رؤية وتفسيرٌ ديني لرواية «بحر الخصوبة» ليوكيو ميشيما

البوذية وتناسُخ الأرواح ومُعتقَد الوعي فقط

في ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر عام ١٩٧٠م، أكمل يوكيو ميشيما (١٩٢٥–١٩٧٠م) الجزءَ الأخيرَ من رُباعية «بحر الخصوبة»، وبعد أن كتَب آخر كلماتِ الرواية الأخيرة التي أسماها «سقوط الملاك» وفي صباح اليوم نفسه وضع أوراق الرواية في مظروفٍ وأرسلَه بالبريد إلى عنوان شركة النشر، ثم قام بارتداء بِزَّته العسكرية الأثيرة لديه، والتي طلب خصوصًا من أحد أشهر بيوت الأزياء في العالم تصميمَها لجماعته العسكرية التي أنشأها تحت اسم «جماعة الدِّرع»، ثم اصطحب أربعةً من أخلص تلاميذه في الجماعة، وذهب بهم إلى القيادة العامة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية في منطقة إيتشيغايا بالقرب من القصر الإمبراطوري، ليقع الحادث المشهور ﺑ «حادثة إيتشيغايا» في التاريخ الياباني المعاصر، أو حادثة انتحار ميشيما (راجع مقالة الكاتب «الفتى الذي كان يكتُب الشعر فصار أحد أكبر روائيِّي اليابان: يوكيو ميشيما وأزهار الكَرز» فيما سبق).

يدُل ما سبق على أن ميشيما كان حريصًا كل الحرص على الانتهاء من رواية رُباعية بحر الخصوبة، وحريصًا أيضًا على وصولها للقُراء بشكلٍ مؤكَّدٍ وفي أسرع وقتٍ ممكن؛ إذ إنه لو تركَها كمُسوَّدة بين إرثه لربما أهملَها الورثة اعتقادًا أنها لم تكتمل، أو لَتأخَّر ظهورها على أقل تقدير، لمعرفته بما هو مُقدمٌ عليه وما سيُحدثهُ فعله من جلبةٍ ودويٍّ هائلٍ لا يتوقَّف عند حدود اليابان، بل يتخطَّاها إلى كل أنحاء العالم؛ وبالتالي لن تكون عائلته المسكينة التي تُركَت بين حزنها عليه وبين هجومٍ شديدٍ ولاذعٍ من المجتمع الياباني المحافظ الذي استنكر بشدةٍ فِعلةَ ميشيما، واعتبرها ضربًا من التهوُّر والجنون غير المحمود.

إذن ما هو محتوى رواية رُباعية بحر الخصوبة تلك التي حَرَص ميشيما كل ذلك الحرص على إكمالها وإيصالها للعالم قبل موته منتحرًا بالشكل الذي شَرحتُه. هذه المقالة تُناقش تلك الرواية بأجزائها الأربعة لتُحاوِل الوصول إلى مغزاها الديني والفلسفي الذي ضمَّنه ميشيما في كل أعماله التي تخطَّت مبيعاتُها المائتَي مليون نسخةٍ في كل أنحاء العالم.

اسم الرواية «بحر الخصوبة» هو ترجمةٌ قام بها ميشيما نفسه لكلمةٍ لاتينية هي Mare Foecunditatis وهي تُشير إلى بحرٍ من البحار الموجودة على القمر، والذي يتناقض اسمه مع واقعه. تتكوَّن رُباعية بحر الخصوبة من أربعة أجزاء كما تدُل كلمة رباعية، نُشِر كل جزءٍ منفصلًا عن الآخر وباسمٍ مستقل وبعد الانتهاء مباشرةً من كتابته؛ فنُشِر الجزء الأول تحت اسم «ثلج الربيع» في مجلة «شين تشو» أو التيار الجديد، بدءًا من شهر سبتمبر عام ١٩٦٥م حتى شهر يناير عام ١٩٦٧م، ونُشر الجزء الثاني «الجياد الهاربة» في نفس المجلة، بدءًا من شهر فبراير من نفس العام حتى أغسطس عام ١٩٦٨م، ونُشر الجزء الثالث «معبد الفجر» نُشر من شهر سبتمبر من عام ١٩٦٩م حتى شهر أبريل من عام ١٩٧٠م، أما الجزء الرابع والأخير «سقوط الملاك» فقد نُشر من شهر يوليو من نفس العام، ونُشرَت آخرُ حلقةٍ منه كما ذكَرنا بعد انتحار ميشيما في يناير من عام ١٩٧١م، وبعد حرصه على تكملتِه وإرسالِه للنشر قبل لحظاتٍ من بَقرِ بطنه بيده ليُلاقي مصيره المحتوم، ويُقابل الحقيقة الكبرى التي ظل يبحث عنها من خلال مؤلَّفاته طَوالَ حياته القصيرة نسبيًّا، مقارنة بمتوسط العمر الطويل لليابانيين.

بلغ عددُ صفحات الأجزاء الأربعة من رواية «بحر الخصوبة» حوالي ١٣٠٠ صفحةٍ في الطبعات الأربعة الأولى (طبعة كبيرة الحجم مُجلَّدة)، وقد تُرجمَت الرُّباعية بمجلَّداتها الأربعة إلى اللغة العربية، عن طريق لغةٍ وسيطة هي اللغة الإنجليزية، على يد الأستاذ كامل يوسف حسين، وصدَرَت الرُّباعية كاملةً عن دار الآداب ببيروت، فيما يقترب من الألف وتسعمائة صفحةٍ من القَطْع المتوسط، نُشرَت طبعة «ثلج الربيع» الأولى في عام ١٩٩٠م، والطبعة الأولى من «الجياد الهاربة» في عام ١٩٩١م، ونُشرَت الطبعة الأولى من «معبد الفجر» في عام ١٩٩٣م، ونُشرَت الطبعة الأولى من الجزء الرابع «سقوط الملاك» عام ١٩٩٥م.

يقول العالمُ والناقدُ الياباني المرموق د. ناوكي كومورو عن رُباعية بحر الخصوبة: «إذا سألَني أحدكم عن أفضل كتابٍ يشرح لليابانيين فلسفة الديانة البوذية التي تبلُغ صعوبتُها حدًّا لا مثيل له، فسأرشِّح له آخرَ رواياتِ يوكيو ميشيما رُباعية «بحر الخصوبة».»

لنُلقِ الآن نظرةً سريعةً على مُلخَّص أحداث الرواية.

تبدأ الرواية بالجزء الأول «ثلج الربيع» ويحكي فيه ميشيما قصةَ حب رومانسيةً حالمة بين بطلَي الرواية «كيوأكي ماتسوغاي» وحبيبته «ساتوكو أياكورا» اللذَين ينتميان معًا لطبقة النبلاء؛ فقد أرسل والدُ كيوأكي ابنَه إلى منزلِ عائلة أياكورا النبيلة ذات المرتبة الأعلى من مرتبة عائلة ماتسوغاي لكي يتربَّى كنبيلٍ عظيمٍ ويُتاح له مستقبلٌ زاهر. أما ساتوكو فهي ابنة عائلة أياكورا الوحيدة التي تكبر كيوأكي بعامَين، وتتربَّى معه. وفي يومٍ من الأيام يعتقد كيوأكي مُرهَف الحِس أن ساتوكو تُعامله معاملة الأطفال بسبب فرق السن بينهما، فتنجَرح كرامته ويبدأ في الابتعاد عنها. هنا تيأس ساتوكو من حُبها له وتُوافِق على أن تُخطب لأحد أمراء البيت الإمبراطوري. وعندما يتحدَّث والد كيوأكي عن خطبة ساتوكو أمام كيوأكي يكون ردُّ فعلِه باردًا لدرجة أن يردَّ بقوله إنه من الأفضل لها الإسراع بإتمام الزواج. ولكن ساتوكو تكتشف أن حبها لكيوأكي أعمقُ وأكبر مما كانت تعتقد. وأخيرًا صدَرَت الموافقة السامية على زواج ساتوكو من الأمير، ولكن حُب ساتوكو يعود من جديد ليستولي على قلب كيوأكي. وبدخول ساتوكو رسميًّا في رحاب العائلة الإمبراطورية سيُصبِح لقاء الحبيبين السابقين مستحيلًا. هنا يُهدِّد كيوأكي وصيفة ساتوكو المسمَّاة تاديشينا، ويطلب منها أن تُرتِّب له لقاءً سريًّا مع ساتوكو. وتُوافِق ساتوكو على ذلك، وبمعاونة صديقه الحميم هوندا تتكرَّر تلك اللقاءات حتى وصل الأمر إلى أن تحمل منه ساتوكو سِفاحًا. حاولَت تاديشينا أن تُقنع ساتوكو بإجهاض الجنين ولكن ساتوكو ترفض، فتحاول تاديشينا الانتحار.

وبسبب ذلك تعرف العائلتان ما بين ساتوكو وكيوأكي، فيقوم الماركيز ماتسوغاي والد كيوأكي بتعريف ساتوكو بطبيبٍ في مدينة أوساكا يقوم بإجهاضها، وتقوم ساتوكو بحلاقة شعرها تمامًا لتدخُل بعدها مباشرةً سلكَ الرهبنة في معبد غيشُّوجي في نارا. ويتم إلغاء القرار الإمبراطوري بزواجها من الأمير هارونوري توئين بسبب اختلال الحالة النفسية لساتوكو.

يذهب كيوأكي في السادس والعشرين من فبراير وسط تساقُط ثلوج الربيع إلى معبد غيشُّوجي البوذي لكي يرى ساتوكو ولو لنظرةٍ واحدة، ولكن يتمُّ ردُّه من على الباب ولا يستطيع لقاءَها. يُصِر كيوأكي على مقابلة ساتوكو إلا أنها ترفُض ذلك رفضًا تامًّا. وبسبب انتظاره الطويل وسط الثلوج يُصاب كيوأكي بالتهابٍ رئويٍّ حاد يتسبَّب في وفاته شابًّا في العشرين من عمره، ولكن كيوأكي قبل موته يُبلِغ هوندا أقربَ أصدقائه إليه بعودته مرةً أخرى للحياة من خلال التناسُخ، ويقول له: «سنتقابل مرةً أخرى يا صديق. سنتقابل عند الشلَّال.»

بهذا ينتهي الجزء الأول من الرُّباعية ممهِّدًا للجزء الثاني «الجياد الهاربة»، الذي تدُور أحداثُه بين عامَي ١٩٣٢م و١٩٣٣م، وفيه يصير هوندا، الذي بلغ من العمر ٣٨ بعد مرور ١٨ عامًا على وفاة كيوأكي، وقد أصبح قاضيًّا في المحكمة العليا بأوساكا، ثاني أكبر مدن اليابان. عند ذهابه لمشاهدة مباراة في رياضة الكندو اليابانية تتوقَّف عينُ هوندا على شابٍّ يبلُغُ من العمر ١٨ عامًا، يلعب بسيفٍ من خشب الخيزران، بلا أي هفوة. ويعرف أن هذا الشاب هو إيساو إينوما بن شيغيوكي إينوما الذي كان يعمل كاتبًا عند كيوأكي. بعد المباراة يلتقي هوندا مع إيساو مصادفةً بجوار شلَّال سانكو في جبل ميواياما، ويكتشف وجود ثلاثِ شاماتٍ سوداء في بطنه تُماثل الشاماتِ الثلاثة التي كانت لدى كيوأكي، ويذهَل هوندا عندما يتذكَّر قول كيوأكي له عند موته.

كَوَّن إيساو مع أصدقاء له جماعةً باسم «رابطة النقاء»، بهدف العمل على تطهير عالَمَي السياسة والاقتصاد من الفساد ولو بالسيف. ويتقرَّب إيساو من ضابطٍ في القوات البرية للجيش الإمبراطوري يُدعَى هوري، وكذلك تقابَل مع الأمير هارونوري توئين؛ وبالتالي زاد عدَد أعضاء الجماعة، وتأمَّل إيساو في تعاوُن الجيش مع مخطَّطه.

يدعو إينوما والد إيساو هوندا إلى منطقة ياناغاوا في محافظة شيزوأوكا ليرى هناك أُناسًا بزيٍّ أبيضَ يُحاولون تهدئةَ روح إيساو. ويقول والد إيساو لابنه: «أنت بلا أي شك، إلهٌ هائج.» وكان ذلك المشهد بحذافيره يُوجَد في مذكِّرات أحلام كيوأكي. وعندها يتأكد هوندا تمامًا من أن إيساو هو روح كيوأكي قد تناسَخَت ووُلدَت من جديد.

يُنقل النقيب هوري إلى منشوريا، وبذلك نقص عدد رفقاء إيساو، ولكنه يظَل مع باقي الرفاق التفكير والتخطيط في سريةٍ كاملةٍ لتنفيذ عملية اغتيالاتٍ تستهدف كبار رجالات السياسة والاقتصاد، ولكن تتسرَّب الخطة بشكلٍ ما، ويتم إلقاء القبض على إيساو ورفاقه قبل التنفيذ. وعلى الفور يُقرِّر هوندا الاستقالة من القضاء والتحوُّل إلى محامٍ ليعمل على الدفاع عن إيساو ورفاقه لإنقاذهم. وبفضل دفاع هوندا يحصُل إيساو ورفاقه على البراءة بعد عامٍ كاملٍ من التقاضي والمحاكمة، ويتم إطلاقُ سَراح الجميع، ولكن يذهَل إيساو عندما يعرف أن والده هو الذي سرَّب خطة الاغتيالات، ويسمع هوندا «إيساو» يقول وهو في حالة سُكْرٍ بيِّن: «الجنوب … أقصى الجنوب داخل أشعة وردةٍ بلدية في دولةٍ جنوبية …»

في التاسع والعشرين من ديسمبر يختبئ إيساو عن أنظار الجميع، ويتوجَّه إلى جبل إيزو حاملًا معه خنجرًا صغيرًا، ثم يتسلَّل إلى البيت الريفي ﻟ «تاكيسيكي كوراهارا» ويغتالُه. ويهربُ من الحُراس الذين تتبَّعوه، وفي الليل يصعد إيساو إلى جبلٍ عالٍ يُطِل على البحر ويُقدِم على الانتحار ببَقرِ بطنه.

الجزء الثالث «معبد الفجر» تدور أحداثه على قسمَين؛ الأول في فترة وقوع الحرب العالمية الثانية، من عام ١٩٤١م وحتى عام ١٩٤٥م. والثاني يدور في عامَين فقط هما عام ١٩٥٢م، ثم بعد مرور ١٥ عامًا؛ أي في عام ١٩٦٧م.

يذهب هوندا الذي بلَغ السابعة والأربعين من العمر لزيارة أمير تايلاند في بلده بانكوك، وهو الذي كان على علاقةٍ جيدة مع كيوأكي. وهناك يقابل الأميرة جين جان التي تقول إن روحها هي ميلادٌ جديدٌ لرجلٍ ياباني. وعندما ترى جين جان هوندا تقول إنها كانت تَحِن إلى لقائه، وتعتذر عن الرحيل دون إبلاغه. وتقوم بالرد بإجاباتٍ صحيحةٍ تمامًا عن اليوم الذي تم القبض فيه على إيساو، وتاريخ مقابلة هوندا وكيوأكي أمام أطلال بوابة حديقة قصر ماتسوغاي، وأظهرت بوضوحٍ أنها فعلًا الميلاد الجديد لكيوأكي، ولكن بعد ذلك وأثناء نُزهةٍ مع الأميرة، لم يجد هوندا في جانبِ بطنها الثلاثَ شامات المميزة لكيوأكي. يُسافر هوندا إلى الهند وهناك يخوضُ عدة تجاربَ عميقة. ويعود إلى بانكوك حاملًا هدايا لجين جان من الهند، فتتشبَّث به في الوداع باكية، ليعود إلى اليابان وفي قلبه مرارةُ الفِراق، وتشبُّ الحرب بين اليابان وأمريكا بعد عودته بأيام.

بسبب تجارِبه في الهند وتناسُخ رُوح صديقه، يغرق هوندا في عالَم تناسُخ البوذية وعالَم نظرية الوعي فقط، أثناء الحرب ينهمكُ هوندا في كُتب أبحاث البوذية المتعدِّدة. في أحد الأيام وعند ذهابه في مهمة عملٍ يمُد خطواتِه إلى أطلال قصر ماتسوغاي، فوجده قد احترق ولم يبقَ منه إلا بقايا الحريق، ولكنه يلتقي مصادفة بالخادمة تاديشينا التي بلغَت من العمر أرذلَه. وأراد هوندا أن يقابل ساتوكو ولكنَّه لم يستطع ذلك بسبب صعوبة الأوضاع في أثناء الحرب.

في القسم الثاني من الجزء الثالث، يحصُل هوندا الذي بلغ من العمر الثامنة والخمسين على مبالغَ طائلةٍ بعد نجاحه في عمله في قضايا نزاعٍ على ملكية أراضٍ، فيبتاع أرضًا في منطقة غوتنبا التي تُطِل على جبل فوجي ويبني فيها فيلَّا لسَكَنه. وتسكُن بجواره كيكو هيساماتسو التي تبلُغ حوالي الخمسين من العمر، وهي سيدة مُترَفة وتُصبح صديقةً لهوندا ومن أصدقائه الذين يتردَّدون على فيلَّته، ولكن هوندا كان يتلهَّف على مجيء جين جان التي أصبحَت في سن الثامنة عشرة وأتت إلى اليابان للدراسة.

عندما قابل هوندا جين جان أبلغَته أنها لا تتذكَّر أي شيءٍ عن قولها في طفولتها إنها ميلادٌ جديدٌ لروح صديقه كيوأكي. رغم فارق العمر الكبير وقع هوندا في عشق جين جان التي صارت جميلةً وجذَّابة. بسبب عِشقِه لها يقوم هوندا بالتلصُّص عليها في غرفتها في فيلَّته من خلال ثُقب في الجدار، فيجدها تتعانق عاريةً مع كيكو، ولكن ما أدهشَه هو وجود ثلاث شاماتٍ بجنب البطن، ولكن بعد ذلك يقع حريقٌ في الفيلَّا، وتعود جين جان إلى بلادها، وتنقطع أخبارها. بعد خمسة عشر عامًا يذهب هوندا لحضور حفلٍ في السفارة الأمريكية بطوكيو وهناك يُقابل امرأةً تشبه جين جان تمامًا. ويعرف أنها تَوءمُها وتُبلغه أن جين ماتت في العشرين من عمرها عندما لدغها ثعبانٌ من نوع الكوبرا في حديقة منزلها.

الجزء الرابع والأخير من رُباعية «بحر الخصوبة» هو «سقوط الملاك»، وترجمة العنوان بالعربية هي ترجمةٌ مباشرة للعنوان باللغة الإنجليزية المنقولة عنها النسخة العربية، ولكن عنوان الرواية باللغة اليابانية عبارة عن تعبيرٍ دينيٍّ ينتمي للبوذية هو باللغة اليابانية، (تن نين غو سوي) ويُشير إلى الأعراض التي تعتري ساكنَ السماء في أعلى عالمٍ من عوالم التناسُخ، عندما يقترب منه الموتُ ويُوشِك على الانتقال من حياته في علياء السماء إلى عالمٍ آخرَ غيرِ معروف ربما يكون السماءُ مرةً أخرى، أو الأرض في صورة بشَر، أو ربما تحت الأرض في صورة شياطين.

أحداثُ الجزء الأخير من عام ١٩٧٠م وحتى صيف عام ١٩٧٥م، ونُلاحظ أن ميشيما يتحدث في تلك الفترة عن الحياة في المستقبل القريب، بل وبعد رحيله هو عنها (وهو ما نزعُم أنه يعرف ذلك).

هوندا الذي بلغ من العمر السادسة والسبعين، رحلَت عنه زوجته، فأصبح كثير السفر مراتٍ كثيرةً وحيدًا ومراتٍ أخرى مع صديقته كيكو هيساماتسو التي قاربَت السبعين من العمر. وفي إحدى رحلاته قابل هوندا فتًى في السادسة عشرة من عمره يُدعَى تورو ياسوناغا، يعمل في ميناء شيميزو كعامل إشارةٍ للسفن. يعتقد هوندا أن تورو هو ميلادٌ جديدٌ لروح صديقه كيوأكي، بعد أن يُشاهد الثلاث شاماتٍ في جانب بطنه الأيمن، فيقوم بتبنِّيه ويُربيه تربية العظماء من حيث التعليم ويؤدِّبه بأدبٍ راقٍ كي لا يموت صغيرًا كما حدث مع كيوأكي وإيساو.

ولكن يشعر هوندا أن تورو يُشبهه تمامًا في تركيبة الوعي الذاتي؛ ولذا يشعر أنه ليس تناسخًا حقيقيًّا لروح كيوأكي. ويتحوَّل تورو تدريجيًّا إلى الشر، ويُسقِط خطيبتَه موموكو ثم يفسَخ خطوبته معها. وبعد أن يلتحق بجامعة طوكيو القومية يبدأ في الإضرار بهوندا، والده بالتبَني الذي بلغ الثمانين من العمر.

وبسبب الضغط النفسي الواقع على هوندا من تعذيب تورو له يعود مرةً أخرى لعادة التلصُّص على العُشَّاق في الحدائق العامة التي كان قد تاب عنها منذ أكثر من عشرين عامًا. ويتم القبضُ عليه من الشرطة بسبب ذلك، ويُنشر ذلك الأمر في إحدى المجلات الأسبوعية. وينتهزها تورو فرصةً لكي يقوم بمحاولةِ وضع هوندا تحت الحَجْر العقلي ليُصبح هو الحاكم الآمر في ممتلكات العائلة، فتقوم كيكو هيساماتسو التي تُخمِّن فعل تورو باستدعائه وإبلاغه بسبب تَبنِّي هوندا له وحكاية الثلاث شاماتٍ وموضوعِ التناسُخ، وتنعته بالابن المزوَّر. تورو الذي انجرحَت كرامتُه بشدة يستعير مذكِّرات الأحلام من هوندا ويقرؤها، ثم يُقدِم على الانتحار بتجرُّع السُّم في الثامن والعشرين من ديسمبر. تفشل محاولة الانتحار ولكنه يَفقِد بصره بسببها. بعد ذلك يتعلم تورو طريقة برايل في القراءة، ويعيش حياةً هادئة تتغيَّر فيها شخصيته تمامًا، ويتزوج من فتاةٍ عنيفة المِزاج تُسمَّى كينوئه ويُصبح ألعوبةً في يدها وكأنه إنسانُ السماء الذي بدأَت عليه أعراض الشيخوخة والموت. من جانبٍ آخر «هوندا» الذي توقَّع موعد موته يذهب إلى معبد غيشوجي في نارا لملاقاة ساتوكو بعد فراقٍ لمدة ستين عامًا. وهنا في نهاية النهاية يجعل ميشيما عاليَها واطيَها؛ فحبيبة كيوأكي السابقة ساتوكو أياكورا التي بلغَت الثانية والثمانين من العمر وأصبحَت كبيرة رهبان معبد «غتسوشوجي» التابع لطائفة «فاكسيانغ زونغ»، تقول لهوندا ما يلي:

«لم يَسبِق لي السماع عن شخصٍ باسمِ «كيوأكي ماتسوغاي» من قبلُ. ألا تعتقد أن هذا الشخص لم يكن له وجودٌ من الأصل؟ ربما جاءكَ أنتَ إحساسٌ بوجوده، ولكن الواقع أنه من البداية لم يكن له وجودٌ في أي مكان، ألا تعتقد أن تلك هي حقيقة الأمر؟»

في يومٍ من أيام الصيف الحار، هوندا الذي يرى أمامه حديقةً في غاية الهدوء يشعُر أنه جاء إلى الفراغ.

يقول ميشيما عن روايته بحر الخصوبة: «بعد أن أصبحتُ روائيًّا، كنتُ على الدوام أرغبُ في كتابة روايةٍ لتفسير هذا العالم.» يُمكننا القول إن تلك الرواية بالفعل شكَّلَت وجهة نظر ميشيما تجاه هذه الدنيا.

جعل ميشيما من فلسفة «الوعي فقط» في البوذية خطًّا مساعدًا لشرح أحداثها، وجعلها أفضل وأنسبَ كتابٍ للتعريف بمبادئ البوذية وفلسفة الفراغ.

البوذية بها العديد من الطوائف، ولكن هناك طائفةٌ هي مجرد تعاليم فقط؛ فليس لها أتباعٌ وليس لها مقابرُ خاصة بها. وهي طائفة الوعي فقط المُسمَّاة باللغة الصينية «فاكسيانغ زونغ» وباللغة اليابانية «». هذه الطائفة التي يستحيل وجودُها من وجهة النظر الدينية الغربية العادية، هي طائفةٌ تتمسَّك بتعاليم الديانة البوذية الجذرية. أحد المواضيع الهامة والأساسية لرواية «بحر الخصب» هي التفسيرُ الكامل لطائفة «فاكسيانغ زونغ».

أغلب النقَّاد والقُراء حتى الآن يعتقدون أن روايةَ «بحر الخصوبة» هي روايةٌ عن تناسُخ الأرواح فقط، ولكن الأمر ليس كذلك.

يُصمِّم ميشيما الأجزاء الثلاثة الأولى من تركيبة الرواية وكأنها روايةٌ عن تناسُخِ الأرواح.

إذا فسَّرنا كلمات ساتوكو الأخيرة تفسيرًا صحيحًا، وفهمنا المعنى الحقيقي لحرق تورو يوميات أحلام كيوأكي التي كان هوندا يحتفظ بها باهتمامٍ بالغ، نستطيع فهم أن ما يريد ميشيما قوله هو أن روح الإنسان لا يحدُث لها تناسُخ أو إعادة ولادة.

وبهذا الشكل في نهاية النهاية يُنكر ميشيما بكل وضوحٍ تناسُخ وتوالُد الأرواح، وهنا تظهر بوضوح «نظرية الوعي فقط» التي جعلها ميشيما محور رواية بحر الخصوبة.

«نظرية الوعي فقط» هي في منتهى الصعوبة على الأفهام. وهي في كلمةٍ واحدة «كل الأشياء تتقلَّب وتتغيَّر»، كل شيء يتغيَّر ويتحوَّل.

منطق الفراغ في البوذية يقوم على أن كل شيءٍ مؤقَّت، وله علاقةٌ ببعضه، ولكن لا يُوجد في الواقع أي وجودٍ فعليٍّ حقيقي.

الخُلاصة هي أن ميشيما الذي أنكر تناسُخ الأرواح، ترك للقُراء حل التساؤل: ما هو إذن الشيءُ الذي يتوالد ويتغيَّر ويُبعث من جديد؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤