حربُ المُدنِ المُجاوِرة

فجأةً وبدون أية مقدماتٍ تَنشبُ حربٌ شرسةٌ بين مدينتَين متجاورتَين في أحد أقاليمِ اليابان. هذا هو محتوى الرواية التي حازت على جائزة العمل الأول لمجلة سوبارو الأدبية، في دورتها السابعة عشرة لعام ٢٠٠٤م. المؤلف أكي ميساكي وُلِد عام ١٩٧٠م، في مدينة فوكوأوكا بأقصى جنوب اليابان، تخرَّج من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة كوماموتو. وكما ذكَرنا هذا هو العمل الروائي الأوَّل له.

تقع الرواية في ١٩٦ صفحة، وصدرَت الطبعة الأولى لها في يناير ٢٠٠٥م (في اليابان غالبًا ما يُنشر العمل على شكلِ حلقاتٍ في إحدى المجلات الأدبية أو الجرائد، ثم يُطبع في كتاب بعد ذلك، وفي حالة العمل الأول يشترك العملُ في مسابقةٍ تُسمَّى مسابقة العملِ الأوَّل، وإذا حصل على إحدى الجوائز تُصبِح الجائزة هي جواز المرور للنشر).

يعلَم كيتاهارا الذي يعمل موظفًا في شركةٍ بنشوبِ الحرب بين المدينة التي يسكن فيها، والتي اختارها للسكَن فقط لقُربها من محل عمله، وبين جارتها بطريق الصُّدفة وبشكلٍ غريب؛ إذ يقرأ إعلانًا في النشرة الإعلامية نصف الشهرية التي تُصدِرها بلدية المدينة يقول إن حربًا ستنشبُ بين هذه المدينة والمدينة المجاورة. وعلى الطريقة اليابانية مكتوبٌ موعدٌ محددٌ باليوم والساعة لبدء الحربِ وكذلك نهايتها المتوقَّعة. لا يهتم كيتاهارا بالموضوع كثيرًا، بل إنه وحتى بعد الموعد المحدَّد لبداية الحرب لا يرى ولا يُحِس بأن هناك أيةَ حربٍ دائرة بين المدينتَين، خاصةً أنه يخترق المدينة المُجاوِرة بسيارته يوميًّا في ذَهابه وإيابه من العمل.

إلا أنه يكتشف من خلال النشرة الإعلامية أن الحرب فعلًا دائرة، وعدد ضحاياها من مدينته فقط وصل إلى ١٢ فردًا، قُتلوا في العشرة أيامٍ الأولى للحرب.

ثم يُفاجأ كيتاهارا بخطابٍ من البلدية يطلُب منه أن يعمل مراسلًا للمعلومات لصالح مدينته. يُحاوِل أن يتهرَّب من قبول هذه المهمة إلا أنه في النهاية يقبل عندما يجد أن الموضوع لا يزيد عن إخبار البلدية بما يشاهده أثناء مروره بالمدينة المجاورة عند ذَهابه وإيابه من عمله. لكنه يُفاجأ عندما يقرأ النشرة الإعلامية التالية أن عدد القتلى من مدينته وصل إلى ٥٣ قتيلًا في الأسبوعَين الآخرَين.

أين تدور هذه الحرب؟ وكيف لا يشعر بها ولا يرى لها أثرًا في حياته اليومية؟ وهل المعلومات التافهة التي يُرسِلها إلى البلدية تتسبَّب في قتل أحد؟ موظَّفة البلدية المسئولة عن الاتصال به أبلغَته أنهم في البلدية يشكُرونه على ما يقدِّمه من معلومات، بل إنه لا يعرف ولا يمكن أن يفهم السبب وراء قيام الحرب أصلًا. يكاد كيتاهارا أن يُجنَّ.

في أحد الأيام يأتي تليفونٌ في منتصف الليل من كوساي الموظَّفة المسئولة في البلدية لتقول له إن البلدية قرَّرَت إرسالَه في مهمةٍ استطلاعية لأرض العدو. أرض العدو هذه يراد بها المدينة المجاورة التي لا تبعُد سوى دقائقَ بالسيارة. وتأخذ العملية الاستطلاعية هذه شكل الزواج شكليًّا من كوساي الموظَّفة بالبلدية، والانتقال إلى عُش الزوجية في المدينة المُجاوِرة.

حتى بعد الانتقال للمدينة المُجاوِرة لا يرى كيتاهارا أي أثرٍ للمعارك أو القتال. المدينتان وسكانهما في حالةٍ طبيعية جدًّا. لكن في وقتٍ متأخر من ليلِ أحدِ الأيامِ يأتيه تليفونٌ من زوجته التي ما زالت في عملها تُخبِره أن معلوماتٍ جاءتهم تفيد أنه سيحدُث تفتيشٌ على المنزل من قِبل أجهزةٍ عسكريةٍ تابعة للعدو تحت مُسمَّى إجراء استبيانٍ لحالة المواطنين، وتطلُب منه سرعة الهروب من المكان حاملًا معه كل الملفَّات والوثائق السرية التي تُوجَد في غرفتها.

لأوَّل مرةٍ يشعُر كيتاهارا بطعمِ الحرب، ويقضي ليلةً هي الأولى والأخيرة التي يمكن أن يتذوَّق فيها الإحساسَ بخوض حربٍ فعليةٍ وليس من خلال الكلام فقط. تظل كوساي على اتصال به من خلال التليفون الجوَّال لتُعطيَه تعليماتٍ تساعده في الهرب من المدينة المجاورة إلى مدينته حيث تُوجَد هي. وبالفعل ينجح كيتاهارا في الوصول إلى حدود مدينته بعد أن حصل على مساعدة أفرادٍ من المدينة الأخرى يعملون كجواسيسَ لصالح مدينته. ومن هذه الحدود تأتي سيارةٌ فارهةٌ تقودُها كوساي وبها كبارُ موظَّفي البلدية تنقلُه إلى مقر البلدية. ومع وصوله إلى البلدية تشرق الشمس لتعلن بداية يومٍ جديد، فيذهب إلى عمله ثم يعود منه إلى الشقة التي هرب منها في الليل ليمارس حياته كما هي قبل التفتيش، لكن بعد أن أخلى المكان من أي وثيقةٍ يمكن بها محاسبتُه.

لكن هذه الليلة التي شَعر فيها كيتاهارا بطعمِ الحرب، لم تكن كما توقَّعها. أي نَعَم لقد ظَلَّ طوالَ الليلِ هاربًا من شيءٍ ما لكنه لم يشاهد هذا الشيء فعليًّا؛ كل ما هنالك أن كوساي على الطرف الآخر من الهاتف تسأله عما يشاهده، فيقول لها مثلًا إنه يرى من بعيدٍ أنوارًا داخل النفق المُؤدِّي إلى مدينتهما، فتُطالبه بالهرب السريع لأن هذا يعني أن داخلَ النفقِ حملةً تفتيشيةً من الجهة العسكرية المسئولة في المدينة المجاورة. لم يَرَ كيتاهارا على أرض الواقع أي شيءٍ يمكن أن يشير إلى وقوع قتالٍ في أي مكانٍ مَرَّ به. ولم يسمع حتى أيَّ صوتٍ يمكن اعتباره صادرًا عن معارك. يُحِس كيتاهارا لذلك بخيبة أملٍ دفينةٍ في داخله.

كما بدأَت الحرب فجأةً تنتهي فجأةً من خلال تليفونٍ من كوساي تُخبِره فيه أن الحربَ قد انتهت؛ وبالتالي انتهت مهمَّته الاستطلاعية في أرض العدو ويمكنه بعد الانتهاء من الإجراءات أن يعود إلى بيته الأصلي.

وفي الموعد المحدَّد وهو الحادي والثلاثون من مارس تنطلق ضرباتُ المدفع من مَقرِّ البلدية لتعلن انتهاءَ الحربِ بشكلٍ رسمي. يقول كيتاهارا في نفسه إن أوَّل مرَّة يسمع فيها صوتَ إطلاق النيران هي التي تُعلِن نهاية الحرب.

روايةٌ غريبة الشكل غريبة الفكرة. الحديث عن الحرب في اليابان ينحصر في الكلام عن الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بهزيمة اليابان واحتلالها بواسطة جيش الحلفاء، وإقرارها لدستورٍ سلمي يتخلَّى عن اللجوء إلى الحرب كوسيلةٍ لحل النزاعات، ويرفض امتلاكَ الدولةِ لجيش.

أما أن تعود الحرب بهذا الشكل الإقليمي بين مدينة وجارتها فهو ما يدخل ضِمن تصنيفِ الخيالِ العلمي. لكن الرواية خارقةٌ في الواقعية، باستثناء الفكرة كلُّ التفاصيل فيها تُبنى على أرض الواقع الحالي لليابان.

من وجهة نظري الشخصية الرواية تريد أن تناقش نقطتَين رئيسيتَين؛ الأولى هي استسلامُ الشعبِ الياباني التام للبيروقراطية ولأوامر طبقة التكنوقراط التي تُقرِّر كل شيء في حياة الشعب دون أن يعترض أحد، حتى لو قرَّرَت الحرب على الجيران؛ فحتى بطل الرواية الذي يرفض نظريًّا قبول منطق الحرب نجده يستسلم للأمر الواقع، ويشارك فيها أسوأ أنواع المشاركة. مواطنو المدينة عندما يحضرون اجتماعًا لشرح أسبابِ انتشارِ الحربِ وتداعياتِها على حياتهم لا يَصدُر منهم صوتٌ يتساءل عن سببِ وجدوى الحرب وهل لم يكن هناك سبيلٌ غيرها. بل نجدهم على العهد بهم يسألون عن ساعات القتال التي قُرِّر أن تكون من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً، وهل يُمكن تفادي موعدِ عودةِ التلاميذِ من مدارسهم أم لا. أو من يستفسر عن التعويضات لمن يتضرَّر من الحرب كأن يُكسَر زجاج النافذة أو أشياء من هذا القبيل. شيء لا يُصدِّقه عقل، ولكن بالفعل هذا هو الحالُ إذا ما قرَّرَت البلدية أن تنفِّذ مشروعًا ما في داخل نطاقِ المدينةِ كأن تَبنيَ جسرًا أو تُسوِّيَ طريقًا. لكن هل فعلًا سيصل الأمر إلى التعامل مع الحرب بذات المنطق؟

النقطة الثانية التي يُريد المؤلِّف عرضها هي قضية الحرب ذاتها. بتصغير حالة الحرب إلى حجمٍ مصغَّر لها بين مدينتَين صغيرتَين يتَّضِحُ عَبثية الحرب ولامعقوليتها. وإنها أولًا وأخيرًا تتم بناءً على رغبة فئةٍ محدودةٍ هي المستفيدةُ من قيامِ الحرب، ولكن من أجل إعطاءِ شرعيةٍ لهذا العمل الإجرامي تَبذلُ هذه الفئة، وهي هنا طبقة التكنوقراط، كل ما في وسعها لتضليلِ الناسِ وإشعارهم أن هذه الحربَ ضروريةٌ لهم للحفاظ على الرفاهية التي هم عليها الآن، وأن بَذلَ النفوس في سبيل ذلك شيءٌ لا مَفَر منه، بل إنهم يُقدِّمون الحرب كمشروعٍ استثماري سيجلبُ الخيَر والرخاءَ للناس.

ظلَّت الرواية وقتَ صدوها تُثير العديدَ من النقاش والإعجاب في اليابان. وظلَّت بعد صدورها في كتاب تَحتلُّ مرتبةً عاليةً في قائمةِ الكتبِ الأكثرِ مبيعًا في الأسواق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤