الدين الإسلامي

ظلَّتْ تونس على المذهب المالكي أمدًا طويلًا، أما جزيرة جربة فثلاثة أخماس سكانها من الخوارج، ويتمسَّك الترك أو الذين يدَّعون أنهم كذلك بالمذهب الحنفي، وهؤلاء قلَّة، ولكنهم من الخاصة، ولهم امتيازاتهم؛ لأن منهم أسرة الباي، وكان يقوم على المناصب الدينية الرفيعة أيام الحفصيين «قاضي الجماعة» و«قاضي الأنكحة» اللذين يعينهما السلطان، كما كان يعين المفتي الأكبر والخطيب، ويلي هؤلاء في المرتبة قاضي المعاملات، وقاضي الأهلة، أما قاضي المحلة فيصحب الجند إلى ميدان القتال.

وضعف سلطان القاضي على الأيام حتى خضع لنفوذ المفتي، فصارا يجلسان معًا في المحكمة الشرعية، وتلقب مفتي الحنفية الأكبر «الباشمفتي» أيام الترك بشيخ الإسلام، ولا يزال هذا لقبه إلى الآن. أما مفتي المالكية الأكبر، ولم يكن ذا منصب رسمي رفيع، فقد شُرِّف بهذا اللقب في بعض الأحيان، وكان في كل مدينة من مدن القُطْر التونسي مجلس مالكي، يقضي في مسائل الشرع المتعلِّقة بالأحوال الشخصية، من معاملات وزواج وطلاق، ووصية، وولاية وميراث، ويتألَّف هذا المجلس من قاضٍ ومفتٍ واحد أو أكثر. وفي الديوان بمدينة تونس مجلس حنفي إلى جانب المجلس المالكي، وكلاهما يحكم في القضايا التي يرفعها إليهما المتقاضون أو يحولها إليهما قُضاةٌ آخرون.

ونظمت أعمال المحاكم بمرسومي ١٨٥٦، ١٨٧٥م، وينظِّمها الآن مرسوم ١٥ ديسمبر ١٨٩٦م الذي ضبط المراسلات، ونص على قيدها في سجل خاص يقوم عليه مسئولون. وصدر في ٣ مارس سنة ١٩٢٦م مرسومٌ يفرض رسومًا على القيد، وبعد ثلاثة أيام صدر آخر، يعفي الأهلين من هذه الرسوم، وأصبح المسجلون يعينون وفقًا لمرسوم ٢٨ يناير ١٩٣٠م. أما «العدول» أو كتاب الشرع، فيكون تعيينهم بمرسوم يصدره الباي، وقد نظم قانون ٩ يناير ١٨٧٥م طريقة اختيارهم وتدريبهم، ويتم تعيينهم بناءً على ترشيح القضاة، وكان الطلبة القدماء في الجامع الكبير يعينون عدولًا، بمجرد حصولهم على إجازة الجامع، دون تدريب سابق.

ثم وضعت قواعد جديدة بمرسوم ١ يوليو ١٩٢٩م، الذي أصبح نافذًا في ١ يناير ١٩٣١م، واشترط في تعيين العدول: ألا تقل أعمارهم عن ٢٤ عامًا، وأن يقضوا عامين أو ثلاثة في ممارسة العمل بأحد مكاتبه، وأن يجتازوا امتحانًا يتطلَّب علمًا بالتشريع التونسي، وترخص إجازة الجامع الكبير لحاملها التقدم لامتحان الدرجة الأولى للعدول، الذي يمكن من يجتازه من ممارسة العمل بالمدن الكبيرة. أما الذين يجتازون امتحان الدرجة الثانية، فإنهم يمارسون أعمالهم في مدن أقل شأنًا. وتعدُّ وزارة العدل دفاتر القيد، وتراجعها، وتفرض عليها تفتيشًا جديًّا منظمًا.

وتُعرف الأعيان الموقوفة في تونس ﺑ «الحبوس»، ويشرف عليها منذ أيام خير الدين جمعية اعترف بها مرسوم صادر في ١٩ مارس ١٩٢٤م، وعلى رأس هذه الجمعية مدير ومجلس إدارة، وهي تنقسم إلى إدارات، لها «نواب» يقوم عنهم بالإدارة الفعلية وكلاء آخرون، وقد وضع قانون عام ١٩٠٨م هذه الجمعية تحت إشراف «مجلس الأوقاف الأعلى» الذي يشرف عليه «صاحب القلم» والمدير العام للداخلية، وكان للجمعية الحق في الإشراف على إدارة الحبوس الخاصة، وقد كان التشريع التونسي بارعًا في التخلص من مشكلات الحبوس، فوضع لذلك إجراءات ثلاثة:
  • أولًا: عقد الإنزال، وهو التنازل عن الحبوس نظير إيجار دائم. وفي عام ١٩٠٥م أصبح مدين الإنزال قادرًا على تسديد دينه، وصارت الأراضي تباع بالمزاد العلني، إلا إذا حفظتْ حقوق المستغلين لها.
  • ثانيًا: طريق الاستبدال نوعًا، أو نقدًا.
  • ثالثًا: الإيجار لآجال طويلة.

وتشرف الجمعية السابقة على بيت المال، فتبذل العطايا، وتنفق على أعمال البر، وتتولَّى الحبوس التي ليس لها وريث.

•••

أما «رباطات الإخوان» في تونس، فليس من المستطاع إحصاؤها، ويزيد عدد الإخوان على ستين ألفًا، وقد ورد في تقرير وضعه المقيم العام سنة ١٩٢٤م، أن عدد الفقراء أو الإخوان في منطقة الكاف وحدها ثمانية عشر ألفًا، ويبلغ عددهم في باجة ثلث عدد السكان جميعًا، وفي تيطاوين وما جاورها ثلاثة عشر ألف فقير، وأشهر الطرق الصوفية في تونس أربع: القادرية، والرحمانية، والعيسوية، واليمانية، وإخوان الطريقة العروسية كذلك، كثير عددهم، وهناك طرق أخرى متفرعة كالمدنية والشاذلية والطيبية، إلى جانب الطريقة البوعلية في نفطة، ويقدِّر الموظفون الإداريون عدد إخوان الطريقة الرحمانية والقادرية في طبرقة وتالة بخمسين في المائة، وأربعين في المائة من مجموع الإخوان، ولكن بعض الطرق غلبت هاتين الطريقتين في مناطق أخرى، وتنتشر الطريقة العلوية التي نشأت حديثًا في الجزائر.

والحق أن هذه الطرق لا أثر لها في شئون السياسة، كما أن سلطانها الديني آخذ في الضعف. وتعرف معاهد تحفيظ القرآن الكريم في تونس بالكتاتيب، وفي مقدمة هذه المعاهد، مدارس يشرف عليها أساتذة متخرجون في الجامع الكبير، وتنفق عليها الجمعية تحت إشراف مدير المعارف العمومية، وليست هذه المدارس الآن سوى منازل يسكنها طلبة الجامع، ويندر أن تلقى فيها الدروس، اللهم إلا المدرسة العصفورية التي تخرج «مؤدبين» أو معلمين للكتاتيب.

وقد أصبح الجامع الأكبر في عهد الترك مركزًا للعلوم الدينية في تونس، وهو إلى الآن المعهد الديني الوحيد، ويضم حوالي ألفين من الطلاب، يفدون إليه من أنحاء تونس وطرابلس والجزائر ومراكش، ومناهج التعليم الحديثة فيه نظمها قانون صدر في ٢٧ رمضان ١٢٥٨ﻫ، سمي بالمعلقة؛ لأنه علق على باب الشفاء من أبواب الجامع الكبير.

وهيئة التدريس فيه ثلاثون عالمًا؛ نصفهم مالكي، والنصف الآخر من الحنفية، وكان كل عالم يُلقي فيه درسين في اليوم، ما عدا أيام الخميس والجمعة، والعيدين وشهر رمضان، ويتقاضى العالم قرشين في اليوم إلا إذا تغيب بلا عذر مقبول، ويعين شيخا الإسلام المالكي والحنفي ناظرينِ للمعهد، يتقاضى كل منهما مائة قرش في الشهر، يعاونهما قاضيين من المذهبين، مرتب كلٍّ منهما ثلاثة قروش في اليوم، وكان الشيخان والقاضيان يحضرون جلسات المشرفين على بيت المال، الذي يأخذون منه رواتبهم، فإن وجدوا في بيت المال فائضًا، وزعوه بشروط خاصة، على النابهين من الطلاب، ويعيَّن المدرسون بمقتضى مرسوم من الباي، بعد مشورة الشيخين والقاضيين.

ثم صدر أمر عالٍ من سبعة وستين بندًا، أيام خير الدين، نظم أمور المعهد في شيء من التفصيل، وتناول العلوم التي تُدرس بالمعهد، والكتب التي تُشرح، وحقوق الطلبة والمدرسين والمشرفين، وواجباتهم، وكذلك شئون المكتبة.

ثم بدَتْ رغبة في إصلاح هذه النظم، وتعديل الأمر العالي السابق، فصدر أمر آخر في ١٦ سبتمبر سنة ١٩١٢م، من واحد وثمانين بندًا، وبعض الملاحق، ويسير المعهد على هديه إلى الآن، وفي هذا القانون آثارٌ من النظم التربوية العتيقة، ووصايا تحثُّ على الاستقامة وحسن الخلق، وتحريم الشك في السنن التي خلفها السلف من العلماء، وتدرس في المعهد علوم تزيد وتختلف عن العلوم التي قُرِّر دراستها في الأزهر عام ١٨٧٢م، وقد نُصَّ على هذه المواد التي تدرس في الجامع الكبير، في البند الأول من الأمر العالي، وهي:

التفسير، الحديث، التوحيد، القراءات، والتجويد، المصطلح، السير، أصول الفقه، الفقه، الفرائض، التصوف، الميقات، النحو والصرف، المعاني والبيان، اللغة والإنشاء والأدب، التاريخ والجغرافيا، الرسم والخط، العروض، المنطق وأدب البحث، الحساب والهندسة، الهيئة، المساحة.

وأدَّتْ روح المحافظة الجامدة، وطرق التربية العتيقة المتبعة في الجامع الكبير، إلى الوقوف في سبيل كل تقدم في العلوم الدنيوية، وكل اجتهاد في العلوم الدينية، واقتصر تدريس الجغرافيا والتاريخ على كتابَيْ رقم الحلل لابن الخطيب، ومقدمة ابن خلدون، مع استيعاب خلاصة للتاريخ الإسلامي. أما الهندسة فهي الهندسة الإقليدية، وتدرس في كتاب الطوسي.

ومراحل التعليم ثلاث، ويعقد امتحان للانتقال من مرحلة إلى أخرى، وفيما يلي بيان بالكتب المقررة في الدين واللغة لطلبة المرحلة النهائية، كما نُصَّ على ذلك في المادة الرابعة.

  • التفسير: أسرار التنزيل للبيضاوي، تفسير الجلالين.
  • الحديث: الموطأ مع شرح الزرقاني، صحيح البخاري وتفسير القسطلاني، صحيح مسلم وشرح الأُبِّي، الشفاء للقاضي عياض، وشرح الشهاب الخفاجي.
  • السير: المواهب اللدنية للقسطلاني وشرح الزرقاني. السيرة الكلاعية.
  • التوحيد: شرح الجرجاني على مواقف عضد الدين الإيجي. شرح التفتازاني على العقائد لعمر النسفي. الكُبْرَى للشيخ السنوسي.
  • أصول الفقه: التوضيح لصدر الشريعة عبيد الله المحبوبي. شرح عضد الدين الإيجي على المختصر لابن الحاجب. شرح المحلي على جمع الجوامع لعبد الوهاب السبكي.
  • الفقه: تبيين الحقائق لعثمان الزيلعي، «شرح كنز الحقائق لعبد الله النسفي» الدرر «شرح الغرر». شرح سيدي عبد الباقي على المختصر للخليل. شرح سيدي محمد الخرشي على المختصر للخليل.
  • التصوف: إحياء علوم الدين للغزالي.
  • النحو: مغني اللبيب لابن هشام.
  • المعاني والبيان: الجزء الثالث من المفتاح ليوسف السكاكي مع شرح الجرجاني، المطول للتفتازاني.
  • اللغة والإنشاء والأدب: المزهر للسيوطي. فقه اللغة للثعالبي، شرح المرزوقي على ديوان الحماسة. المثل السائر لابن الأثير.

ويطلق اسم المدرسين الأوائل على المدرسين الثلاثين الأصليين، ومعهم مدرس التجويد، وهم متأهلون للتدريس في المرحلة العليا. أما في المرحلة الوسطى، فهناك اثنا عشر مدرسًا وآخر للتجويد، ويقوم بالتدريس في المرحلة الأولى مدرسون متطوعون، ومتخرِّجون في الجامع الكبير، ولا يتناولون أجرًا (كما نُصَّ في المادة التاسعة)، وللمدرِّسين عطلة شهرين من منتصف يوليو إلى منتصف سبتمبر، وشهر رمضان، وأيام الجمع، وخمسة أيام في كلٍّ من عيد الفطر وعيد الأضحى، ويوم عرفات ويومين قبله، ويوم عاشوراء، والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ربيع الأول (المادة التاسعة والعشرون). أما يوم الخميس، فقد نص على أنه يوم عمل (المادة الثامنة والعشرون). وعلى كل طالب أن يحمل معه جدولًا يوقع عليه المدرسون مرة كل شهر (المادة الثانية والثلاثون)، ويشهدون بأن حامله يحضر الدروس المقررة عليه (المادة الثالثة والثلاثون)، وعلى المشرفين الذين يعينهم النظار المحافظة على النظام (المادة الأربعون)، ويؤدي النظار واجباتهم بعناية تامة وفق قواعد المعلقة (المادة الرابعة والأربعون وما بعدها)، وقد صدر ملحق في اليوم نفسه من إحدى عشرة مادة، يضع الشروط الخاصة بالامتحان النهائي الذي يخول الطالب حق إجازة التطويع، ويبيح النجاح التحريري في الفقه الانتقال إلى مرحلة أعلى (المادة السادسة)، وللطالب الحق عند الامتحان الشفوي أن يستعد له ست ساعات، يستجمع فيها ما حصله من علم، مستعينًا في ذلك بالمكتبة.

ويتأهَّل الطالب لنوع خاص من التطويع إذا نجح في قراءة القرآن الكريم وتسميعه.

وعُيِّنَ عام ١٩٢٨م خمسون «معاونًا على التدريس»، بامتحان مسابقة عقد بين المتطوعين، وهم يتقاضون مرتبًا ثابتًا قدره خمسمائة فرنك في الشهر، وفي أول يناير ١٩٣١م كانت المخصصات السنوية للمدرسين، في المرحلة الثانية، ١٣ ألف فرنك، وفي المرحلة الأولى ستة عشر ألفًا.

وتضمنت الميزانية التونسية اعتماد إعانة مالية للجامع الكبير، كان مقدارها في السنة الأولى خمسين ألف فرنك، وارتفعت عام ١٩٢٧م إلى مائتين وخمسين ألفًا من الفرنكات، ثم وصلت إلى سبعمائة وسبعين ألفًا عام ١٩٣٠م.

وقد أدى التعديل الجديد لنظام العدول إلى معارضة الطلبة الذين لا يستطيعون الالتحاق بهذه الوظائف، والذين لا تسمح لهم دراستهم في الجامع بالنجاح في امتحان العدول، ومن هنا نشأ التفكير في إصلاح التعليم الديني، أو على الأقل إدخال الدراسة القانونية العصرية في مناهج الجامع، فشكلت الحكومة في ديسمبر عام ١٩٢٩م لجنةً تبحث وسائل الإصلاح، فحاولت جهد طاقتها أن تضع لهذا الإصلاح منهجًا خاصًّا.

•••

أما عن التعليم الحديث، فتقوم المدرسة الصادقية بتعليم اللغة الفرنسية والعربية إعدادًا للوظائف الإدارية، وكانت تضم ٤١٧ طالبًا في العام الدراسي ١٩٢٨-١٩٢٩م.

ويزداد إقبال الشباب المسلمين على المدارس الفرنسية، وهي مدارس ابتدائية تعلِّم العربية والفرنسية، ومدارس خاصة بتعليم البنات المسلمات، ثم مدارس ثانوية تفتح أبوابها للجميع. وفي آخر عام ١٩٢٨م كان عدد الطلبة المسلمين في مدارس تونس الفرنسية ٢٥٨٧٦ طالبًا و٢٩٣٠ طالبة، عدا سبعة وستين ولدًا و٦١٧ فتاة في مدارس خاصة، وكان عدد تلاميذ الليسيه كارنو ألفين بينهم ٣٥٩ تلميذًا مسلمًا، وفي الليسيه الخاصة بالبنات ١٢٠٠ فتاة، منهن ثمان وعشرون مسلمة، وكان كذلك ٤٦١ تلميذًا مسلمًا يطلبون العلم في ثلاثة معاهد أخرى.

وهناك معهد عالٍ في مدينة تونس، يعلم اللغة والأدب العربي، ويمنح الطلبة الأجانب إجازةً في اللغة العربية الدارجة، وأخرى في اللغة العربية الفصحى، ودبلومًا عاليًا في اللغة العربية للطلبة المسلمين وغيرهم.

وقد نظمت الجمعية الخلدونية الإسلامية تحت إشراف المقيم العام، دراسات عربية في جميع العلوم، يستمع إليها حوالي مائتين من الشبان.

كما أعدَّت إدارة العدلية في تونس دراساتٍ قانونيةً باللغة العربية تؤهل الوطنيين للاشتغال بالأعمال المتصلة بالقضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤