القلوب الطيبة

استمع الأصدقاء إلى «جلال» وهو يروي القصة بانتباه شديد. وكانت «لوزة» أكثرهم تأثرًا عندما سمعت قصة الرجل المريض وزوجته العجوز، فقالت عندما انتهى «جلال» من روايته: إنني لا أصدق كل هذا، إن الرجل المسكين لم يرتكب جريمة ليبعد عن القصر! وهذه الزوجة المسكينة أين تذهب بزوجها العجوز المريض؟

ظل «تختخ» يستمع إلى تعليقات الأصدقاء دون أن يتحدث مطلقًا، كان سارحًا وكأنه في عالم آخر غير عالمهم، فقالت «نوسة»: في أي شيء تفكر يا «تختخ» إنك سرحان، وكأنك تفكر في القمر.

أغمض «تختخ» عينَيْه وفتحهما بضع مرات ثم قال في صوتٍ هادئ: إنني أؤيد «لوزة» في قولها، إن سلطة القانون يجب أن تكون في خدمة الناس، خاصةً الضعفاء منهم … والذي يشغل بالي الآن شيء لم يلتفت إليه الشاويش … من هو الشخص الذي أرسل الخطابات المجهولة؟ وما هي مصلحته في طرد «عطية» من القصر؟ هذان السؤالان هما اللذان يجب أن نعثر على إجابة عليهما، فمن غير المعقول أن يكون «عطية» هو الذي أرسل الخطابات حتى يصل إليه الشاويش ويطرده من مكانه، فمن هو الذي أرسل الخطابات؟ وهل تصل خطابات أخرى أم لا؟

سكت الأصدقاء جميعًا وهم يستمعون إلى «تختخ» وهو يتحدث، ثم وافقوا جميعًا على وجهة نظره، وقالت «لوزة» بحماسة: اللغز لم يُحل بعد … أمامنا فرصة لحله.

تختخ: علينا أولًا أن نساعد «عطية» وزوجته.

ثم قام مسرعًا إلى والدته وقال لها: أمامنا مشكلة إنسانية لا بد أن تشتركي معنا في حلها يا أماه … فهناك رجل مريض يستحق المساعدة، وزوجة عجوز مسكينة … هل أستطيع أن أشتري للرجل زجاجة دواء للسعال؟

الأم: طبعًا لا بد أن نساعدهما، وعندنا زجاجة دواء ممتاز كان والدك قد اشتراها في الأسبوع الماضي، يمكنك أن تأخذها معك مؤقتًا، وأنا على استعداد للمساعدة؛ فأنا، كما تعرف، عضوٌ في جمعية «السوق الخيرية» والجمعية على استعداد لمساعدة الرجل وزوجته.

قفز «تختخ» إلى والدته، وقبَّلها قائلًا: إنكِ أعظم أمٍّ في العالم. ثم أسرع يأخذ زجاجة الدواء، ويطلب من الأصدقاء ركوب دراجاتهم، ووضع «زنجر» خلفه ثم مَضَت المجموعة مسرعةً إلى القصر الأخضر.

مرةً أخرى دق جرس الباب في القصر الأخضر، فقالت السيدة العجوز لزوجها: يبدو أن الشاويش قد عاد مرة أخرى، لقد انتهت أيامنا في هذا القصر … وعلينا أن نتصل ﺑ «لطيفة هانم» صاحبته لنخبرها أننا سنغادره.

ثم قامت ودموعها تسبقها إلى الباب ففتحته، ولكنها بدلًا من أن ترى وجه الشاويش الغاضب، رأت ستة وجوه تبتسم لها؛ المغامرون الخمسة ومعهم «جلال» وحتى الكلب الأسود العزيز «زنجر» فهم الموقف، فأخذ يهز ذيله، ويطلق نباحًا خافتًا، وكأنه يشجعها على استقبالهم.

قالت السيدة من بعيد: هل هناك خدمة أستطيع أن أؤديها لكم؟

تختخ: نعم، فنحن نريد أن نشرب.

السيدة: ادفعوا الباب وادخلوا، وسوف أحضر لكم الماء.

عندما دخل الأصدقاء إلى الحديقة التفت «تختخ» إلى الأصدقاء وقال: يا لها من حديقة جميلة! «عطية» فنان عظيم؛ فقد نسق الزهور أحلى تنسيق، ولا بد أنه مهندس بارع.

وقف الأصدقاء أمام باب القصر، وعادت السيدة إليهم بالماء فقال لها تختخ: أرجو أن تقبلي مساعدةً بسيطةً منا، لقد سمعنا أن زوجكِ مريضٌ بالسعال فأحضرنا له زجاجة دواء.

قالت السيدة وقد ملأت وجهها ابتسامة طيبة: شكرًا … شكرًا لكم … إنا لم نر منذ مدة طويلة أحدًا يهتم بأمرنا … أو أحدًا يزورنا … وآخر من زارنا أمرَنا أن نترك المعادي.

تختخ: تقصدين الشاويش «علي».

السيدة: نعم يا ولدي … ولا أدري ما هو حكم القانون في هذا الأمر.

بينما كان الحديث دائرًا بين «تختخ» والسيدة العجوز، كان سعال الرجل المريض يرتفع من الداخل واضحًا فقال لها «تختخ»: أرجو أن تسرعي بإعطائه الدواء، وسوف يريحه قليلًا حتى ننقله إلى المستشفى.

أسرعت السيدة إلى الداخل، وتبعها «تختخ» بعد أن طلب من الأصدقاء الانتظار في الحديقة. وكان «عطية» العجوز نائمًا على فراش قديم وقد وضع يده على صدره، وتصبب العرق على وجهه فحياه «تختخ»، ورد التحية بصوت منخفض. وكانت زوجته قد أحضرت ملعقة، وأعطته ملئها من الدواء، فهدأ السعال قليلًا وقال: شكرًا لك، ولكنني لا أعرفك … من أنت ولماذا جئت؟

تختخ: إن اسمي «توفيق» وأصدقائي ينادونني باسم «تختخ»، وقد سمعت عن زيارة الشاويش «علي» لكما، فحضرت لعلني أستطيع تقديم أي معونة لكما.

عطية: إذن فأنت تعرف كل شيء …

تختخ: أعرف بعض المعلومات لا كلها.

عطية: لعل الشاويش قال لك إنني مجرم سابق، وخريج سجون … إلى آخر هذه الألقاب التي أطلقها عليَّ.

تختخ: إنني لم أقابل الشاويش، ولكني سمعت بما قاله وفعله، فما هي حكايتك بالضبط؟

عطية: إن زوجتي تستطيع أن ترويَ لك كل شيء.

تردَّدت السيدة الطيبة قليلًا، ولكن زوجها أشار لها بأن تتحدث فقالت: منذ أكثر من عشرين عامًا تزوجنا، وكانت حياتنا جميلةً ورائعة، وقد حضرت مع زوجي إلى المعادي بعد أن نُقل إليها كمهندس زراعي، واتُّهم زوجي في حادث اختلاس أموال، ولم نستطع إثبات براءته فدخل السجن، وهناك أصيب بمرضٍ في صدره، وعندما خرج وجدني في انتظاره، وحاولنا العثور على عملٍ له، ولكن صحيفة سوابقه كانت تقف بينه وبين العمل، وكان «عطية» هو أول من أنشأ حديقة هذا القصر لصاحبته «لطيفة هانم»، فذهبنا إليها، وعطفت علينا وعيَّنت زوجي بوابًا للقصر … هذه هي القصة باختصار.

تختخ: هل صحيح أن اسمك الأصلي هو «محمد»؟

الرجل: نعم، ولكني غيَّرته حتى لا يتذكرني الناس، وأصبح «عطية» هو اسم الشهرة لي.

تختخ: هناك أسئلة هامة أريد أن أوجهها لك، وأرجو أن تُجيب عليها بمنتهى الدقة، فسوف يساعدني هذا على أن أقدم لكما المساعدة.

عطية: تفضل.

تختخ: هل هناك أي أعداء لك يهمهم أن تُطرد من هذا المكان؟

عطية: ليس لي أعداء، ولا أصدقاء، وليس هذا العمل مهمًّا ليطمع فيه أي إنسان.

تختخ: هل كان هذا القصر يسمى القصر الأخضر في أي يوم من الأيام، قبل أن يسمى باسم «قصر لطيفة هانم» المعروف به في هذه الأيام؟

بدَت على وجه الرجل العجوز علامات الدهشة وهو يستمع إلى هذا السؤال، ثم قال: من أين عرفت هذه المعلومات؟

تختخ: إنني أستنتج فقط.

عطية: الحقيقة أن هذا الاسم يرتبط بمأساة صاحبته «لطيفة هانم»، ولست أستطيع أن أقول لك هذه المأساة الدامية؛ لأنها سرٌّ من أسرار حياة «لطيفة هانم»، هذه السيدة المحسنة الطيبة التي أعطَتْنا المأوى عندما تخلَّى عنا كل الناس.

تختخ: تأكد أن هذا السر لن يخرج من فمي أبدًا، ولكن تغيير اسم القصر يُهمني جدًّا؛ لأنه سيحل كثيرًا من الأشياء الغامضة التي ترتبط بهذا الاسم، وقد يساعدك أيضًا.

قال «عطية» ملتفتًا إلى زوجته: ما رأيكِ؟

الزوجة: إن هذا الصبي الطيب يستحق أن نثق به، وهو على كل حال يستطيع الحصول على المعلومات التي يريدها إذا سأل أي واحد من سكان المعادي القدماء.

اعتدل الرجل في فراشه، وساعدته زوجته على الجلوس، وأخذ ينظر إلى «تختخ» وكأنه يرجوه ألَّا يبوح بالسر ثم قال: لقد كان القصر الأخضر مسرحًا لمأساة عنيفة … فقد كان ﻟ «لطيفة هانم» ولدٌ واحد يُدعى «نبيل»، وقد أسرفت الست «لطيفة» في تدليله، فكانت تلبي له كل طلباته، وكانت النتيجة أنه فشل في دراسته، ثم انضم إلى عصابةٍ للسرقة استطاعَت أن تسرق مجموعة الجواهر الزرقاء التي كان يملكها أحد الأثرياء المصريين، وحضرت العصابة وهي مكونة من ثلاثة إلى القصر حيث اختفى أفرادها عن أعين رجال الشرطة، ولكن الشرطة استطاعت الوصول إليهم، ففرَّ منهم اثنان، ووقع «نبيل» في أيدي رجال الشرطة حيث حُكم عليه بالسجن، ولكنه لم يبقَ طويلًا فيه؛ فقد مات … وكانت صدمة كبيرة لوالدته التي هجرت القصر وسكنت في القاهرة، وغيرت اسمه من القصر الأخضر إلى قصر النباتات ولكن الناس نسوا الاسمين معًا، وأصبح القصر معروفًا باسم قصر «لطيفة» كما تعرفه.

وسكت الرجل بعد أن بذل مجهودًا شاقًّا في الحديث، فشكره «تختخ» ثم خرج إلى الأصدقاء بعد أن وعد الرجل وزوجته بالعودة في اليوم التالي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤