الفصل الخامس والعشرون

لمّ الأطراف

بقي ورقة في صنعاء مع نعيم ينعم بجواره في بيته ودكانه، وينسى همومه في مجاهل اليمن ومعارفه، وسهوله ووديانه، وجباله وأحقافه، وقراه وحلله، ومرابعه ومشاتيه. فقد رأى نعيم والفرصة سانحة بوجود رفيق من أحسن الرفقاء نفسًا أن يرتاد بلاد اليمن ومنابت العشب؛ ليستريض ويتعرف، ويعلم ورقة ويبصره، وإن لم يكن ورقة في حاجة إلى ذلك كله، بل ربما كان بقاؤه في الدكانة أعود عليه بالفائدة منه بالترحال، ولكن كان لا بد لورقة لكي ينسى الدنيا الجميلة التي أخرج منها، دنيا لمياء وهرميون — أن تمر عليه الحوادث والوجوه في تناقض واختلاف؛ ليشتغل بها فؤاده حتى لا تكون رتابة المكث في مكانٍ واحد مذكرة إياه بالأحباب والإخوان؛ ولذلك أخذه نعيم في سفرات متقطعة كان قد انتواها من زمنٍ بعيد إلى البلاد المحيطة باليمن على البحر الهندي وخليج فارس وبحر القلزم. فلما أتمها استقر بصنعاء مدة، ثم عاد إلى ارتياد بلاد اليمن نفسها شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. كل ذلك باسم ارتياد منابت العشب، حين أن نعيمًا كان مغرمًا بالتنقل والاستراضة والسياحة، وكان في نيته يوم تتزوج ابنته أن يتركها بين يدي زوجها، ويذهب إلى العراق أولًا ثم إلى الإسكندرية، أو إلى الإسكندرية ثم إلى العراق؛ لأنه كان يسمع المغريات عن الإسكندرية وما فيها من الأعاجيب، وعن مدائن كسرى وما فيها من مظاهر الملك والسلطان، وكان في كل حديث عنهما يغري ورقة ألا يفوّت على نفسه زيارتهما.

سرّت هذه الزيارات من هموم ورقة، فلم يبق من صلات قلبه بأحبابه إلا حبيس وجد بلمياء، وذكريات محبة خالصة، كانت تمر على مخيلته كل ليلة عندما يرقد لينام أو يفيق في الصباح، أو يخلو لنفسه في مكان، ولا يزال يتأمل وجه لمياء ونظراتها إليه المملوءة بالحب والرضا والعتاب الشديد، ثم يتذكر استحالة أن تكون له، حتى تتسرَّب الذكريات واحدة بعد أخرى. فإذا انطفأ نورها رقد ونام، أو أفاق لينهض، ولقد أغرم ورقة بالصلاة، فأوجب على نفسه منها ما لم يكن قد أوجبه الله بعدُ على المسلمين، تلك هي صلاة الصبح والعشاء. كان ورقة يفيق على عادته مبكرًا، وإذ هو متوحد في غرفته — كان يذهب من فوره؛ ليتوضأ بماء البئر، ثم يعود إلى غرفته، ويتجه إلى الله ليصلي، فإذا انتهى منها ضاعفها؛ وكان يشعر أن هذه الصلاة الصباحية أفعل في القلب من صلاة الضحى؛ لأن النفس تكون إذ ذاك خالية من مشاغل الحياة. أما صلاة الضحى فكانت تقطع عليه يومه؛ وإذا انصرف لها لم يكن قلبه على سجيته النقية الخالية من مؤثرات الحياة.

وإذا عاد إلى غرفته في الليل؛ لينام، وأحس بالوحدة — استمد الأنس من جوار الله فذهب إلى البئر وتوضأ وصلى، واتجه إلى الله بقلبه، ودعا لأهله ولهرميون ولمياء وإخوانه في مكة بما يدعو به القلب المطهر؛ فرآهما في صلاته ودعائه رؤية رضا وطمأنينة، ثم ذهب إلى فراشه يفكر فيهما تفكيره المعتاد حتى يملكه النوم فينام.

كانت هاتان الصلاتان مما هداه إليه قلبه واحتياج نفسه، ولم يكن يجد في أن يصليهما خروجًا، فقد صلى مع زيد صلاة ليلية تقربًا إلى الله، وعلم أن الرسول كان يصلي كلما أحس حاجة إلى الصلاة، وكان ورقة يؤخر الضحى حتى يجيء وقت الطعام فينهض ويتوضأ ويستريح، فكانت صلاة الضحى في الحقيقة عنده هي صلاة الظهر، فلم يترك مما أمر الله بعدئذ١ إلا صلاة المغرب، على أنه كان في كل صلواته مستهديًا بوحي قلبه، ومن كان قلبه متصلًا بالله فالصواب رائده، حتى فيما لم يأته به علم ولا أذان.

نترك ورقة إذن في ارتياداته وقفلاته يسلخ من حياة الدنيا عامًا، وهو على ما هو عليه من هدوء النفس والارتياح إلى عشرة أستاذه الجديد: نعيم؛ يشتغل معه، ويعمل له حتى أصبح ينوب عنه في كل شيء: يبيع له، ويشتري من أعراب نجد، وخولان، وقوافل عدن وغير عدن بما علمه نعيم، ويعقد صفقات صغيرة وأخرى كبيرة مع المستبضعين من صغار تجار العشب ومستورديه، ونعيم فرحٌ به مغتبط ومثنٍ عليه. حتى إذا كان ذات يوم قائمًا في دكانة نعيم دخل عليه قس من قساوسة نجران كان يعرفه؛ لكثرة التقائه به في بيت الأسقف، جاء إلى صنعاء في شأن من شئون الكنيسة، وكان يعلم من الأسقف أن ورقة في صنعاء، ومن الحارث أنه عند نعيم فجاء يزوره.

رحب به ورقة أيما ترحيب، واستأذن من أستاذه في مرافقته، فأذن له وكلفه أن يدعوه للعشاء معهم، وقبل القس ذلك شاكرًا رغبةً منه في الائتناس بصاحبه في بلدة ليس له فيها صاحب، وإن كان معتادًا أن يزورها في طلب حاجات الكنيسة.

على أنه كان يحمل من هرميون ولمياء سلامًا ودعاءً وأشواقًا، وإن كان قد احتفظ له بها قرابة عام؛ ذلك أنهما كانتا تعلمان أنه رسول الكنيسة، وقاضي حاجاتها من صنعاء؛ فكلفتاه أن يلقى ورقة عند نعيم الصيدلاني يوم يصل إلى صنعاء، ويبلغه عواطف المحبة والرضا. أبلغه ذلك، وأبلغه أنهما سافرتا من نجران منذ عام، وأنه جاء صنعاء مرتين، وجاء إلى الدكانة، ولكنه لم يلقه؛ إذ كان ورقة مسافرًا مع نعيم، وأنه اليوم سعيد بأن يلقاه ويبلغه رسالة السيدتين.

وعلم ورقة منه أنهما سافرتا مع الحارث وولده النضر إلى مكة عينًا، وأنهما ستبقيان بها نزولًا إلى إرادة النضر؛ إذ أبى أن يسافر إلى العراق، وأن الأسقف نصح لهرميون أن تطيع زوجها فيما رأى من العودة بها وبلمياء إلى مكة بعد مشهد عصيب كان الحارث فيه على وشك أن يطلق هرميون، ويأخذ ابنتها منها.

قال ورقة: مسكينة هذه المرأة! قال: حقًّا هي كذلك، ولكنها لم تكن على صواب. قال ورقة وقد أفاق بعد ذلك الحديث الذي أحزنه: فيم كان خطؤها؟ قال القس: كان في استطاعتها أن تبقى في نجران لو أرادت فقد طلب أحد بني عبد المدان من الحارث أن يزوجه لمياء، ورضي الرجل، بل رضي النضر الذي ما رأيته يقر شيئًا يكون فيه خير أبدًا، ولكنها رفضت واعتذرت كما قالت لي بربارة قهرمانة الأسقف معاذير عجيبة. قالت: إنها لا تزوجها من عربيٍّ أبدًا. فلما تدخل النضر في الأمر قالت: إن بينها وبين زوجها صكًّا بذلك؛ أي: أن يكون زواجها بيدها لا بيده، قال نعيم وكان يسمع: والله إني لأراها على صواب. ما هؤلاء الأمراء يا مولانا إلا أسماء لأجلاف صحراويين يشقون الناس باسم الإمارة والسيادة. قال القس: وهل تستطيع هرميون أن تعود إلى الإسكندرية والطريق مزروعة فيها الأسنة والسيوف. لن تنتهي هذه الحرب بين الفرس والروم قبل عشرين سنة تكون فيها ابنتها قد عنست، وتكون هي قد آمت، ولم يصبح لهما ذكر في الدنيا. قال ورقة: ولمياء ألم يكن لها في هذه المعمعة رأي؟ قال: ثق أن رأيها رأي أمها. قال نعيم: محال أن يكون الأمر كذلك، ترفض العذراء زوجًا من أهل الإمارة انتظارًا لزوج يذهب بها القدر إليه في الإسكندرية بعد زمنٍ لا تدري ذرعه! قال القس: بل أؤكد لك ذلك، فقد خبرتني القهرمانة أن الفتاة أعلنت والدها أنها نذرت لله أن تتعنس، وأنها لا تريد الزواج، فإن حملها عليه فهي تدري كيف تنجو بنفسها منه. فأدرك الحارث أن ابنته تنذره بالانتحار، وقبل أن يأتي الغد عليه ويعطي كلمة لبني عبد المدان رفضًا أو قبولًا — كان قد ارتحل عن نجران بأهله إلى مكة، وهوّن على امرأته يومئذ هذا الارتحال أنها لم تكن تستطيع أن تلقى نساء بني عبد المدان بعد هذا الرفض.

عرف ورقة سر ذلك فاشتغلت نفسه بما سمع، وبات ليلته سهران يفكر في لمياء، وكلما غالب نفسه على النسيان، وصرف الفكر عنها، ويذكر أنه عاهد نفسه أن يقطع صلته بها، وهدأ على ذلك — وجد قلبه ينازعه، وأخيرًا وجد نفسه يعتزم الرحلة إلى مكة لغير قصدٍ ظاهر، ولا أمل معين، ولكنه شعر أن وجوده في مكة بجوار من يحب هو المنى كل المنى، وهاج في نفسه الرحلة والإصرار عليها أنه كان في الشهر الأخير من الشتاء، وأن قافلة مكة عائدة إليها صبيحة الربيع.

أعلن ورقة الصيدلاني نعيمًا برغبته هذه، ولم يستطع نعيم ولا أهل بيته صده عن الرحيل، ولذلك قضيا قرابة الأسبوع في تجهيز ما يحتاج إليه ورقة من البضاعة التي كان يعد نفسه للإتجار فيها في مكة، وكان المال الذي تجمع لديه كثيرًا، إذ جاوز مائة دينار؛ لأنه اضطر أن يبيع جواده لرسل جاءوا من بلاد الفرس في طلب الخيل للحرب، ولم يكن في استطاعته مخالفة رغبة الحكام، أو إخفاء الجواد عن العيون. كما أن ما تركه له أستاذه الحارث من العقاقير عند نعيم كان بقدرٍ كبير؛ ولذلك رأى ورقة ألا يستهلك ماله كله في العقاقير، وإذ رأى من الحكمة أن يشتري بعرانًا لنقل حموله، وكان قد عرف جمّالًا ممن يحملون البضاعة لنعيم؛ فقد اتفق معه على أن يذهب به إلى سوق الجمال ليشتري بخبرته ثلاثة بعران يحمل عليها بضاعته على أن يجعله على جماله في عير اليهود الذاهبين إلى القدس.

على أن الجمال خانه — كما علمنا — وفر بالمال، فاضطر إلى أن يشتري بما بقي معه جمالًا أخرى، ويخرج بها من صنعاء بعد العير بيوم مجتازًا بها مفاوز محفوفة بالأخطار؛ ليدرك قافلة مكة في نجران، فحدث له ما حدث من الالتقاء بالجمّال وعير اليهود في حلة الأراك، ووقع له ما وقع مع الذئاب والقرضاب وإنقاذه الغلام رؤبة، ثم وصل إلى نجران في موهن الليل برسالة من إسحاق؛ ليعوق القافلة عن المسير يومًا حتى يدركها، ويسير في حماها.

١  فرضت علينا الصلوات الخمس بعد ليلة الإسراء، وذلك قبل الهجرة بسنة، أي: في السنة الثانية عشرة من البعثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤