جرائد قديمة

قام «تختخ» مبكرًا، ومرة أخرى تنكر في ثياب تاجر «الروبابكيا»، ثم أخذ طريقه مسرعًا إلى منزل الشاويش «فرقع» حيث وقف بجوار عمود النور، ومعه العربة الصغيرة، وهو يطلق بين وقت وآخر نداءه المرتفع «روبابكيا».

ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى خرجت «سيدة» فتبعها «تختخ» من بعيد حتى وصلت إلى الفيلا التي جاءت إليها قبلًا، فدخلت، وفي هذه المرة لم يبتعد «تختخ» كثيرًا عن الباب، بل جلس بجوار الباب أمام عربته، ينتظر خروج «سيدة»، وبعد نحو ربع ساعة ظهرت «سيدة» ومعها رجل، بدا من شكله أنه ليس مصريًّا، وكان يتحدث إلى «سيدة» في مرحٍ واضح، فدفع «تختخ» باب الحديقة ودخل قائلًا «روبابكيا»، فقال له الرجل: اخرج من هنا، من الذي قال لك إن عندنا روبابكيا للبيع؟

أشار «تختخ» إلى الصناديق القديمة التي في الحديقة وقال للرجل: أرجوك يا سيدي أن تبيع لي بعض هذه الصناديق، فأنا رجل مسكين وفي حاجة إلى المساعدة.

وقبل أن يجيب الرجل قالت «سيدة»: اسمح له يا أستاذ أن يشتري ما يريد، واسمح لي أن أقبض أنا الثمن! هز الرجل رأسه في ضيق وقال: لا بأس … على كل حال لقد انتهت مهمتكِ فلا تعودي إلى هنا مرة أخرى.

دخل «تختخ» إلى الحديقة حيث كانت الصناديق، وأخذ يقلِّب فيها في ضيقٍ ظاهر ثم قال ﻟ «سيدة»: هذه صناديق لا قيمة لها، ولن أكسب فيها شيئًا.

سيدة: سأبيعها لك بأي ثمن، فهم عرب أغنياء ولا يحتاجون إلى هذه الصناديق، وسوف آخذ منك ما تدفعه.

تختخ: تقولين عرب! أليسوا من مصر؟

سيدة: إنهم لا يقولون من أين هم، ولكن من الواضح أن أحدهم على الأقل ليس من مصر؛ فهو يتحدث باللهجة الشامية.

تختخ: وماذا يفعلون هنا؟

سيدة: لا أعرف، وهم لا يفتحون نوافذهم، ولا يتصلون بأحد، وقد كنت أقوم بالطبخ والغسل لهم.

تختخ: الطبخ والغسل فقط … ألم يكلفوكِ بمهماتٍ أخرى؟

غضبت «سيدة» من هذا السؤال وقالت: طبعًا لا.

تختخ: لا تغضبي ولكني لن أستطيع شراء هذه الصناديق الآن، ولكن إكرامًا لخاطركِ ففي إمكاني الآن أن أشتري جرائد ومجلات قديمة.

قالت «سيدة» بعد أن فكرت قليلًا: إنهم يشترون بكثرة، خاصة الجرائد اللبنانية، وأستطيع أن أحضر لك كمية كبيرة منها.

ودخلت «سيدة» من باب المطبخ الخلفي دون أن يلحظها أحد، وغابت فترة ثم عادت بمجموعةٍ كبيرةٍ من المجلات والجرائد القديمة، لم يكد «تختخ» يراها حتى أحس بقلبه يخفق بشدة، ولم يمانع عندما طلبت «سيدة» خمسة وعشرين قرشًا ثمنًا لها؛ فقد دفع لها المبلغ فورًا، ووضع الجرائد في عربته الصغيرة ثم انطلق عائدًا إلى البيت، فوجد الأصدقاء قد حضروا قبل أن يدعوهم ودهشوا كثيرًا عندما دخل «تختخ» غرفة العمليات في تنكره المتقن، ولكن «لوزة» عرفته على الفور.

قال «تختخ» وهو يخلع ثياب تنكره: لقد أحضرت لكم شيئًا، إذا كان هو ما توقعته، فسوف نكون قد حللنا اللغز، فإذا لم يكن هو، فإن كل ما فكرت فيه سيكون مجرد أوهام.

وبعد أن انتهى من خلع ثياب التنكُّر قال ﻟ «محب» و«عاطف»: أرجو أن تنزلا إلى الحديقة، سوف تجدان العربة الصغيرة القديمة التي اشتريتها، وفيها كمية كبيرة من الجرائد والمجلات القديمة فأحضراها حالًا.

وبعد أن انصرف الصديقان قال «تختخ»: علينا أن نذهب بعد قليل إلى «القصر الأخضر» لنحضر «جلال» وزوجة «عطية»، ونرى ما حدث هناك في الليلة الماضية. أحضر «محب» و«عاطف» الجرائد والمجلات، فوضع «تختخ» يده عليها، ثم قال للأصدقاء: ليفتح كلٌّ منكم صحيفة أو مجلة، وأريد أن أختبر ذكاء المغامرين الخمسة، ليعرفوا عن أي شيء أبحث، ومن يجده أولًا فسوف أدعوه إلى كوب من الجيلاتي غدًا.

أمسك الأصدقاء كلٌّ منهم بمجلة، وأخذوا يتصفحونها وفي رأس كل منهم فكرة وفجأة صاحت «لوزة»: وجدته … وجدت الشيء الذي تبحث عنه يا «تختخ».

ثم أشارت إلى ثقبٍ صغيرٍ في إحدى الصفحات وقالت: إنك تبحث عن الكلمات المقطوعة التي استعملها الرجل المجهول في كتابة الرسائل إلى الشاويش «فرقع»، وهذا الثقب يُبين أن كلمة مقطوعة من هنا.

أمسك «تختخ» بالمجلة، وأخذ يقرأ الجملة التي تنقص كلمة فقال: وقد حصل الفائز الأول … جائزة قدرها ١٠٠٠ ليرة، فما هي الكلمة الناقصة أيها المغامرون الخمسة؟ فردوا جميعًا في صوتٍ واحد تقريبًا: علي.

قال «تختخ»: عظيم … إنكم جميعًا أذكياء. ولكن «لوزة» أشدكم ذكاء وأحسنكم حظًّا.

ثم أمسك الأصدقاء ببقية المجلات، فوجدوا جميع الثقوب التي تدل على الكلمات التي استخدمها الرجل المجهول في كتابة الخطابات إلى الشاويش «علي».

فقال «محب»: إنك تستطيع الآن أن ترويَ لنا القصة كاملةً يا «تختخ»؛ فقد عثرت على مفتاح اللغز.

تختخ: نعم، الآن أستطيع أن أروي لكم القصة كاملة ولكن أرجوكم أن يظل كل ما فيها سرًّا بيننا حتى لا يتدخل الشاويش «فرقع» في عملنا، ويهدم كل شيء خاصة أنه يظن أنه حل لغز الرسائل وحده، وسوف يعتقد أننا نعاكسه كالمعتاد، وقد ينبِّه العصابة إلى أننا كشفنا أمرها دون أن يقصد فتفر مرة أخرى.

نوسة: ماذا تقصد بمرة أخرى يا «تختخ»؟

تختخ: إن العصابة التي تسكن الفيلا، التي كانت تتردَّد عليها «سيدة» طباخة الشاويش، هذه العصابة هي نفس العصابة التي سرقت الجواهر الزرقاء، ولا ينقصها إلا «نبيل» الذي مات في السجن وقد زاد عليها شخص من لبنان.

أخذ الأصدقاء ينظرون إلى «تختخ» بإعجابٍ وقد بدأ يروي القصة كاملة.

قال «تختخ»: لا أعرف بالضبط تاريخ سرقة الجواهر … إنما المهم أنه منذ عشرين عامًا قامَت عصابةٌ مكونة من ثلاثة رجال أحدهم «نبيل» ابن «لطفية هانم» بسرقة الجواهر … واستطاعوا الوصول إلى القصر الأخضر، ولكن بعد وصولهم بفترةٍ أحس اللصوص أن الشرطة قد تصل إليهم، ففر اثنان منهم إلى الخارج، بينما بقي «نبيل» في المعادي، حيث استطاع أن يخفي الجواهر في مكان ما من القصر لا يعرفه أحد سواه، ثم قُبض عليه وقبل أن يعترف بمكان الجواهر مات، وبموته وفرار اللصَّيْن، لم يعد من الممكن معرفة مكان الجواهر، ولعل الشرطة بحثت في القصر دون جدوى. وبعد العشرين سنة حضر اللصان مرة أخرى إلى المعادي ومعهما رجل ثالث، لعله مساعد لهما من لبنان، ليحاولوا البحث عن الجواهر التي تساوي آلاف الجنيهات، ولكنهم فوجئوا بوجود «عطية» هناك، فقرروا إبعاده عن القصر حتى يمكنهم البحث عن الجواهر دون أن يشتبه فيهم أحد. وهكذا فكروا في إرسال الخطابات المجهولة إلى الشاويش «علي»، ووجدوا أن أسلم وسيلة هي تقطيع الكلمات من الجرائد ولصقها بجوار بعضها البعض، ليكوِّنوا منها الجمل التي يريدون إرسالها إلى الشاويش. ولما كان اللصان قد غادرا مصر منذ عشرين عامًا، فهم ما زالوا يذكرون اسم القصر على أنه «القصر الأخضر» كما كان يُسمى في تلك الأيام، كما أنهم كانوا يعرفون «عطية» باسم «محمد» … وهكذا أخذوا يرسلون الخطابات إلى الشاويش يطلبون منه طرد السجين السابق «محمد» من «القصر الأخضر»، حتى يتمكنوا من دخوله بأمان، ولم يكد الشاويش «علي» يعرف «عطية» على أنه «محمد» السجين السابق حتى اكتفى بهذا الجانب من اللغز … هذه هي القصة، فهل هناك أسئلة؟

عاطف: ولكن لماذا استخدم اللصان أو اللصوص «سيدة» في إرسال الخطابات بدلًا من إرسالها بالبريد؟

تختخ: لأن أختام البريد يمكن أن تدلَّ على مكان المرسل، ومن الممكن في هذه الحالة مراقبة صناديق البريد والوصول إلى الفاعل المجهول، ولكن «سيدة» قريبة من الشاويش، ويمكن أن تضع له الخطاب حيث تريد دون أن يشتبه فيها؛ لأنها ليست صاحبة مصلحة في الموضوع، وقد استطاع اللصوص الوصول إليها بالطريقة المعتادة فهم يقولون لها إنهم يريدون مساعدة الشاويش دون أن يعرفهم ثم يعطونها بضعة جنيهات فتقوم بالمطلوب منها.

نوسة: ولماذا لا نخطر المفتش «سامي» بكل هذا؛ ليحضر ويقبض على اللصوص؟

تختخ: لأنني لست متأكدًا؛ فقد تكون الرواية، كما رويتها، معقولةً جدًّا، ولكن قد يتضح أنها ليست صحيحة، ولكنني الليلة سوف أتمكَّن من الوصول إلى حقائق مؤكدة، وبعد ذلك سوف أخطر المفتش «سامي» بالطبع بما وصلت إليه ويتولَّى هو الباقي.

بعد هذا الحديث انطلق الأصدقاء إلى «القصر الأخضر» حيث كان «جلال» في انتظارهم، وقد بدَت عليه علامات الاهتمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤