الفصل الثلاثون

يوم بُعاث

كان ورقة يخرج إلى الجبال المحيطة بيثرب أو إلى أوديتها مستريضًا أو ملتمسًا لناقته علفًا في مراعي بني النجار، فكان يعجب لما كان يرى على سفوح الجبال وقممها من بيوت محصنة بنيت بالحجر الأصم، وصينت من أذى المقتحم بأساليب الوقاية والدفاع. تلك هي الآطام التي بناها اليهود؛ للاعتصام بها كالقلاع والحصون في بلاد الشام. هناك في وحدته كانت تسبح نفسه في عالم الخيال والتفكير، فيتأمل تكالب الناس على أعلاق الحياة، واحتيال غيرهم على صيانة ما في أيديهم من ذئاب العالم، ويتفحص أخلاق بني آدم وأفعالهم فلا يراهم في الحقيقة إلا ذئابًا في مسالخ أناس. كان يعرض أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم على مخيَّلته، ويتساءل فلا يأتيه إلا جواب مذعر مؤلم لا يجد لنفسه حيلة ولا وسيلة إلى دفع ألمه إلا بالاتجاه إلى الكعبة حيث يسكن سيده المرجي لخير الناس ودفع شرورهم، ويجثو داعيًا ومصليًا أن يعجل الله بنشر دينه؛ ليريح الناس من هذه الشرور. ثم يراجع نفسه فيقول: ما محمد إلا بشر وسيموت كما مات غيره. ترى أيبقى دينه حيًّا قويًّا كما يكون في حياته؟ أم تلويه ذئاب الناس بأنيابها الحديدية، وتوجهه وجهةً أخرى ليعودوا فيقضموا الرقاب كما يفعلون الآن؟ وما كان ليرد عليه جواب هذا إلا بما يذعر، ولذلك كان يقول: ألا إنه يجب علينا نحن المسلمين أن نخصص من أنفسنا طائفة؛ لحماية دين الله، ورد الشارد إلى صراطه المستقيم، ودفع الناس عن الناس بالموعظة الحسنة وسيف الخير الذي لا يرحم إذا أردنا أن نعيش سعداء في الدنيا والآخرة. كان تفكيره إذ ذاك يجري على هذا الأسلوب من سؤال وجواب:

دعني حرًّا لا. لأن حريتك تقيدني
اترك لي ما في يدي لا. لأني محتاج إليه
ألا تحافظ على عهدك معي؟ لا. لأن هذا يضرّ بي
إذن دعني أعاملك كما تعاملني لا. لأن هذا اعتداء عليّ
إذن دعني أمنع أذاك عني لا. لأنه يحرمني القصد من أذاك
هذا بغي وعدوان لا. هذا ما تصف به أنت حقي
فإن ناهضتك؟ إذن أقتلك
أتبعك إذن لا بأس لتخدمني
وتعطيني الحرية؟ لا بأس بقدر ما تستبقي تبعيتك لي
أتبع دينك ليعصمني لا بأس على أن تقرب لي قربانًا في كل وقت
هذا يفقرني ويرهقني لا بأس ما أغناني وقواني
ولكنك تذلني وتفنيني لا بأس ما أعزني وأبقاني
من قال بهذا؟ الذئب
وأين الذئب؟ أنا وأنت
نحن أناس نحن وحوش
ولو تهذبنا؟ لن تموت الفطرة
فما الفضائل؟ نعوت لشذوذ
وما الرذائل؟ نعوت سيئة لأفعال صائبة
وما الحق؟ ما نال البغي
فما الأخيار؟ الضعفاء لم يستطيعوا أن يستذئبوا فاستكلبوا
فما الحكماء؟ الذين يحاولون إتلاف فطرة الذئب في الإنسان
فما الأنبياء؟ فئة تناهض الطبيعة
ولكنهم ينجحون نعم في تقوية الذئاب الضعيفة
ودين محمد؟ سيذيع وشيكًا
لماذا؟ لأن الضعاف يريدون مخرجًا
كيف؟ سيصير العبد حرًّا، والمنبوذ أصيلًا، ويرى الفقير أن له حقًّا في الغنى، وأنه لن يقدم قرابين لا للسيف ولا للهيكل، وأن ستكون العقيدة بسيطة لا تخجل العقل
ويستمر كذلك؟ لا. إذا بلغ طالبوا الحرية حد التساوي نزعوا إلى الظلم كما كانوا، وعمد بعضهم إلى التسلط على بعض
لن يكون دين محمد معهم يومئذ سيلحقونه بهم قسرًا
باسم الدين؟ والديان
بالبهتان؟ بكلامٍ كالبرهان
وحكم القرآن الصريح يؤوله أنصارهم بكلامٍ فصيح.
هل يكفي الكلام للإقناع؟ نعم ممن رفع عن نابيه القناع
ولكن الناس لن تصدقهم سيحملهم السيف على التصديق والدينار على المشايعة
يأسًا؟ نعم وبؤسًا
فإذا صاروا لهم؟ صاروا كلابًا، أو عادوا ذئابًا
أهكذا الدنيا؟ أجل من قبل ومن بعد

هكذا كان ورقة يتخيل؛ لكثرة ما شاهد من الناس، وما سمع من الناس. فالعالم كانوا في نظره ذئابًا صرحاء، لا يعرف الفضيلة منهم ولا يقول بها، ولا يميل إلى البر إلا من ضعف أو أضعف، فهو ذئب مستور ما إن يقوى حتى يتكشف، فإذا الفضيلة رياء، وإذا حب الخير احتيال.

ذكر أهل مكة كيف أنهم يناهضون رسول الله الذي أرسله الله بالحق والحكمة، والدواء لكل داء، ومع ذلك وجدهم يسفهون رأيه ويكذبونه، وهم يعلمون أن رأيه حكيم وأنه صادق، ولكنهم كانوا يقولون في أنفسهم: ماذا ينفعنا هذا الصدق إذا كان سيلزمنا العمل بالعدل والتساوي، ويكون له الحق في الحكم على أفعالنا، والحد من حريتنا، وتقييد تصرفاتنا، والتسوية بين القوي منا والضعيف، والكبير من الناس والصغير، وحرمان الذئاب حق الفتك بالشياه! يجب علينا إذن أن نناهضه، وإذا استطعنا أن نقتله فلنقتله؛ لأننا إن تركناه يدعو إلى دينه فسيقوى ويقوّي الضعفاء معه، ويسلب منا موارد الغنيمة، ولأننا إن سلَّمنا له بقوله فإنما نحن في الحقيقة ننضوي تحت لوائه، ونعطيه الزعامة علينا فيصبح ملكًا حقيقيًّا، وإن لم يسم نفسه بذلك، وننقلب له رعايا وأتباعًا. لا. لن نسلِّم بفقد مركزنا الأعلى باسم التسليم بأن الله واحد. الله واحد فعلًا. كل القلوب تشعر بذلك، وليكن محمد رسوله، وليكن أن يترتب على ذلك تقليم أظافرنا وحت أنيابنا فلا، ثم لا، ثم لا ألف مرة، وعليه يجب أن نستمر ويستمر سائر العرب معنا على عبادة اللات والعزى ومناة ما أبقت هذه العبادة على أرزاقنا من ورائها، وعلى منزلتنا العالية في مكة والحجاز وبلاد الوثنية، ولو بقيت أمة العرب حطيطة الشأن في كل زمان. إنما الخير ما فاء علينا بخير، ونحن في بحبوحة من العيش ومتعة، فلماذا نعمل على تبديل الحال بما لا نعرف عاقبته علينا؟ بل العاقبة معروفة: زوال سلطتنا، وذهاب قوّتنا. إذن فلنحتفظ بما نحن فيه، وندافع عنه، ونقتل من يحاول تغييره، وفيما هو يفكر كذلك وهو فوق الجبل سمع على بعد صياحًا متداركًا واردًا مع الصبا، فالتفت صوب مورده، فإذا هو يرى طائفتين تقتتلان اقتتالًا شديدًا في مكانٍ شمالي المدينة عند حلة تدعى بُعاث، فأدرك من فوره أن الأوس وحلفاءها يقاتلون الخزرج وحلفاءها، على نحو ما كان سمع من استعدادهم، واعترته خجلة من أن ابن زرارة لم ينذره بشأنها، وقدَّر أنه كره أن يعلنه بيومها على أثر ما رأى منه من كره القتال عامدًا في الصفوف، ولكنه مع ذلك لم يجد من المروءة ولا الشهامة أن يقعد عما كان وعد من معاونتهم بالقيام على الجرحى وحفظ الذخيرة فأبرك الشملالة، وركبها وجرى بها نحو بعاث فإذا هو يجد القتال شديدًا؛ هذا يكر ثم يفر، وذاك يصمد ثم يخترق الصفوف، والنقع فوق الرءوس كالضباب الكثيف لا يتبين فيه الحس إلا وميضًا للسيوف حين تشرع وتوضع، وإلا أصوات الحقد والغل تعلو وتتضع، وإلا دماء تسيل على الرغام، ورءوسًا تتدحرج بين الأقدام، وفيما هو يدنو من الموقعة رأى ثلاثة من الأوس يتعاورون رجلًا بالسيوف، وكأنه كان قد جرح فهو يدافع عن نفسه دفاع اليائس، فلم يملك إلا أن ينيخ على عجل، ويهرع إلى صوت الجريح يحميه من الأذى، وامتشق حسام زيد بن حارثة، ونادى بأعلى صوته: يا رسول الله! وفيما كان أحد الثلاثة يهوي بذراعه على الجريح ليقتله كان ورقة قد أهوى ذراعه فقطعها، ثم اتجه إلى الثاني فإذا هو عملاق من بني قريظة كان كثيرًا ما يراه في السوق يتحدث ويفاخر، فهابه ورقة وكاد يفر منه، لولا أنه وجد الرجل على ظاهر قوته لا يحسن المسايفة، وذكر باقوم إذ كان يقول له: لا عليك من طول الرجل وعرضه. أحسن المسايفة تجده أمامك صريعًا. فسايف ورقة على نحو ما علمه باقوم، وداور الرجل وحاوره، ويامنه وياسره، وغته بالسيف غتة أحنقت عليه العملاق فأراد أن يرديه معه ورفع سيفه؛ ليطيح رأس ورقة، ولكنه عاجله من حسامه بضربة فصلت كفه عن معصمه، وطارت هي والسيف في الهواء، وخرّ الرجل على أثرها صريعًا. هناك سمع الجريح من ورائه يدعو له ويثني عليه. فالتفت فإذا هو يرى مضيفه أسعد بن زرارة نفسه، وإذ همّ بحمله والبعد به عن الحومة رأى فارسًا يدنو منه، والشرر يتطاير من عينيه؛ لأنه كان قد سمع بما لقي العملاق، فجاء يثأر له، ولكن ورقة لم يمهله حتى يدوسه بسنابك جواده، ويعمل فيه سيفه بل تناول قبضة تلو قبضة من تراب الأرض وحصبائها، ورمى بها على الرجل فأعماه، ثم أهوى بالسيف على فخذه فهشم ركبته تهشيمًا، وكأنما كانت هذه الضربة فصل الخطاب. فقد اشتد الخزرج وبنو قينقاع على الأوس وقريظة وبني النضير؛ فولوا منهزمين نحو العريض من نجد، ولكنهم كانوا في فرارهم قد رموا بسهام على المتعقبين؛ ليردوهم عن اللحاق بهم، وأصاب أحد هذه السهام زعيم الخزرج في هذه الملحمة عمر بن النعمان البياضي فقتله لساعته، والأوس لا تعلم بذلك، وتعمد الخزرج إخفاء الحادث حتى يطمئنوا إلى النصر.١
figure
لم يكن بد بعد انتصار الخزرج من القضاء على الأوس وقريظة والنضير وتخريب دورهم، وسبي نسائهم على عادتهم في هذه الحروب، ولكنهم لم يمهلوا حتى يفعلوا ذلك، فقد كبر الأمر على حضير الركائب زعيم الأوس المنهزمين، وأراد أن يحمل قومه على معاودة القتال؛ فتناول رمحه وطعن نفسه وصاح: واعقراه! والله لا أبرحُ حتى أموت٢ فرجعت الأوس تحمي قائدها وهم في يأس من النصر، ولكن حدث حادث من رجل عرف في التاريخ بنفاقه، هو عبد الله بن سلول الخزرجي٣ كان من القاعدين عن الحرب نفاقًا وخيانةً لقومه، ولكنه مع ذلك خرج يتجسس ليرى وسيلة مغنم، وفيما هو يتجول رأى أربعة من الخزرج يحملون قائدهم القتيل في عباءة فشمت به، وقال له: ذق عاقبة البغي. ثم تناثر منه الخبر إلى الأوس فشدوا على الخزرج٤ وهزموهم ووضعت فيهم الأوس السلاح، ونادى حضير من مرقد موته أن ايتوا الخزرج قصرًا قصرًا، ودارًا دارًا، واهدموا حتى لا يبقى منهم أحد. فأخذوا في ذلك وأمعنوا،٥ واندلع اللهب في بيوت الخزرج ونخيلهم وزرعهم، وعلا الصياح والعويل من كل جانب، ولكن عز ذلك على بني الأشهل،٦ فما أن أودى صاحب الأمر فيهم وهو حضير حتى نهضوا يجيرون بني الخزرج، وصاح صائح منهم بصوت جهير يكفهم عند الأذى فقال: يا معشر الأوس! أحسنوا! لا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب.٧ يعني اليهود حلفاءهم من بني قريظة وبني النضير، فانتهى الأوس عنهم ولم يسلبوهم، ولكن اليهود أخذوا في السلب والنهب، وأمعنوا في قتل المستضعفين، وطالبوا برقاب بعض من اشتدوا عليهم في القتال من الخزرج، أو رأوا أنهم قتلوا لهم في المعمعة أحدًا ممن كانوا يعزونه ويكرمونه، وإذ كان ورقة قد قتل لهم عملاقهم وفارسهم المعلم وهو يدافع عن زعيم بيت بني النجار أسعد بن زرارة طلبوه في كل مكان حتى اقتحموا عليه بيت أسعد نفسه وهو جريح في فراشه؛ ليطلبوا القود منه، ولكن أخاه في الإسلام إياس بن معاذ كان قد علم من قبل بما بيتوا، فأرسل في العشية غلامًا له ينذره ويأتي به في الحمى من أطمه، وإذ كان قد أجاره ولم يجز اليهود إجارته بل أقسموا ليقتلنه ولو حمته السماء، فقد أمر غلامه أن يخرج به إلى ما وراء يثرب، ثم خرج وراءهما من ناحية أخرى، والتقوا في طريق الشام، وساروا حتى بلغوا ساحة بعاث.
هناك وقفوا وصلوا على قبر صاحبهم الكامل سويد بن الصامت فقد كان قتل في تلك الملحمة، وهناك ودع ورقة وداع الأخ أخاه، ودعا له بالسلامة، وأوصى غلامه أن يكون في خدمته حتى يبلغ به أيلة٨ أو ما يشاء، فشكره ورقة على بره به، وقبّله وحمّله تحية وسلامًا إلى بني النجار، وأوصاه أن يحذر اليهود، ويحذر كذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول، وألا يركن إليه؛ لأنه إذا كان قد خان الخزرج وهم قومه، فحريّ به أن يخون الأوس، ونصحه أن يمضي في نشر دين الله في يثرب، فما يرأب الصدع الذي بين الأخوين — الأوس والخزرج — إلا اجتماعهما على الإسلام، وأوصاه كذلك أن يحبب إلى الفريقين مبايعة رسول الله على الهجرة إليهم وتولي أمورهم، فوعده إياس بذلك، ودعا ورقة له بالتوفيق.
عاد إياس إلى يثرب، وانصرف ورقة والعبد الأشهلي من فورهما يضربان في طريق الشام، ولكنهما لم يلتزما طريق القافلة تفاديًا من أن يتعقبهما متعقب من قريظة فذهبا إلى حرة خيبر، وهي وادٍ خصيب لبطن من قريظة والنضير تخترقه الأنهار، وتزينه الزروع والنخيل والبساتين الجماء، وتحرسه على جوانبه حصون لهم وآطام،٩ ولكنهما لم ينزلا بها بل عطفا على وادي القرى١٠ وهو مثله في الخصب والنماء قاصدين إلى فدك ثم إلى تيماء، حيث كان للسموءل بن عاديا حصن يسمى الأبلق نزل به امرؤ القيس ذات يوم واستودع صاحبه قوسه وسلاحه، وما زالا سائرين في بلاد ذبيان وثمود البائدة حتى بلغا تبوك١١ في ختام ثمانية أيام كانت الشملالة فيها مزدهية بنفسها صلفة بأن تدوس بأخفافها قبور ثمود العاتين الذين عقروا أختها ناقة نبي الله صالح التي أخرجها الله لهم من الصخر؛ ليؤمنوا فلم يؤمنوا فأبادهم بضلالهم وجرائمهم، وصارت بيوتهم المنحوتة في الصخر دليلًا على ما نزل بهم من البوار والنكال.
١  ابن الأسير وكتب السيرة.
٢  ابن الأسير وكتب السيرة.
٣  ورد أن الأوس كافأوا ابن سلول وهو خزرجي بأن اختاروه ملكًا على الأوس والخزرج معًا.
٤  ورد أن الأوس كافأوا ابن سلول وهو خزرجي بأن اختاروه ملكًا على الأوس والخزرج معًا.
٥  ابن الأسير وكتب السيرة.
٦  بنو الأشهل هم سادة الأوس، ومنهم إياس بن معاذ الذي أسلم فيما يسمى العقبة الأولى عندما جاء مع أبي الحيسر يلتمس حلف قريش على الخزرج، ومنهم سعد بن معاذ سيد الأوس الذي أسلم في المدينة هو وسعد بن عبادة سيد الخزرج على يد مصعب بن عمير الذي كان رسول الله قد أرسله بعد بيعة العقبة الثانية؛ ليفقِّه في الدين من بايعوه فيها على الإسلام، وذلك قبل الهجرة بعامٍ، وفي قول بعامين.
٧  ضعف الغالب والمغلوب، ووجد الفريقان يومئذ أنهم إنما تقاتلوا من أجل اليهود؛ لأن هؤلاء استعادوا مكانتهم العالية في يثرب، وادكر العرب ماضيهم؛ إذ كانوا موالي لليهود، وأن الفرقة بينهم تمكن لليهود من الأرض، فحنوا إلى الاتحاد، وسارعت الأوس تسترضي الخزرج، وعرضوا أن يجتمعوا تحت إمرة ملك يكون من بني الخزرج، ورشحوا لذلك عبد الله بن سلول؛ لمكانته منهم وفضله عليهم، ولكن الله كان يريد غير ذلك لقاء إرادة الخير التي أرادوها؛ إذ كفوا عن الأذى فأغمدوا السيوف، وتركوا متاع إخوانهم. كافأهم الله بالإسلام وكرامة الانتصار له فسموا أنصار رسول الله؛ ذلك أنهم كانوا كلما وردوا مكة في مواسم الحج، ولقيهم رسول الله على عادته من الخروج؛ لدعوة القبائل الواردة، دعاهم إلى الإسلام فأسلموا فرحين بدين التوحيد الذي كانت نفوسهم تحن إليه، وعادوا يذيعون أمره في يثرب حتى بايعوه مرتين؛ الأولى: على الإسلام، والثانية: على طاعته وحمايته وحماية دينه ونصره في دعوة العالمين إلى دين التوحيد. فهاجر إليهم في السنة الثالثة عشرة من النبوة هو وسائر المؤمنين فكان ذلك اليوم يوم السعادة والنور للعرب وللعالمين طرًّا.
٨  إمارة مسيحية كان مقرها على رأس الخليج المسمى اليوم خليج العقبة، وأيلة هي العقبة، وقد ورد أميرها يوحنا بن رؤبة على رسول الله يوم نزوله تبوك فقدم الطاعة وقرر على نفسه جزية قدرها ٣٠٠ دينار كل عام، وكتب له رسول الله عهدًا بذلك، وبعد ذلك — بما شاء الله من الزمن — دخلت في الإسلام.
٩  من هذه الحصون: ناعم ومصعب والوطيح والسلالم، وقد افتتحها المسلمون عنوة تحت إمرة النبي سنة سبعة للهجرة، ومنذ ذلك اليوم لم تقم لليهود قائمة في بلاد العرب، فقد تشتتوا أو هاجروا أو رضوا بدفع الجزية، وفيها سبيت صفية بنت زعيمهم حيي بن أخطب فأعتقها النبي وتزوجها.
١٠  قُرَى يهودية فتحها المسلمون صلحًا.
١١  بلدة على حدود الحجاز من جهة الشام. كان الروم قد عمدوا إلى غزو الحدود في السنة العاشرة من الهجرة؛ لأن بلاد العرب من حضرموت إلى الحيرة ودومة الجندل وأيلة (أي العقبة) في ذلك الوقت قد دانت لرسول الله؛ إما بالإسلام، أو بدفع الجزية، فتعمد الروم غزوها عسى أن ينتصروا على المسلمين فيقلل هذا من هيبة الإسلام وكرامة رسول الله عند من دانوا له من العرب مرغمين. فسار إليهم رسول الله بثلاثين ألف رجل حتى بلغوا تبوك هذه. فلما رآهم جنود هرقل فروا يتحصنون في قلاعهم في الشام وحبط غرضهم، وازداد المسلمون في جميع أرض الجزيرة هيبة، وزاد الإسلام رسوخًا، وجاء أمير أيلة، يوحنا بن رؤبة طائعًا وراضيًا أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، وفي هذه السنة تمت كلمة الله في شبه الجزيرة كلها، وأمن الرسول كل عادية عليها، وأقبل سائر أهلها وفودًا عليه يقدمون الطاعة ويعلنون لله الإسلام. فكانت هذه الغزوة بذلك خاتمة غزوات النبي ويحسن بمن يريد درس هذه الغزوة من تاريخ المصطفى عليه السلام؛ ليعرف أثرها العميق أن يراجع كتب السيرة، وألفِتُه بنوع خاص إلى كتاب: «حياة محمد» لهيكل بك في العربية وسير موير في الإنجليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤