الفصل الثالث والعشرون

العَقل فِي الإسْلام

تحكيم العقل واجب أمر به القرآن الكريم في عشرات الآيات، فليس أكثر فيه من الآيات التي تحث على التعقل والتفكر وتنحى باللائمة على من يهملون العقل والتفكير، وليس التفكير مقصورًا على موضوع دون موضوع في أوامر القرآن الكريم، فالإنسان مطالب بأن يتفكر في نفسه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم (الروم: ٨)، وأن يتفكر في الكون كله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (آل عمران: ١٩١)، وأن يجيل نظره فيما يحيط به من المشاهد والأسرار: كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (البقرة: ٢٤٢) وإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: ١٦٤).

والحكمة صفة من صفات الله «الحكيم» التي كررها القرآن في شتى المواضع، فكل ما في الكون فإنما يجري على مقتضى الحكمة الإلهية ولا يخالف العقل السرمدي أو ينقضه في عمل من الأعمال، وإن قصرت عن إدراك كنهه عقول الآدميين.

فليس بالمسلم من يقضي بتعطيل العقل وينهى عن التفكير؛ لأن الإنسان ينكر العقل ليؤمن بالنص الذي لا اجتهاد فيه، والنص هنا صريح متواتر في وجوب النظر والتفكير وإطلاق هذا الوجوب على مسائل التصديق بوجود الإله، ومسائل العلم بمخلوقاته والتدبر في أوامره ونواهيه.

وغاية الأمر فيمن تكلم بشيء في إنكار حكم العقل أنه يؤمن بعقل أكبر من العقل الإنساني، ويأبى أن يجعل هذا العقل قسطاسًا للعقل السرمدي المحيط بالإنسان وبسائر المخلوقات، فلا بد للعقل الإنساني من حد يقف عنده ويلجأ فيه إلى التسليم، وليس هذا مناقضًا للعقل الإنساني في أساسه، ولا هو من قبيل الكفر بدين العقل والقضاء ببطلانه؛ لأن العقل الإنساني نفسه يعلم أنه محدود، ويعلم أن المحدود لا يحيط بما ليست له حدود، فهو يقضي بالعقل حين يقضي بأن العقل مضطر إلى التسليم في بعض الأمور.

وقد أُثِرت عن بعض المتكلمين أقوال يُخيَّل إلى الناظر فيها لأول وهلة أنها أقوال قوم ينكرون العقل، ويبطلون أحكامه ولا يعولون عليه في شيء من الأشياء، ومن أمثلة ذلك سؤال من يسأل: هل تتعلق قدرة الله بالمستحيل؟ فإن الفلاسفة يقولون: إن المستحيل ممتنع في العقول، وبعض المتكلمين يقولون: إن قدرة الله تتعلق بالمستحيل، فهل معنى ذلك أنهم ينقضون العقل ويحكمون بإلغائه وإلغاء كل ما يقتضيه؟ كلا … بل هم يرجعون في ذلك إلى قضية عقلية يسلمها من يدينون بالتفكير وإن كانوا من غير المتكلمين؛ لأنهم يقولون: إن الله الذي خلق لنا هذا العقل قادر على أن يخلق عقلًا آخر يخالفه في تقدير الاستحالة والإمكان، وقادر على أن يرفع العقل الإنساني درجة في مراتب الإدراك فيرى بعيني الإلهام الإلهي ما ليس يراه بغير ذلك الإلهام، فهم يبنون رأيهم على «قضية منطقية»، ويبطلون العقل بعقل أصح منه وأقدر على الإدراك، وليس هذا شأن من يسقط العقل جملة واحدة من الحساب.

فالعقل أصل من أصول الإيمان في الإسلام لا شك فيه، وكل ما هنالك أن العقل عند المسلم وغير المسلم له حدود ينتهي إليها، وأن علماء المسلمين وحكماءهم يختلفون في رسم الأمد الذي تنتهي إليه تلك الحدود.

هذا الموضوع الدقيق هو الموضوع الذي يدور عليه كتاب «العقل في الإسلام» من تأليف الباحث الفاضل الدكتور كريم عزقول، وربما صح أن يُقال في العنوان: إنه كتاب عن العقل عند «الغزالي»؛ لأنه هو في الواقع كذلك بعد التمهيد الضروري لهذا الموضوع، وقد قال المؤلف الفاضل في مقدمته: «إن الصدق في تصوير آراء الغزالي والأمانة في نقل أفكاره والضبط والدقة في عرضها بعد محاولة فهمها على حقيقتها، فهمًا موضوعيًّا مجردًا خاليًا من كل غرض، متحررًا من كل فكرة سابقة هو جلُّ ما توخيته من هذه الدراسة، تاركًا لمناسبات أخرى أمر قدر تلك الآراء والحكم عليها، مكتفيًا هاهنا بالقيام بهذا القسط المعين من واجبي الحضاري البشري والإنساني والقومي، وهو تعريف القارئ العربي إلى أهم ناحية فكرية في الحضارة الإسلامية كما عكسها دماغ أكبر مفكر في الإسلام.»

ويشهد من قرأ الكتاب أن المؤلف الفاضل قد أحسن الاختيار؛ لأن الغزالي ولا ريب أكبر نموذج للفكر الإسلامي، يرجع إليه في تبيان موقف الإسلام من العقل والتفكير، وأنه قد بر غاية البر بوعده في صدر كتابه، فكان أمينًا نزيهًا مخلصًا في صدق العرض وصحة البحث عن حقائق الموضوع في مراجعها الكثيرة، فأجمل في كتابه كل ما يلزم أن يُقال عن عناصر هذه المسألة، ووضع العقل في موضعه الصحيح من فلسفة الإمام العظيم أو مجموعة آرائه ومحصل تفكيره.

وخلاصة القول في هذا البحث: أن الغزالي يؤمن بالعقل ويقيس عليه المعارف والمعلومات، ولا يستثني بابًا من أبواب المعرفة من هذا القياس أو هذا الميزان، فيقول: «لا أدعي أني أزن بها — أي: بموازين النظر — المعارف الدينية فقط، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعية والكلامية وكل علم حقيقي غير وضعي، فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين …» ويقول في موضع آخر: «وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة …»

نعم؛ إن الغزالي شك في العقل حينًا، فتساءل على لسان المحسوسات وهي تخاطب الباحث عن الحقيقة: «بمَ تأمن ألا تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقًا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟!»

ولكن الغزالي لم يستقر على هذا الشك طويلًا، بل خرج منه واعتبر أن إبطال العقل بالشك المطلق «آفات تصيب العقل فيجري مجرى الجنون، ولكن لا يُسمَّى جنونًا، والجنون فنون.»

إلا أننا لا نفهم من ذلك أن العقل — عند الغزالي — قادر على إدراك كل حقيقة وكفيل بالوصول إلى كل معرفة؛ لأن القياس شيء، والوصول شيء آخر، فنحن بالإبرة المغناطيسية نستطيع أن نعرف الهدى والضلال، ولا يلزم من ذلك ضرورة أن الإبرة المغناطيسية قادرة على البلوغ بنا إلى مكان الهدى واجتناب مكان الضلال، وقد يكون تشبيه العقل بالإبرة المغناطيسية تشبيهًا غير جامع لوجوه الشبه الصحيح، فحسبه أنه تشبيه يدل على الغرض المقصود: وهو أن العقل يصلح للتمييز بين الصواب والخطأ ولا يلزم من ذلك ضرورة أنه صالح للوصول إلى الغايات جميعًا بغير تكملة من قدرة أخرى ومعونة من «عقل» أكبر لا يلغي حكم العقل أصالة بل ينتقل به من طبقة إلى طبقة ومن مجال إلى مجال.

هذه التكملة عند الغزالي هي «الكشف» أو النور الذي يفيض على قلب الإنسان من الجود الإلهي بالرياضة والاستعداد، وهو شيء لا ينقض العقل في أساسه، بل يتمم للعقل ما هو ناقص فيه ويعينه على ما يؤوده ويعييه.

ويرد على الخاطر هنا سؤال لا يُنسَى في صدد الكلام عن الغزالي على التخصيص، وهو: كيف اجتهد الغزالي ذلك الاجتهاد العنيف في هدم الفلاسفة وإثبات تهافتهم إذا كان على إيمانه هذا بهداية العقل والتفكير؟ هل فعل ذلك لأنه يبطل الفلسفة ويلغي الأقيسة المنطقية؟ أو هو قد فعله؛ لأنه يرى أن الفلاسفة مخطئون في تطبيق الفلسفة واستعمال القياس؟

الرأي الأول يميل إليه كالرادي فو، والرأي الثاني يميل إليه آسين بلاسيوس.

أما المؤلف الفاضل فهو يفصل بين الرأيين بكلام الغزالي نفسه، وفحواه أن الفلاسفة قد أساؤوا استعمال القياس، فمنعوا ما ليس يمنعه العقل، وأوجبوا ما ليس يوجبه في المسائل الغيبية، و«أن ما شرطوه في صحة مادة القياس في قسم البرهان من المنطق، وما شرطوه في صورته في كتاب القياس، وما وضعوه من الأوضاع في إيساغوجي وقاطيغورياس التي هي من أجزاء المنطق ومقدماته، لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية».

فليس اللوم إذن على المنطق بل على المناطقة، وليس اللوم على العقل بل على الذين يوجبون به ما ليس بواجب ويمنعون به ما ليس بممنوع.

ونعتقد أن التوفيق قد لازم المؤلف في جميع تقريراته وتمحيصاته ولم يفارقه بعض المفارقة إلا في مقام واحد وهو مقام المقابلة بين الغزالي والفلاسفة والأوروبيين.

مثال ذلك مقابلته بين الغزالي وديكرت حيث يقول: «إنه قد تنبه ستمائة سنة قبل الفيلسوف الفرنسي ديكرت إلى هذا التحديد — تحديد اليقين — ينبغي أن يكون حكمًا بديهيًّا لا اختباريًّا، وبهذا سلم من التناقض الذي وقع فيه ديكرت؛ إذ ظن أنه وضع لليقين تحديدًا اختباريًّا، بينما كان في الواقع قد عرف ماهية اليقين قبل الاختبار، فديكرت ظل ممتنعًا عن تحديد اليقين إلى أن عثر على حقيقة يقينية هي: أفكر، إذن أنا موجود، وظن أنه بواسطتها قد أدرك ماهية اليقين واستنبط تحديده، على أنه سها عن باله أنه لا بد كان يعرف ما هو اليقين من قبل حتى عرف أن هذه الحقيقة المعينة هي حقيقة يقينية.»

والإنصاف بين الحكيمين أن معرفة الشك تستلزم معرفة اليقين، سواء ثبت بالاختبار أو ثبت بالبداهة، فلا يقول قائل إن هذا مشكوك فيه إلا إذا عرف ما يطلب وعرف أن اليقين غير مشكوك فيه، ولا يناقض الباحث نفسه إذا وفق بين البداهة والاختبار بمثل من الأمثال.

كذلك أراد المؤلف أن يفرق بين مذهب الغزالي ومذهب دافيد هيوم في إنكار الأسباب، فقال: «أرى من الضروري توضيح فكرة عن موقف الغزالي قد تكون غامضة عند البعض مشوَّهة عند البعض الآخر من المشتغلين بالفلسفة العربية، فإنه من الشائع عند الكثيرين من هؤلاء أن الغزالي قد نفى مبدأ السببية؛ ولذا نراهم يشبهونه بالفيلسوف الإنجليزي داود هيوم ويفاخرون أهل الغرب بسبق الغزالي ذلك الفيلسوف إلى نفي هذا المبدأ، على أن من تعمق في فهم رأي هذين المفكرين في السببية وجد أن فكرة الواحد تختلف جوهريًّا عن فكرة الآخر، وإن كان يجمع بينهما وجه من وجوه الشبه العرضية، فإن داود هيوم لا يعتقد بالمبدأ القائل: بأن لكل سبب نتيجة، وهو ينفي كون العلاقة بين السبب والنتيجة علاقة ضرورية … أما الغزالي فإنه بالعكس يؤمن بضرورة المبدأ القائل: إن لكل سبب نتيجة … فالله — تعالى — في نظره هو السبب الحقيقي الوحيد لكل حوادث الكون …»

ونحن لا نرى أن الغزالي أنكر مبدأ السببية، كما ذكرنا ذلك في مقالنا عن الأسباب بينه وبين ابن رشد بمجلة الكتاب، ولكننا نرى أن داود هيوم لم ينكر العلاقة بين المقدمة والنتيجة في الأقيسة المنطقية، وإنما أنكر أن يكون السبب في المشاهدات الاختبارية ثابتًا بالبداهة بغير تجربة محسوسة، فعلمنا بالنار لا يلزم منه بالبداهة علمنا أنها تقتل من يحترق بها قبل أن نشاهد ذلك بالتجربة والاختبار، ومعنى ذلك أن السببية المنطقية قائمة لا شك فيها، ولكن اقتران الحوادث شيء وتلازم المقدمة والنتيجة في البداهة العقلية شيء آخر، ولولا ذلك لما أنكر هيوم علاقة السببية في المشاهدات المحسوسة، ثم قال: إنه ينكرها لهذا السبب أو لهذا الدليل … فإن الذي يقدم لنا سببًا لإنكاره لا ينكر مبدأ السببية في أساس التفكير، وعلى هذا لا يُقال إن المشابهة بين الغزالي وهيوم عرضية في هذه المسألة؛ إذ هي مشابهة تمتد من العرضيات إلى الجوهر الأصيل.

وزبدة ما يُقال بعد هذا في كتاب «العقل في الإسلام» أنه كتاب محقق للغرض من البحث فيه، مستخلص من اطلاع كافٍ وعزيمة صادقة على التمحيص والتجرد من الأهواء، ولا يُؤخَذ عليه شيء غير هنات هينات من قبيل ما أشرنا إليه، وغير عبارات إفرنجية التركيب قد يدل عليها بعض ما اقتبسناه من شواهد الكتاب، وحسب المؤلف الفاضل نجاحًا أنه أنجز ما وعد بمثل هذا التوفيق النادر في أمثال هذه المؤلفات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤