القَلَنسوَة الأُرجوانية

كان السيد كومبز ضجِرًا بالحياة. سار مُبتعِدًا عن بيته التَّعِس، ولِضجَرِه من وجود الجميع لا من وجوده فحسْب، انحرَفَ إلى زُقاق جاسورك ليتجنَّب المدينة. وحين عبر الجسرَ الخشبِيَّ الذي يمتدُّ عبر القناة وحتى أكواخ ستارلينج، صار وحيدًا في غابات الصنوبر الرطبة، بعيدًا عن أيٍّ مرأًى أو مسمعٍ مِن البشر. لن يتحمَّل بعد الآن. راح يُردِّد بصوتٍ عالٍ مع سِبابٍ لم يُعهَد منه أنه لن يتحمَّل بعد الآن.

كان رجُلًا ضئيلًا شاحِب الوجه، له عينان داكِنتان وشارِبٌ رفيع فاحِم السواد، يرتدي ياقةً شديدة الصلابة والانتصاب ومُهترئة قليلًا، فجعلَته يبدو كأنَّ له ذِقنًا مزدوجًا. أما مِعطفه الخارجي، فبالرغم من كونه رثًّا، فإنه كان مُؤطَّرًا بفِراء الأستراخان. كان يرتدي قُفازين باللون البنيِّ الزاهي، مُزيَّنين بشرائطَ سوداءَ تمتدُّ فوق مفاصل الأصابع وتنفصل عند الأنامل. أما عن هيئته، فقد قالت زوجته ذات يومٍ من الأيام الغالية الخالية التي لا يُمكنه تذكُّرها — وقد كان ذلك قبل أن يتزوَّجها — إنَّ له هيئةَ رجلٍ عسكري. أما الآن، فقد وصفتْه — وهو وصفٌ مروِّع إذ يُقال بين زوجٍ وزوجة، لكنها وصفته على أية حال — بأنه «حشرة ضئيلة»، ولم يكن ذلك الوصف الوحيد الذي نعتَته به.

نشب الخلاف بشأن جيني البغيضة مُجدَّدًا. جيني هي صديقة زوجته التي تحضر لتَناول الغداء كلَّ أحَدٍ مُباركٍ دونَ دعوةٍ من السيد كومبز على الإطلاق، وتظلُّ تُسبِّب الإزعاج طوال فترة العصر. كانت فتاةً ضخمةً صاخبة، تستهويها الألوان الصارِخة ولها ضِحكةٌ حادة كالصرير؛ وفي هذا الأحد، تجاوزت جميعَ أساليبها التَّطفُّلية السابقة؛ إذ أحضرَت رجلًا معها؛ فتًى مُدَّعيًا مثلها. فجلس السيد كومبز إلى طاولته بياقته النظيفة المنشَّاة ومِعطفه الفراك المخصص لأيام الآحاد، صامِتًا وحانِقًا، بينما راحت زوجته وضيْفاها يتحدَّثون بحماقةٍ بغيضة ويضحكون بصوتٍ عالٍ. حسنًا، لقد تحمَّل ذلك. وبعد الغداء (الذي كان مُتأخرًا «كالعادة»)، ما كان على الآنسة جيني إلا أن تجلس إلى البيانو وتعزف ألحان البانجو للعالَم بأكمله، وكأنه ليس بيوم الأحد! لا يمكن لبَشرٍ أن يتحمَّل مثل هذه الأفعال؛ لقد أسمعوا الجِيران وأسمعوا المارَّة في الطريق. كان إعلانًا عامًّا عن سوء سُمعتهم؛ لذلك كان عليه أن يتكلم.

شعر بأنَّ وجهه غدا شاحِبًا وتأثَّر تنفُّسه برجفةٍ أصابته بينما كان يهِمُّ بالحديث. كان يجلس على أحد المقاعد المجاوِرة للنافذة؛ إذ كان الضَّيف الجديد قد استولى على المقعد ذي الذراعين. أدار رأسه مُشيحًا به فوق الياقة، وبنبرةِ تحذيرٍ قال: «يوم الأحد!» قالها بتلك النبرة التي يراها الناس «بغيضة»: «يوم الأحد.»

استمرَّت جيني في العزف، أما زوجته التي كانت تتصفَّح بعض المقطوعات الموسيقية المتراكمة فوق البيانو، فقد حدَّقَت فيه قائلةً: «ما الخطب الآن؟ أَلَا نستطيع الاستمتاع بوقتنا؟»

رد كومبز الضئيل: «أنا لا أُمانع الاستمتاعَ العقلانيَّ على الإطلاق، لكني لن أسمح بعزف ألحانِ أيامِ العمل يومَ الأحد بهذا المنزل.»

قالت جيني مُتوقفةً عن العزف ومُستديرةً فوق مقعد الموسيقى في انتفاضةٍ عنيفة مُتكلَّفة: «ما المشكلة في عزفي الآن؟»

عرف كومبز أنَّ الأمر سيتحوَّل إلى شجار، فانخرط فيه بقوَّةٍ زائدة كما هي عادةُ جميعِ الرجال الخجولين العصبيِّين في العالَم أجمع، فقال: «توقَّفي عن الدوران بالمقعد؛ فهو لم يُصنَع للأوزان الثقيلة.»

قالت جيني وقد استشاطت غضبًا: «دَعْ عنك أمرَ الأوزان؛ فهذا ليس من شأنك. ماذا كنتَ تقول عن عزفي من وراء ظهري؟»

قال الضيف الجديد وهو يميل بظهره في المقعد ذي الذراعين، بينما ينفخ غيمةً من دُخان السيجارة ويبتسم بشيءٍ من الشفقة: «لا شكَّ بأنك لا تُمانع عزفَ بعض الموسيقى في يوم الأحد يا سيد كومبز؟» وفي الوقت نفسه، قالت زوجته شيئًا لجيني من قبيل: «لا تهتمِّي لأمره واستمرِّي في العزف يا جيني.»

رد السيد كومبز مُخاطبًا الضَّيف الجديد: «بلى.»

فتساءل الضيف الجديد، وهو يبدو عليه الاستمتاع بسيجارته وبانبِثاقِ الجدَل الذي تَلُوح نُذُره في الأفق: «أيُمكِنني أن أسأل عن السبب؟» بالمناسبة، كان هذا الضيف شابًّا نحيلًا وطويلًا، بدا شديدَ التأنُّق وهو يرتدي ثيابًا فاقِعةً ذات لونٍ بُنيٍّ فاتح، مع ربطة عنقٍ بيضاء ودبُّوسٍ من اللؤلؤ والفضة. أما السيد كومبز، فقد رأى أنه لو حضر بمعطف أسود لكان أفضلَ هِندامًا.

استهلَّ السيد كومبز الحديث قائلًا: «لأنَّه لا يُناسبني؛ فأنا من رجال الأعمال وعليَّ أن أتحرَّى علاقاتي بدقة، فالاستمتاع العقلاني …»

قاطَعَته السيدة كومبز قائلةً بازدِراء: «علاقاته! هذا ما يقوله دومًا، علينا أن نفعل هذا وعلينا أن نفعل ذاك …»

فقاطعها السيد كومبز بِدَوره مُتسائلًا: «إن كنتِ لا تَنوين تحرِّي علاقاتنا، فلماذا تزوَّجتِني إذن؟»

قالت جيني وهي تَستدير ثانيةً إلى البيانو: «أتساءَلُ مُتعجِّبة!»

فردَّت السيدة كومبز: «إنني لم أرَ رجلًا مثلك قَط.»

«لقد تغيَّرتِ تمامًا منذُ أن تزوَّجْنا. قبل …»

ثم بدأت جيني في العزف مُجدَّدًا، تِرن، تِرن، تِرن.

نهض السيد كومبز وقد دفَعَه الوضع أخيرًا إلى الثَّوَران، فقال صائحًا: «فَلْتسمَعوا جيدًا! أُحذِّركم بأنني لن أقبل هذا.» وراح المعطف يَختلِج إِثرَ سُخْطه واستيائه.

قال الشاب الطويل ذو الثياب البُنيَّة وهو يعتدِل في جِلسته: «لا نريد عنفًا الآن.»

فردَّ السيد كومبز بِعُنف: «ومَن عساك أن تكون أنت؟»

ومن ثَمَّ بدءوا جميعًا بالكلام على الفور. قال الضيف الجديد إنه «خطيب» جيني وعليه أن يحميَها، فأجابه السيد كومبز بأنه يُمكنه أن يفعل ذلك على الرَّحْب والسَّعة في أيِّ مكان، على ألَّا يكون ذلك في منزله (أيْ في منزل السيد كومبز)؛ فتدخَّلت السيدة كومبز قائلةً إنَّه حَرِيٌّ به أن يخجَل من إهانة ضيوفه، وإنه (كما ذكرتُ من قَبل) يتصرَّف بدناءةِ حشرةٍ ضئيلة كما هي عادَتُه. وانتهى الموقف بأنْ أمَرَ السيدُ كومبز ضيوفَه بمغادرة المنزل، إلَّا أنهم أبَوْا ذلك، فأخبرَهم أنه سيُغادر هو. سار السيد كومبز، بِوَجهه المُتَّقِد غضبًا، ودموع الانفعال في عينيه، إلى الرَّدْهة. وبينما كان يُواجه صعوبةً في ارتداء مِعطفه الخارجي — إذ تكدَّسَ كُمَّا مِعطفه الفراك في أعلى ذراعَيْه — ويمسح قُبَّعته الحريرية، بدأتْ جيني في العزف مُجدَّدًا على البيانو، وهي تَزُفُّه بطريقةٍ مُهِينة إلى خارج المنزل. تِرن، تِرن، تِرن! صفَق البابَ بعنفٍ حتى ارتَجَّ المنزل. كان هذا الموقف، باختصار، هو ما شكَّلَ مِزاجه الحالي، ولعلَّك ستبدأ إذن في فهم السبب من اشمئزازه من الوجود.

بينما كان يسير عبر الممرِّ المُوحِل تحت أشجار التنوب — وكان ذلك في أواخر أكتوبر حيث بدَتِ القنواتُ والأكوام التي كوَّنتها إبرُ التنوب في غايةِ الرَّوعة بما عليها من كُتَل الفطريات — راح يَستعرِض بإيجازٍ تاريخَ زواجه الكئيب، وقد كان مُوجَزًا ومُبتذلًا بما يكفي. لقد أدرك السيد كومبز الآن بوضوحٍ تامٍّ أنَّ زوجته لم تتزوَّجه إلا بدافع الفضول الفطريِّ وهرَبًا من حياتها المُقلِقة الشاقَّة غير المُستقِرَّة في المشغل الذي كانت تعمل به. وقد كانت أغبى من أن تُدرِك أنَّ مِن واجبها أن تُعاوِنَه في عمله، مثلها في ذلك مثل مُعظم بنات طبقتها. اتَّسمَت السيدة كومبز بشراهةٍ إلى المتعة، وحُبٍّ للثرثرة، وعقليةٍ اجتماعية. ومن الواضِح أنَّه قد خاب أملُها حين وجدَت أنَّ قيودَ الفقر لا تزال تُكبِّلها. كانت مخاوِفه تُثير حَنَقَها، وأدنى محاولةٍ منه لضبط تصرُّفاتها لم تكن تؤدي إلا إلى اتهامه ﺑ «التذمُّر». لِمَ لَم يَعُد لطيفًا كما كان من قبل؟ كان كومبز رجلًا ضئيلًا غير مؤذٍ، تشبَّعَ عقلُه بمفاهيم الاعتماد على الذات وتنميتها، مع طموحٍ هزيل لإنكار الذات والمنافسة، أدَّى في النهاية إلى «الكَفاف». ثم جاءت جيني كشيطانة، وظلَّت تُثرثِر بالكثير من الحكايات عن «الرجال»، وترغب دومًا في أن تذهب زوجتُه إلى المسارح (وكل تلك الأمور)، ثم هناك عمَّات زوجته وأبناء عمومتها (من الرجال والنساء) الذين كانوا يلتَهِمون المال ويَسبُّون شخصه ويُفسِدون ترتيبات الأعمال ويُزعِجون العملاءَ المهمِّين، ويُفسِدون عليه حياتَه عمومًا. لم تكن تلك هي المرَّة الأولى التي يُغادِر فيها السيد كومبز منزلَه غاضبًا وحانقًا، وهو يشعر بشيءٍ من الخوف ويتوعَّد بغضب، بل بصوتٍ عالٍ أيضًا، بأنه لن يتحمَّل ذلك، وهكذا يظلُّ يُفْرِغ طاقته بطريقةٍ تُجنِّبه المواجهة. لكن السيد كومبز لم يبلغ قطُّ قدْرًا من الضَّجر بالحياة كذلك الذي كان في عصر هذا الأحد. ربما كان لغَداء الأحد دَورٌ فيما يَشعر به من يأس، وكذلك السماء الرمادية، وربما أيضًا لأنه بدأ يُدرِك خَيبته غير المُحتملَة كرجل أعمالٍ نتيجةً لزواجه. فها هو الآن يُواجه الإفلاس، وبعد ذلك ربما تلقَى ما يدفعُها إلى الندَم بعد أن يكون الأوان قد فات. وأمَّا القدَر، فكما أشرتُ سلفًا، فقد ملأ الطريق الذي يمتدُّ عبر الغابة بالفطريات الكريهة الرائحة؛ إذ زَرَعها بكثافةٍ وبأشكالٍ مُتنوِّعة، ولم يكتفِ بِزرْعها على الجانِب الأيمن فحسْب، بل على الأيسر أيضًا.

حَرِيٌّ بصاحِب محلٍّ صغير أن يُصبِح في تلك الحالة من الكآبة إذا تبيَّنَ أنَّ زوجته ليست بالشريك الوفي؛ فجميع رأس ماله مُستثمَر في عمله، وإذا تركها فسوف ينضمُّ إلى جموع العاطلين عن العمل في بُقعةٍ ما غريبةٍ من الأرض. لا يمكنه أبدًا أن يتحمَّل رفاهية الطلاق؛ لذا فإنَّ التقليد العتيق لاستمرار الزواج على السرَّاء والضرَّاء سيسري عليه لا محالةَ مهما كانت العواقب، ثم تئول الأمور تدريجيًّا إلى نهاياتٍ مأساوية. بالنسبة إلى عُمَّال البناء فهم يركُلون زوجاتِهم حتى الموت، والدَّوقات يخونون زوجاتهم، أمَّا صغار الموظفين وأصحاب المحلَّات، فالشائع بينهم هذه الأيام هو قَطْع رقابهن. وفي ظلِّ هذه الظروف، فليس من المفاجئ — وعليك أن تتلقَّى ذلك بأكبر قدرٍ من الرِّفق والتسامُح — أن يُفكِّر السيد كومبز لوهلةٍ بمثل هذه الأفكار اللامعة القريبة من آماله الخائبة، فراح يُفكِّر بالشفَرَات والمُسدَّسات وسكاكين الخُبز، وما سيُرسِله إلى قاضي التحقيقات من رسائلَ مُؤثرةٍ يُدِين فيها أعداءَه ذاكِرًا أسماءهم، والدعاء بخشوعٍ طلبًا للمغفرة. وبعد حين، أسلَمَتْه تلك الخواطر العنيفة إلى كآبةٍ شديدة. لقد تزوَّج بهذا المعطف الخارجي نفسه وتحته معطفه الفراك الأول والوحيد الذي يمتلكه. بدأ السيد كومبز يتذكر أحاديثَ الغزل بينهما في هذا الممشى ذاته، وسنواتِ ادِّخاره المُقتِّر للحصول على رأس المال، وذلك الأملَ الساطع في أيام زواجه، ثم ينتهي كل شيءٍ على هذا النحو! أليس في العالم كله من حاكمٍ رحيم؟ بعد ذلك، تحوَّلَ تفكيره إلى الموت.

فكَّرَ في القناة التي عبرَها للتو، وساوَرَه الشكُّ فيما إذا كان عليه ألَّا يقِف مُطلًّا برأسه إلى الخارج، حتى في المنتصف. وبينما كان يفكر في الغرق، خطفت بصرَه القَلَنْسوَةُ الأرجوانية. نظر إليها بشكلٍ آليٍّ لوهلة، ثم توقَّفَ وانحنى نحوَها كي يلتقِطَها، ظانًّا أنها شيءٌ جلدِيٌّ صغير، كمِحفظةٍ مثلًا، ثم ما لبِث أن أدرك أنها قَلَنْسوةُ فِطرٍ أرجوانية؛ فِطرٍ أرجوانيِّ اللون يبدو سامًّا، وله شكلٌ استثنائي غريب؛ فقد كان لزِجًا ولامِعًا وتنبعِثُ منه رائحةٌ نفَّاذة. تردَّدَ وهو يمدُّ يديه نحوَه على مسافة بوصةٍ تقريبًا، وخطرت بذهنه فكرةُ السُّم. بهذه الفكرة في رأسه، التقَطَ الفِطْرَ وانتصبَ مُجدَّدًا وهو في يده.

كانت الرائحة قويةً ونفَّاذة بالتأكيد، لكنها لم تكن مُقزِّزةً على الإطلاق. قطَعَ جُزءًا منه، فوَجَد أنَّ سطحه المكشوف للتوِّ أبيضُ في لون القِشدة، لكنه تحوَّلَ في غضونِ عشْرِ ثوانٍ فحسبُ إلى لونٍ أخضرَ مُصفر، وكأنه بفعل السِّحر. كان هذا التغيُّر جذَّابَ المنظر، حتى إنه قطع جُزْأين آخرَين ليراه وهو يتكرَّر. فكَّرَ السيد كومبز في مدى روعة هذه الفطريَّات، وفكَّرَ أيضًا في أنها جميعًا أشدُّ السموم نقعًا، كما أخبَره والده كثيرًا. إنها سُمومٌ مُميتة!

ليس هناك وقت أفضل من الوقت الحالي لقرارٍ أهوج. لماذا ليس هنا والآن؟ هكذا فكَّرَ السيد كومبز. تذوَّق قطعةً صغيرة، قطعةً صغيرة للغاية بالفعل، لا يعدو حجمها الكِسرةَ الصغيرة. كانت لاذعةً للغاية حتى إنه أوشك أن يَبصُقها، ثم أصبحت حارَّةً فقط ومليئةً بالنَّكَهات: خردَل ألماني مع لمسةٍ من فِجل الخيل الريفي، وكذلك نكهة الفِطْر. ابتلَعَها في غَمرَة اللحظة. أأعجبَتْه أم لم تُعجِبه؟ من الغريب أنَّ عقله لم يكن مُباليًا. سيُجرِّب قضمةً أخرى، لم تكن سيئةً في الواقع، بل كانت جيدة. نسِي همومه لأجل الاستمتاع باللحظة الحالية؛ لحظةِ العبَث مع الموت. أخذ قَضمةً أخرى، ثم تعمَّدَ ملءَ فمِه بقضمةٍ أخيرة. سرى في أنامِلِه وأصابع قَدَميه شعورٌ غريب بالوَخز، وتَسارَع خفَقَان قلبه، أما الدم المُتدفِّق في أذنيه فراح يَدْوي كتيَّارات المياه التي تُدير الطواحين. قال السيد كومبز لنفسه: «جرِّب قطعةً أخرى.» استدار ونظر من حوله، ووجد أن قدمَيْه غير ثابِتَتين. رأى بُقعةً أرجوانية على بُعْد اثنتي عشرة ياردة، وناضَلَ للوصول إليها. همَس السيد كومبز قائلًا: «تلك الأشياء اللزِجة المُمتِعة! هناك المزيد!» تقدَّمَ نحوها مُتعثرًا ثمَّ وقع على وجهه ويداه ممدودتان نحو مجموعة القلانِس، لكنه لم يأكل المزيدَ منها، فقد نَسِي على الفور.

تدحرج على الأرض ثم جلس وارتسمَت على وجهه نظرةُ اندهاش. كانت قُبَّعته الحريرية الممسوحة بعنايةٍ قد تدحْرَجت نحو القناة. رفع يده ضاغِطًا على جبينه. لقد حدث شيء ما، لكنه لم يَستطِع أن يُحدِّد تمامًا ما هو، لكنه على أيَّة حالٍ لم يَعُد كئيبًا، بل شعر بأنه مسرور ومُبتهج. أما حلْقُه فقد كان مُلتهبًا. ضحِك السيد كومبز إثرَ هذا السرور المفاجئ الذي حلَّ في قلبه. هل كان كئيبًا؟ إنه لا يدري، لكنه على أية حالٍ لن يكون كئيبًا بعدَ الآن. نهض من مكانه ووقف مُترنحًا وهو ينظر إلى الكون بابتسامةٍ عذبة. لقد بدأ يتذكر، لكنه لم يستطِع أن يتذكر جيدًا بسبب دوَّامةِ البُخار التي بدأت تدور في رأسه. أدرك أنه كان كريهًا في المنزل لأنهم أرادوا أن يكونوا سعداء فحسْب. لقد كانوا على حقٍّ تمامًا؛ يجِب أن نجعَلَ الحياةَ مُبهِجةً قدْرَ الإمكان. سيعود إلى المنزل ويتدَارك الموقفَ ويُطيِّب خاطِرهم. ولِمَ لا يأخذ معه بعضَ هذا الفِطْر المُبهج كي يأكلوه؟ ما لا يقِلُّ عن ملء قُبَّعته. وسيأخذ أيضًا بعضًا من هذه الفطريَّات الحمراء المُبقَّعة بالأبيض، والقليل من الأصفر أيضًا. لقد كان سمِجًا مُملًّا، عدوًّا للبهجة، لكنه سيُصلِح هذا الأمر. سيكون من المُبهج أن يَقلِب كُمَّيْ مَعطفه ويحشُر في جيوب صُدْرته بعض هذه النباتات الصفراء، ثم يعود إلى المنزل مُترنِّمًا، ليحظَوْا جميعًا بأُمسيةٍ مرِحة.

بعد رحيل السيد كومبز، توقَّفَت جيني عن العزف واستدارت على مقعد الموسيقى مُجدَّدًا، قائلةً: «يا لها من ضجَّةٍ فارغة!»

فردَّت السيدة كومبز مُعلِّقة: «ها قد رأيتَ بنفسك يا سيد كلارينس ما اضطُرِرتُ إلى تحمُّله.»

ردَّ السيد كلارينس بنبرةِ مَن يُطلِق حكمًا: «إنه مُندفِع بعضَ الشيء.»

فأردفتِ السيدة كومبز مُسترسلةً: «ليست لديه أدنى فكرة عن وضعنا، وذلك ما أشكو منه؛ إنه لا يَعبأ بأي شيءٍ سوى محلِّه القديم. وإذا دعوتُ أصدقائي، أو اشتريتُ أي شيءٍ لأُحافِظ على مظهري لائقًا، أو ابتَعتُ لنفسي أيَّ شيءٍ ولو صغيرًا من مصروف البيت؛ نشَبَ بيننا الشِّجار، ثم لا يَفتأ يُردِّد ما يقوله دومًا عن «التوفير» و«الكفاح من أجل الحياة» وما إلى ذلك. إنه يسهر الليالي ليفكِّر في طريقةٍ يُجرِّدني بها من شِلنٍ واحد. لقد كان يريد لنا أن نأكل زبدة دورسيت ذات مرة، لو أنني استسلمتُ له وقبِلت، أرأيت؟!»

علَّقتْ جيني بقولها: «بالطبع.»

أجاب السيد كلارينس مُسترخِيًا في المقعد ذي الذراعين ومثبِّتًا عينيه على جيني: «إذا كان الرجل يُقدِّر امرأةً ما، فيجب عليه أن يكون مُستعدًّا لبَذل التضحِيات من أجلها، فأنا عن نفسي، لن أفكِّر في الزواج حتى أكون قادِرًا على أن أُوفِّر لزوجتي حياةً مُترَفة. إنها أنانيةٌ تامَّة! يجِب على الرجل أن يخوض الصعابَ بنفسه وألَّا يُقحِم زوجته …»

قاطعته جيني مُعترضةً: «أنا لا أتَّفقُ مع ذلك مُطلقًا؛ فلستُ أرى بأسًا في أن يحظى الرجل بمساعدة المرأة ما دام لا يُسيِء مُعامَلتَها. إنها الإساءة …»

فقاطعَتْها السيدة كومبز بدَورها قائلةً: «لن تُصدِّقوا هذا، لكنني كنتُ حمقاءَ إذ تزوَّجتُه. كان عليَّ أن أعرف ذلك. لولا أبي، لَمَا تمكَّنَّا من توفيرِ عربةِ الزفاف.»

قال السيد كلارينس مَصدومًا تمامًا: «يا إلهي! ألَمْ يُوفِّرها هو؟»

«قال إنه يُريد المالَ من أجل المخزون، أو مثل هذه الترَّهات. تخيَّلوا أنه لم يكن لِيقبَل بأن أستعين بامرأةٍ تُساعِدني في المنزل مرَّةً في الأسبوع لو لم أتصدَّ له بِعزْم. وكل هذه الجلَبَة التي يُثيرها بشأن المال؛ إنه يأتيني بالأوراق والحسابات وهو على وَشْكِ البكاء، ويقول: «فقط لو أننا نَستطيع أن نتحمَّل هذا العام، فسيسير العمل على ما يُرام.» فأردُّ قائلةً: «فقط لو نستطيع أن نتحمَّل هذا العام، ثم تأتيني لتقول فقط لو أننا نتحمَّل العام التالي! إنني أعرِفك. ثم إنك لم تَعْهَدني هزيلةً وقبيحة. لماذا لم تتَّخِذْ لك أمَةً إنْ كان هذا ما تُريده، بدلًا من أن تتزوَّج فتاةً مُحترمة؟»»

حسنًا يا سيدة كومبز. لكننا لن نواصِل مُتابعةَ هذه المُحادثة التي لا طائل منها، وسنكتفي بالقول بأنَّ مُغادرة السيد كومبز قد وافقَتْ هواهم، فقضَوْا وقتًا قصيرًا حول نِيران المِدفأة. ذهبت السيدة كومبز بعد ذلك لإحضار الشاي وجلستْ جيني بِتدَلُّلٍ على ذراع الكرسي الذي يجلس عليه السيد كلارينس، حتى جاء صوتُ طقطقةِ أدوات الشاي من الخارج. سألتهما السيدة كومبز مُداعِبةً وهي تدخل إلى الغرفة: «ما هذا الذي سمعتُه؟» ثمَّ دار بينهم مزاحٌ عن التقبيل. كانوا يجلسون جميعًا إلى الطاولة الصغيرة المستديرة، حين سمعوا أوَّلَ إشارةٍ تُنبئُ بعودة السيد كومبز.

سمعوا صوته وهو يتحسَّس بيده مِزلاجَ الباب الأمامي.

بادرتِ السيدة كومبز قائلةً: «ها هو سيِّدي قد حضر. خرج كالأسد وها هو يعود كالحَمَل. أراهن على ذلك.»

سقَط شيء ما في المحل، وبدا كأنه صوت كُرسي، ثم صدَر صوتٌ كأنه صوت تمرينٍ مُعقَّد على الخطو في الرَّدْهَة، ثم انفتح الباب وظهر كومبز، لكنه كان مُختلفًا؛ فالياقة الأنيقة مُمزَّقة باستهتارٍ وقد فارَقتْ عُنقه، والقبَّعة الحريرية النظيفة مُمتلئة حتى نصفها بحفنةٍ من الفطريات وقد تأَبَّطَها. أما مِعْطفه فقد ارتداه بالمقلوب وقد زَركشَتْ صُدْرتَه باقاتٌ من نبات القندول ذي الأزهار الصفراء. وبالرغم مما في زِيِّه من غرابةٍ لا تُلائم أيام الآحاد، فقد طغى عليها ذلك التغيُّر في وجهه؛ لقد كان وجهُه ذا لونٍ أبيضَ باهت، وعيناه لامِعَتين وكبيرتين بشكلٍ استثنائي، أما شفتاه الشاحبتان الزرقاوان فقد ارتسمتْ عليهما ابتسامةٌ عريضة لا بهجةَ فيها. بادَرَهم بقوله: «مَرَح!» ثم توقَّف عن الرَّقص ليفتح الباب، ثم ثنَّى بقوله: «استمتاع عقلاني! رَقْص!» دخل إلى الغرفة بثلاث خطواتٍ مُذهِلة، ثم وقف مُنحنيًا.

صرخَت السيدة كومبز: «جيم!» أما السيد كلارينس فقد جلس مُتحجِّرًا فاغِرًا فاه.

أضاف السيد كومبز: «الشاي. يا له من شيءٍ رائعٍ هذا الشاي! وهذه المقاعد أيضًا يا صاح.»

قالت جيني بصوتٍ واهِن: «إنه ثَمِل.» لكنها لم تَرَ من قبلُ مِثلَ هذا الشُّحوب الشديد ولا ذلك الالتِماع في العينين واتِّساع حدَقَتَيْهما في غيره مِن الرجال الثَّمِلة.

أمسك السيد كومبز بحِفْنةٍ مِن عَيش الغراب القُرمزيِّ وقدَّمَها إلى السيد كلارينس قائلًا: «إنه رائع، فَلْتجرِّبه.»

حتى تلك اللحظة، ظلَّ السيد كومبز لطيفًا، لكن هذا اللطف ما لَبِث أن تحوَّل، في سرعة التحوُّلات الجنونية، إلى غضبٍ مُستبِد، وذلك عند رؤية وجوههم الذاهِلة. بدا كأنه تذكَّرَ فجأةً الشجارَ الذي تسبَّبَ في مُغادرته، فصرخ بصوتٍ مدوٍّ، لم تَسمعْه السيدة كومبز من قبل، آمِرًا: «إنه منزلي وأنا السيد هنا. تناوَلْ ما أُقدِّمه لك!» صاح بتلك الكلمات بلا مجهودٍ وبلا عُنفٍ فيما يبدو، بل وقف ساكنًا وكأنه يهمِس، مُمسِكًا بحِفْنة الفِطر.

أثبَتَ كلارينس أنه جبان؛ فلم يستطع أن يُواجِه الغضب المجنون في عينَيْ كومبز، وإنما نهض، دافعًا مقعدَه إلى الخلف، ثم استدار مُنحنيًا بجسده. وحينَها، اندفع كومبز نحوه؛ فرأت جيني أنَّ تلك فرصتها واندفعت نحو الباب وقد انطلَقَت أصداء صرخة.

تَبِعتْها السيدة كومبز، وحاوَلَ كلارينس أن يُفلِت؛ فقد عبَرَ من فوق طاولة الشاي، لكنه اصطدم بها، وإذا بالسيد كومبز يُمسِك بياقَته، ويُحاوِل أن يحشوَ الفِطْر في فم كلارينس. لم يُمانع كلارينس في ترك ياقته خلفه، واندفع إلى الرَّدْهة وبقايا حمراءُ من عيش الغراب الذُّبابيِّ لا تزال عالِقةً بوجهه. صاحت السيدة كومبز: «احبساه بالداخل!» وهمَّت بإغلاق الباب، لكنَّ رفيقيْها تخلَّيا عنها؛ فقد رأت جيني بابَ المحلِّ مفتوحًا فانسلَّتْ خلالَه مُختفيةً وأغلقتْه من خلفها؛ أما كلارينس، فقد هُرِع إلى المطبخ بسرعة. جاء السيد كومبز مُتثاقِلًا نحو الباب، وحين وَجَدت السيدة كومبز أنَّ المِفْتاح بالداخل، هربَتْ إلى الطابق العلوي وحبست نفسَها في غرفة النوم الإضافية.

وهكذا انطلَق ذلك المُعتنِق الجديد لمبدأ الاستمتاع بملذَّات الحياة إلى الممر، وقد تبعثرَتْ زِينته قليلًا، لكنَّ تلك القُبَّعة الموقَّرة المملوءة بالفطريَّات كانت لا تزال تحت ذراعه. تردَّدَ في أيِّ طريقٍ من الطرُقِ الثلاثة يذهب، ثم قرَّرَ الدخولَ إلى المطبخ حيث كلارينس الذي كان يتحسَّس المِفْتاح وقد تخلَّى عن مُحاولة حبس مُضيفه وفرَّ إلى غُرفة غسْل الآنِيَة، فلم يَرُعْه إلا السيد كومبز يُمسِك به قبل أن يتمكَّن من فتح الباب المُؤدي إلى الفناء. كان السيد كلارينس كتومًا للغاية بشأن تفاصيل ما حدث، لكنْ يبدو أنَّ حالة الغضب العابِرة التي انتابتِ السيد كومبز قد اختفتْ مُجدَّدًا، وعادَ مرَّةً أخرى رفيقًا لطيفًا. ونظرًا لوجود السكاكين وسواطير اللحم بالقُرْب منهما، فقد آثَر كلارينس، بسماحةٍ كبيرة، أن يُجاريه ليتفادى وقوعَ حادثٍ مأساوي. لا شكَّ في أنَّ السيد كومبز قد داعَبَ السيد كلارينس كما يحلو له، وما كان لهما أن يَستمتِعا بهذا القدْرِ من المَرَح والأُلفَة لو كان يَعرِف أحدهما الآخَر منذُ سنوات. لقد أصَرَّ بمرحٍ على أن يُجرِّب كلارينس الفِطْر، وبعدَ شِجارٍ ودِّي، أحسَّ بوخزِ الضمير لما تَسبَّبَ فيه من فوضى بِوجهِ ضَيْفِه، ويبدو أيضًا أنه سحَبَ كلارينس تحت الحوْضِ وفرَكَ وجهَهُ بفُرشاة الأحذِية. ظلَّ كلارينس عازمًا على مُجاراة هذا المَخبول بأيِّ ثمن، وأخيرًا، ساعدَه السيد كومبز على ارتِداء مِعطفه وهو على حالته تلك بِشعرِه الأشعث وثِيابه المُمزَّقة ووجهه المُمتَقِع، ثم صحِبَه إلى الباب الخلفي، إذ كانت جيني قد أغلقتْ باب المحل. اتَّجهت أفكار السيد كومبز الهائمة بعد ذلك إلى جيني، التي لم تتمكَّن من فتح باب المحل، لكنها دفَعَتْ مِزلاج الباب مانِعةً مِفْتاح السيد كومبز من فتحه، واستحوذَتْ على المحلِّ لبَقِيَّة الأُمسية.

يبدو أنَّ السيد كومبز قد عاد بعد ذلك إلى المطبخ، وهو لا يزال في مَسعاه إلى الجزَل والسرور، وبالرغم من أنَّه عضوٌ مُتشدِّد في تنظيم فرسان الهيكل الأخيار، فإنه شرِب (أو سَكَب على مِعطفه الفراك الأول والوحيد) ما لا يَقِلُّ عن خمس زجاجاتٍ من الجِعَة القويَّة الداكِنة التي أصرَّتِ السيدة كومبز على الاحتفاظ بها من أجل صِحَّتها. أطلق السيد كومبز أصواتًا مُبهجةً وهو يكسِر أعناق الزجاجات باستخدام عددٍ من أطباق العشاء التي تلقَّتْها زوجته كهدايا زفافها، وفي أثناء الجزء الأول من هذا السُّكْر العظيم، راح يُغنِّي بعض الأغاني العاطفية البهيجة. جُرِحَتْ إصبَعُه بشدَّةٍ بينما كان يكسِر إحدى الزجاجات، وتلك هي الإصابة الوحيدة في هذه القصة، وبِسبَبِها، وكذلك بِسبَب ما انتابَه من تَشنُّجاتٍ مُنتظِمة نظرًا لعدَم اعتيادِ جسدِه على جِعَة السيدة كومبز، فربما يكون ذلك كلُّه قد خفَّفَ إلى حدٍّ ما من الآثار الخبيثة لسمِّ الفطريات. لكننا نفضِّل أن نُسدِل الستار على تلك الأحداث التي اختُتِم بها عصر هذا الأحد؛ فقد انتهتْ بنومٍ عميقٍ وهنيءٍ في قَبوِ الفَحم.

مرَّت خمس سنوات، ومرَّةً أخرى سار السيد كومبز عصر يومٍ من أيام آحاد أكتوبر في غابة الصَّنَوبر التي تقَعُ وراء القناة. كان لا يزال مُحتفِظًا بهيئته التي عرفْناه بها في بِداية القصة، بعينيه الداكنتين وشارِبه الأسود وحجمه الضئيل، لكنَّ ذِقنه المزدوج لم يَعُدْ وهميًّا تمامًا كما كان من قبل. كان مِعطفه الخارجيُّ جديدًا بطيَّةِ صدرٍ مخمليَّةٍ وياقةٍ أنيقةٍ بِرُكنَين مقلوبين كما أنها لم تكن يابِسةً وخَشِنة كما كانت الياقةُ الأصلية المُستديرة. كان يرتدي قُبَّعةً لامِعة وقُفازين جديدين، بالرغم من أنَّ إحدى الأصابع كانت مَشقوقةً وقد أُصلِحتْ بِعناية. يمكن لِمَن يُلاحِظه عرَضًا أن يرى استقامةَ قامتِه وانتصابَ رأسه، وهو ما يُميِّز الرجلَ المُعْتَدَّ بنفسه؛ فها هو الآن قد أصبح صاحِبَ عملٍ ولديه ثلاثة مُساعِدين، وإلى جِواره سارت صورةٌ أخرى منه قد لفَحتْها الشمس؛ ذلك هو أخوه توم، الذي قد عاد لتوِّه من أستراليا. كانا يَسترجِعان شجاراتهما القديمة، وكان السيد كومبز يتحدَّث عن حالته المالية.

بادَرَ الأخ توم أخاه قائلًا: «إنه عمل صغير جيِّدٌ للغاية يا جيم. في ظلِّ التنافُس الموجود في هذه الأيام، أنت محظوظٌ للغاية إذ تمكَّنْتَ من تحقيق كلِّ ذلك، كما أنك محظوظ للغاية إذ لديك زوجةٌ مُستعِدَّة لمساعدتك، كزوجتك.»

رد السيد كومبز: «دَعْني أُسِرُّ إليك يا توم أنَّ الأمر لم يكن كذلك دائمًا. لم يكن الأمر هكذا دائمًا. ففي البداية، كانت زوجتي طائشةً بعض الشيء. غريباتٌ هؤلاء النساء!»

«يا إلهي!»

«أجل، لن تُصدِّق هذا، لكنها كانت مُبذِّرةً للغاية، ودائمًا ما كانت تُوجِّه إليَّ الإهانات. لقد كنتُ مُتساهِلًا معها ومُحبًّا وعطوفًا أكثر من اللازم، فظنَّت أنَّ الكون كلَّه يدور حولها. جعلت من البيت نُزلًا دائمًا لمعارفها وصديقاتها مِن المَشغَل وكذلك رِجالهن. اعتادوا عزفَ الأغاني الهزليَّة في أيام الآحاد، وكان ذلك مُزعِجًا كما أنه كان يَضرُّ بالتجارة. وفوق كل هذا، كانت تَتغزَّل بالرجال! أؤكِّد لك يا توم أنَّ المنزِل لم يكن منزلي.»

«لم يكن ذلك ليَخطُر ببالي.»

«حسنًا، لقد كان الأمر كذلك، لكنَّني تَناقشتُ معها بعقلانية، قلتُ لها: «إنني لستُ بدَوقٍ كي أعامِل زوجتي كحيوانٍ أليف؛ فقد تزوَّجتُك لتُساعديني وتكوني رفيقتي. عليكِ أن تُساعديني وتدعميني لكي ينجح العمل.» لكنها لم تُعِرْني اهتمامًا؛ فما كان مني إلا أن أردفتُ قائلًا: «حسنًا. إنني رجلٌ ودِيع حتى أثور غضبًا، وإنني على وشكِ ذلك.» لكنها لم تَعبأ كذلك بمثل هذه التحذيرات.»

«حسنًا، ثم ماذا؟»

«هكذا هنَّ النساء. إنها لم تعتقِد بأنني قد أستشيط غضبًا. إنَّ مَن هنَّ على شاكِلَتها من النساء — وَلْيبقَ هذا الحديث سِرًّا بيننا — لا يَحترمْنَ الرجلَ حتى يَهبْنَه؛ لذا فقد ثُرتُ واهتَجتُ لكي تَعرِف أنني قد أفعل. جاءت فتاةٌ تُدعى جيني، كانت تعمل معها، بصُحْبةِ فتاها. دار بيننا شِجارٌ بسيط وخرجتُ إلى هنا — كان يومًا كهذا اليوم تمامًا — ثم عدتُ وانهلتُ عليهم ضربًا.»

«أحقًّا فعلت؟»

«أجل، لقد كنتُ غاضبًا بجنون، أؤكد لك. لم أكن لأضربها لو أمكنَني ذلك؛ لذا فقد اندفَعتُ إلى هذا الفتى، فقط لأُريها ما أنا قادرٌ على فعله. كان فتًى ضخمًا، ثم تركته ورحتُ أُحطِّم الأشياءَ من حولي، فجعلتُها تصرُخ رُعبًا وفرَّتْ وحبست نفسها في الغرفة الإضافية.»

«حسنًا، وماذا بعد؟»

«هذا كل ما حدث. في الصباح التالي، قلتُ لها: «الآن تعرفين كيف أبدو وأنا غاضب.» ولم أُضطرَّ إلى قولِ أيِّ شيءٍ أكثر من ذلك.»

«ثم عِشتُما معًا في سعادةٍ تامَّةٍ منذ ذلك الحين، أليس كذلك؟»

«أجل، إنْ صحَّ هذا التعبير. إنَّ الحلَّ الأمثل هو أن تكون صارِمًا؛ فلَولا عصرُ ذلك اليوم، لَكنتُ الآن مُشرَّدًا في الطُّرُق، ولَظلَّتْ هي مُتبرِّمةً مِنِّي هي وجميع عائلتها شاكين من إفقاري لها؛ فأنا أعرِف طُرقَهم الوضيعة. لكننا الآن على ما يُرام، والعمل كذلك يسير بشكلٍ جيِّدٍ للغاية كما كنتَ تقول.»

تابَعا طريقهما مُتفكرَيْن، ثم قال الأخ توم: «غريبات هؤلاء النساء!»

فأجابه كومبز: «يجب أن تكون صارِمًا معهنَّ.»

علَّق الأخ توم في الحال: «ما لهذه الفطريَّات الكثيرة هنا! لستُ أدري ما فائدتُها في هذا العالَم.»

نظر إليها السيد كومبز قائلًا: «أعتقد أنها قد بُعِثت لسببٍ حكيم.»

وقد كان ذلك مِقدارَ ما نالَتْه القَلَنْسوةُ الأرجوانية من شُكْرٍ لإثارةِ غضبِ هذا الرجل التافِه الضئيل إلى الحدِّ الذي دفعه إلى اتِّخاذِ إجراءٍ صارم؛ ومن ثَمَّ تغيير مسار حياته بأكمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤