اليابان والحداثة

أتذكَّر أنني أُصيبتُ بصدمةٍ عندما قرأتُ كلمةً لروجيه جارودي عن الحداثة يقول فيها ما معناه إن الحداثة هي الخطر الأعظم على البشرية. وسببُ صدمتي هو أنني كنتُ وقتها ما زلتُ أسيرًا للإضلال الثقافي الذي قام ويقوم به إلى الآن «مثقَّفونا العظام» الذي يُروِّجون للحداثة على أنها السبيل إلى التقدُّم والتطوُّر خالطين عن عمدٍ بين «التحديث» المطلوب دومًا وبين «الحداثة» المذمومة أبدًا. وكنتُ استعجبُ أن فليسوفًا فرنسيًّا مثل جارودي، يعيش في عاصمة النور كما يُسمُّونها، وارتبط فترةً طويلةً بالفكر الماركسي «التقدُّمي»، يَعتبر الحداثة خطرًا ليس فقط على الإسلام بل على الإنسانية جمعاء، ولكن بعد أن علمتُ أن الحداثة في معناها الاصطلاحي هي القطعية المعرفية مع الماضي ومع التراث، بدأتُ أفهم قليلًا ما يعنيه جارودي، وبدأتُ أفهم حِرصَه على التنبيه من مخاطر الحداثة.

هذه مقدِّمة أردتُ إثباتَها قبل التطرُّق إلى الكلام عن اليابان وطريقة تعامُلها مع الحداثة والتحديث، ربما نجد فيه ما يُفيد.

اليابان الآن هي ثاني أكبر قوةٍ اقتصاديةٍ وصناعية في العالم. في مجال التحديث والتكنولوجيا وصلَت اليابان إلى القمة التي لا يطاولها قمةٌ أخرى. ومن زار اليابان وتعرف عليها يتأكَّد بما لا يدع مجالًا للشك أنها الدولة الأولى في مجال العلم التكنولوجي والصناعي. ووصلَت في مجال الإلكترونيات والإنسان الآلي «الروبوت» إلى درجةٍ يندهشُ لها حتى العالم الغربي. ولقد شاهدتُ بنفسي انبهار أحد الأمريكيين من ذلك، وحرصه على التقاط الصور الفوتوغرافية للعجائب التي يراها. أما عن العرب فحدِّث ولا حرج. صحافيٌّ سوري كنتُ أرافقه في جولة له داخل اليابان مدعوًّا من الحكومةِ اليابانية، قال لي كلمةً تُعبِّر إلى حدٍّ بعيدٍ عن ذلك: «اليابان كوكبٌ آخرٌ لا ينتمي لكوكبنا.» أما عن الناحية الحضارية في التعامُلات البشرية، فاليابانيون يتعاملون بعضهم مع بعض، ومع الآخرين بطريقةٍ إنسانيةٍ حضارية قلَّ أنْ تجد لها نظيرًا في العالم كله.

هذه الدولة التي وصلَت إلى تلك القمة في العلم والتكنولوجيا والحضارة، هل وصلَت لها عن طريق الحداثة التي تعني القطيعة التامة مع الماضي. أبدًا؛ فالجميع يعلم أن اليابان ما زالت متمسكةً بالعديد من خصائصها الثقافية التي تجعلُها متميزةً عن ثقافة الدول الصناعية الكبرى، ونحن نعلم أن هناك طريقةً في علم الإدارة تُسمَّى الطريقة اليابانية في الإدارة، وبها اختلافاتٌ عديدةٌ عن طُرق الإدارة الغربية. ونحن نعلم أن السبع الكبار هم ست دولٍ غربيةٍ واليابان هي الوحيدة التي لا تنتمي ثقافيًّا إلى الغرب.

اليابان تلك الدولة التي وصلَت إلى قمة التحديث، ما زال بها العديدُ من الأشياء التي من الممكن أن تُصنَّف على أنها أشياءُ لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، بل وتُعتبَر «بدائيةً» تنتمي إلى «العصر الحجري».

من ضمن الأشياء هي اللغة، اللغةُ اليابانية في أصلها لغةٌ كانت لغةً منطوقةً ليس لها حروفٌ تُكتب بها. وعندما احتاج اليابانيون في قديم الزمن إلى الكتابة اضطُروا إلى استعارة طريقة الكتابة من اللغة الصينية التي ليس لها أي علاقةٍ باللغة اليابانية من حيث الأصل أو الانتماء. الكتابة الصينية هي كتابةٌ بدائيةٌ بطريقة الرموز التصويرية تُسمَّى «الكانجي». وهو ما يُمكن أن يُعتبر شيئًا بدائيًّا؛ أي إن الإنسان البدائي في الغابة عندما يريد التعبير عن شيءٍ يرسمه، فكلمة شجرةٍ هي رسمٌ لها وكلمة جبلٍ هي رسمٌ للجبل ونهرٌ كذلك يُرسم ثلاثة خطوط متموجة تُعبر عن جريان الماء … وهكذا. أخذَت اليابان طريقة الكتابة تلك من الصين في القرنَين الخامس والسادس ميلاديًّا وما زالت هي المستخدمة إلى اليوم، ولكن اليابان طوَّرَت من هذه الرموز حروفًا هجائيةً مبسطةً لتُعبِّر عن الصوتيات في اللغة اليابانية لتُستخدَم في الربط بين الكلمات والجمل. وهذه الحروف نوعان «هيراغانا» لكتابة أدوات الربط وبواقي الأفعال و«كاتاكانا» لكتابة الكلمات الأجنبية الدخيلة على اللغة اليابانية (فيما عدا بالطبع الكلمات الصينية). وأصبحَت الجملة اليابانية اليوم تتكوَّن من ثلاثة أنواع من الحروف هي رموز الكانجي وحروف الهيراغانا وحروف الكاتاكانا. وبالطبع لا يخفَى على أحدٍ الصعوبةُ البالغة في تعليم لغةٍ مثل هذه اللغة لأن رموز الكانجي هي بلا عدد، ويُقالُ إن رموز الكانجي في اللغة الصينية يصل إلى عشرات الآلاف، بل ويصل بها البعض إلى مئات الآلاف؛ ولذلك اضطُرت اليابان إلى إصدار قانون يحدُّ من الرموز الصينية التي تُستخدَم في وسائل الإعلام من صحافةٍ ومجلاتٍ وفي مجال التعليم الإجباري، ويتغير عدد تلك الرموز كل فترةٍ بالحذف والزيادة، والقانون الآن ينُص على ١٩٤٥ رمزًا (ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين رمزًا)؛ ولهذا أثناء الاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وبحجة الصعوبة وانعدام العملية حاول الأمريكيون بطيشهم المعروف إلغاء استخدام الكانجي واستبداله بالحروف اللاتينية كما فعل المستعمرون وعملاؤهم في عدة دول. لكن هيهات، وقف اليابانيون بحزمٍ ضد ذلك لمعرفتهم أن العكس هو الصحيح، وأن تغيير طريقة الكتابة ليس عمليًّا على الإطلاق. ولإعطاء مثال على ذلك هناك كلمة تُنطَق هكذا KOUSHOU، هذه الكلمة لها ٢٢ طريقة كتابة بالكانجي ويختلف المعنى باختلاف الكتابة، على سبيل المثال تعني مفاوضات وتعني وزير الصحة وتعني التبليغ الشفهي وتعني القائد المنهزم … إلخ، ولكن النطق سيُصبِح بالحروف اللاتينية واحد هو KOUSHOU.

ولذا ستتعقَّد المسألة. بالإضافة إلى الكوارث العديدة الأخرى التي ستنتُج عن ذلك؛ منها القطيعة المعرفية للأجيال التي ستنشأ على المنهج الجديد بكل ماضيها وتراثها المكتوب باللغة القديمة. وقف اليابانيون رغم وقوعهم تحت الاحتلال ضد رغبة المحتل الغاشم في نزعهم من أصولهم وماضيهم وتراثهم اللغوي، وذلك على الرغم من أن الكتابة في الأصل مُستعارةٌ وليست أصيلةً لهم، إلا أن توالي هذه القرون الطويلة جعلَتْها جزءًا لا يتجزأ من تراثهم وثقافتهم.

الشيء الثاني وإن كان يبدو بسيطًا إلا أنه عميقٌ في معناه، وهو عِصِي الأكل. شعوب شرق وجنوب شرق آسيا كلها تستخدم عَصوَي الأكل في تناول الطعام، ويُقال إن الصين هي أول من بدأ استخدام عَصوَين من الخشب في تناوُل الطعام وذلك منذ خمسة آلاف سنة، ومنها انتشَرَت هذه العادة إلى الدول المُجاوِرة ويُقالُ أيضًا إن ثلث سكان العالم يستخدمون العِصِي بدلًا من الملاعق أو الشوك والسكاكين. ويُعتقَد أن الإنسان البدائي (في الصين) استخدم أفرع الشجر الرفيعة في تقليب الطعام الساخن على النار، ثم تطوَّر الاستخدام إلى تناوُل الطعام بها. وهي طريقة تُعتبر بدائيةً مقارنةً بأدوات المائدة الغربية، أو الإتيكيت الغربي. إلا أن اليابانيين ما زالوا مُصرِّين على استخدام هذه العِصِي التي يُعتبر التحكُّم بها في الطعام من المُعضِلات. رغم أنها هي الأخرى ثقافةٌ مستعارةٌ وليست أصيلة. إلا أن من يتعرَّف على الأكل الياباني يعلم تمام العلم أن العِصِي هي الوسيلة الوحيدة المناسبة لتناوُله بأفضل طريقةٍ عملية مريحة. عندما كنتُ في زيارةٍ إلى الوطن لاحظ أخي أن الأطفال يأكلون بالملاعق وليس بالعِصِي، فسألني لماذا؟ قلتُ له الأطفال في اليابان يأكلون بالملاعق لصعوبة استخدام العِصِي، وتدريجيًّا يتعلَّمون استخدام عِصِي الأكل. فقال أخي ولِمَ لا يستمرُّون؟ أي لماذا لا يستمرُّون في استخدام الملاعق والشوك؛ وبالتالي يتخلَّصون من مشاكل صعوبة العِصِي «ويصبحون حضاريين». كان السؤال مفاجئًا لي فقلتُ له لا أعرف.

ولكني بعد التفكير عرفتُ السبب، السبب أنه حتى الأجنبي الذي يعيش في اليابان لا يستطيع الحياة دون تعلُّم استخدام عِصِي الأكل فما بالُك بابن البلد؛ فكما قُلتُ الطعام الياباني لا يناسبه إلا عِصِي الأكل، وأغلب المطاعم اليابانية التقليدية لا تقدم من أدوات المائدة إلا «الهاشي» وهو اسم عِصِي الأكل باللغة اليابانية. ورغم أن انتشار المطاعم غير اليابانية من أوروبية وأمريكية وغيرها بكثرةٍ مهولةٍ يكاد يطغَى على المطاعم اليابانية، إلا أن الياباني ما زال يُفضِّل الطعام الياباني على غيره، وما زال يتناوله مرةً أو مرتَين على الأقل يوميًّا؛ لذلك لا يستغني عن «الهاشي».

العادة «البدائية» الثالثة في اليابان هي النوم. منذ قديم الأزل والياباني ينام على الأرض فوق ما يُسمَّى «التاتامي» وهو لوحٌ من الحصير المصنوع بطريقةٍ خاصة. تغيَّر البيت الياباني كثيرًا واتخذ الطراز الغربي في الديكور والأساس. إلا أنه ما زال يُوجَد داخل كل بيتٍ ياباني غرفةٌ واحدة على الأقل يابانية الطراز مفروشة بحصير التاتامي. وفي الأغلب تكون هي غرفة النوم. تُنصَب فوق حصير التاتامي مرتبةٌ نحيفة على الأرض ينام عليها المرء. رغم كل الغنى والرفاهية التي وصل إليها الياباني إلا أنه ما زال ينام على الأرض. وأيضًا الفنادق اليابانية ذات الطراز الياباني العريق والتي تُسمَّى «ريوكان»، لا يُوجَد بها أَسِرَّة، ولكن كل غرفها مفروشةٌ بالتاتامي، وينام نزلاؤها حتى ولو كان الإمبراطور، على الأرض فوق التاتامي.

آخر ما سأتكلم عنه في هذا المجال هو الدين، وهو أهم ما في الموضوع؛ إذ إن اليابان التي وصلَت كما سبق القول إلى قمةٍ عالية في التقدُّم التكنولوجي والعلم الحديث، بل وقمةٍ عالية من الأخلاق الحضارية الإنسانية في تعامُلات البشر بعضهم مع بعض، ما زالت دينيًّا في مرحلة الديانة «البدائية». ديانة عبادة الأرواح والأسلاف وتعدُّد الآلهة التي تصل إلى أرقامٍ فلكية؛ إذ تُسمَّى ديانة «الشنتو»، الديانة الأصيلة لليابان منذ قديم الزمن وحتى الآن بديانة «الثمانية ملايين إله» ثمانية ملايين ليس هو العددَ الفعليَّ ولكنه يُطلَق للدلالة على الكثرة. العلماء اليابانيون يَرونَ أن ترجمة كلمة «كامي» اليابانية إلى إله GOD ترجمةٌ خاطئة والأصح هو ترجمتها إلى روح SPIRIT. أما المقابل للإله أو الرب GOD في اليابانية فلا يُوجَد؛ لأنهم ليس لدَيهم فكرة الربوبية التي تُوجَد في الأديان السماوية؛ لذلك عندما جاء المبشرون النصارى إلى اليابان في القرن السادس عشر لم يكن لديهم بُد من ترجمة GOD إلى كلمة «كامي» اليابانية التي تعني روح وتُستعمل بمعنًى مقارب من الرب أو الإله. ديانة «الشنتو» هي ديانةٌ بدائية تعبُد الطبيعة وتعتمد على أن لكل شيءٍ في الطبيعة روحًا مقدَّسةً لا بد من التقرب إليها حتى لا تضُر الإنسان. للجبل روح، للغابة روح، للنهر روح، للبحر روح، للأرض روح، للسماء روح، للمطر روح، للسحب روح … وهكذا. وهي ديانةٌ دهرية؛ أي إن الإنسان يعيش في هذه الدنيا فقط ولا يُهلِكُه إلا الدهر، وبعد الموت لا يُوجَد إلا العدَم، لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار. هذه هي الديانة الأصيلة لليابان ويُقدر عدد معتنقيها في اليابان بثمانين في المائة من الشعب الياباني، أما باقي الديانات فهي واردة من الخارج. ثاني أكبر ديانة هي البوذية، وهي كما نعلم جاءت من الهند عن طريق الصين في القرن السادس الميلادي، ويُقدَّر عدد معتنقيها في اليابان بسبعين في المائة من الشعب. ليس هناك خطأٌ في الأرقام. أي نعم المجموع هو ١٥٠٪ ولكن ذلك سببه أن الياباني يعتنق أكثر من دين في وقتٍ واحد. وهم قد خصصوا «الشنتو» للمناسبات السعيدة، مثل الزواج والميلاد واحتفالات العام الجديد، وخصَّصوا البوذية للمناسبات الحزينة مثل الموت والمرض. أكبر ديانة سماوية هي النصرانية لا يزيد عدد مُعتنقيها من اليابانيين عن الواحد في المائة. ما زال أغلب النشاط الاجتماعي في اليابان يدور في فلك الديانات اليابانية العتيقة التي من الممكن وصفها ﺑ «البدائية»، سواء «الشنتو» أو «البوذية» أو إذا أضفنا لها «الكونفوشية» التي أثَّرَت تأثيرًا كبيرًا على اليابانيين في نمَط حياتهم المعيشية، وإن كان لا يُوجد لها تأثيرٌ كبيرٌ في مجال العقيدة أو الشعائر الدينية إلا فيما ندَر.

إذن اليابانيون «بدائيون» في ديانتهم، يعتقدون أن هناك أرواحًا في الطبيعة يجب تقديم الشكر والتقديس لها لكي تجلب الخير، ويجب اتقاءُ غضبِها كي لا ينالَهم شُرورُها. ولم يمنعْ تمسُّكُ اليابانيين بذلك من الوصول إلى أقصى درجات العلم والتكنولوجيا وتفوُّقهم على الغرب في العديد من المجالات سواء الصناعية أو التكنولوجية. بل إنه يُقال إن سبب تراجع اليابان النسبي في الفترة الأخيرة، هو ابتعاد الجيل الجديد من الشباب الذي نشأ في ظل التقدُّم والرفاهية والتواصُل مع الغرب عن ثقافته وحضارته الأصيلة التي تختلف تمام الاختلاف عن ثقافة الغرب وحضارته المادية.

أرى أن الحداثة بمعناها الذي يهدف إلى القطيعة مع الماضي والتراث (وخاصة التراث الديني أو الغيبيات كما يُطلقون عليه) ليست هي الوصفة السحرية للتقدُّم كما يحاول البعض أن يوهمنا. خاصة وأن تراثنا العربي الإسلامي لا يمكن وصفه بأي حالٍ بالبدائية، بل هو قمةٌ لا تعلو عليها قمةٌ أخرى، خاصةً في مجالات الدين والفكر والأدب والأخلاق … إلخ.

بدأ دُعاةُ الحداثة (وليس التحديث) بعد أن ظَهر عَوارُ نظريتهم، في الدعوة إلى ما بعد الحداثة كاستمرارٍ لتيار الحداثة؛ وذلك لأن روَّاد «الحداثة» أنفسَهم أصبحوا من الماضي وأصبحوا هم أيضًا تراثًا يجب التخلُّص منه. أما إذا كان المقصود من الحداثة هو التحديث فأعتقد أن التحديث يستمر إلى ما شاء الله دون الحاجة للكلام عما بعد التحديث؛ إذ إنه فعلٌ متواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤