المهدية

مدينة على ساحل تونس الشرقي، كان المؤرخون الفرنجة في العصور الوسطى يسمونها مدينة إفريقية، وقد بُنيت بين سوسة وسفاقس في شبه جزيرة صغيرة ينتهي عندها رأس إفريقية، ويصلها باليابسة برزخ ضيق كما يتصل الكف بالمعصم، وكان في موضع المدينة دون شك محلة فينيقية وقرية رومانية، وقد سمِّيت بالمهدية نسبة إلى المهدي عبيد الله الشيعي الذي أسسها وحصَّنها سنة ثلاثمائة من الهجرة، بعد أن قرأ الطالع، وأُنبئ بالأخطار التي قد تهدد الفاطميين، وكان بها سور من الحجارة الصغيرة، يمتد ناحية الجنوب على طول الشاطئ، ولا تزال منه أبراج قليلة باقية إلى اليوم، وكان السور يحمي الميناء، وهو ثغر فينيقي قديم اكتشف بين الصخور، تدخل إليه السفن من باب كبير على جانبيه حصنان منيعان، وعلى مسافة قليلة دار الصناعة البحرية، وكان السور منيعًا محصنًا بأبراج مدورة ومربعة، وأمامه من جانب البرزخ حائط يخترقه باب لا يزال إلى الآن قائمًا، وبأعلى موضع في شبه الجزيرة قصبة تركية قديمة، ربما بُنيت مكان قصر المهدي، ولعل قصر ابنه القائم كان أمامها ناحية الغرب، ومن آثار الفاطميين بالمدينة كذلك مسجد كبير بُني بالقرب من البحر لا تزال آثاره باقيةً إلى الآن، وبجواره دار المحاسبات ووراء شبه الجزيرة ضاحية زويلة، وموضعها معروف إلى اليوم، وقد اكتشفت عندها مخلفات قديمة من بينها آثار من الزجاج.

وبعد أن ترك المهدي رقادة القريبة من القيروان ذهب سنة ٣٠٨ﻫ ليقيم بالمهدية، وازدهرت المدينة لما صارت قصبة الدولة، وأصبحت — كما يقول ابن عذارى — أعظم مدينة في بلاد المغرب، وقد خرج من توزر أبو زيد أحد ثوار الخوارج، وأصبح سيدًا على بلاد إفريقية بأسرها، وظل يحاصر المهدية خمسة أشهر وبها القائم بن عبد الله، وانتهى الحصار بالفشل، فكان ذلك إيذانًا بزوال دولة الخارجي، وكان الفاطميون يلجئون إلى المهدية إذا أحدقت بهم الأخطار، كذلك كانت بعد قرن من الزمن ملجأ أفراد الزيرية عندما ذهبت بملكهم غزوة الهلالية، وحدث عام ٤٤٩ﻫ أن المعز الزيري هجر القيروان إلى المهدية ومنها خرج، وخلفاؤه بعده ينشدون إعادة دولتهم، وكذلك جعلوها قاعدة لغاراتهم البحرية.

وفي المهدية تهيأت الأسباب للقرصان، فكانت أمنع معقل للقرصنة التونسية، وهكذا ظلت إلى الزمن الحديث، وأغار على المدينة أهل صقلية وبيزة وجنوة ردًّا لغارات القراصنة المسلمين، وفي عام ١٠٨٧م سقطت المدينة في يد القوات المسيحية المتحالفة، واستولى عليها النورمان مرة أخرى سنة ١١٤٨م، ثم حوصروا فيها برًّا وبحرًا حين فتح عبد المؤمن الموحدي إفريقية، وعادت المدينة إلى قبضة المسلمين، ولكن النورمان استولوا عليها مرة أخرى ونهبوها. ثم عُقدت معاهدة صلح مع وليم الثاني ملك صقلية واستطاع النورمان الاتجار معهما، وأتى عهد بني غانية أمراء المرابطين، فاستولى على المدينة مغامر ادعى الخلافة اسمه عبد الكريم الرغراغي، وأدَّت هذه الفتن إلى استعمال أحد الموحدين من بني حفص على إفريقية، ومن ثَمَّ أصبحت المهدية إحدى حواضر المهديين، وكان يعهد بحكمها في الغالب إلى أحد أبناء سلطان تونس، وأدى نشاط القرصنة المستمر إلى قيام حملة من جنوة سنة ١٣٩٠م يؤيدها شارل السادس ملك فرنسا، الذي سير إليها أسطوله وفرسانه، وقاومت المهدية ولكنها أُجبرت على دفع الجزية للنصارى. ولما غزا شارل الخامس تونس احتلت المدينةَ حاميةٌ إسبانية، وفي العام التالي استولى عليها القرصان درغوث، ثم أسره أسطول أندريا دوريا، ولكنه أطلق سراحه فعاد إلى المدينة، وثبت قدمه فيها. وفي سنة ١٥٥٠م حاصر دوريا المدينة حصارًا مشهورًا وانتزعها من درغوث وعهد شارل الخامس بأمرها إلى فرسان مالطة فأبوا، وبعد قليل عادت المهدية إلى سلطان المسلمين، ونهضت من كبوتها، وظلَّتْ تحت الحكم التركي إلى القرن التاسع عشر وكرًا للقرصنة ومثارًا للرعب في قلوب تجار النصارى، وبقيت كذلك تسعمائة عام.

وهي الآن بلدةٌ صغيرةٌ يسكنها حوالَيْ عشرةِ آلاف نسمة، يرتزقون من صيد السمك وعصر الزيوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤