كوتارو إيساكا وملَك الموت

عندما يتحوَّل عزرائيل إلى موظَّفٍ حكومي!

يُعتبر كوتارو إيساكا أحد أبرز الأدباء الشُّبان في اليابان حاليًّا؛ فهو يحظى بإعجاب النقاد الشديد، ويحصُد الجوائز الأدبية الهامة، وفي ذات الوقت يحصُل على متابعة القُراء، وتتصدَّر أعمالُه قوائم المبيعات في اليابان، البلد التي تُصدِر أكثر من مائتَي عنوانٍ كل يوم، وتلقَى الأعمال المنشورة منافسةً شديدةً في أسواق البيع لكثرتها وتنوُّعها ولثرائها الفني في نفس الوقت. يُرشِّح الكثيرون من النقاد كوتارو إيساكا ليكون خليفة هاروكي موراكامي في المكانة الأدبية والانتشار العالمي، لتشابُه الأسلوب الأدبي والبناء الدرامي للعمل الفني، ويُعتبر في طليعة الأدباء الذين يُطلَق عليهم «أبناء هاروكي» أو «هاروكي تشلدرن»، وإيساكا لا ينفي إعجابه الشديد بموراكامي، ولكنه يقول إنه لم يتأثَّر به بشكلٍ مباشر، وإنه لا يُحاوِل تقليده أبدًا، وإن أسلوبه في الكتابة يختلف عن موراكامي كثيرًا.

وُلِد كوتارو عام ١٩٧١م في محافظة «تشيبا» المجاورة لطوكيو، وتخرَّج من كلية الحقوق جامعة توهوكو في شمال شرق اليابان. ولا يزالُ يسكنُ حتى الآن في مدينة سِنداي شمال شرق اليابان.

وأصدَر حتى الآن العديدَ من الروايات والقصص القصيرة والمقالات منذ أن نشَر أول روايةٍ له في عام ٢٠٠٠م، وهي روايةٌ بوليسيةٌ باسم «صلاة أودوبون»، والتي حصل بها على جائزة دار نشر شينتشو للأعمال البوليسية المثيرة. وبعد ذلك حصل على سبع جوائزَ أدبيةٍ رفيعةٍ ورُشِّح أكثر من مرةٍ لجائزة ناوكي أشهَر جوائز اليابان في الأدب.

أغلبُ روايات إيساكا تأخذُ طابع الإثارة والتشويق كرواياتٍ بوليسيةٍ ذات حبكةٍ دراميةٍ تدور حول الجريمة والبحث عن القاتل. وربما كان ذلك هو أحد أسباب انتشاره الجماهيري؛ لأن الروايات البوليسية هي النوعُ الأكثرُ مبيعًا في اليابان في المجال الروائي؛ حيث يُريد الياباني المُحب القراءة الحصول على عملٍ خفيفٍ ومُسلٍّ يشوقه ويجذبه بأحداثه لنهاية الرواية التي يقرؤها في الأغلب الأعم واقفًا أو جالسًا في القطار الذي يأخذه من بيته إلى عمله وبالعكس، في مسافةٍ قد تصلُ إلى ساعتَين كاملتَين يوميًّا ذهابًا وإيابًا، ثم يُلقي بها في سلَّة المهملات باحثًا عن روايةٍ بوليسيةٍ جديدةٍ. ولكن أعمال إيساكا ليست من الخفَّة لوصفها بالرواية البوليسية وكفَى؛ فهي بالإضافة إلى جودة الحبكة الفنية وروعة بناء شخصيات الرواية وجِدَّة المواضيع والأحداث، فهي تحتوي في الوقت نفسه على قيمةٍ أدبيةٍ وعمقٍ فلسفيٍّ جعلَه يحصُد جوائزَ أدبيةً هامة في اليابان، وجعل أعماله تُترجم إلى اللغات الأجنبية.

العملُ الذي نعرضه اليوم غريبٌ في موضوعه، متفردٌ في طريقة طرحه، ويحمل عمقًا فلسفيًّا وأدبيًّا. العمل اسمه «دِقة ملك الموت» عبارةٌ عن ستة قصصٍ منفصلةٍ متصلةٍ في ذات الوقت، نشرها الكاتبُ لأولِ مرةٍ على فتراتٍ متباعدةٍ نسبيًّا، في الفترة من ديسمبر ٢٠٠٣م إلى أبريل ٢٠٠٥م، في جرائدَ ومجلاتٍ أدبيةٍ متفرقة، ثم نُشرَت معًا في كتابٍ لأولِ مرةٍ في يونية من عام ٢٠٠٥م، عن دار نشر «بونغيه شونشو» باسم القصةِ الأولى في المجموعة، وهو كما سبق القول «دِقة ملَك الموت».

يتخيَّلُ إيساكا ملَك الموت أو عزرائيل عبارةً عن موظَّف في إدارةٍ ما من إدارات السماء، يُصدَر له الأمر بالنزول إلى الأرض في شكل آدمي مُحدَّد، ومتابعةِ حالةِ الشخص المُرشَّح لقبض روحه لمدة أسبوع، والتأكُّد من استحقاقه للموت من عدمه، وفي اليوم السابع يرفع تقريره إلى الإدارة العليا التي أرسلَته، والتقرير عبارةٌ عن كلمةٍ واحدة إما «يستحق» فيتم في اليوم الثامن من بدء المهمة تنفيذ الموت على الشخص المعني، ويشهد عزرائيل ذلك ليتأكد من موته، وبذلك تنتهي مهمة العمل. أو يكون التقرير «يؤجَّل» ليتم مد عمر الشخص فترةً أخرى من الزمن غير معلومة، ولكن عزرائيل هذا، بطل الرواية الرئيسي وراوي أحداثها بصيغة المُتكلِّم، يُؤكد أن كل الحالات تقريبًا تنتهي بكلمة «يستحق»، وأن عمله مع زملائه الكثيرين (طبعًا فإدارةٌ مثل هذه وعملٌ مثل ذلك يتعامل مع جميع البشر يحتاج جيشًا عَرمْرمًا من ملائكة الموت) عبارةٌ عن إجراءٍ روتيني لا يُقدِّم ولا يُؤخر. الغريب أنه يُؤكِّد أن حالات الموت المتوقَّع سلفًا، مثل الموت بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض أو حالات الانتحار، لا يتبع إدارته، ولا يتم «فحص» الحالة والتأكُّد منها بهذه الطريقة، وإن لم يقل لنا أية معلوماتٍ عن ذلك بحجة اختلاف الإدارة، وعدم تدخُّل الإدارات بعضها في أعمال بعض؛ فهو وزملاؤه معنيون فقط بالموت الفجائي عن طريق جريمةٍ أو حادثٍ عارضٍ غير متوقَّع. خلال الأسبوع المُتاح يقوم عزرائيل بتعمُّد لقاء الشخص المُستهدَف متخفيًا في شكل آدمي، والتحدُّث معه أكثر من مرةٍ بعد أن يُرتِّب بطريقةٍ ما حُجةً لهذه اللقاءات، وبعد أن يحصُل على كل المعلومات المطلوبة والخاصة بذلك الشخص من إدارة المعلومات. وهنا تدور خلال الست قصصٍ حواراتٌ عديدة بين ملَك الموت والشخص المُقبل على الموت، تتطرَّق بشكلٍ ما إلى موضوع الموت؛ لأنه وكما يقول الراوي عزرائيل في القصة الأولى:

«عددٌ كبيرٌ من الذين نتولَّى فحصَ حالتهِم يذكُرون «سيرة الموت» بأنفسهم، برغم أننا لا نحثُّهم على ذلك. ويكون ذلك إما خوفًا من الموت، أو تعظيمًا له، أو التباهي بمعلوماتٍ مفصلةٍ عنه، هم على كل حالٍ يتكلَّمون ببطء بملامح وجهٍ كأنه يتلصَّصُ من وسطِ أحراشٍ كثيفةٍ على مكانٍ ما أكثر ظلامًا وكآبة.

ويُقال إن ذلك سببُه أن الآدميين يتعرَّفون على حقيقتنا في باطن الوعي لديهم. تعلَّمتُ ذلك في الدورة التدريبية. وهو أن ملكُ الموتِ يُعطي للإنسان إحساسًا وتوقعًا بالموت؛ فمنهم من يقلق قائلًا: «تنتابُني رِعدة بَرد»، ومنهم من يترك كتابةً تتوقع الموتَ بشكلٍ واضح؛ مثل: «أشعر أنني سأموت قريبًا جدًّا»، وأحيانًا يُوجَد من لديه إحساسٌ عالٍ تجاه وجودنا، فيُسمَّى بالعراف ويُبلغ ذلك الطرف بقربنا منه.»

ومن خلال حواراتٍ عميقةٍ نحصلُ على مضمونٍ فلسفيٍّ ورؤيةٍ واقعيةٍ جدًّا لتفكير اليابانيين في الموت وكيف ينظرون إليه، وما هي استعداداتهم لذلك الحدَث الذي يُقال بحق إنه الحقيقةُ الوحيدةُ التي يؤمن بها جميعُ البشر بلا استثناء.

كذلك أحد أهم استخدام هذا الإطار الروائي هو النظرةُ النقديةُ الموضوعيةُ للحياةِ البشرية من خارجها. فكلُّ فعلٍ أو قولٍ للبشر هو أمرٌ غريبٌ وعجيبٌ بالنسبةِ لمَلَكِ الموت. الذي يجعلُنا نُعيد التفكير حتى في الكلمات والمصطلحات بعد أن يثير في محدِّثه علاماتِ التعجب تجاه كلماتٍ تُستخدم كمصطلحاتٍ مختلفةٍ عن المعنى المباشرِ لها، أو كلماتٍ تتقاربُ في ظاهرِها ولكنها تختلفُ في معناها تمامًا، مثل رجل المطر التي تعني رجلًا مرتبطًا دائمًا بهطول المطر، أما رجلُ الصواعق فهو الرجل الحازم الشديد الذي ينزل غضبُه الصارم كالصاعقة على الجميع. وكذلك ينتقد عزرائيل تهافُت البشر على المال والمناصب وإهمالهم لأشياءَ روحانية أكثر أهمية. وكذلك يستعجب ملَك الموت من غرور بني آدم رغم غبائهم وسهولة خداعهم. وأيضًا أكثر ما يندهش له عزرائيل أو ملَك الموت قدرة الإنسان على قتل أخيه الإنسان رغم أن عزرائيل ملك الموت نفسه لا يفعل ذلك. طبعًا الكلام هنا عن عزرائيل المؤلِّف الذي وُضِع في إطارٍ محدَّدٍ هو النزولُ لعالم البشر في شكل آدمي لفحص حالةٍ معينةٍ والتبلُيغ عن استحقاقها الموت أو تأجيله. أما من يُقرر ذلك ومن ينفِّذ فهو في علم الغيب، وعندما يُسأل يُجيب أن الرب هو من يُقرِّر ذلك. وبالمناسبة كلمة ملَك الموت أو عزرائيل في اللغة اليابانية تُسمَّى «شيني غامي» أو إله الموت؛ لأنهم يؤمنون بوجود إلهٍ لكل شيء، مع وجود الرب الخالق القادر، فكما نرى من رَسْم كوتارو إيساكا لإله الموت، فهو لا حول له ولا قوة، بل مجرد كائنٍ يستجيب لأوامر قوةٍ عُليا مسيطرةٍ ومتحكمة، هي التي تُقرر وهي التي تُنفِّذ، وما إله الموت إلا مساعدٌ لها يعمل تحت إمرتها ويُنفِّذ تعليماتها؛ لذا آثرتُ في المقال استخدم كلمة ملَك الموت ليؤدي المعنى المطلوب، بدلًا من كلمة إله أو رب الموت، التي ربما كتابتها باللغة العربية يُعطي لها بُعدًا آخر غير البُعد الحقيقي (بالطبع كلمة «ملك الموت» العربية تحمل مدلولًا مختلفًا، ولكنه أخفُّ وطأةً من الأول في رأيي).

وقد استعان الكاتب كما ذكر في هامش الكتاب بمراجعَ عديدة ذكر منها أعمال الفيلسوف الروماني سينكا، والفيلسوف الألماني نيتشه، وحوارات أفلام جان لوك جودار، مما جعل العمل يحتوي بالفعل على وجهة نظرٍ إنسانيةٍ عالميةٍ تجاه الموت، ولا تقتصر على اليابانيين فقط.

كما ذكرتُ المجموعة عبارة عن ستِّ قصصٍ أحداثُها منفصلة، وإذا كان البطل ملك الموت لا يتغيَّر وكذلك اسمه «تشيبا» لا يتغيَّر، وإن كان يتغيَّر شكلُه الآدمي لكي يتناسب مع الشخصية المُراد «فحصُها». القصة الأولى باسم «دِقة ملك الموت»، والثانية فتحمل اسم «ملك الموت وفوجيتا» والثالثة «ملَك الموت في عاصفةٍ ثلجية»، والرابعة «قصة حُب وملَك الموت»، والخامسة «رحلة سفر مع ملَك الموت»، أما القصة السادسة والأخيرة فباسمِ «ملَك الموت ضد السيدة العجوز».

أحداثُ القصة الأولى التي تحمل اسمَها المجموعة تتحدَّث عن أن الشخصية موضع الفحص من عزرائيل هي فتاةٌ في الثانية والعشرين من عمرها، في مُقبل حياتها، تُعاني معاناةً شديدةً في عملها، وهو الردُّ على اتصالات الشكاوى المعقَّدة للزبائن المُتعِبينَ لإحدى الشركات الكبرى التي تعمل في تصنيع الأجهزة الكهربائية. ومُعاناتها التي تصل بها لحد تمني الموت في التو والحال، عبارةٌ عن مُلاحقة أحد الزبائن، الذي يبدو أنه مختلٌّ عقليًّا، لها بالاتصالات اليومية العديدة التي لا تتوقَّف، وتُحدِّدها هي بالاسم لكي تردَّ عليه، فينهالُ عليها باللوم والشكوى والتهديد. وبعد حبكةٍ رائعةٍ في الأحداث تنتهي القصة بشكلٍ غير متوقعٍ تمامًا، حيث ينتهي تقرير عزرائيل لهذه الفتاة بكلمة «يؤجل»، على غيرِ ما كان قرَّر سلفًا أن كل الحالات تنتهي بكلمة «يستحق». وكان سببُ ذلك غريبًا ومدهشًا، ولكنه هو الذي يتم التجهيز له طَوالَ أحداث القصة التي تؤدِّي أحداثُها وحبكتُها له.

بعد عشرة أعوام من ظهور «تشيبا» ملك الموت في قصة «دِقة ملك الموت» يعود كوتارو إيساكا لاستخدام نفس الإطار في شكلٍ بوليسي صِرْف؛ فقد صدرت له روايةٌ طويلةٌ في شهر يوليو من هذا العام ٢٠١٣م، باسم «ملَك الموت وقوة الطَّفو»، تدور حول مقتل شابةٍ عشرينيةٍ والإفراج عن قاتلِها لعدم كفاية الأدلة، فيُحاول أبواها الانتقامَ من القاتل. الرواية صدَرَت هذا العام في شهر يوليو الماضي، وكعادة أعمال إيساكا حصلَت الرواية على استقبالٍ جيد من القُراء، وحقَّقَت وما زالت تُحقِّق نسبة مبيعاتٍ كبيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤