليني شهريًّا من رسوم البرقيات التي يسدِّدها العملاء الخارجيون وحدهم (ستوري، ١٩٥١). وكما يشير باس (١٩٩١) أحرَزَ رويتر نجاحًا كبيرًا في مدن تحالُف الهانسا التي تميل إلى الطابع الكوزموبوليتاني؛ حيث حصدت وكالته قاعدةً ثابتة من العملاء، كانت أهمَّها لرويتر قاعدةُ عملاء هامبورج التي لم يتخلَّ عنها إلا بموجب اتفاقية عام ١٨٩٨، غير أن وولف اضطرَّ في المقابل لدفع ١٢٠٠٠ مارك له سنويًّا لقاءها (إنجمار، ١٩٧٣).

لجأ ريتشارد وِينزل مديرُ أعمال وولف نتيجةً لتوسُّعات رويتر إلى الحكومة البروسية في ١٠ من يونيو عام ١٨٦٩ طلبًا للمساعدة، فعقد كلٌّ من الحكومة البروسية والمصرفيين ذوي الميول «القومية»، فون أوبنهايم وفون ماجنوس وفون بلايخرودر، مع وولف اتفاقًا تأسيسيًّا جديدًا يهدف إلى حماية سوق الأخبار المحلية من التدخُّل الأجنبي؛ ومن ثَمَّ تأسَّست شركة جديدة، كونتيننتال تليجرافن كومباني، ضمَّتْ من بين حَمَلَة أسهمها الحكوماتِ والبنوكَ ووولف ووينزل وثيودور ويمل. لكن بعد مضي تسعة أعوام قطَعَ مؤسِّس الوكالة بيرنهارد وولف كلَّ العلاقات مع الشركة (هونه، ١٩٧٧)، وعُقدت اتفاقيةٌ جديدة لاحقة بين وكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني والحكومة ضَمنَتْ للوكالة الجديدة بعضَ المزايا، أهمها إعطاء الأولوية لرسائلها في نقل الرسائل التلغرافية، وقد مكَّنَتْ هذه المزية شركةَ كونتيننتال تليجرافن كومباني — إلى جانب تمتُّع الشركة بحق حصري لنقل الأخبار الرسمية — من هزيمة أعدائها في الداخل، ومكَّنَتْها من أن تصبح أكثرَ قدرةً على التنافُس في الأسواق الدولية؛ إذ تعهَّدَتِ الشركةُ من جانبها بمنح السلطات نُسَخًا مجانية من كل مراسلاتها، ووافقت الوكالة على إخضاع برقياتها لرقابة مُسبَقة قبل نشرها (ناويوكس، ١٩٦٣؛ رانتانن، ١٩٩٠؛ باس، ١٩٩١).

عقب اتفاقية هجومية-دفاعية بين وكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني ورويتر عام ١٨٨٧ (بالمر، ١٩٧٦)، تقدَّمَ رئيس الوزراء الإيطالي فرانسيسكو كريسبي عام ١٨٨٨ بطلب للمستشار الألماني بسمارك يهدف إلى تشكيل تحالُفٍ ضد وكالة هافاس، وذلك بين وكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني ومكتب أوسترو هنجاريان كوريزبوندانز بيورو ووكالة أخبار ستيفاني الإيطالية (وجميعها وكالات خاضعة للسيطرة الحكومية آنذاك)؛ من أجل زيادة حرية عمل هذه الوكالات، لا سيما في منطقة البلقان. كانت وكالة ستيفاني تقع في نطاق سيطرة وكالة هافاس، وتعتمد اعتمادًا تامًّا عليها، وقد رأى بسمارك وكريسبي أن اعتماد وكالات الأنباء الرسمية الألمانية والإيطالية على وكالة الأنباء الفرنسية مذلًّا (بالمر، ١٩٧٦). لكن من المفاجئ أن النتيجة المتوقَّعة كانت تحالُفًا أقصى وكالة ستيفاني وجمع بين رويتر ووكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني ومكتب كوريزبوندانز في مواجهة وكالة هافاس؛ إذ رأى بسمارك أنه بالرغم من أن رويتر وهافاس كلَيْهما مصنع أكاذيب (إنجمار، ١٩٧٣)، وبالرغم من أن «رويتر لم يكذب أقل من هافاس»، فقد كان رويتر عجوزًا عن هانوفر؛ ومن ثَمَّ شريكًا أفضل من هافاس.

لم ينجح أيٌّ من هذه الإجراءات في تحطيم ريادة رويتر وهافاس بالنسبة إلى وكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني. يُظهِر هذا قدرةَ وكالات الأنباء، فحتى الحكومات عجزت عن إحداث تغييرات كبيرة في المنظومة التي صنعتها وكالات الأنباء الأكثر نفوذًا، بَيْدَ أن ما قامَتْ به هو تأسيس نهج يُنظَر من خلاله إلى تدخُّل الحكومات في نقل الأخبار على أنه مبرَّر باسم المصلحة القومية، الأمر الذي أدَّى إلى تأسيس المزيد من وكالات الأنباء الخاضعة للسيطرة الحكومية حول العالم.

توقَّفَ نشاط وكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني مع صعود الحزب القومي الاشتراكي إلى السلطة. كانت الحكومة الألمانية تملك بالفعل ٥١٪ من حصة الوكالة، وانتقلت ملكية سائر الأسهم الخاصة المتبقية لها، وأُدمِجت الوكالة في وكالة أخرى جديدة عام ١٩٣٣ وتأسَّست وكالة جديدة هي وكالة دويتشه ناخريشتنبيرو، ومع أن هذه الشركة كانت شركةً مساهمة اسميًّا، فقد خضعَتْ تمامًا للسيطرة الحكومية (رايتز، ١٩٩١).

(٤) التدخُّل الثاني: وكالات الأنباء في سانت بطرسبرج تغدو حكومية

ثمة مثال آخَر هو مدينة سانت بطرسبرج التي ضمَّتِ العديدَ من وكالات الأنباء الخاصة والتعاونية التي قامت منذ عام ١٨٦٦، ولكن استحوذت عليها في نهاية المطاف حكومةُ بطرسبرج عام ١٩٠٤؛ ويرجع هذا بالدرجة الأولى إلى تبعية هذه الوكالات لوكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني في برلين (رانتانن، ١٩٩٠)، ومنذ ذاك الوقت لم يتوقَّف قيامُ وكالات الأنباء الحكومية في روسيا التي ظلَّتْ قائمةً إلى اليوم.

بدأَتْ وكالات الأنباء في روسيا الإمبراطورية — شأنها شأن نظيراتها في العديد من البلدان — كشركات خاصة، استحوذَتْ عليها فيما بعدُ الحكومةُ الروسية، وقد سِيقَتْ مبررات داخلية وخارجية للإجراءات الحكومية هناك، وكثيرًا ما استُخدم أحدها لتبرير الآخَر. تُعَدُّ روسيا من العديد من النواحي مثالًا متطرِّفًا وغير تقليدي على ملكية الحكومات لوكالات الأنباء؛ حيث سيطرت الدولة على تقنيات نقل الأخبار ووكالات الأنباء معًا لأغلب الوقت، لكن حتى عندما فعلَتْ يمكننا أن نرى حقبًا شهدت حالات مزج بين شركات الأخبار الحكومية والخاصة، بَيْدَ أنه من المنصف أن نشير إلى أن روسيا من عهد الحكم الإمبراطوري وصولًا إلى اليوم شهدت تدخُّلًا حكوميًّا بدرجة استثنائية في عمل تقنيات الأخبار ونقلها.

بدأت وكالة وولف عام ١٨٥٧ في نقل البرقيات السياسية إلى ثلاث صحف في سانت بطرسبرج تقاسَمَتْ تكلفةَ الحصول على خدمات الوكالة، ثم بدأ رويتر في نقل الأخبار لمدينة سانت بطرسبرج، وكنتيجة نشبت منافَسةٌ بين كلَيْهما. تقدَّمَ وولف بطلب تأسيس وكالة أخبار خاصة به في سانت بطرسبرج، غير أن الحكومة الروسية قرَّرت محاباة أحد روَّاد الأعمال المحليين بمنحه الإذن بتأسيس وكالة التلغراف الروسية التي أسَّسها قنسطنطين تروبنيكوف عام ١٨٦٦، الذي كتب في التماسه بتأسيس وكالته:

في الوقت الراهن، جميع البرقيات السياسية والحكومية يجري استلامها من «بروسيا» فقط، ولن نتطرَّق في ظلِّ هذه الظروف إلى الجدل بأن روسيا خاضعة تمامًا لتبعية وكالة تلغراف «أجنبية». علاوةً على أننا هنا نواجِه المشكلاتِ التاليةَ؛ أولًا: تنقل وكالة الأنباء البروسية لروسيا برقيات الأخبار كما ترتئي؛ ومن ثَمَّ يمكنها أن تتصرَّف بعكس ما يصبُّ في «الصالح الروسي»، ووفق ما يصب في صالح بروسيا فقط. ثانيًا: الأخبار التي تَرِد من شتى الدول إلى بروسيا تُفسَّر فقط في إطار احتياجات بروسيا؛ وكنتيجةٍ تُدرج روسيا على المستوى نفسه مع الدول الأخرى، في حين أن مصلحة روسيا يجب أن تُولى بلا شكٍّ الأهميةَ الأولى في رسائل الأخبار التلغرافية (رانتانن، ١٩٩٠).

تلقَّى تروبنيكوف البرقيات الإخبارية من رويتر، واختفت البرقيات الإخبارية الواردة من وكالة وولف من الصحف الروسية، لكن بحلول العام التالي استاءت بعض الصحف من مستوى خدمات وكالة تروبنيكوف، وأسَّست وكالتها الخاصة، وقرَّرت الانضمام إلى عملاء وولف من جديد، وباتت وكالة وولف المصدرَ الرئيس للأخبار الإلكترونية المنقولة من الخارج، بعدما نقلت الحكومةُ الإذنَ الذي منحته لوكالة تروبنيكوف إلى وكالة وولف التي تمتعت بحقوق حصرية على الأخبار الإلكترونية الواردة إلى سانت بطرسبرج وموسكو. تأكَّدَ هذا الوضع في اتفاقية عام ١٨٧٠ بين هافاس ورويتر وكونتيننتال تليجرافن كومباني التي عرَّفت سانت بطرسبرج وموسكو كمنطقتين خاضعتين لنطاق سيطرة وكالة كونتيننتال تليجراف كومباني، وأرغمت كل وكالة أخبار تأسَّست في سانت بطرسبرج على عقد اتفاقية مع وكالة كونتيننتال تليجرافن كومباني.
في نهاية المطاف، سوَّغَ هذا الوضع — الذي باتَتْ به وكالةُ كونتيننتال تليجرافن كومباني الموردَ الوحيد للأخبار من الخارج — رغبةَ الحكومة الروسية في إحكام سيطرتها أكثر على تناقُل الأخبار. وقد كانت الحكومة الروسية بمنح الحقوق الحصرية لوكالة أخبار واحدة في فترة محدَّدة وتمويل أنشطتها، بموقفٍ خوَّل لها الاستحواذَ على وكالات الأنباء إنْ شاءت؛ ومن هنا أشارت مذكرةٌ من وزارة المالية الروسية عام ١٩٠٢ إلى أن:

وكالة التلغراف الروسية ليسَتْ عضوًا مكافئًا في اتحاد وكالات الأنباء الدولي الاحتكاري، بل هي مكتب فرعي تابع لوكالة وولف في برلين التي تتلقَّى عبرها وكالةُ التلغراف الروسية الأخبارَ وترسلها؛ ومن ثَمَّ قد تختصر وكالةُ وولف برقياتِ الأخبار الواردة من سانت بطرسبرج أو تعدِّلها تمامًا، وهكذا تمرُّ الأخبارُ من روسيا إلى الدول الأجنبية عبر وسيطٍ «ألماني» مضلِّل. وترد الأخبار من الخارج إلى بلدنا على نحوٍ مماثِلٍ، وهو موقف لا يمكن القبول به، حيث إن تجارتنا الخارجية لا يمكنها التمتُّع بالاستقلال التام ما دامت الأخبارُ التلغرافية حول التجارة تحت سيطرة أيدٍ «أجنبية» (رانتانن، ١٩٩٠).

سُوِّغت نشأة وكالات الأنباء الحكومية بحجج مماثِلة استُخدِمت في روسيا وفي أماكن أخرى بدءًا من القرن التاسع عشر، وقد كتب أحد المديرين التنفيذيين لوكالة التلغراف الإعلامية الروسية — التي سُمِّيت وكالة إيتار تاس بدءًا من عام ١٩٩٥ — في مقال بعنوان «عبيد رويترز» شكوى مريرة يشكو فيها من اتساع سيطرة وكالة رويترز في السوق، وعجز وكالة إيتار تاس عن منافستها:

ليس من قبيل المصادفة أنه تمَّ تبنِّي تدابير في العديد من الدول لمنع نشاط وكالة رويترز المستقل في العديد من المناطق. فضاؤنا المعلوماتي مفتوح تمامًا؛ أي إنه يمكن لكلِّ هذه الوكالات [الأجنبية] إدارة أنشطتها هنا كما تشاء؛ هذه هي القضية برمتها، وعلى هذا النحو تُبنَى «إمبراطوريات معلومات أجنبية في منطقتنا» (رانتانن، ٢٠٠٢).

(٥) التدخُّل الثالث: الحكومة الأمريكية تدعم وكالة أسوشيتد برِس ويونايتد برِس عبر التقنيات

يختلف الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية اختلافًا شديدًا عنه بالدول الأخرى؛ إذ لم تمتلك الحكومة الأمريكية خطوطَ التلغراف كما امتلكتها حكومات الدول الأوروبية. انطبق الوضع نفسه على وكالات الأنباء في الولايات المتحدة الأمريكية التي انقسمت على الدوام إلى وكالات تعاونية أو خاصة، ولم تتبع ملكية حكومية قطُّ؛ فعلى سبيل المثال: ترجع أصول وكالة نيويورك أسوشيتد برِس إلى بعض الصحف في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر التي تشاطَرَتْ إدارةَ أنشطتها من مكان مشترك، ثم اشتركت دوريًّا أغلب هذه الصحف فيما بعدُ في اتحادات شركات لخدمات نقل البريد السريع على ظهور الجياد. استُخدِم التلغراف لأول مرة في نقل الرسائل عام ١٨٤٦، وهو العام الذي شهد تأسيس وكالة نيويورك أسوشيتد برِس (شفارزلوزا، ١٩٨٩)، وقد زعمت بعدها على الدوام وكالات الأنباء الأمريكية باستقلالها التام عن الحكومة الأمريكية. وبشهادة كينت كوبر المدير العام لوكالة أسوشيتد برِس في ١٩٢٧:
فيما يتعلَّق بوكالة أسوشيتد برِس، لا شك أن الوكالة لا تجمعها أيُّ علاقة بالحكومة الأمريكية، ولم تجمعها علاقة بها قطُّ، ولم تسعَ الوكالة قطُّ — ولا تسعى — إلى معاملة خاصة من قِبَل أي حكومة.1
لكنْ حتى بالولايات المتحدة كانت هناك حالات تدخَّلت فيها الحكومة الأمريكية في نقل الأخبار لكن على نحو أقل وضوحًا منه في ألمانيا وروسيا، على سبيل المثال. وبالرغم من كل شيء، نجحت وكالات الأنباء الأمريكية في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه وكالات الأنباء الألمانية والروسية؛ إذ نجحت في أن تصبح وكالات الأنباء الرائدة بعد الحرب العالمية الأولى، وقد سبق هذا التغيُّرَ في مكانتها حملةٌ خدمَتْ تقنيات نقل الأخبار المملوكة للولايات المتحدة الأمريكية والأخبار المملوكة لها.
جدول ٦-١: الدول المسيطرة على منشآت كَبْلات التلغراف العالمية عام ١٩١٩ (المصدر: مجلس الشيوخ الأمريكي، تقرير اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الشئون البحرية، ١٩١٩).
الدولة الحصة بالنسبة المئوية الأميال
المملكة المتحدة ٥١ ١٤٠٠٠٠
الولايات المتحدة الأمريكية ٢٦٫٥ ٧٢٠٠٠
فرنسا ٩ ٢٥٠٠٠
ألمانيا ٧٫٥ ٢٠٠٠٠
الدنمارك ٣ ٨٤٠٠
إسبانيا ١ ٣٠٠٠
اليابان ١ ٢٠٠٠
إيطاليا ١ ٢٠٠٠
في بداية القرن العشرين، كانت المملكة المتحدة لا تزال الرائدة في حقل تقنيات الاتصالات الإلكترونية، وبحلول عام ١٩٠٧ كان قد جرى مدُّ كَبْلات بحرية تمتد لأكثر من ٣٨٠٠٠ ميل بحري، أغلبها يخضع لملكية وسيطرة بريطانيا؛ الأمر الذي أدَّى إلى تدخُّل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لأن «الحكومة البريطانية وجدت نفسها بموقف يخوِّل لها مراقبةَ تبادُل المعلومات بين أكثر الشعوب تحضُّرًا؛ ومن ثَمَّ سيطرت لأكثر من خمسين عامًا على الاتصالات الدولية» (ذا راديو إنداستري، ١٩٢٨). وقد كان ترتيب البلدان المسيطرة على منشآت كَبْلات التلغراف العالمية كما هو مُوضَّح في الجدول ٦-١.
يوضِّح الجدول ٦-١ الأوضاعَ بعد الحرب العالمية الأولى، أما في منتصف القرن التاسع عشر فكانت الأوضاع مختلفة تمامًا. عندما أُتِيحت الأخبارُ المنقولة عبر التلغراف لأول مرة في الولايات المتحدة، سيطرت الشركات البريطانية على محتوى الأخبار وتقنياتها، وقد كان هذا الوضع من منظور الحكومة الأمريكية مكلِّفًا جدًّا ومليئًا بالمعوقات، وبالطبع خارجًا عن السيطرة القومية؛2 الأمر الذي كان مثيرًا للقلق بوجه خاص في أمريكا الجنوبية حيث تمتَّعت الحكومة الأمريكية بمصالح سياسية ومالية متنامية. وقد ورد في شهادة بهذا الشأن أمام إحدى لجان مجلس النواب عام ١٩١٧:

في عام ١٨٧٨، كان على جميع الرسائل المنقولة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أمريكا الجنوبية المرور عبر أوروبا، عبر خط كَبْل بريطاني، وهيمنت «بريطانيا» على التجارة بالسيطرة على وسائل الاتصالات. لا شك في أن «لندن» هي مركز كَبْلات التلغراف العالمي؛ وبما أنها كذلك، فهي مركز الأخبار في العالم، وتعود مكانة بريطانيا بين العالم في جزء منها إلى أن «لندن» هي مركز نشر الأخبار الأعظم في العالم (روجرز، ١٩١٩ب).

(٦) ظهور تقنية جديدة

أدَّتِ التكنولوجيا الجديدة في ذاك الزمان — وهي التلغراف اللاسلكي — إلى تغييرات؛ إذ كانت وسيلةً فعَّالةً لنشر الأخبار على نطاق مساحة شاسعة بتكلفة أقل من التلغراف. وعلى عكس التلغراف، أتاحَتِ الاتصالات اللاسلكية أو التي استخدمت موجات الراديو للمستخدمين نقلَ الرسائل ليتم استقبالها في وقت واحد في عدة وجهات مختلفة؛ فأمكن أن تستقبل الرسائلَ سلطاتُ التلغراف، أو أمكن تسليمها إلى مستقبلِيها، أو أمكن أن يلتقطها مستقبلوها عبر أجهزة الاستقبال الخاصة بهم (يونسكو، ١٩٥٦).

استُخدِمت تقنيةُ اللاسلكي لأول مرة بنجاحٍ لنقل الأخبار من قِبَل صحيفة ديلي إكسبرِس في دبلن بأيرلندا، لنقل نبأ سباق زوارق كينجستون ريجاتا في يوليو عام ١٨٩٨؛ وامتدت حلقة وصل لاسلكية لأول مرة على امتداد الأطلنطي بين بولدو وكورنوول وكيب بريتون في جلاس باي بنوفا سكوشا في ديسمبر عام ١٩٠١ (ديزموند، ١٩٣٧). وبدأت بحلول عام ١٩٠٨ خدمة نقل أخبار باستخدام موجات الراديو عبر الأطلنطي بين أيرلندا ونوفا سكوشا. وقبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى كانت شبكتها البحرية العالية الطاقة العابرة للقارات والممتدة عبر المحيط الهادئ تؤدِّي عملها، وقد تألَّفت هذه الشبكة من محطات في أرلينجتون بفرجينيا، وسان دييجو بكاليفورنيا، وداريان بمنطقة قناة بنما، وبيرل هاربور بهاواي، وجزيرة جوام بجزر ماريانا، وجافيت في جزر الفلبين (ذا راديو إندستري، ١٩٢٨). غير أن هذا لم يكن كافيًا؛ إذ كان من المهم إنشاء شبكة أكثر شمولًا تخضع لسيطرة الولايات المتحدة. وكما جاء في شهادة والتر إس روجرز:
تحتاج الولايات المتحدة إلى مزيد من كَبْلات التلغراف، وتحتاج إلى منشآت اتصالات لاسلكية؛ إذ سيكون انتقالُ ملكية وسائل الاتصال اللاسلكية عبر الأطلنطي وعبر المحيط الهادئ إلى «سيطرة» شركة مملوكة لأيدٍ «أجنبية» أو ﻟ «حكومة أجنبية» جرمًا ستغدو الصحف أكثرَ المتضرِّرين منه؛ فهذه السيطرة الأجنبية ستحدِّد شكلَ خدمات الصحافة «الأمريكية» وأسعارها، وقد تُسفِر عن مَنْح الأفضلية في الخدمات والأسعار لوكالات الأنباء المنافسة للوكالات والصحف «الأمريكية».3
على صعيد المحيط الهادئ، لم يصل بين الولايات المتحدة والشرق الأقصى إلا كَبْل تلغراف واحد، وقد كانت أسعار نقل الأخبار عبر الكَبْلات التلغرافية باهظةً إلى حدٍّ حالَ بين استخدامها، فتراوح سعر الكلمة في البرقية التلغرافية بين ٣٣ سنتًا — نظير خدمة كانت عرضةً لكل أشكال التأخير — وثلاثة دولارات كرسمِ سرعة لقاء الخدمات المستعجلة وضمانًا للنقل السريع. وفي ظل هذه الظروف، لم يكن بالإمكان التمتُّع بخدمة أخبار منتظمة عبر المحيط الهادئ؛ ومن ثَمَّ تلقَّى الشرقُ الأقصى — بما فيه جزر الفلبين — الأخبارَ الدولية (بما فيها الأخبار من الولايات المتحدة الأمريكية) عبر لندن واليابان، ووردت الأخبار من الشرق الأقصى عبر المسار غير المباشِر نفسه.4
لكن للمرة الأولى في تاريخ الاتصالات الإلكترونية بالولايات المتحدة، عُنيت الحكومة الأمريكية بالتقنية الجديدة من بداياتها، كما ذُكِر آنفًا:

كانت إنجلترا على مدى التاريخ سيدةَ البحار، وكانت لا تزال تتحكم في وسائل النقل الدولية، وبسطت سيطرتها على حقل الاتصالات منذ وقت طويل بفضل كَبْلاتها التلغرافية. فيما بدأت تقنية التلغراف اللاسلكي تهدِّد عهد البرقيات الكَبْلية، لكن إنْ سيطرَتْ إنجلترا أيضًا على هذه المعجزة الأحدث، فستتملك من البداية اثنتين من ضرورات السيطرة الثلاث على العالم (يونج، ١٩٢٩).

كان من الضروري أيضًا ألَّا تعتمد الشركات الأمريكية على صورة واحدة من وسائل الاتصال؛ «فجميع الدول ذات الثقل في عالم اليوم تتمتَّع بأكثر من نظام اتصال دولي واحد» (وينتربوتوم، ١٩٢٩).
جدول ٦-٢: الاختلاف بين الأسعار الماضية والحالية للكلمة في برقيات الاتصالات الدولية من الولايات المتحدة الأمريكية (المصدر: سارنوف، ١٩٢٨).
إلى السعر السابق للكلمة (بالدولار الأمريكي) السعر الحالي للكلمة (بالدولار الأمريكي) نسبة الادِّخار للكلمة
إنجلترا ٠٫٢٥ ٠٫٢٠ ٠٫٥
فرنسا ٠٫٢٥ ٠٫٢٣ ٠٫٢
ألمانيا ٠٫٣٥ ٠٫٢٥ ٠٫١٠
إيطاليا ٠٫٣١ ٠٫٢٥ ٠٫٦
النرويج ٠٫٣٥ ٠٫٢٤ ٠٫١١
السويد ٠٫٣٨ ٠٫٢٥ ٠٫١٣
اليابان ١٫٢٢ ٠٫٧٢ ٠٫٥٠
هاواي ٠٫٣٥ ٠٫٢٥ ٠٫١٠
البرازيل ٠٫٥٠ ٠٫٤٢ ٠٫٨
الأرجنتين ٠٫٥٠ ٠٫٤٢ ٠٫٨
فنزويلا ١ ٠٫٦٠ ٠٫٤٠
كولومبيا ٠٫٦٥ ٠٫٤٠ ٠٫٢٥
ليبريا ٠٫٩٨ ٠٫٥٠ ٠٫٤٨

في اليوم التالي لإعلان الولايات المتحدة الحربَ على ألمانيا في أبريل عام ١٩١٧ ودخولها الحرب العالمية الأولى، أعلن الرئيس الأمريكي ويلسون توجيهَ أوامره للبحرية الأمريكية بالاستحواذ على كل محطات اللاسلكي في الولايات الأمريكية، وعلى ممتلكاتها التي لم تكن قد خضعت بالفعل لسيطرة الجيش الأمريكي (آرتشر، ١٩٣٨). كما تدخَّلَتِ الحكومة الأمريكية في إنتاج محتوى الأخبار، وشرعت إدارة خدمات اللاسلكي والتلغراف، التي عُرِفت باسم كومباب، في نقل الأخبار الأمريكية إلى الخارج في سبتمبر عام ١٩١٧ (كريل، ١٩٢٠).

غير أن السيطرة الحكومية على الاتصالات اللاسلكية استمرت بعد الحرب العالمية الأولى بوقت طويل؛ فحتى عام ١٩٢٤، ظلَّتْ خدمةُ الاتصالات التابعة للبحرية الأمريكية تتولَّى نقل جميع الأخبار في منطقة المحيط الهادئ، بما أن السعر التجاري لنقل الأخبار ظلَّ باهظًا إلى حدٍّ حال بين توافر أيِّ خدمةِ نقلِ أخبارٍ على مستوًى مقبول؛ فعلى سبيل المثال: بعثَتْ وكالة أسوشيتد برِس في المتوسط يوميًّا قرابةَ ألف كلمة من سان فرانسيسكو إلى هونولولو، وقرابة ٨٠٠ كلمة إلى مانيلا، وقد استحوذت شركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا على أنشطة نقل الاتصالات اللاسلكية التي اضطلعت بها خدمة الاتصالات التابعة للبحرية الأمريكية في يوليو عام ١٩٢٥ (فورث باسيفيك ساينس كونجرس، ١٩٢٩). قلَّصَ ظهورُ خدمة البرق اللاسلكي سعرَ البرقيات إلى سعر أقل بنسبة ٢٥٪ منه لدى شركات نقل البرقيات الكَبْلية المنافسة (سارنوف، ١٩٢٨).

كانت سوق الاتصالات اللاسلكية على وشك الانقسام على غرار هافاس ورويتر ووولف؛ فاشترت شركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا التي كانت شركة جنرال إلكتريك المساهم الأكبر بها الأسهمَ البريطانية في شركة أمريكان ماركوني (التي كانت خاضعة لسيطرة بريطانية)، وقبلت بتقسيم العالم بحيث تستأثِر شركة ماركوني بالإمبراطورية البريطانية، وتستأثِر الولايات المتحدة بأمريكا اللاتينية، ويتم تقسيم كندا بين كلتَيْهما، ويغدو بقية العالم مفتوحًا لكلتَيْهما (هيدريك، ١٩٩١)؛ مما ضمن لشركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا احتكارًا فعليًّا على وسائل الاتصالات اللاسلكية الدولية لأمريكا. كانت السيطرةُ الحكومية على محطات الاتصالات الأرضية اللاسلكية الورقةَ الرابحة التي أرغمت البريطانيين على البيع، لتصبح الاتصالاتُ الدولية المهمةَ الرئيسية لشركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا (تشيتروم، ١٩٨٢). وبحلول عام ١٩٢١ نجحت شركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا في تأسيس ما لا يقل عن خمس دوائر لاسلكية عبر أطلسية من الولايات المتحدة إلى المملكة المتحدة والنرويج وألمانيا وفرنسا، وعبر هاواي إلى اليابان (سارنوف، ١٩٢٨). وكنتيجةٍ تواصَلَتِ الولايات المتحدة يوميًّا مع ٢٥ دولة؛ فأرسلت الرسائل اللاسلكية من نيويورك إلى المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنرويج والسويد وهولندا وبلجيكا وبولندا وتركيا وليبريا وبورتوريكو وسانت مارتين وفنزويلا وكولومبيا وجويانا الهولندية (جمهورية سورينام الآن) والبرازيل والأرجنتين، وكانت الرسائل اللاسلكية تُبعث من سان فرانسيسكو إلى هاواي واليابان وجزر الفلبين وجزر الهند الشرقية الهولندية (إندونيسيا الآن) والهند الصينية الفرنسية (كمبوديا ولاوس وفيتنام الآن)، وعبر جزر الفلبين إلى هونج كونج وشنغهاي والصين (سارنوف، ١٩٢٨).

ظلَّتْ خدمة الاتصالات التابعة للبحرية الأمريكية أبطأ كثيرًا من الخدمة التي تقدِّمها وكالة راديو كوربوريشن أوف أمريكا (اللاسلكية بالكامل)، أو شركة كوميرشال كَبْل كومباني (الكَبْلية بالكامل)، وكلتاهما مارست نشاطها بين الولايات المتحدة والشرق الأقصى؛ فكانت طوكيو تستقبل الرسائل العاجلة المرسَلة من شركة يونايتد برِس عبر شركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا في غضون مدة زمنية تقل بدقائق قليلة عن اثنتي عشرة ساعة، إلا أن المزية الوحيدة لخدمة الاتصالات الخاصة بالبحرية الأمريكية كانت في الواقع هي أنها وفَّرت ستة سنتات للكلمة بالمقارَنة بثاني أزهد سعر متاح؛ فبلغ سعر الكلمة المرسلة عبر خدمة نقل الأخبار اللاسلكية التابعة للبحرية الأمريكية من نيويورك إلى طوكيو (عبر الخطوط الأرضية والكَبْلات البحرية التي كانت متمِّمة لها) ٢٤ سنتًا، فيما بلغ سعر إرسالها عبر شركة راديو كوربوريشن أوف أمريكا ٣٠ سنتًا، وبلغ سعر إرسالها عبر الكَبْلات التلغرافية ٣٨ سنتًا.5
لا شك أن الكونجرس الأمريكي اعتزَمَ أن تكون موجات اللاسلكي هي وسيلة النقل المشتركة لهذه التقارير الإخبارية، بما أن قيمتها الرئيسية تكمن في حريتها من سيطرة الرقابة الحكومية، إلا أن وزارة البحرية الأمريكية لم تكن قد تخلَّصَتْ من سيطرة سياسة الحرب وارتَأَتْ أنها المسئولة عن نقل أيٍّ مما يَرِدُ بهذه التقارير مما قد يضرُّ بدولة صديقة؛ وبسبب هذه السياسة ووفقًا لبعض التعليمات العامة، حجَزَ بعض مسئولي البحرية الأمريكية بعضَ الأخبار عن الدول المُرسِلة.6
حثَّ الكونجرس الأمريكي البحريةَ الأمريكية على السماح باستخدام منشآتها اللاسلكية لنقل الرسائل التجارية والإخبارية بين النقاط التي لا يمكن أن تخدم بها المحطات الخاصة، واشترط ألَّا يُسمَح بنقل رسائل الأنشطة التجارية العامة بسعرٍ أقل من السعر المسموح به للمحطات الخاصة، وأن يُمنَح سعر أقل لنقل الأخبار. وبموجب هذه السلطة، أعلنَتِ البحرية الأمريكية سعرًا للرسائل الجديدة المتجهة من سان فرانسيسكو إلى مانيلا بلغ ستة سنتات، وسعرًا بلغ ثلاثة سنتات للرسائل من سان فرانسيسكو إلى هونولولو.7

(٧) مبررات إضفاء الصبغة القومية على الأخبار

مثَّلَتِ الحرب العالمية الأولى أيضًا طفرةً لكلٍّ من شركة أسوشيتد برِس وشركة يونايتد برِس اللتين استمرتا في التوسُّع خارج البلاد. سيقت بالدرجة الأولى المبررات لاقتحام سوق الشرق الأقصى بثلاث طرق مختلفة: (١) أن المسألة كان يُنظر إليها من المنظور البريطاني لا من المنظور الأمريكي. (٢) أن الاتصالات الكَبْلية عبر لندن شديدة البطء. (٣) أن وكالات الأنباء ارتأَتْ أن أسعار نقل الرسائل إلى آسيا باستخدام الكَبْلات التلغرافية باهظة إلى حدٍّ حال دون استخدامها. وحسب تعبير شاهِد على هذه الفترة الزمنية لاحقًا:

قبل أعوام، كانت الأنباء الصادرة والواردة في الشرق الأقصى خاضعةً فعليًّا لسيطرة وكالة رويترز — وكالة أخبار «بريطانيا» العظمى — وقبل قرابة خمسة أعوام أو يزيد، عُقِدت اتفاقية بين اليابان ووكالة رويترز، تنسحب الوكالةُ بموجبها تمامًا من اليابان، وتستحوذ اليابان تمامًا على الأنباء الصادرة من اليابان والواردة إليها. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كانت وكالتا رويترز وكوكوساي المصدرَ الوحيد للمعلومات التي حصل عليها الشرق الأقصى من هذا البلد. كانت أنباء وكالة رويترز يُعِدُّها «رجل إنجليزي في نيويورك»، ويحرِّرها وينقِّحها «رجل إنجليزي في لندن»، وتُرسَل عبر شبكة كَبْلات غير مباشِرة إلى أفريقيا، ثم يعاد إبراقها إلى شنغهاي، ثم يحرِّرها وينقِّحها «رجل إنجليزي» من جديد، وفي «شنغهاي» حمل أبناء هذا البلد الكراهيةَ للأمريكيين في بداية الحرب وفي الأعوام التي تلَتْها (ماكلاتشي، ١٩١٩).

وكما جاء في هذه الشهادة، كانت التجارة تتبع وسائل الاتصالات والنقل (وينتربوتوم، ١٩٣٠)، وقد عُدَّتْ إقامةُ خطوط اتصالات أفضل وأسرع وأرخص بالشرق الأقصى مهمةً، ليس من منظور وكالات الأنباء فحسب، بل من منظور الحكومات كذلك. وقد واجهَتْ وكالتَا أسوشيتد برِس ويونايتد برِس في الشرق الأقصى وضعًا مماثِلًا للوضع الذي واجهتَاه في أمريكا الجنوبية قبل الحرب. عقدت وكالة أسوشيتد برِس اتفاقيةً مع وكالة أخبار يابانية — وكالة كوكوساكي — التي كانت وكالة حكومية انحصَرَ نشاطُها في العمل تحت سيطرة وكالة رويترز التي امتلكَتِ السيطرةَ على سوق الأخبار بالشرق الأقصى، فيما لم يُسمَح لوكالة أسوشيتد برِس بإدارة أنشطتها هناك، بعكس وكالة يونايتد برِس التي أُتِيحت لها حريةُ العمل هناك؛ ومن ثَمَّ حثَّتِ الحكومةُ الأمريكية وكالات الأنباء الأمريكيةَ على التعاون معًا إعلاءً للمصالح القومية. وكما كتب والتر روجرز:

اقترحتُ على الاتحادات الصحفية الكبرى حول العالم أن تُعنى بحقل الاتصالات بطرح فكرة بَسْط نطاق الخدمات الإخبارية، وقد انصبَّ اهتمامي بوجه خاص على نقل الخدمة الإخبارية من الولايات المتحدة إلى الشرق؛ بحيث تعمل بصفة دائمة لتسنح فرصة ما لنشأة تفاهم بين كلتا ضفتَيِ المحيط الهادئ. وأعتقد أن السيد ستون من وكالة أسوشيتد برِس، والسيد هوارد من وكالة يونايتد برِس؛ يراسلان حلقات وصل متعددة حول العالم حول فكرة إقامة مركز لنشر الأخبار (روجرز، ١٩١٩ب).

(٨) مَزْجٌ مثيرٌ للجدل بين الصبغة الكوزموبوليتانية والصبغة القومية

لم يعنِ إضفاءُ الصبغة القومية على الأخبار بالضرورة إخضاعَ الأخبار للسيطرة الحكومية أو التدخُّلِ الحكومي المباشِر فحسب — ولا يعني ذلك — بل استُخدِمَ كمبرر أيديولوجي للتدخُّل الحكومي. وفي حالات متعددة، استخدم مديرو وكالات الأنباء النزعةَ القومية للتبرير لتأسيس وكالاتهم أو وجودها، وحتى وكالات هافاس ورويترز ووولف التي بدأت كمؤسسات غير قومية لم يمضِ وقت طويل قبل أن تبدأ في العمل كمؤسسات قومية. بَيْدَ أن وكالة رويترز بالأخص من بين الوكالات الثلاث لم تعمل قطُّ كوكالة أخبار قومية معترَف بها رسميًّا؛ إذ قامت مؤسسة أخرى هي وكالة برِس أسوسييشن (التي تأسست عام ١٨٦٨) بهذه الوظيفة في المملكة المتحدة.

تُعَدُّ العلاقة المربكة بين الدولي والوطني من التناقضات التي تنطوي عليها أغلبُ مؤسسات الأخبار، فقد زعمَتْ هذه المؤسسات أنها مؤسسات قومية ذات مهمة تجاه وطنها، وفي الوقت نفسه زعمت أنها مؤسسات دولية لا تتحيَّز لأي بلد؛ ومن هنا كتب السير رودريك جونز عن وكالة رويترز:8

تُعَدُّ هذه الوكالة في أقاصي الأرض وكالة «بريطانية» نموذجية تدير أنشطتها في إطارٍ من المصداقية والمسئولية، وبوصفها كذلك بذلَتْ على الأرجح في إطار سعْيِها التقليدي لمزاولة نشاطها جهودًا أكثر مما بذلت أيُّ مؤسسة خارجَ البلاد لخلق مناخ «بريطاني» عام ونشر الأفكار «البريطانية»؛ وكانت لقرابة نصف قرن الموزِّعَ الوحيد للأخبار على امتداد الشرق والشرق الأقصى كله، أو الخدمةَ الإخبارية المسيطرة أو العظمى — في السنوات الأخيرة — ومن ثَمَّ تبرز بكل مكان — من البحر المتوسط إلى أقاصي شواطئ اليابان — كتعبير يومي على مدار الساعة عن الطموح والنفوذ البريطاني، ليس من خلال الصحافة فحسب، بل في البورصات والأسواق كذلك.

لكن كان من المهم كذلك الزعم بأن وكالة رويترز غير بريطانية حتى يتسنى لها بيع الأخبار للعملاء من غير البريطانيين؛ لهذا يناقض جونز نفسه في تصريح آخَر يضطر فيه لاستخدام صفة «كوزموبوليتانية» بدلًا من صفة «دولية»:
مع أن وكالة رويترز «بريطانية» الأصل، فهي خدمة إخبارية «كوزموبوليتانية» من منطلق تحرُّرها التام من قيود التحيُّز وعدم الحيادية؛ فهي تتسم بالاستقلال والحصافة والموضوعية والحيادية التامة، وبإضافة هذه السمات إلى اشتهارها بالدقة والتحرُّر على نحوٍ منقطع النظير، تغدو مقبولةً للأجانب من أبناء كل جنس.9
النزاع المتنامي بين وكالة أسوشيتد برِس الأمريكية ووكالة رويترز في أوائل القرن العشرين ارتكَزَ بدرجة كبيرة على قضية جنسية الخبر؛ فانتقدت وكالة أسوشيتد برِس نفوذَ وكالة رويترز من حيث إنها مثَّلت العالم من المنظور البريطاني؛ ومن هنا انصبَّ تحديدًا انتقادُ كينت كوبر المدير العام لوكالة أسوشيتد برِس — الذي هب لمناوئة هيمنة وكالة رويترز — لوكالة رويترز على كون شركة رويترز شركةً بريطانية، واستغلَّ كوْنَ الوكالة شركةً بريطانية كمسوِّغ للإجراءات القانونية التي اتَّخَذَها ضدها؛ فزعمت وكالة أسوشيتد برِس من جانبها أن جنسيتها الأمريكية تقود إلى خدمة أخبار أفضل، فكتب كوبر:

أقِرُّ بفضل وكالة أسوشيتد برِس على تأسيس ما تبيَّن أنه المبدأ الأخلاقي الأسمى في «أمريكا» وحول العالم؛ وهو ضرورة أن تكون الأخبار صادقة وموضوعية (كوبر، ١٩٤٢).

تبنَّى كوبر — شأنه شأن جونز — المنظورَ القائل إن الخبر الصادق والموضوعي لا يصدر إلا عن البلد الذي تقع به الوكالةُ التي تنقله؛ ونتيجةً لذلك أضحَتْ جنسيةُ الخبر العاملَ الأول في تحديد موضوعيته. غير أن كوبر وجونز لم يكونَا وحدهما مَن تبنَّى هذه الحجة؛ فقد استُخدِمت العديد من المرات على مرِّ السنوات منذ تأسيس أولى وكالات الأنباء. ومن الحجج المشابهة لها الزعمُ القائل بأن الدول يُساء تمثيلها في الأخبار لأن وكالات الأنباء التي تقع في دول أخرى تنشر الأخبار عنها، وقد تكرَّرَ استخدامُ هذه الصورة الثانية من تلك الحجة في عدد من المناسبات، آخِرها كان في جدل اليونسكو في الثمانينيات حول النظام العالمي الجديد للإعلام والاتصال، حيث انتقدت دول العالم النامي وكالات الأنباء الغربية؛ لأنها شوَّهتها مستنِدةً في اتهامها إلى جنسية هذه الأخبار (كاثبرت، ١٩٨٠)، غير أن كوبر — الذي تعرَّضَتْ وكالته لاحقًا لنقد مماثِل من دول العالم النامي على نحوٍ مخالف للتوقُّعات — كان هو مَن كتب:

حدَّدت وكالة رويترز أي الأخبار تصدر عن «الولايات المتحدة الأمريكية»، فحدَّثَتِ العالمَ عن الهنود في عدائهم مع الغرب، وعن الإعدامات غير القانونية في الجنوب، والجرائم الغريبة في الشمال، واتُّهِمت على مدى عقود بأنها لم تبعث بأي أنباء مشرفة عن «الولايات المتحدة الأمريكية». وانتقد رجال الأعمال الأمريكيون وكالةَ أسوشيتد برِس؛ لأنها سمحت لوكالة رويترز بالإنقاص من مكانة «الولايات المتحدة» بالخارج (كوبر، ١٩٤٢).

أما الحجة الأخرى التي استُخدِمت مرات عدة ضد وكالات الأنباء الأخرى، فكانت علاقاتها بالحكومات، وهي حجة مقارِبة جدًّا للحجتين الأولى والثانية حول جنسية الخبر؛ فمن ناحيةٍ، ترتبط جنسية الخبر بحكومة الدولة ارتباطًا وثيقًا ولا يمكن الفصل بينهما لأن كلًّا منهما من حيث المبدأ يجب أن تكون ممثلة لأمتها. ومن جهة أخرى، يُنظَر إلى جنسية الخبر على أنها مختلفة ومستقلة عن حكومة الدولة القومية، وهذا الاستقلال عن حكومة الدولة ينبغي أن يضمن حياديةَ الخبر، على النحو نفسه الذي تغدو به الأخبارُ أكثرَ حياديةً إن وردت من البلد التابعة له وكالة الأنباء التي تنقلها.

كان يُنظَر إلى وكالات الأنباء على أنها أقلُّ استقلالًا إنْ كانت مدعومةً حكوميًّا أو مملوكةً للحكومة، وأوضح الأمثلة على ذلك وكالات الأنباء في البلدان الشيوعية سابقًا؛ مثالُ ذلك وكالةُ أنباء الاتحاد السوفييتي السابق التي كانت تذيع رسميًّا الأخبارَ من الحكومة السوفييتية. المثير للاهتمام هنا — وهنا يكمن تناقُضٌ آخَر — هو أن وكالة أنباء الاتحاد السوفييتي قامَتْ، شأنها شأن العديد من وكالات الأنباء المملوكة للحكومة، على أساس أن وكالات الأنباء الأجنبية شوَّهت الأخبارَ؛ لأنها لا تقع في البلد المعنية به الأخبار. ومن جهة أخرى، مع أن التلغراف حرَّر وكالات الأنباء من القيود الجغرافية، فقد عجز عن تحريرها من قيود الدولة القومية، الأمر الذي باتَ مستحيلًا مع أهمية الأخبار للدول القومية؛ ونتيجةً لذلك — مع أن أولى وكالات الأنباء بدأت عملها كوكالات أنباء غير قومية — لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن تغدو قضيةً قومية في كل مكان.

(٩) الوظائف العديدة لوكالات الأنباء القومية

كما أشار بويد-باريت (٢٠٠٠)، تؤدِّي وكالات الأنباء القومية وظائفَ مهمةً؛ فهي أولًا: تتيح خدماتٍ إخباريةً محلية ودولية بسعر مقبول لوسائل الإعلام القومية والمحلية، ويهدف مجموع أخبارها بطبيعة الحال إلى أن يكون شاملًا من حيث تمثيلها وخدمتها لمصالح مختلف القطاعات المهمة بالدولة القومية. ثانيًا: هي مصدر مهم ومتميز للأخبار للمؤسسات القومية السياسية والاقتصادية والمالية، كما تعمل كقناةٍ لنقل خدماتِ وكالات الأنباء الدولية إلى وسائل الإعلام المحلية والداخلية، وتعود بالأخبار المحلية والقومية إلى وكالات الأنباء الدولية؛ ومن ثَمَّ فقد تؤثِّر في تمثيل الدول القومية التي تتبعها على المستوى الدولي.

خضع دور وكالات الأنباء القومية لدراسة كافية، لكنه لم يخضع لتقييم نقدي وافٍ إلا في الدول ذات أنظمة الحكم الشمولية. التقسيم التقليدي لوكالات الأنباء إلى وكالات دولية وقومية سلَّمَ بأن وكالات الأنباء تحتاج إلى تأدية وظائف في مصلحة الدولة؛ ومن جهة أخرى، لم تشكِّك إلا أحدث المناقشات حول العولمة في كون المستوى القومي نقطةَ البداية البديهية للدراسة. ليس هناك ما يستلزم الافتراضَ مسبقًا أن وكالات الأنباء أو أي مؤسسات إعلامية أخرى ينبغي أن تخدم بالضرورة مصالحَ الدول القومية. من جهة أخرى، يثبت تاريخ وكالات الأنباء أن أولى وسائل الإعلام الإلكترونية تحوَّلت في أغلب الدول إلى أدوات للدولة القومية، الأمر الذي حدث بسبب هشاشة استقلالية وكالات الأنباء؛ إذ اعتمدت على التقنيات المطلوبة لاستقبال الأخبار وبثها.

نتيجةً لذلك، كانت هناك في أغلب الدول فتراتٌ خضعَتْ فيها وكالات الأنباء للسيطرة المباشِرة أو غير المباشرة لحكومات الدول التي وقعت فيها، ويمكن العثور على فترات كهذه في أبعد الدول عن التصور كالولايات المتحدة الأمريكية حيث احتُفِي دومًا باستقلال وسائل الإعلام عن الحكومة؛ فخضعت وكالتا الأخبار الأمريكيتان — وكالة أسوشيتد برِس التعاونية من جهة، ووكالة يونايتد برِس الخاصة من جهة أخرى — للحكومة الأمريكية بالرغم من اختلاف صورة ملكيتهما. واستطاعت الحكومة الأمريكية التدخُّل في عملهما باستغلال التكنولوجيا وعبر إقناع مديرِي وكالات الأنباء بأنهم جميعًا يتشاطرون مصالح مشتركة، ولم تقبل وكالات الأنباء بالتدخُّل الحكومي باسم قضية كبرى مشتركة فحسب، بل اعتنقته كذلك. وقد أخذ التدخُّل الحكومي في كثيرٍ من الأحيان شكلًا خفيًّا جدًّا أوحى بأنه مشروع مشترك وليس تدخُّلًا حكوميًّا.

توضِّح دراسةُ التطور التاريخي لوكالات الأنباء مدى تأثير الجانب القومي، وقد آمَن الرئيس الأمريكي ويلسون بعد حضور مؤتمر سلام عام ١٩١٧ في باريس بأن التفوُّقَ في المستقبل ستحدِّده ثلاثةُ عوامل مهمة: البترول الخام، ووسائل النقل، ووسائل الاتصالات (يونج، ١٩٢٩)؛ وهو ما كان الأمر عليه. استمرت المعركة على جنسية الأخبار الإلكترونية التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر لمائة عام أخرى، وقد تُحدِث التقنية الأحدث وهي الإنترنت تغييرًا؛ وإن صحَّ هذا، فهو لن يتحقَّق إلا بمعركة أخرى.

هوامش

(1) Editor & Publisher, August 13, 1927, 7.
(2) A message from New York via London to South America required from six to fifteen hours, while directly from New York it required only two or three hours. The rate between New York and Valparaiso, via the European route, was $6.00 per word. World War I brought down the full rate of the direct service to $0.50. A Half-Century of Cable Service to the Three Americas 1928, 22 and 39.
(3) Editor & Publisher, July 17, 1919, 9.
(4) Editor & Publisher, December 24, 1921, 6.
(5) Editor & Publisher, July 1, 1922, 6.
(6) Editor & Publisher, March 12, 1921, 6.
(7) Ibid.
(8) Sir Roderick Jones papers. A note on Reuters. For private information only. Printed by Waterlow and Sons Limited, London, Dunstable, and Watford. Reuters archive, box file 97.
(9) Sir Roderick Jones Papers. Broadcast address in Johannesburg by Sir Roderick Jones on February 26, 1935. Reuters archive, box file 13.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤