الفصل الأول

(١) ساكنة الكهف

كانت «السعلاة» (أنثى الغول) تعيش في بعض الأزمان السالفة على بعد عشرين ميلًا أو تزيد عن مدينة بنارس: إحدى مدائن الهند المشهورة.

وكانت هذه السعلاة قد اتخذت مأواها (مسكنها) في أحد الكهوف (البيوت المنقورة في الجبال). وعاشت السعلاة في مغارتها المظلمة الواسعة عيشة راضية (سعيدة). وقد خلقها الله سبحانه لتكون آية من آيات العجائب؛ فجعل لها وجه فرس، وجسم فتاة؛ ووهب لها القوة والبأس والشجاعة، فأصبحت تصارع النمرة فتصرعها، وتحارب الجيش فتقهره (تغلبه) بمفردها، وتهزم أبطاله وحدها.

وكانت هذه السعلاة القوية الباطشة الغلابة، تعيش على ما تفترسه من الدواب والآدميين الذين يوقعهم في قبضتها سوء الحظ، ويرميهم في أسرها نكد الطالع (سوء البخت، والطالع هو ما يتفاءل — أو يتشاءم — به بعض الناس؛ من النجوم).

وكانت تتربص الدوائر بعابري السبيل (تترصد للسائرين)، وتقطع الطريق على الذاهبين والعائدين، وتكمن لهم في جنبات الطريق، أو تختبئ بين أشجار الغابة الضخمة، ثم تنقض عليهم فتفترسهم وتعيش على لحمهم أيامًا، حتى إذا نفذ زادها (فرغ طعامها)، بحثت عن فرائس جديدة أخرى.

(٢) الدرويش الهندي

وفي ذات يوم وقع — في قبضة هذه السعلاة — فتى من دراويش الهند. وكان هذا الفتى قد خرج لسوء حظه وحيدًا، وسلك تلك الطريق إلى مدينة بناريس، وهو يجهل أن السعلاة كامنة له فيها.

ولم تكد السعلاة تراه حتى أمسكت به وحملته، ثم أخذت تعدو في سرعة لا يتصورها العقل، حتى إذا بلغت كهفها المظلم الرحيب (الواسع)، أودعت الدرويش (وضعته) فيه، لتأكله متى جاعت.

وكان ذلك الدرويش في مقتبل شبابه، وهو يجمع إلى جمال الخَلق حسن الخُلُق. وقد أعجبت السعلاة بأدبه، وحسن حديثه وبراعة منطقه، فسألته قائلة: «أفترضى — لو أبقيت على حياتك — بالزواج بي، أيها الفتى الدرويش؟»

ولم يكن للدرويش بدّ من تلبية هذا الاقتراح، ليأمن على نفسه من الهلاك.

وقد رأى بعد أن أطال التأمل، وأنعم (دقق) النظر — أن يختار لنفسه أهون الشرين، ويرضى باحتمال أخف الضررين. وهكذا تم زواجه بالسعلاة واشترى حياته بهذا الثمن.

(٣) بعد الزواج

ومرت الأيام على ذلك الزواج وتخلّقت السعلاة الشرسة، بأخلاق زوجها الوديعة الدميئة (اللينة)، وأصبحت على مر الزمن أنيسة لطيفة، وكفّت (امتنعت) عن افتراس الناس، وعافت نفسها لحومهم (كرهتها)، وتغيّرت عاداتها كلها شيئًا فشيئًا، فأصبحت مثال الوداعة والوفاء، بعد أن كانت مثال الشراسة والغدر.

أصبحت السعلاة مثل زوجها عاقلة رشيدة، تكره الإساءة، وتنفر من الأذى. وقد فرح الدرويش بهذه النتيجة السارة، وابتهج لهذا النجاح العظيم.

(٤) حذر السعلاة

ولكن السعلاة على ذلك لم تكن مطمئنة إلى ثبات زوجها على عهده، وبقائه على الوفاء لها، بل كانت — على العكس من ذلك — واثقة من تبرّمه (ضجره وضيق صدره) بهذا الأسر، متثبّتة من تطلّعه إلى الفكاك منه، وشغفه بالحرية، وتحيّنه (ترقبه) كل فرصة تمكنه من الخلاص، وتتيح له الفرار (تيسر له الهرب) ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

ومن ثم كانت السعلاة شديدة الحذر، دائبة الخوف، تتوقع فراره يومًا بعد يوم، وترقبه بين ساعة وأخرى، حتى لا يتحيّن منها غفلة، فيرجع إلى بلده آمنًا مسرورًا. وكانت لذلك تسدّ مدخل الكهف بصخرة كبيرة كلما خرجت منه، حتى إذا أحضرت ما يكفيها ويكفيه من الزاد، فتحت الكهف واطمأنت إلى بقاء زوجها بجانبها.

وهكذا أصبح الدرويش التاعس أشبه بالعبد الرقيق (المملوك) الذي كتب عليه أن يقضي بقية عمره في سجن لا فكاك له من أسره، ولا مطمح (لا مطمع ولا أمل) له في الخلاص منه.

(٥) المولود الجديد

وكانت السعلاة تقضي نهارها متربّصة بالقوافل (الجماعات المسافرة)، الذاهبة والآيبة (الراجعة)، حتى إذا وقعت إحداها في قبضتها، أخذت منها كل ما تريده من الزاد — طواعية أو كرهًا — دون أن تمسّ أحدًا منهم بسوء. ثم تعود إلى زوجها بكل ما جمعته من لذائذ الأطعمة وأطايب الفاكهة.

وانقضت على ذلك شهورة عدة، ثم وضعت السعلاة طفلًا جميل الشكل، بهي الطلعة، تلوح في نظراته — من الشجاعة — دلائل وعلامات، ويبدو على أساريره (خطوط جبينه) — من الذكاء — مخايل (أمارات). ومرّت السنون متعاقبة، فكبر الطفل، وأصبحت المخايل — التي كانت تلوح على وجهه — شمائل (صفات) في نفسه. واكتملت مواهبه (تمت مزاياه التي وهبها الله له)، واشتد ساعده، وأصبح على مر الأيام مثالًا للشجاعة والقوة والنشاط، برغم نشأته في ذلك السجن المظلم. وقد فرحت السعلاة بولدها، وأحبّته حبًا شديدًا، وضاعفت عنايتها بأبيه الدرويش، ولم تدّخر وسعًا في توفير أسباب السعادة لكليهما معًا.

(٦) حوار الوالد وولده

ولم ينس الدرويش وطنه — طوال هذا الزمن الذي قضاه في الكهف — وكان يتطلّع دائمًا إلى الحرية، فما زال يفكر فيها، ويتحسّر على فقدانها، حتى كاد الهم يقتله، لولا أمل أتاحه ولده، فانتعش قلب الدرويش وعاوده الرجاء بعد اليأس، وأدرك أن ظفره بالحرية قريب، وأن خلاصه من الأسر وشيك (سريع).

فقد قال له ولده ذات يوم: «خبرني — يا أبتاه — لماذا اختلف وجهانا عن وجه أمي؟»

فأجابه الدرويش قائلًا: «إنما اختلف وجهانا عن وجه أمك، لأننا آدميّان، أما أمك فهي سعلاة من الغيلان.»

(٧) صخرة الكهف

فقال الغلام لأبيه: «فما بالنا (ما شأننا) نعيش مع هذه الغول في مثل هذا الكهف المظلم، وما بالنا لا نخرج منه لنعيش بين رفاقنا وأبناء جنسنا من الآدميين؟»

فأجابه الدرويش: «إنما اضطررنا إلى ذلك اضطرارًا، فقد سجنتنا أمك السعلاة في هذا الكهف، وسدّت منفذه بهذه الصخرة الهائلة التي لا يقدر على تحريكها أحد، ولولا ذلك لتم لي الفرار — من هذا السجن البغيض — منذ زمن بعيد.»

فعجب الغلام مما سمع، وأسرع إلى الصخرة ودفعها بيده دفعة قوية، فتدحرجت على الفور وانفتح الكهف بعد أن كان مغلقًا.

(٨) في الهواء الطلق

وكانت مفاجأة سارة مدهشة، ولكن الدرويش لم يكد يخرج من الكهف المظلم حتى بهر عينيه الضوء (غلبهما النور)، فكاد يذهب بنورهما. واختلج بصر الدرويش، وأصبح شبه أعمى؛ فأغمض عينيه طويلًا، ثم فتحهما بعد أن عصب رأسه، ثم رفع الغطاء عن عينيه قليلًا، حتى ألفت عيناه الضوء بعد جهد جهيد (بعد تعب شديد).

وقد حمله الصبي، وانطلق يعدو به في سرعة نادرة، حتى جهده السير (أتعبه المشي)، وأضعف قواه. فجلس مع أبيه ليستريح من عنائه، ويجدد من قوته ما يمكنه من استئناف السير.

(٩) مقدم السعلاة

وبينما هما جالسان، إذ طرق أسماعهما صوت أقدام السعلاة، وهي تنهب الأرض نهبًا، وتطوي الطريق طيًا، في اقتفاء أثرهما (السير في طريقهما). ولم تكد تراهما حتى صاحت وهي مغضبة: «الويل لك أيها الزوج الجاحد! والويل لك أيها الطفل العاق! أكذلكما تجزيانني على صنيعي (معروفي) أقبح الجزاء؟ خبراني: ما الذي حبب إليكما الهرب، وأغراكما بالفرار؟ ألم أتخذ لكما فراشًا وثيرًا (لينًا) من ورق الشجر والطحلب (الخضرة التي تنبت على وجه الماء)؟ ماذا أعوزكما (احتجتما إليه) من طعام أو شراب؟ ألم أحضر لكما أشهى ما يشتهيه إنسان من أطايب الثمار ولذائذ الفاكهة!»

فقال لها الغلام: «لقد صدقت يا أماه في كل ما نطقت به، ولكنك حرمتنا شيئًا لا تطيب الحياة إلا به، فحجبت عنا ضوء الشمس، وسلبتنا نعمة الحرية، فلم ننعم بالهواء الطلق والنور البهيج، وهما فيما نرى أحب إلينا من الطعام والشراب.»

فقالت السعلاة: «ارجعا إلي آمنين، فقد منحتكما ما تطلبان، ولن أضنّ (لن أبخل) عليكما بشيء مما تحبان!»

فاضطرا إلى العودة مع السعلاة مرغمين. وقد برّت السعلاة بوعدها، فحطمت الصخرة التي كانت تسد بها منفذ الكهف، وأذنت لهما في أن يجوسا (يمشيا) خلال الغابة وفق ما يحبان، على أن يكفا بعد هذا اليوم عن التفكير في الهرب.

وهكذا أطلقت لهما حرية السير، وظلّت ترقبهما دون أن تشعرهما بذلك. فكانا لا يجتازان في تجوالهما (سيرهما) أكثر من ميل بعيدًا عن الكهف، حتى يسمعا وقع أقدام السعلاة وهي قادمة في أثرهما (خلفهما).

(١٠) في ظلام الليل

وقد عرف الغلام أن سلطان أمه ونفوذها لا يمتدان إلى أكثر من فرسخين ينتهيان بالنهير، وثلاثة فراسخ تنتهي بالجبل من الجهة الأخرى. وظل يعدّ عدته للهرب، حتى إذا رأى الفرصة سانحة لتحقيق إربته، وإنفاذ رغبته، صبر على السعلاة حتى إذا استغرقت في النوم، خرج الغلام مع أبيه في ظلام الليل من الكهف زاحفين. وظلا يجدّان السير حتى اقتربا من النهر، وحينئذ سمعا صوت أقدام السعلاة وهي تطوي الأرض طيًا، وتنهب الطريق نهبًا؛ فلم يثن ذلك من عزم الغلام (فلم يرده عن إرادته)، بل ضاعف من همته، وشحذ (قوّى) من عزيمته، فحمل أباه على ظهره، وظل يعدو (يجري) به مسرعًا حتى بلغ النهر، فسبح فيه حتى توسطه، وأصبح بمأمن من بطش السعلاة. ولم تكد أمه ترى ذلك حتى استولى عليها الجزع فصاحت مولولة: «إليّ.. إليّ أيها العزيزان!»

فقال لها الغلام: «كلا يا أماه، لا سبيل إلى ذلك، فنحن من أبناء آدم، وأنت من بنات السعالي، وما أجدرنا نحن أن نعيش بين أبناء جنسنا وادعين (مرتاحين).»

(١١) الطلسم

فوقفت السعلاة على شاطئ النهر محزونة باكية، وركعت أمامه متوسلة ضارعة، وظلت تسحّ دموعها (تسكبها وتصبها صبًا متتابعًا) على صفحة المياة الجارية، فلم تجد ضراعتها وبكاؤها، وظل ولدها سابحًا حتى بلغ الشاطئ الآخر، فيئست من عودتهما أو اللحاق بهما، ورأت أن البكاء والجزع لن ينفعاها، فصاحت في ولدها قائلة: «إن حُبّيك (حبي إياك)، وإخلاصي لك، وشفقتي عليك، لتأبى عليّ أن آخذك بإساءتك، أو أحاسبك على فرارك، وإني لأخشى عليك أن تفارقني من غير أن أهدي إليك هدية تنفعك في قابل أيامك. فخذ معك هذا الطلسم (الشيء الخفي) العجيب، فإنه سيكون أنفع شيء لك في دنيا الأناسي (بني آدم) التي اعتزمت أن تعيش فيها مع أبيك.»

ثم قذفت إليه بالطلسم قائلة: «إليك يا ولدي هذا الحجر، فخذه ثم علقه في عنقك تميمة (حافظًا يصونك)، فإنك بقوة سحره قادر على اقتفاء كل أثر، ولن تضلّ في تعرفه، ولو مضى عليه اثنا عشر عامًا كاملة، وستوفق إلى تتبع آثار الأقدام مهما تكن قد عفت (ذهب أثرها) وضاعت معالمها، واستحال على غيرك أن يهتدى إليها.»

فشكر لها ولدها ذلك الصنيع، وتلقّف منها الطلسم، ثم علّقه تميمة في عنقه واحتفظ بهذه الذخيرة النفيسة. وسار مع أبيه في طريقهما إلى بنارس بعد أن ودّعا تلك السعلاة الكريمة الوداع الأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤