الفصل الأربعون

عَهدُ الإقطَاع يلفظ أنفَاسه

من الواضح أن عهد الإقطاع يلفظ أنفاسه الأخيرة في بلد بعد بلد من بلاد الحضارة، فإن لم يمت عبطة يمت هرمًا كما قال الشاعر، أو كما قال الشاعر الآخر:

ومَن لَمْ يمُتْ بالسَّيفِ ماتَ بغيرِهِ
تعدَّدتِ الأسبابُ والموتُ واحِدُ!

ففي البلاد التي تقدمت فيها الصناعات الكبرى يموت بالشيخوخة، ومن بقي من أصحابه فإنما يبقى منقسم السلطان متهدم الأركان، يشاركه في سلطانه التاجر الكبير كما يشاركه الصانع الكبير، وتشاركه نقابات العمال كما يشاركه قادة الرأي العام من الساسة ودعاة الإصلاح.

أما في البلاد التي تخلفت فيها الصناعات فلا استقرار له بين أهلها ولا قدرة له على التماسك والثبات في وجه القُوَى التي تنوشُه من جميع جهاته وتعمل على التعجيل بذهابه، وقد تقوَّضت أركانه في بلاد زراعية لم تتقدم فيها الصناعة الكبرى، وتقوضت أركانه في بلاد يتوسط فيها الأمر بين الزراعة والصناعة، ولم يكن الفضل في رجوعه — بعد ذهابه — لقوة فيه أو مقاومة فعالة بين أجزائه، وإنما كانت علة رجوعه حماقة أعدائه وجهلهم بالسلاح الذي يرديه، كما تبين ذلك مرتين من تجربة المجر بعد الحرب العالمية الأولى، وتجربة إسبانيا قبل الحرب العالمية الثانية …

فالثورة على عهد الإقطاع إنما أخفقت في بلاد المجر بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأن القائم بالثورة «بلاكون»، كان يجهل الشيوعية التي يدعيها كما يجهل أطوار الأمم وأنظمة الحكم وأساليب الإصلاح، فجرَّد المُلَّاك الكبار من ضِيَاعهم، وأبى كل الإباء أن يوزِّعها على صغار الفلاحين؛ لاعتقاده أن المِلكية تناقض الماركسية، وأن المالك الصغير يقاوم الشيوعية كما يقاومها المالك الكبير، والواقع أن الشيوعية تناقض المِلكية كما اعتقد «بلاكون» ولكنه لم يلتفت إلى رأي أستاذه «لنين» في مرحلة الانتقال بين ملكية الإقطاع والملكية العامة، فلم يجد لنظامه سندًا من كبار الملاك ولا من صغار الفلاحين، وانهزمت ثورته العاجلة بعد قليل كما ينهزم كل نظام بغير نصير.

وجاءت التجربة الثانية في المجر نفسها فأفلحت حيث أخفق «بلاكون»؛ لأن القائمين بها حاربوا الإقطاع وسالموا صغار الفلاحين، وتدرجوا من الملكية الإقطاعية إلى الملكية التعاونية والملكية الجماعية، فانهزم الإقطاعيون ولم تقم لدولتهم قائمة.

أما التجربة الإسبانية فقد كانت حماقة الشيوعيين فيها أظهر وأخرق من حماقة «بلاكون»، فتماسك عهد الإقطاع بحماقة خصومه ولم يتماسك بقوة أركانه وصلابة بنيانه، واشتركت العوامل الخارجية مع العوامل الداخلية، فاستفاد منها النظام القديم لكثرة مؤيديه من الخارج والداخل وتفرق الكلمة بين خصومه ومنكريه.

لقد كانت الغلطة الكبرى التي تورط فيها الجمهوريون الإسبانيون أنهم صادروا أملاك الكنيسة وصادروا مدارسها في وقت واحد، ولم يحسبوا حسابًا للفلاحين الذين كانوا يحرمون على أنفسهم استغلال الأرض «المقدسة»، ولا حسابًا لعشرات الألوف من الأطفال الذين كانوا يتعلمون في مدارس الكنيسة ولم يجدوا مدارس للحكومة تغنيهم عنها، فأصبح آباء هؤلاء الأطفال يرحبون بكل نظام ينقذ أبناءهم من نشأة الجهل والتشرد بغير أمل في تربية الصبا ولا في التعليم العالي الذي يعقبها، وأطبقت البلوى حين تهجم أراذل الشيوعيين على الأديرة والكنائس، فلوَّثوها واعتدوا على راهباتها وهتكوا الأعراض جهرة بغير حياء على مرأى ومسمع ممن ينكرون هذه الفضائح ولو لم يكونوا من المتدينين.

وانفرد الجمهوريون بعد حين بين خصوم من الإقطاعيين وخصوم من الشيوعيين، بل خصوم من معسكرهم نفسه؛ لأنهم منحوا المرأة الإسبانية حق الانتخاب فانتخبت مرشحي الكنيسة سرًّا وعلانية، وكلهم ساخطون على النظام الجديد.

ثم أطبقت العوامل الخارجية فوق هذه العوامل الداخلية، فجاء الانقلاب من القوة المرابطة في مراكش بمعزل عن الحكومة، وظفر هذا الانقلاب بتأييد النازيين والفاشيين ولم يلقَ معارضة قط من الدول الديمقراطية التي كانت تحارب النازية والفاشية، وتوالى التأييد للانقلاب من أمم أمريكا الجنوبية التي كانت تحارب الشيوعية، وتناصر كل من يخذلها، فأخفقت التجربة بحماقة أنصارها، ولم تخفق بقوة الإقطاع في البلاد الإسبانية، على كونه قوة لا يُستهَان بها في تلك البلاد.

واتفق أن الشعور الوطني في هذه الآونة كان عونًا للإقطاعيين ولم يكن عونًا للجمهوريين؛ لأن الجمهورية اعترفت لقطالونيا وبلاد الباسك بحكومتين منفصلتين وفيهما من السكان نحو تسعة ملايين، فقيل يومئذ إن النظام الجديد يمزق الوطن الإسباني ويوقع الفتنة في الوطن الكبير بعد انفصال هذه الأقاليم.

وجملة القول أن التجربة الإسبانية تجربة شاذة لا يُقاس عليها؛ لأن العوامل فيها بين النظامين غير متكافئة، وهي من جهة أخرى عوامل خاصة بالبلاد الإسبانية لا تتكرر في غيرها، بل لعلها خاصة بالفترة التي وقع فيها الانقلاب من حيث علاقته بالحوادث الوطنية المحلية وعلاقته بالحوادث العمالية وحوادث أمريكا اللاتينية على التخصيص.

أما التجارب في البلاد الأخرى، سواء في أوروبا الوسطى أم أوروبا الشرقية، فهي آخذة في التطور والانتقال إلى حالة جديدة غير حالة الإقطاع، ولم تبقَ فيها للإقطاع قوة قادرة على استئناف حياته الأولى، لو وقف هذا التطور يومًا لعارض من العوارض التي لا تدخل الآن في الحساب.

وليس من الميسور أن نستقصي في هذا المقال ظروف كل أمة زراعية قضت على عهد الإقطاع، واستبدلت به نظامًا من الملكية غير نظام الضياع الواسعة واحتكار الثروة الزراعية، ولكننا نكتفي هنا ببيان الظروف التي تميزت بها تلك التجارب في جملتها، ومنها يظهر لنا أن ظروفنا في مصر أصلح من تلك الظروف لنجاح التجربة مع توافر أسباب الحيطة والتدبير القويم.

فمن الظروف التي تميزت بها تجارب أوروبا الشرقية وبعض الأقطار في أوروبا الوسطى أن الملاك الكبار فيها كانوا أقوى من كل قوة سياسية أو اجتماعية بين قواها المختلفة.

كانوا أقوى من الأسر المالكة الحديثة؛ لأن هذه الأسر قد نشأت بعد استقلال تلك الأمم من السلطنة العثمانية، أو كان أصحاب العروش فيها أمراء محدودين لا سلطان لهم على رعاياهم؛ ولهذا توقفت التجربة التي بدأت في رومانيا نحو سنة ١٨٦٠، واقتصرت على توزيع الأرض التي خرجت من حوزة العثمانيين وأعوانهم في ذلك الحين، وظل الملاك الكبار عقبة في طريق الإصلاح الزراعي إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.

إلا أن هذه القوة لم تكن على الدوام عقبة مانعة في طريق الإصلاح، بل حدث في السنوات الأخيرة أن الملاك الكبار هربوا من البلاد بعد هزيمة الدول الجرمانية والدولة القيصرية؛ إذ كان الكثيرون منهم أجانب يرجعون في نسبهم إلى السلالات النمسوية أو المجرية أو الروسية، فوضع الفلاحون الصغار أيديهم على أملاكهم بغير عوض، واستراحت خزانة الحكومة الوطنية من سداد العوض الذي كان لهم أن يتقاضوه منها، لو لم يهجروا مزارعهم قبل توزيع الأرض على صغار الفلاحين.

وجاء الشعور الوطني معززًا لحركة الإصلاح في البلاد التي كان الملاك الكبار فيها أجانب مكروهين يستغلون فيها صغار الفلاحين بقوة الحكومة وقوة الإقطاع، فكانت جنسيتهم الغريبة عونًا على الإصلاح، بعد أن كانت عقبة لا يسهل تذليلها منذ جيل.

ومن الظروف التي تميزت بها التجارب الأوروبية أنها حدثت في بلاد لم تثبت لها حدود قط في هذا القرن قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها إلى أعقاب الحرب العالمية الثانية، فالإقليم الواحد يتنقل من حكومة إلى حكومة ومن نظام ومن ظروف اقتصادية إلى ظروف تشابهها تارة وتناقضها تارة أخرى، فكان هذا الاضطراب المتتابع إحدى العقبات التي اصطدمت بها حركة الإصلاح الزراعي، ولولاه لتيسرت طريق الحركة منذ سنين.

ومن تلك الظروف أن تلك الأمم كانت فريسة لأصحاب النظريات ممن يهتمون بمذاهبهم قبل كل شيء، ولا يقصرون الإصلاح على مقتضياته في كل بيئة من البيئات التي يطبقون نظرياتهم عليها، وكثيرًا ما يعتمدون في نظرياتهم على دول أجنبية تدين بالشيوعية، أو تدين بالفاشية والنازية، أو تعارض هؤلاء وهؤلاء، ولو أنهم حصروا غايتهم في هدم الإقطاع وعالجوا كل نتيجة بما تقتضيه لحفظوا كثيرًا من الجهود التي أُرِيد بها إكراه الوقائع على مجاراة النظريات.

وعند الموازنة بين هذه الظروف وبين ظروفنا في مصر يبدو لنا أن الإصلاح الزراعي عندنا ألزم وأيسر من وجوه شتى.

هل من الصواب أن يُظَن أن هذا الإصلاح خلو من عقباته ومصاعبه؟ كلا … وليس في الوسع أيضًا أن نحصرها كلها قبل الشروع في التطبيق والتقدم به خطوة بعد خطوة، ولكننا إذا ضربنا المثل بالصعوبة الأولى التي ظهرت بوادرها أمكننا أن نقيس عليها ما يتبعها.

فالبوادر التي ظهرت حتى الآن تتلخص في ارتفاع أجور العمل الزراعي وهبوط أثمان المحصولات مع تحديد أجرة الفدان، ومن المصلحة فيما نرى أن يرتفع مستوى المعيشة بين عمال الزراعة، فلا محل للحد من أجرة العامل الزراعي كلما أمكنه الحصول عليها، فهل من العسير علاج هذه الصعوبة بغير تحديد الأجور؟

نعتقد نحن أن إشراف الدولة على تصدير الحاصلات المطلوبة في الخارج ييسر لها أن تشتري حاصلات الأرض بالثمن الذي يجزئ المالك والعامل، وأن الإصلاح يحتاج حتمًا إلى مؤسسة مالية تتكفل بتمويل الحركة كلها، وقد يؤدي جمع المال لهذه المؤسسة إلى تخفيف التضخيم النقدي وتمكين الحكومة من سداد أثمان الأرض المستغنى عنها ومعونة الفقير الذي يزرع أرضًا ولا يملك أدوات زرعها، وكل صعوبة تعترض هذه الحلول وما شاكلها هي أهون على أية حال من دوام عهد الإقطاع الذي لا مصلحة لأحد في دوامه، حتى الإقطاعيين لو أنهم يتبصرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤