الفصل الرابع والعشرون

عند الصيدلاني الفيلسوف

كانت دكانة نعيم الصيدلاني في سوق كبيرة تدعى سوق أزال١ وكانت تمتد على ضفة نهر صغير ينحدر من جبال في شمالي صنعاء، ويخترق رقعتها، ثم ينصرف في طريقه حتى يصبَّ في البحر الهندي، وهذا النهر يحد سفح تلٍّ عظيم قديم العهد يسمى تل غمدان، كان عليه قصر عظيم البنيان حتى عد من عجائب الدنيا، بناه أزال بن قحطان جد العرب اليمانيين٢ ثم جرت عليه أعاصير الزمان فتهدم، وسارعت الطبيعة فدفنته كما تدفن الإنسان، وموّهت على الناس أمره بما أنبتت فوقه من أشجار، وما أسكنته فيه من حيوان، وكأنه ما كان.

وكانت الدكانة جزءًا من دار نعيم أو بالأحرى من بستان داره، مستقيمًا مع السوق؛ إذ كان هذا البستان الصغير قطعة من طرف بستان القصر العظيم في سالف العصور، ومن ثمَّ كانت على شاطئ النهر.

كانت دار نعيم شبيهة بأكثر دور التجار والأعيان والسراة في صنعاء، وما أكثر تجارها وسراتها، بيتًا من الحجر ذا دورين يحيط به بستان فيه من أنواع الثمر اليمني الأصيل والمجلوب ما تستطيع أرضه إعالته، وفيه بئر أو آبار ينشل منها الماء؛ لسقي البستان في أيام الجفاف وهي قليلة، إذ كانت البلدة كثيرة الأمطار؛ لوقوعها في أطراف المنطقة الممطرة في منتصف المسافة بين خط الاستواء ومدار السرطان،٣ وكانت لعلوها شديدة البرودة في الشتاء لطيفة مستحبة، معتدلة المناخ في أكثر الصيف، فهي لهذا مقصد طالب العيش الرخي، وكانت أسواقها عامرة في كل وقت بأنواع ما يرد إليها من حاصلات اليمن من الغلات والمعادن، ومصنوعات الجلد والقطن والكتان والحرير والصوف والذهب والفضة والحديد والمعادن الأخرى، كما أنها كانت مصنعًا للسيوف والرماح والأدوات المنزلية، وموردًا لتجارة الهند وبلاد الحبشة والصين من البرد وسائر الثياب، ومن الأفاوية والعقاقير، وسوقًا لما يرسل إليها من عمان وبلاد البحرين والفرس وعدن وحضرموت، وشجر من اللؤلؤ والمرجان والياقوت وعجيب الأحجار الكريمة، ومن العنبر والمسك والكافور والعود … وأنواع التحف العجيبة.

ومن ثم كانت اليمن وكانت صنعاء بلادًا تعاورتها الملوك وتنافست في امتلاكها الدهاقين، وكانت في هذه الأيام من ملحقات كسرى بن ساسان ملك الفرس، وعليها والٍ من قبله يدعى باذان.

ذهب ورقة إلى نعيم يحمل متاعه القليل على ظهر جواده، وهو مكروب محزون، فلما وقف ببابه ورآه نعيم على هذه الحال، أدرك أن هناك شرًّا أصاب الفتى، فترك مكانه من الدكانة، ونهض إليه نهوض الوالد إلى ولده، فقد كان نعيم يحبه حبًّا عظيمًا، ويبالغ في إكرامه حين زيارته إياه مع الحارث، حتى لقد حدثته نفسه أن يعرض عليه ابنته الوحيدة لو أمكن أن يتهوَّدَ، ثم لا يعيبه الناس على تزويجه ابنته من فتى من مكة الوثنية، سيقال: إنه إنما تهوّد لرغبته في زواج يهودية جميلة أو يهودية غنية بأيها.

ترجل ورقة وهو يحاول أن يُخفي همه العاصب في كلمات التحية والتسليم، ولكنها كانت تخرج خرساء مظلمة ليس فيها من نغم إقباله الجميل على الناس، ومشرق ابتسامته في الحديث ما كان يحببه إلى كل عين وكل أذن.

وكان نعيم رجلًا علّمته السنون وحياة الأسواق شيئًا كثيرًا من أحوال النفس، وكان يقول لورقة وكل من يستأنس به — وقلما ازورّ عن أحد أو استثقله — إنه يعيش في دنيا خاصة به، دنيا خلقها لنفسه؛ ليعيش فيها كما يحب لا كما تشاء المقادير. دنيا يطلع لنفسه فيها شمسًا خاصة به بالنهار، وقمرًا خاصًّا به بالليل، يغنيه فيها ويطربه بلابل لا تفارق بستان حياته لا صيفًا ولا شتاءً؛ ولذلك كانت له فلسفة خاصة يعجب لها الناس، ويستريبون من أجلها حجاه، وهو يعرف ذلك منهم ولا يأبه له، ولا يعتد به؛ لأنه كان من بعد هذا تاجرًا ماهرًا، ورجلًا همامًا، وشخصًا يستوجب لنفسه المحبة من كل إنسان، كريمًا إذا وجب الكرم، حليمًا إذا وجب الحلم، ولكنه كان إذا غضب فالويل لمن يكون سببًا في إغضابه.

رأى ورقة على هذا الحال، فعمل على صرف همه بشيء من أساليبه الخاصة، فلم يمهله حتى يسائله ويحييه، ويرتب على الجواب جوابًا، بل ابتدره بحكاية وعرة الألفاظ مما كان يرويه الناس من الأحاديث المفتعلة عن لسان كواهين يسمين صاحبات مصاد بن مذعور، ويحملون الناس وضعفاء العقول من المتأدبين على تصديقها، وترتيب قضايا في التاريخ عليها، مع أنها تحمل تكذيبها في منطوقها. وإنما رواها نعيم، لا تهكمًا منها؛ بل ليصرف بها ذهنه، ويشغل باله عن الهمِّ كما ذكرنا. فقال له: «يا صاحب الجواد النيَّاف والبرد الكعاف، والجرم الخفاف. يا مضلا إذواد الملاكد، وكوما صلاخد، منهن ثلاث مقاحد، وأربع جدائد شسف صمارد». فلما سمع ورقة هذا الكلام لم يفهمه، ولم يدرك قصده منه، ولكنه رأى نعيمًا يتكلم كلام جد، فجمع عليه لبه ليفهمه، فلم يستطع، وزعم أنه بعض لغة حميَر الذاهبة، أو العبرية الذائعة. فقال له: لم أفهم مما تقول شيئًا فقال له: كيف لا تفهم وعهدي بك ذكيًّا «لقد رعين الفزع، ثم هبطن الكَرَع، بين العقدات والجرع» فتلفت ورقة يستمد معناها من الهواء والسماء، وهو يقول لنفسه: ما هذا اللسان؟ أراه عربيًّا وما هو بمفهوم، وفيما هو ملتفت عنه رنت وراء أذنه ضحكة من نعيم؛ إذ أدرك ما فيه ورقة من الحيرة، ثم تناوله، وسار به يحادثه حديث العقلاء، وقد بدت على وجه ورقة علامات الابتسام. قال له: يا ورقة وحق موسى لا تستحق الدنيا أن تفكر فيها، ولقد عوَّدت نفسي أن أزيل شجونها بمثل هذا الهراء الذي يسمونه حكمة وكهانة. أتدري أن هذا ما يروونه عن أربع جوار قابلن رجلًا في الطريق أضل بعرانه فجئنه يخبرنه أين هي؟ قال ورقة: وهل اهتدى إليها. قال: إنهم لا يتركونه في ضلاله كما يتركوننا، بل لا بد أن يجمعوه بها، وأقسم لك لو أنني كنت صاحب الجمال الضالة لأضلني هذا الكلام معها. دعنا من هذا، واسمع: إني قد أعددت لك عندي في بيتي غرفة جميلة مطلة على البستان، ولها باب على درب وآخر على الدار، وستقيم فيها عندي ما شئت حتى تعود إلى مكة، وإذا أنصفت فعش في صنعاء، ودع تلك البلاد، وأقسم لك يا ورقة، لولا أن قريشًا ترتزق من جيرتها للبيت المحرم ما عاش في أرضها أحد. كيف يرضى الإنسان باختياره أن يعيش في وهدة كبيرة تحيط بها الجبال فهي أشبه بالقلنسوة المقلوبة؟ لا ماء فيها ولا أشجار؟ وما قيمة الحياة؟ وما لذتها؟ وما معنى الرضا بها إذا كنت لا تجد فيها إلا أحسن ما يجد الهارب في الصحراء؟ ابق معي في صنعاء أمتعك بالحياة وأرك الدنيا على حقيقتها بعيدًا عما يشغل به الناس أنفسهم من أمور الناس. أعيشك حكيمًا سعيدًا بعيدًا عن الضلال، ومتمتعًا بكل ما تشتهيه نفسك في حدود الكمال والفضائل. قال ورقة: ما أشد شكري لك، وما أشدني رغبة في أن أعيش كذلك، ولكن هناك نفوسًا لها بي روابط كثيرة، ولا بد من تقطيع هذه الروابط حتى أتمتع بهذه الحياة السعيدة التي تزينها لي، والتي لا شك عندي في قدرتك على تحقيقها، ولكن من المحال أن تقدر على قطع هذه الروابط فهي روابط الرحمة. حبال قوية شدت إلى القلب، فهي تتجاذبه نحو الأم والأهل والأصدقاء والأحباب، ولكني لا أدري كيف أعددت لي لديك مكانًا، والنضر لم يحملني على ترك أبيه إلا منذ قليل، أم كان هذا بتدبير سابق؟ قال: لا وربي، ولكني رأيت حزنك، وسمعت النضر غير مرة يتكلم هنا مع أبيه في شأنك بما ينم عن كرهه لك، والحارث يدفع عنك ويثني عليك، فأدركت أن أيامك قصيرة مع الحارث بن كلدة، ولما رأيتك أدركت أنك أتممت هذه الأيام، ولكي أدلك على أن الأمر أهون من أتفكر فيه بادرتك بما عرفت، وليس لك إلا القبول. فبدرت من عيني الغلام دمعتان كبيرتان ترددتا في السقوط حتى دفعتهما أخريان أكبر منهما فتحدرتا على خديه، ثم قال: إن الحارث أمرني أن أجيء إليك، وأنتظره هنا حتى يجيء؛ وإذ كنت لا أعرف مكانًا آوي إليه فقد جئت بحمولي إلى دكانتك حتى أرى لي رأيًا. ثم ذكر سبب غضب النضر، وما كان من يمينه، وما تهدده به من القتل. قال نعيم: لا رأي لك عندي. ستنزل في البيت الذي وصفت لك منزلًا مكرّمًا وستبقى معي معززًا مشكورًا.

figure
فراق الصديقين.

وفيما هما في ذلك جاء الحارث وعلى وجهه قترة من الهم والكدر، فنهض ورقة للقائه، ثم انحنى فتناول يده وقبلها وغسلها بدموعه، فتناول الحارث رأسه وقبله قبلات حارة ضمنها كل معاني حبه وتقديره وعطفه وأسفه. ثم جلس يمسح دموعه حتى إذا هدأ قال الحارث: يا نعيم، إن هذا الفتى أشرف وأنقى من وقعت عليه عيني، أو لمسه قلبي، وما كانت لأفارقه لولا يمين غموس قطعها ولدي، وما كنت لأوثر ولدي عليه إلا لأمرٍ واحد هو ما كان ورقة يؤثره به وإن لم يكن ولده؛ ذلك أني أردت أن أبعد ابني عن مكة، حيث نهض في تلك الوديان المقفرة نبي يدعو إلى دين إبراهيم، ويصرف قريش عن الأوثان. ذلك هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي ورد ذكره في توراتكم، ولكن ابني يكرهه ويحسده ويريد قتله، وابني شرير لا يقبل رأيًا ولا نصيحة، وسيلقى جزاء شروره وبغيه، وهو وحيدي، فبرًّا برسول الله وبأمتي وبولدي من بعدهم، لا يسعني إلا أن أتحمل كل أذاه لي، وأسير معه سير الطاعة؛ لأحول بينه وبين جريمته، وسأرحل به الليلة إلى العراق فقد سئم البقاء في اليمن، وأنا تارك معك ولدًا لي آخر، هو ورقة هذا. كن له كما أكون، وعلمه تجارة العقاقير وأنواعها وأصنافها وعرفه منافعها. على أني قد وضعت جزءًا من كتاب عن العقاقير كتبه ورقة بيده، وجئت به هدية له، وها هو ذا، ثم قدم إليه حزمة كبيرة من الرقاق التي كتب عليها ورقة كتاب أستاذه.

وهنا لا بد لي أن أعلن أمرًا أخفيته حتى عن ورقة ذاته. ذلك أن مولاه وصديقي ورقة بن نوفل حكيم العرب، وصهر الرسول الأمين، ابن عم زوجته الشريفة خديجة بنت خويلد — كان قد أودعني خمسين دينارًا تكون لورقة يوم يتم علم العقاقير، على أن يشتري بما شاء منها تجرًا يكون أساسًا لتجارته في مكة، وأقسم أن هذا القول صحيح، وما أقسم إلا لأني أعلم حق العلم أن الغلام لا يقبل مني إحسانًا ولا أجرًا، وإن كان قد خدمني وأسعدني بما كان يجب أن أعطيه عليه أجرًا، ولكني أريد أعلن أن سيده ورقة بن نوفل أبى أن أجعل له أجرًا، ظنًّا منه أن الأجر يُفسد علاقتي به، ويقضي على رابطة الأبوة التي تجمع بيني وبينه، وينزله من نفسه منزلة لا يرضاها، فقد كان ورقة عازمًا على أن يتبناه، ولكن القدر فاجأه قبل أن يتم مراده، بيد أنه قد أورثه خير ما يملك، أورثه الحنيفية السمحة فلم يعن لوثن، وعلمه القراءة والكتابة وهي كنز لا يقدر بثمن، ثم أعطاه خلقه وعفته ونبله، وأكرم بها عدة للزمن. فخذ يا نعيم مال الفتى وأسرع، بتعليمه تجارة العقاقير، وعرفه منابتها ومواردها، فإن هذا علم لا يؤخذ درسًا بل ممارسة، وإلا ذهب رأس المال. حتى إذا أتممت تعليمه وشعر هو بذلك، فدعه يشتر منها ما يشاء بما يشاء من هذا المال، فإن أحسن الشراء فدعه يرحل، وإن أساء فأبقه عندك حتى يحسنه، وإذ إني عزمت على ترك صناعة الطب لغيري ولولدي بعد ما هيأ لي ربي من الثروة الواسعة، فاجعل ما لديك مما أوصيتك بمشتراه لي من حق ورقة، وخذ لنفسك ما بقي لديك من المال أجرًا على تعليمه، وما هو بالكثير، وقبل أن أنهض من مجلسي أريد منكما شيئًا واحدًا، هو ألا تنهضا لتوديعي، ولا تمدا للسلام علي يدًا. إني أريد ألا يشعر القلب أني أودع باخيتاري أحب الناس إليّ.

فما كاد يتم هذه الكلمة حتى نهض ورقة، وجرى إلى أستاذه وجثا على قدميه على الأرض، وأخذ يبكي وينشج في بكاءه، وهو متعلق بأردانه، كأنه يمنعه من النهوض، وتنفيذ عزمه على الفراق، والحارث محزون تنحدر دموعه على لحيته، ونعيم مفجوع القلب، حتى استمسك فأخذ بيدي ورقة، وأفسح الطريق للحارث، فخرج وقد استنفد منه حزن الساعة صبره وجلده ووقاره.

١  اسم صنعاء قديمًا.
٢  من كتاب نشر المحاسن اليمانية.
٣  على خط عرض ١٤ وكسور من خط الاستواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤