الوقوع في الفخ!

كانت قاعة الآثار المصرية القديمة في متحف «المتروبوليتان» في نيويورك، مكتظةً عن آخرها بجمهور الزائرين، هذا بخلاف الطابور الذي امتدَّ للخلف مسافة ثلاثة كيلومترات.

لهذا قرَّرت إدارة المتحف أن تكون مدة الزيارة عشر دقائق فقط لكل مجموعة؛ حتى تتيح الفرصةَ لكل المشاهدين أن يرَوا هذا الحدث الغير عادي؛ فالأمريكيون مولعون بكل ما هو عجيب وغريب، خاصةً وأنه شعبٌ حضارته لا تزيد عن أربعمائة عام، والأمريكيون لا بد وأن يفتنهم ويخلب لبهم تلك الآثار القادمة من وادي النيل، والتي يزيد عمرها عن خمسة آلاف عام.

كانت مجموعة الآثار المعروضة غير عادية … فإلى جانب الحُلِي والأواني، وحتى المقاعد والمناضد المصنوعة من الذهب الخالص، كانت هناك التوابيت المُذهبة الرائعة النقوش، والتماثيل التي تُصوِّر بعض الآلهة الوثنية التي عبدها المصريون القدماء منذ آلاف السنين … وكلها تنطق ببراعة الفنان الذي صنعها … كان ذلك اليوم هو الأخير في أيام المعرض … وبعدها ترحل مجموعة الآثار عائدةً إلى مصر؛ لتستقرَّ في مكانها داخل متحف الآثار … بعد انتهاء جولتها التي استغرقت ستة شهور داخل الولايات المتحدة الأمريكية …

في كل مكان كانت تستقر فيه تلك الآثار الثمينة، كان أهل الولاية أو المدينة تنتابهم سعادة غامرة؛ فيرتدون الملابس المطبوع فوقها صورة ملوك الفراعنة، مثل: «توت عنخ آمون»، و«كليوباترا»، و«نفرتيتي» … أو القبعات التي رسُمت فوقها أشكال ونقوش فرعونية … وينتعلون نفس النوع من الصنادل … والبعض منهم يحسب نفسه سعيد الحظ إذا تمكَّن من اقتناء جعران أو حلية مقلدة قادمة من مصر …

لذلك ما إن أُعلِن إغلاق المتحف في المساء، حتى بدا حزن شديد على الذين لم يُسعدهم الحظ بدخول المعرض ورؤية تلك الآثار … وانصرفوا ساخطين لضياع تلك الفرصة الأخيرة.

ما إن أغلق المتحف أبوابه الحديدية الضخمة حتى تحصَّن الحُرَّاس خارج المتحف في كل الأركان بأسلحتهم الخفيفة السريعة، على حين كانت هناك ثلاث دوريات لرجال الشرطة، تجوب المنطقة التي مُنع عنها المرور …

أمَّا داخل المتحف فكان نظام الحراسة يعتمد على أحدث ما وصل إليه العلم في تأمين الأماكن الخاصة من السرقة … فعلاوةً على أشعة الليزر التي تغطِّي المكان بحيث إنَّ أي اختراق لها من جسم بشري كفيل بإطلاق صفارات الإنذار، كانت هناك أيضًا عدسات تليفزيونية سرية تراقب كافة أنحاء المتحف، وكذلك موجات كهرومغناطيسية تعمل كدوائر مفتوحة، ما إن يقترب منها أي جسم بشري حتى تنغلق لتُطلَق صفارات الإنذار بدورها، هذا بالإضافة إلى عشرات الحُراس المبثوثين في كل مكان داخل المتحف.

كان من المستحيل سرقة المتحف … خاصةً مجموعة الآثار المصرية القديمة التي تمَّ التأمين عليها بمبلغ «مائة مليون دولار»، والتي لا تُقدَّر قيمتها التاريخية بكل أموال الدنيا … وهكذا راحت ساعات الليل تمر في بطء شديد لتستقبل صباح اليوم التالي، حيث تغادر تلك الآثار الولايات المتحدة الأمريكية عائدةً إلى وطنها مرةً أخرى.

كانت الحراسة في اليوم التالي على أشدها؛ فقد راح الفنيون المختصون ينقُلون الآثار الفنية في حذر وحيطة، داخل سيارات مصفحة يستحيل اختراقها، أو حتى نسفها بالقنابل … وكان هناك أيضًا العشرات من رجال الشرطة المُسلَّحين بالمدافع الرشاشة يحيطون بالمكان، ويمنعون أي مخلوق من الاقتراب منه.

بالرغم من ذلك فقد كانت هناك عينان أطلَّتا من بناية بعيدة عالية، وراحتا تراقبان ما يدور بأسفل من خلال نظارة مُقرِّبة في اهتمام بالغ.

عندما انتهى نقل الآثار داخل السيارات المُصفَّحة، أزاح صاحب النظارة المُقرِّبة عدساتها عن عينَيه اللتَين التمعت فيهما نظرة خبيثة ماكرة … نظرة لو شاهدها نصف رجال شرطة نيويورك لأصابهم الرعب … ولو تعرَّف نصفهم الآخر على شخصية صاحبها … لَمَا أُغمِض لهم جفن ليالي عديدة.

كان صاحب تلك النظرة هو «كارلوس فيفا»، الرجل الذي تبحث عنه نصف شرطة العالم؛ لِجرائم أقلها النسف والقتل والتدمير … حيث كان ينتظره حكمٌ بالإعدام من أكثر من ثلاثين دولةً على الأقل.

عندما بدأ طابور السيارات المُصفَّحة في التحرك، تتقدَّمه سيارات الشرطة، وراكبو الدراجات النارية السرية، وخلف السيارات المُصفَّحة كانت هناك قوة مماثلة للتأمين … عندما تحرَّك الطابور مخترقًا شوارع عاصمة ناطحات السحاب في العالم، غادر «كارلوس» مكانه أيضًا … واستقلَّ المصعد من أمام باب شقته إلى الدور الأخير، ثم خطا فوق سطح البناية الشاهقة الارتفاع، وعلى الفور حلَّقت طائرة عمودية فوق المبنى، وألقت بسُلَّم من الحبال المتينة، التقطه «كارلوس» وتسلَّقه إلى داخل الهليكوبتر، التي انطلقت جهة الشمال … وكان ذلك هو نفس الاتجاه الذي سارت صوبه قافلة السيارات المصفحة …

اخترقت القافلة الشوارع المزدحمة، وعبرت كوبري «مانهاتن» الشهير المُعلَّق فوق سطح الماء بجدائل من الصُّلب … ثم انطلقت صوب المطار القريب … كان الطريق يمر عبر بعض الأراضي الزراعية ذات الكثافة السكانية القليلة … وكان المطار المختار قليل الحركة … تستخدمه بعض الشركات التجارية الخاصة بعيدًا عن صخب مطار «كنيدي» الذي تهبط فيه أو تُقلع منه طائرة كل نصف دقيقة … كان المطار لا يزال على مسافة نصف ساعة … وفوق أرضه طائرة خاصة تربض مستعدةً للطيران، وحولها عدد هائل من رجال الشرطة …

لكن شِحنة الآثار الثمينة لم يكن مُقدَّر لها أن تصل إلى المطار أبدًا … ذلك لأن «كارلوس فيفا» كان يربض هناك في مكان ما … ينتظر اللحظة الملائمة للظهور …

كان ظهور «كارلوس فيفا» في أي مكان يعني أن جريمةً ما لا بد أن تقع … ولم يحدث مرةً واحدة … أن غادر «كارلوس» مكان جريمته فاشلًا.

اقتربت قافلة السيارات من كوبري صخري قديم كانت تمر بأسفله قناة مائية صغيرة تروي تلك الأراضي الزراعية على الجانبَين … ومرقت أولى السيارات المُصفَّحة فوق الكوبري، الذي بدأ يتخلخل وتساقطت بعض أحجاره، فصرخ قائد قوة الشرطة المصاحِبة للقافلة في فزع: توقفوا! إن الكوبري ينهار!

توقَّفت بقية القافلة بفرامل حادة، واقترب قائد الشرطة من الكوبري المنهار وراح يتفحَّصه في دهشة بالغة قائلًا: هذا عجيب … عجيب جدًّا! فبالأمس فقط مرَّت قافلة شاحنات ضخمة فوق هذا الكوبري، ولم يتأثر بها، فما الذي جعله يتهدَّم بمثل تلك الطريقة؟!

قال أحد رجال الشرطة مُتشكِّكًا: إنني أشم رائحة بارود أسفل الكوبري …

ألقى نظرةً لأسفل وصاح: ها هي آثار البارود! … لقد قام البعض بتفجير صغير أسفل الكوبري لخلخلته!

تساءل قائد الشرطة في ذهول: وما معنى ذلك؟!

وجاءه الرد على الفور؛ عندما دوَّى انفجار آخر شديد … وتهاوى الكوبري لأسفل وقد تحوَّلت صخوره وأحجاره إلى أشلاء، وسقط بعض رجال الشرطة في قلب الصخور المنهارة في قلب الماء … وصاح قائد الشرطة: تراجعوا للوراء … فالقافلة تتعرَّض للسطو!

لكن تحذيره جاء متأخِّرًا … فمن الخلف انفجرت شحنات مماثلة كانت مخفاةً في مهارة على جانبَي الطريق، فنسفت الطريق الأسفلتي وحوَّلته إلى طريق منهار مليء بالحفر والأتربة … وصاح قائد الشرطة في ذهول: لقد وقعنا في فخ … لا نستطيع التقدم أو الرجوع!

والتفت حوله في غضب هائل قائلًا: من الذي فعل كل ذلك؟ … لماذا لم يظهر هؤلاء المجرمون؟

جاءت إجابة السؤال على الفور. جاءت في شكل رصاصة؛ فأصيب قائد الشرطة، فسقط على الأرض دون حراك …

ثم انفتحت أبواب الجحيم … عندما أطلَّ عشرات من الرجال المُلثَّمين برءوسهم من داخل الأراضي الزراعية القريبة، وانهالوا برصاصاتهم وقنابلهم اليدوية على رجال الشرطة الذين فوجئوا بالهجوم المباغت … وتحصَّن رجال الشرطة خلف سياراتهم، ولكن عددهم راح يتناقص، والرصاص يحصدهم حصدًا … وأسرع بعضهم يتصلون بالرئاسة طالبين النجدة … وفجأةً توقف سيل الرصاص … وبدا على المكان هدوء مريب … وتراجع المهاجمون نحو الزراعات القريبة تاركين المكان …

تساءل أحد رجال الشرطة في دهشة: ماذا يحدث هنا؟ … لماذا انسحب المهاجمون؟

أجابه شرطي آخر: لعلهم خشوا من وصول المزيد من قواتنا …

قال الشرطي الأول: لا أظن ذلك؛ فقد خطَّطوا لعمليتهم جيدًا … ووصول قوات إضافية إلينا سيستغرق أكثر من نصف ساعة …

أكملَ في صوت مُتوتِّر: إنني أشعر أن شيئًا ما سيحدث حالًا … فحاستي السادسة تدلني على ذلك …

ولم يكن رجل الشرطة مخطئًا في ذلك على الإطلاق … فمِن أعلى دوَّى أزيز طائرة هليكوبتر راحت تقترب … ثم تساقط منها شيء بجوار السيارات المصفحة …

صرخ رجال الشرطة وقد ظنوا أن الشيء المتساقط تجاههم قنبلة … ولكن ذلك الشيء لم ينفجِر على الفور … وتصاعد منه بعد لحظات دخانٌ كثيف قاتم اللون، انتشر في سرعة بالغة حول المكان.

وما إن شمَّ رجال الشرطة رائحة ذلك الشيء حتى أدركوا حقيقته على الفور … وعرفوا في نفس الوقت لماذا أسرع المهاجمون بمغادرة المكان … ولكن رجال الشرطة لم يتسع لهم الوقت ليفعلوا نفس الشيء … وتهاوَوا على الأرض فاقدي الوعي بعد أن فعل بهم المخدِّر مفعوله … وبعد دقيقة كانت الرياح قد بدَّدت المخدِّر بعيدًا، أو قلَّلت من تأثيره … فأسرع رجال العصابة المهاجمين نحو قافلة السيارات المُصفحة … وأحضر أحدهم مدفعًا خاصًّا صوَّبه نحو ركن إحدى السيارات المُصفَّحة وأطلقه … وخرج من المدفع الصغير شعاع ليزر حارق … راح يشطر ركن السيارة المُصفَّحة كما لو كانت قطعةً من الحلوى. وتهاوى ظهر السيارة كاشفًا عن الآثار الثمينة بداخله … فانتقل رجل العصابة إلى سيارة أخرى يشطر ظهرها عنها … على حين اندفع بقية رجال العصابة ينقُلون صناديق الآثار إلى داخل طائرتَي الهليكوبتر الكبيرتَين اللتَين هبطتا على مقربة.

وخلال عشرين دقيقة كانت السيارات المُصفَّحة قد فرغت ممَّا كان بها … واستقرَّت صناديق الآثار في بطن الطائرتَين الهليكوبتر الكبيرتَين، ومعهم رجال العصابة.

لوَّح «كارلوس فيفا» لرجاله من قلب طائرته الهليكوبتر الصغيرة سعيدًا … وانطلقت طائرته نحو السماء … وعلى الفور انطلقت الطائرتان الكبيرتان خلفه …

وعندما جاءت سيارات رجال الشرطة إلى المكان … لم يكن هناك ما تفعله … ولا كان بإمكان زملائهم الفاقدي الوعي أن يخبروهم بما حدث … ولا كان هناك أي أثر يدل على طبيعة أو شخصية العصابة التي نفَّذت العملية … ثم تنبَّه أحد رجال الشرطة إلى شيء غريب … فقد كانت أبواب السيارات المُصفَّحة الخلفية المشطورة بالليزر، قد رُسم بنفس الشعاع فوقها رسمٌ عجيب …

رسم للعقرب!

صرخ رجل الشرطة في ذهول: يا إلهي! … إنه العقرب! … لقد فعلها «كارلوس فيفا» وهرب بغنيمته مرةً أخرى … لقد هزَمنا هذا المجرم الجهنمي مرةً أخرى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤