مدينة «تونُس»

ويُقال «تونِس»: حاضرة سلطنة تونس، على خط عرض ٣٩ ٤٧ ٣٦° شمالًا، وخط طول ١٠ ١٠° شرقي جرينتش، وتونس في الوقت الحاضر مدينتان متصلتان، تختلف الحياة في إحداهما عنها في الأخرى اختلافًا عظيمًا، فالأولى مدينة يسكنها أهل البلاد، وليسوا جميعًا من المسلمين، وهي أثر من آثار القرون الخوالي بقي على حاله أو كاد، أما الأخرى فمدينة أوروبية حديثة النشأة مظهرها جديد كل الجدة، لا تزال تنمو وتتسع باطراد، القديمة على مسيرة ثلاثة أرباع الميل تقريبًا من طرف البركة المسماة ببحيرة تونس، ترتفع شيئًا فشيئًا من الشرق إلى الغرب حتى تشرف على مغيض من ماء ملح كاد يجف، يُعرف ﺑ «سبخة السيجومي»، وعلى هذا الجانب خارج أرباض تونس ذروة «المنوبية»، وفيها مشارف مترامية، وإلى الجنوب الشرقي من المدينة وفي كنفها هضبة سيدي أبي الحسن وجبل الجلود، وعلى مسافةٍ أخرى تلال «بيركسة»، وإلى الشمال هضبتا بلفادير و«رأس الطابية»، ووراءهما جبل أحمر وجبل نهيل، ولا تحول هذه المعارج بين تونس وبين سهولة الاتصال بسهل مرناق ووادي نهر مليان من ناحية، وبسهل منوبة ووادي مجردة من ناحيةٍ أخرى، كما يصلها ساحل البحيرة الشمالي بحلق الوادي وقرطاجنة، وحصونها الطبيعية جيدة ولكنها غير منيعة، فكثيرًا ما احتُلَّت تونس بلا كبير عناء، وصهاريجها تغني الناس عن جلب ماء الشرب من بعيد، وموقع تونس حسن جدًّا من الوجهة الاقتصادية، فهي على المخارج من أواسط سلطنة تونس، وفي موضعٍ جد خصيب، قريبة من البحر والسواحل الأوروبية.
figure
مدينة تونس ومسجدها الجامع.

ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقف عند قول كُتَّاب العرب بأن كلمة تونس عربية الأصل، وهم يزعمون أنها مدينة ترشيش التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس، ولم نهتدِ بعدُ إلى اشتقاق معقول للاسم، وقد قيل إن اسم تونس الذي يُطلق على المدينة نفسها يرجع إلى العهود البونية، إن لم يكن قبل ذلك، وروى ديودورس وبوليبيوس أن تينس بلدة كبيرة شُيدت وراء حصون، ولا شك أنها قامت في معظمها حول «القصبة» الحالية على مسافة من البحيرة، وكانت صالحة للملاحة وقتذاك، وقد حاصرها الليبيون وفتحوها، وهم الذين ثاروا في مستهل القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ثم فتحها أجاثو قليس رجولوس، وكانت معسكر الجند المرتزقة الثوار، ثم سقطت في يد سقبيو الإفريقي، ولعل سقبيو الأملياني هو الذي دمرها.

ويجب ألَّا نخلط بين تينس التي غدت تونس فيما بعد، وبين مدينة أخرى بالاسم نفسه على رأس أدار «بون» تعرف بالبيضاء.

ولم يكن لمدينة تونس في عهود الرومان والوندال والبوزنطيين شأنٌ كبير، وقد وصلها بقرطاجنة طريق روماني، ولم يكن يذكر بوجودها سوى إشارات متفرقة في مصنفات الجغرافيين أو رجال الدين، ولعلها أسطورة من الأساطير أو لعلها حقيقة من حقائق التاريخ قصة حياة القديسة زيتونة التي عاشت أيام الوندال، والتي يقال إن الجامع الكبير وهو جامع الزيتونة سمي باسمها، وإن الملك مارتين صاحب أرغون طالب بجثمانها عام ١٤٠٢م.

وكان الفتح الإسلامي، فخرجت مدينة تونس من الظلمات إلى النور فجأة، وسجَّلت اسمها في صفحات التاريخ بوصفها المدينة الإسلامية التي ورثت بعض مفاخر قرطاجنة، ثم سرعان ما أخذت تنافس مدينة القيروان؛ فما استولى حسَّان بن النعمان عام ٦٩٨م على قرطاجنة العاصمة القديمة ودمرها، حتى بادر إلى البليدة القائمة عند نهاية البحيرة، وأخذ يحولها إلى قاعدة بحرية تقلع منها الأساطيل في سفرات نائية، ويحتمي فيها من مباغتة الروم، وشيَّد في تونس «دار الصناعة»، وقيل إنه جلب من مصر ألف أسرة قبطية تزوِّد هذه الدار بمهرة الصنَّاع، ولسنا نعرف عن المدينة نفسها في هذه الفترة شيئًا محققًا، وكل الذي نستطيع أن نتبيَّنَه ظنون يشوبها الإبهام عن أصل مختلف الشعوب التي نزحت إليها، فالذي لا شك فيه أنه نزلها أولًا تجَّار وعمَّال نصارى، ثم أخذ سكانها يتضاعفون بمن أسلم من أهلها، ومن انضم إليهم من الجند العرب، وكانوا غلاظًا مشاغبين ذوي طمع، والمسجد الجامع هو أول بناء إسلامي بحق شُيِّد للعبادة، وقد ظل قبلة أهل المدينة قرونًا، وفي رواية أن الذي شيده هو ابن الحبحاب عامل بني أمية، وهو الذي جدَّد كذلك دار الصناعة، ولكنَّا لا نعرف من الذي شيَّد الأسوار.

figure
مدخل مسجد الزيتونة بمدينة تونس.

وصفوة القول أن تونس لم تكن كالقيروان في انتظام نشأتها، فقد نمتْ فجأة، وتبدَّلت حياتها السياسية والدينية والاجتماعية تبدُّلًا عظيم الخطر، وتهيَّأتْ لشأنها الجديد الذي أملته الظروف وإرادة فاتحها البعيد النظر، ولعل ذلك لم يكن طفرة — كما يتبادر لأول وهلة — بل تمَّ على مراحل.

وأخذت مدينة تونس تتوسَّع في تجارتها إبان القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، ولكنها كانت مع ذلك مشهورة بصفةٍ خاصة بتدريس الفقه وعلوم الدين، فكان فيها — قبل أن يرتفع صيت القيروان — علماء مبرزون، ساهموا بدروسهم في نشر الإسلام بين ربوع البلاد، منهم: المحدِّثان علي بن زياد، وعباس بن الوليد الفارسي، وقد صنَّف أبو العرب التميمي في مستهل العهد الفاطمي رسالةً نافعةً في طبقات هؤلاء العلماء التونسيين الأول، وقد أُضيفتْ إلى المسجد الجامع بنايات دعت الضرورة إليها، كما زُيِّن بوسائل شتى، وقد أُدخل على هذا المسجد تعديلات هامة لا شك أنها من عمل أحمد الأغلبي البنَّاء العظيم، ومهما يكن من شيء فقد كان من اليسير جلبُ الحجر والمرمر إلى تونس لتشييد المباني دينية أو غير دينية؛ ذلك أن قرطاجنة كانت قريبة، فما أيسر أن تنهب خرائبها، وتهيئ الكثير من المواد البناء والعمد وتيجانها.

أما من الناحية السياسية، فيظهر أن تونس كانت مجمع المعارضة ومركز مناهضة السلطان المنبعث من القيروان، وكان الجند من بني تميم الذين تضمهم أسوارها مبعث القلاقل والفتن، واشتركت تونس في جميع الفتن التي أخمدها عُمَّال الأمويين والعباسيين ثم أمراء الأغالبة، واشتركت في الثورة الكبيرة التي حمل لواءها منصور الطنبذي، ففتحها زيادة الله الأول عنوة وضرب أسوارها عام ٢١٨ﻫ الموافق ٨٣٣م، وأنزل بها إبراهيم الثاني جامَّ غضبه بعد فتنة من هذه الفتن، ورأى أن يضبط أمورها بنقل بلاطه وقصبة حكومته إليها عام ٢٨١ﻫ الموافق ٨٩٤م، وشيَّد لهذا الغرض عددًا من المباني منها «القصبة» ولكنه قفل راجعًا إلى رقادة بعد عامين اثنين، وقُتل ابنه عبد الله الثاني عام ٢٩٠ﻫ الموافق ٩٠٣م في قصرٍ بناه لنفسه وشيكًا، وصلب قاتلاه؛ الأول على باب الجزيرة، والثاني على باب القيروان، ولم تكن الأسباب قد تهيأت بعدُ لكي تصبح تونس قصبة إفريقية.

وتعمَّد الفاطميُّون وخلفاؤهم من صنهاجة إهمال مدينة تونس، وكانت قصبتهم في القيروان أو في المهدية التي أنشئوها، وظل أهلها متمسِّكين بأهداب السنة، ومما له دلالته الكبيرة أن أعظم أولياء تونس قد عاش في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي؛ أي في الوقت الذي اقتتل فيه أولو الأمر من الشيعة والثوار من الخوارج أعنف قتالٍ في سبيل الغلبة على إفريقية؛ هذا الوالي هو سيدي محرز الذي سأل ابن أبي زيد تأليف رسالته الشهيرة وتلقاها، وهي الخلاصة المعتمدة للمذهب المالكي في شمال إفريقية، وكان هو الذي أنزل السكينة على قلوب أهل المدينة بعد أن مرَّت بها تلك الفترة الوجيزة المشئومة التي احتلَّ فيها أبو يزيد المدينة عام ٣٣٢ﻫ الموافق ٩٤٤م، وحثَّهم على إقامة سور مكين حولها، وشجَّعهم على تنظيم أسباب الاتِّجار فيما بينهم، ولعل الفضل يعود إليه في بناء فندق «الحرائرية» القديم، وهو قبالة زاويته تقريبًا، وعلى مسافة قصيرة من بابٍ كبيرٍ من أبواب المدينة، وربما صح هذا على «السويقة» التي سمي الباب باسمها فقيل «باب السويقة»، وثمة رواية متواترة تذهب إلى أن سيدي محرز أنشأ أيضًا «حارة اليهود» وهي على مسافة من زاويته من اتجاه المسجد الجامع، وجلي أنه قصد بهذا العمل إلى أن يستبقيَ من ذلك الحي قومًا يحذقون التجارة خاصة، وهي من أسباب ازدهار المدينة.

وقد شهد ابن حوقل في القرن العاشر الميلادي بما كانت عليه مدينة تونس من ازدهار، فأطنب في الإشادة بوفرة غلاتها، وحسن موقعها، وثراء أهلها، وخصَّ بالذكر فخارها وري البساتين التي حولها بطواحين الماء، وزاد البكري تفاصيل أخرى من القرن التالي؛ فذكر الأسوار، والخندق، والأبواب الخمسة، وهي باب الجزيرة في الجنوب، وباب البحر الذي يفتح على الفرضة، وباب قرطاجنة في الشرق، وباب السقائين، وجلي أنه كباب السويقة في الشمال، وباب أرطة في الغرب، وكان مدخل الفرضة يغلق بسلسلة، يحميها من الشمال سور ومن الجنوب حصن من الحجر يعرف ﺑ «قصر السلسلة»، وقد أعجب البكري بأسواقها العامرة، وحمَّاماتها، وبالمسجد الجامع، وكان درج مدخله — كما هو الآن — اثنتي عشرة درجة، وأشاد بكثرة زادها من الفاكهة والسمك، ولم يفُتْه أن يذكر فخارها، ثم انتقل إلى موضوع آخر فتحدَّث عن إقبال أهل تونس على علوم الفقه.

والظاهر أن تونس كانت في أمنٍ ورخاء، حتى وقعت الواقعة المشئومة في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، فقلبت الحالة الاقتصادية والسياسية بأسرها رأسًا على عقب، ونعني بهذه الواقعة غزوة العرب الهلالية.

وغلب الفاتحون الجدد الزيرية الضعفاء على أمرهم، فاعتكفوا في المهدية، ووقعت تونس زمانًا في يد عابد بن أبي الغيث أمير بني رياح عام ٤٤٦ﻫ الموافق ١٠٥٤م، ثم طلبت الأمن فدخلت في طاعة الناصر الحمادي صاحب القلعة، فأرسل إليها عامله عبد الحق بن خراسان الصنهاجي عام ٤٥١ﻫ الموافق ١٠٥٩م، وسرعان ما جاهر هذا العامل باستقلاله، فتأسَّستْ بذلك أول دولة تونسية، ومكَّنت هذه الدولة لنفسها قرنًا من الزمان، إلا عشرين عامًا حتى غزاها الموحدون بعد ذلك بقرن على التحقيق.

وجار عليها أول الأمر الرياحية من بني علي، وكانوا قد وطَّدوا أقدامهم في المعلقة من أعمال قرطاجنة، فصالحتهم تونس لتأمن غاراتهم، ووعدوا بألا يتعرضوا للناحية أو لأحدٍ من أهلها نظيرَ جزية سنوية، بل إنهم سرعان ما حضروا أسواق تونس للبيع والشراء جميعًا، وسلمت المدينة من سعايات زيزية المهدية، ونورمان صقلية، وعكر صفوها في الوقت نفسه شبوب الفتن والأحزاب المتنافسة، وشغب الصف واقتتالهم، والتنابذ بين الأحياء المختلفة، ومع ذلك فقد بدأت تجارتها في البحر تنفق في هذا العهد المضطرب، فانتظمت تجارتها مع إيطاليا ونمت، وازدادت العلاقات التجارية مع النصارى، فأدى ذلك إلى رخاء لم يكن في الحسبان، وقد كان لبني خراسان أنفسهم نصيبٌ كبير في ترقية مدينة تونس وازدهارها، فحصَّنها أحمد، وهو أعظم أمرائهم، في النصف الأول من القرن الثاني عشر، وبنى الأسوار التي ذكرها الإدريسي، كما أنه هو الذي شيَّد «القصر»، وربما كان المسجد المعروف الآن بجامع القصر متصلًا به في أول الأمر، وفي هذا الحي بالقرب من شارع بنو كريسان، والظاهر أنه تحريف خراسان، لا تزال مقبرة بني خراسان قائمةً إلى الآن، ولعلها كانت متصلةً في الأصل بمقبرة السلسلة، والباب الكبير للمسجد الجامع من أيام هذه الدولة. وتحدَّدتْ هيئة تونس الآن عندما قامت ضاحيتاها الكبيرتان — باب سويقة وباب الجزيرة — وهما يمتدان شمالي المدينة القديمة وجنوبيها، وأخذ شأنها يعظم حتى أصبحت قصبة إفريقية، وقد ظل هذا حالها من أيام عبد المؤمن عام ٥٥٤ﻫ الموافق ١١٥٩م إلى وقتنا هذا، فاندمج تاريخها السياسي في تاريخ سلطنة تونس.

وقد أفزعت الناسَ غاراتُ ابن عبد الكريم الرغراغي الفاشلة عام ٥٩٥ﻫ الموافق ١١٩٩م، كما شق عليهم حكم آخر المرابطين يحيى بن غانية عام ١٢٠٣-١٢٠٤م، فكان من نصيب الحفصيين أن يعيدوا إلى تونس أمنها وسلامتها، وأن يزيدوا في منشآتها، وأن يجعلوا منها قصبة جديرة باسمها، وقد شيَّد أبو محمد بن أبي حفص — وكان لا يزال يحكم البلاد من قِبَل خليفة مراكش في حي باب السويقة (في شارع الحلفاويين) — مسجدًا جامعًا يعرف باسمه إلى الآن، وإن كان هذا الاسم قد حُرِّف بطبيعة الحال حتى أصبح «باي محمد»، وكان أبو زكريا أول أمراء هذه الدولة المستقلين، وتدل منشآته على أن المدينة بدأت تدخل في عهدٍ جديد، فقد شيد عام ١٢٣٠م خارج المدينة ناحية الجنوب الغربي مصلاه الحصين المعروف ﺑ «جامع السلطان»، وهو الذي أشار إليه ابن بطوطة في القرن التالي، ثم شرع في تعمير القصبة، وأقام في طرفها مسجدًا خاصًّا به هو مسجد الموحدين أو القصبة، ومئذنته على النمط الموحدي الخالص، وأنشأ خزانة كتب بددها ابن اللحياني أحد خلفائه، واقتفى أثر المشارقة ففتح في تونس مدرسة الشماعية بالقرب من سوق الشماعين القديم، وهو الآن سوق البلغجية، وقد رممت فيما بعد، وكانت أول مدرسة فُتحت في شمالي إفريقية، وأبو زكريا هذا هو الذي أجار بنات يحيى بن غانية الثلاث في القصر الذي عُرف منذ ذلك ﺑ «قصر البنات»، ثم إنه هو الذي نظم الأسواق حول المسجد الجامع مباشرةً، وفتح سوق العطارين، وربما كان هو الذي أنشأ كذلك سوق القماش.

وجاء بعده ابنُه الخليفة المستنصر بالله، فلم يقتفِ أثر أبيه في العناية بشئون التجارة والدين، بل كان رجلًا تياهًا يميل إلى الأبهة والبذخ، فبنى قاعة لمحافله تعرف ﺑ «قبة أساراك» عام ١٢٥٣م في قصر القصبة، وغرس حدائق للهوه في الربض المجاور له عند رأس الطابية على الطريق إلى باردو عند أبي فهر، ووصل القاعة بالبساتين طريق محجوب تسير فيه النساء فلا يراهُنَّ أحد، وفي عام ٦٦٥ﻫ الموافق ١٢٦٧م أتم الخليفة تعمير جسور قرطاجنة المعلقة القديمة المعروفة بالحنايا، فأشاد ابن حازم بهذا الصنيع في شِعره، وجلب الماء إلى بركة أبي فهر الكبيرة، ومنها إلى المسجد الجامع.

وبنتْ أمه عطف، وكانت أرملة فاضلة لزوجٍ تقي، مدرسة أخرى هي المدرسة التوفيقية الملحقة بجامع التوفيق أو جامع الهوى، الذي يرجع تاريخه إلى هذا العهد، وقد بنى الحفصيون في القرن الأول من حكمهم مسجدين آخرين هما: جامع الزيتونة البراني (عام ١٢٨٣م) خارج باب البحر، وقد شُيِّد بأمر أبي الفضل ليحلَّ محل الفندق الذي كانت تباع الخمر فيه، وجامع الحِلَق في الحي نفسه عند المُصلى، وبنى أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق مدرسة ثالثة هي مدرسة المعرض في سوق الكتبيين — وقد بُنيتْ أيضًا لتحل محل فندق يؤمُّه شاربو الخمر — ولكنها زالت من الوجود وأصبحت أثرًا بعد عين، ثم عمرت الأسوار أو بعضها على الأقل، ومنها الباب الجديد، وباب المنارة وربما بُني معها باب البنات وليس له الآن وجود.

وأصبحت تونس عام ١٣٠٠م قريبة الشبه جدًّا بتونس الحالية، فقد امتدَّت المدينة من الشمال إلى الجنوب، وكانت تنحصر بين القصبة من ناحية الغرب — وهي قصر الأمير الحصين الذي يشرف على المدينة وعلى سهل المنوبة — وبين باب البحر من ناحية الشرق عند أسفل السهل، وهذا الباب يُفتح على دار الصناعة ومنها إلى البحيرة، وفي منتصف هذا المرقى وفي سرة المدينة بالضبط المسجد الكبير، وتفتح أبوابه على الأسواق الجديدة المحيطة به، وقد عُرف الباب الشمالي بباب البهور، ونحن نتساءل أكان اسم الباب الغربي باب الشفاء؟ وكانت كل سوق تغلق أبوابها إذا جاء الليل، ولا يزال هذا شأنها إلى اليوم، وباب الربع القريب من السوق الذي يُعرف بهذا الاسم هو المخرج الجنوبي لهذا الحي كما هي الحال الآن. وقد تجمَّعتْ دكاكين بعض أرباب الحرف اليدوية حول المدينة خارج هذه الأبواب، فالصباغون داخل باب الجزيرة، والحدَّادون عند الباب الجديد، والسروجية عند باب المنارة، وكانت تجاور باب البحر بطبيعة الحال عدة فنادق يتوزعها تُجار النصارى، فلما ضاقت بهم هذه البقعة بادروا إلى بناء حيٍّ صغير أو ربض خاص بهم خارج الباب، وهو الصورة الأولى للحي الأوروبي، وكانت الدور تُبنى متلاصقة، لا فسحة بينها ولا رحبة للأسواق والمحافل، ولم تكن بطحاء ابن مردوم سوى مفرق طريق.

أما الأحياء الخارجية، فهي أحدث عهدًا وأقل زحامًا، فيها رحبات واسعة يبيع الناس فيها ويشترون، ويحمي كلَّ حي من هذه الأحياء سورٌ خارجيٌّ ينتهي عند القصبة، أما أبواب الصف الأول من هذه الحصون فهي في الحي الجنوبي: باب خالد (ولا شك أنه كان في الأصل باب المنصور) في الغرب، وباب الجرجاني في الجنوب، وباب الفلاق وباب علاوة١ في الجنوب الشرقي، وفي الحي الشمالي: باب الخضراء في الشمال الشرقي، وباب [أبي] سعدون في الشمال الغربي، وباب الأقواس في الغرب، ولعله عين باب العلوج، وقد ورد ذكره لأول مرة بعد هذا العهد، وإذا أردْنَا أن نعيِّن مكان ربض العلوج فلا مناص من أن نضعَهُ بجوار الباب الأخير، والعلوج مرتزقة نصارى يدفع لهم سلاطين تونس أعطياتهم.

أما القصبة نفسها، فإن أحد بابيها يُفتح على الريف، وهو باب الغدر، والآخر على المدينة وهو باب إنتجمي.

وبين باب علاوة وباب الخضراء مجموع من الخنادق تجري فيها الميازيب، فتصب شرقًا في البحيرة، والمقابر حول المدينة، وقد لحقت على الأيام بأرباضها، فلما اتسعت هذه الأرباض خرجت عنها، وإلى الجنوب الغربي الزلاج الرحب، ويكاد يكون قائمًا بنفسه، وهو يُخلِّد ذكر أبي الحسن الشاذلي المتصوِّف «سيدي بالحسن»، صاحب الطريقة الشاذلية، وقد عاش هناك في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، وتلاصق باب الجرجاني بجوار مقبرة الهنتاتية أضرحة كثير من «الأولياء».

وقد اعتزَّتْ تونس بالمرابطين الذين لا يُنكِر سلطانهم السياسي أحد، مثل أبي محمد المرجاني مؤدب أبي عصيدة الذي أصبح خليفةً فيما بعد، ولها أن تفاخر أكثر من ذلك بمن أخرجتهم من الفقهاء والأدباء والعلماء الذين ازداد عددهم على الأيام، وقد ازدهرت بها علوم الدين كما قال العبدري عام ١٢٨٩م، وممن برزوا فيها القاضي ابن زيتون عند نهاية القرن الثالث عشر الميلادي.

وكانت للمسلمين المهاجرين من الأندلس مشاركةٌ قيمةٌ في النهوض بدراسة الأدب وفقه المالكية، منهم ابن الأبَّار، وقاضي القضاة ابن الغمَّاز، وقد وفدا من بلنسية، وبنو عصفور من إشبيلية، وكذلك بنو خلدون أجداد ابن خلدون مؤرِّخ شمالي إفريقية الأشهر.

كان القرن الرابع عشر موضع إعجاب الرحالة خالد البلوي فهو العصر الذهبي للفقهاء والمفسرين، ومنهم ابن عبد الرفيع، وابن عبد السلام، وعيسى الغبريني، والقاضي ابن راشد القفصي، والمفتي ابن هارون، ثم ابن عرفة الإمام الجليل. أما في ميدان السياسة فإنا لم نأنس في الحُكَّام إلا ضعفًا، وفي المحكومين إلا اضطرابًا وخوفًا، فليس أيسر من أن يهدِّد الأعراب المدينة، كما احتلَّها المرينيون مرَّتين، وكان نموها ناحية الغرب وناحية الجنوب الغربي بالغَ القوة في القرن السابق، ثم أعقبَهُ شيءٌ من الخمول، ومع ذلك فنحن نذكر أن مدرستين قد أُنشئتا في هذا العهد، ابتنت الأولى أختُ الخليفة أبي يحيى، وتُعرف بالمدرسة العنقية (في شارع عنق الجمل)، وبنى الأخرى ابن تافراكين الحاجب (في شارع سيدي إبراهيم)، وقد أصبحت الآن أطلالًا، ومن سمات هذا العصر أن المهندسين قد عنوا أولًا وقبل كل شيء بما تتطلَّبه ضرورات الحرب، فقد عمر أبو الحسن المريني — بعد هزيمته في القيروان عام ١٣٤٨م — أسوار مدينة تونس، واحتفر حولها خندقًا، ودعم ابن تافراكين الأسوار الخارجية، وأنشأ أحباسًا عظيمة لحمايتها.

وكان القرن الخامس عشر، فاستقرَّت أمورها السياسية، ونشطت لذلك حركة المباني نشاطًا ملحوظًا، بيد أنها لم تكن واسعة النطاق، ولم يشيد أبو فارس وحفيده أبو عمر عثمان في حكمهما الطويل إلا خزانتي كتب ومدارس قليلة، وانصرف جل اهتمامهما إلى أعمال البر، فابتنيا أول مارستان إسلامي في تونس، وعدة زوايا في الأرباض يلتجئ إليها الناس في النهار والليل جميعًا، كما اهتما بما يتصل بالماء مدفوعين إلى ذلك بعامل الدين أيضًا، فأنشآ صهريجًا كبيرًا في المصلى، وميضأة في سوق العطارين، وسقايات ومصاصة، (وهي سبيل يمص فيه الإنسان الماء من صنبور)، وأخذ المرابطون وأصحاب الطرق يُسيطرون على الدين يومًا بعد يوم. وأبرز رجال هذا العصر سيدي أحمد بن عروس صاحب الطريقة العروسية، وسيدي قاسم الجليزي، وسيدي منصور بن جردان.

والظاهر أن التجارة كانت آخذةً بأسباب الرقي وقتذاك، وقد حافظت تونس على اتصالها بأوروبا، وكانت بها أسواق للزيت والخضر وفحم الحجر وسوق للصفارين (النحاسين)، وسوق للعزافين (صانعي السلال)، وقد قُدِّر عدد المنازل رسميًّا عام ١٣٦١م بسبعة آلاف منزل، كما قال ابن الشماع، ثم زاد عام ١٥١٦م إلى عشرة آلاف منزل كما قال الحسن بن محمد الوزان الزياتي، وأورد الرحالة فان غستيله معلومات قيمة عن حياة النصارى في تونس عام ١٤٨٥م، أما أولو الأمر فقد انتهجوا سنَّة أسلافهم وعملوا على الإقامة خارج المدينة، وأغلب ما يكون ذلك في ضيعتهم باردو، وسرعان ما أصبحت مجموعة كبيرة من المباني، وينسب إلى أبي عبد الله الحفصي قصر العبدلية عند المرسى، وكذلك خزانة الكتب المعروفة بالاسم نفسه والملحقة بالمسجد الجامع.

وكان القرن السادس عشر قرنًا يسوده الاضطراب، فأصبحت المدينة المنكودة الطالع غرضًا من أهم أغراض الترك والإسبان في حروبهم الطويلة، وقد نهبتها جنود خير الدين عام ١٥٣٤م، ثم سلبها جيش شارل الخامس المظفر في العام الذي يليه، وفر أهلها في جمعٍ واحد أمام النصارى من باب الفلاق، وقد غير اسمه تبعًا لذلك فأصبح باب الفلَّة (أي باب الهزيمة)، وجليٌّ أن الأحوال التي عمر فيها الحفصيون ما تخرب وصانوه لم تكن جد مواتية لنمو المدينة، فقد صرف الأمراء كل اهتمامهم إلى الحصون التي زيدت عليها حصون حلق الوادي، ويظهر أنها لم تتم حتى خريف عام ١٥٧٣م، عندما طرد دون جون النمساوي من تونس القائد رمضان، الذي ظلَّ عاملًا عليها أربع سنين من قِبَل علي باشا، وقد حصنت القصبة تحصينًا قويًّا، وقام في مكان دار الصناعة على ساحل البحيرة، حصن على هيئة النجم، يصله بأسوار المدينة متراسان، بيد أن هذا الجهد ذهب أدراج الرياح، وعاث الجند الإسبان في المدينة فسادًا، فهجرها الأهلون واستولى الترك في سبتمبر عام ١٥٧٤م على هذا الحصن وهدموه، وأقام سنان باشا في تونس حكمًا موطَّد الأركان، فأخذت العمارة في الازدهار بعد ذلك بأمدٍ وجيز.

وزاد خروج الناس من الأندلس واستمرَّ قرونًا، واتَّسع مداه فجأةً عندما رحَّب الداي عثمان بعرب الأندلس الذين طردهم فيليب الثالث، فأقام أهل الحضر منهم في تونس وسكنوا حيَّيْنِ اثنين هما: شارع الأندلس جنوب غربي «المدينة»، وحومة الأندلس بالقرب من موضع الحلفاويين، وهم الذين أدخلوا صناعة الشاشية «القلانس الخُمر»، وكان لتونس في القرن السابع شأنٌ خاص بفضل اجتماع الأندلسيين المسلمين بالترك الحنفية المشارقة، وقوة المرتدين الفرنجة والقرصان.

وكان الداي يوسف الأول أول من اشتهر بإقامة المنشآت العامة، كإنشاء حي تجاري حول باب البنات، وتعمير سوق الغزل المجاور لهذا الحي، وبناء سوق لتجار جربة، وإصلاح عدة أسواق أخرى، وتوسيع أسواق الحفصيين ناحية الشمال، وهي: سوق البشامقية (وهم صنَّاع السراويل التركية، شارع سيدي ابن زياد) وسوق البركة لبيع العبيد السودان، وسوق الترك للخياطين الترك، وإنشاء قهوة، ومد مجاري المياه إلى بقاع مختلفة في المدينة، كالمسجد الجامع فيما يلي سوق الترك، وشيَّد صفيُّه علي ثابت (عام ١٦٢٠م) الميضأة البديعة التي تزين الآن «البلفدير»، وعمر علي كذلك المسجد الجديد في ربض باب الجزيرة، وربما كانت إعادة بناء المسجد الشرقي المعروف بباب الجنائز قد حدثت في ذلك العهد، وابتنى يوسف (عام ١٦٢٢م) في شارع سيدي ابن زياد مدرسةً ومسجدًا للحنفية، مئذنته مثمنة الشكل، وإلى جانبه ضريحه، وأخذ سلطان الدايات يتضاءل بعده، فلم يقوموا بعملٍ عظيم. وقنع أحمد خوجة بتعمير المدرسة الشماعية والمدرسة العنقية، وشيَّد محمد لاز عام ١٦٤٩م مئذنة القصر العجيبة، فلما توفي عام ١٦٥٣م شيدت له ولأهل بيته «تربة» في ميدان القصبة.

figure
شارع الأندلس بمدينة تونس.

وقد شيَّد البايات المرادية كثيرًا من العمائر، وبنى حمودة مسجد سيدي ابن عروس الحنفي على نمط مسجد الداي يوسف وبالقرب منه، كما بنى بجواره ضريحًا لأهل بيته، وعمر كذلك منارة المسجد الكبير وشيَّد مارستانًا في شارع العزافين وشرَع في تعمير الجسر المعلق، وبنى ولده مراد المدرسة المرادية في سوق القماش، وفتح ابنه الثاني سوق الشاشية، وأقام حفيده محمد مسجد سيدي محرز بعد عام ١٦٧٥م، وهو أهم مساجد المدينة، ويُقال إن المهندس الفرنسي دفيليه هو الذي رسم خطة قبابه. وكانت القصبة في أول أمرها مقر الباشوات قبل تقلُّص سلطانهم، وكانت تضم بنايتين كبيرتين: في الأولى حرس الدايات والضباط مع أهلهم، والثانية وراءها، وفيها السقيفة التي يلقي فيها الداي جنده، وفي أقصاها مسكنهم، أما الديوان الذي يرأس فيه الأغا المجلس العسكري فهو قاعة متسعة مستطيلة، ولا تزال المحكمة الشرعية في هذا الموضع، وكان الحي الواقع غربي المدينة وشمال غربيها — وبخاصة طريق الباشا — هو حي السراة أو الحي التركي الصميم، وقد زُيِّنت بالمرمر دور الدايات الفخمة وغيرهم من الأعيان، وكانت الرحبة الوسطى — وهي من سمات الدور المألوفة في ذلك العهد — تزين أحيانًا بجوسق أو بركة من الماء، ولكن الرياش والزخارف كانت فيها نزعة إلى محاكاة الرديء من الفن الإيطالي.

وتوسَّع القرصان في مغامراتهم فازداد عدد العبيد من النصارى، ومن ثَمَّ كثر عدد تلك السجون العجيبة التي يُنسب كل منها إلى قديس تُنذر له البيعة التي يحتويها السجن، وذكر الأب دان تسعًا منذ عام ١٦٣٥م، وسرعان ما أصبحت ثلاثة عشر سجنًا، وفي أيام جان له فاشيه قنصل فرنسا شيدت أول كنيسة في دار القنصلية، نُذرت إلى القديس لويس، وهو أيضًا الذي أقام على أطلالها كنيسة القديس أنطونيوس في وسط المقبرة الرومانية الكاثوليكية، وأقام حولها الأسوار العالية خارج باب البحر (في موضع الكتدرائية الحالية)، وهو الذي استأذن من الديوان وحصل منه على أرضٍ بنى عليها قنصلية للفرنسيين عُرفت ﺑ «فندق الفرنسيين»، وقد تم بناؤها عام ١٦٦١م، وكان البروتستانت يُدفنون خارج باب قرطاجنة في مقبرة القديس جورج، في الموضع الذي تقوم عليه الآن الكنيسة الإنجليزية، ويظهر أن تُجَّار النصارى لم يكونوا كثيرين على الرغم من حماية القنصلية لهم، «فالأمة» الفرنسية لم تكن منذ أمدٍ طويل سوى ستة أشخاص! وكان غالب التجارة الخارجية في يد اليهود ومعهم المهاجرون من الأندلس والبرتغال، وقد وفدوا إلى تونس مباشرةً أو بطريق إيطاليا، وكانوا يتميزون عن التوانسة القدماء، أما الكرانة أو البرتغال فكانوا جماعة منفصلة برأسها، وإليهم نسب «سوق الكرانة»، وكانت مقابر اليهود خارج الأسوار شرقي حي باب السويقة بجوار شارع سيدي سفيان الحالي، ثم امتدَّتْ ناحية الجنوب.

وسادت القلاقل السياسية ختام القرن السابع عشر، وبداية القرن الثامن عشر، واحتل إبَّانها أهل الجزائر تونس مرتين، وصحبت ذلك فتنٌ سُفكت فيها الدماء، ولم تكن الأسوار من المناعة بحيث ترد هجومًا عنيفًا، ولم تتبع في بنائها قاعدة من قواعد التحصين، بل إن تونس وقعت مرة أخرى تحت رحمة أهل الجزائر في عهد الحسينية، ونهبها هؤلاء الجزائريون عام ١٧٣٥م، فحاول التوانسة عبثًا أن يقفوا في وجوههم، واستعانوا في ذلك بحصونٍ تعجَّل علي باشا وابنه محمد في بنائها.

وقد حفلت المدينة في الفترات التي رفرف عليها السلام ببناياتٍ أخرى، ففي أيام رأس الدولة الجديدة حسين بك علي توفيت الأميرة عزيزة عثمانة عام ١٧١٠م، وهي كبرى حفيدات الداي عثمان، ودُفنت بالقرب من مدرسة الشماعية، وقد انتفع كثير من منشآت البر والتقوى بجزيل عطاياها، وكان حسين نفسه بنَّاءً عظيمًا، فقد شيَّد في الحي الجنوبي من تونس الجامع الجديد أو «جامع الصبَّاغين»، وهو الذي اختطَّ الطرق والمباني الملاصقة لسوق السروجية، وفي عهده شيَّد ضريح الداي قره مصطفى بجوار مسجد القصر، وهو الذي نقل قصبة ملكه إلى باردو، وقد عني ببناء المدارس كمدرسة النخلة، والمدرسة الحسينية، والمدرسة الجديدة، وخلفه علي باشا فنسج على منواله، وبنى أربع مدارس هي: الباشية في سوق الكتبيين، والسليمانية، وسميتْ كذلك تخليدًا لذكرى ولده المتوفى سليمان، ومدرسة بئر الحجار، ومدرسة حوانيت عاشور، ثم أنشأ علي باي بعد ذلك مدرسة أخرى باسم المدرسة الجديدة، وإليه يرجع الفضل في بناء مقبرة الحسينية المعروفة ﺑ «تربة الباي»، وهي غير بعيدة من مسجد الصباغين، وكذلك تكية العجائز الفقراء، وفد بُنيت عام ١٧٧٥م.

figure
شارع حلفاويين بمدينة تونس.

وبنى الوزير المشهور يوسف صاحب الطابع حوالي عام ١٨٠٠م المسجد الذي يحمل اسمه في ميدان الحلفاويين، ولعله أقيم في موضع «المسجد المعلق على الحلفاويين» كما يتَّضح من رواقه الخارجي المرتفع، وبنى في الحي نفسه نافورةَ الحلفاويين عام ١٨٠٤م داخل باب سيدي عبد السلام، وبنى في الطرف الآخر من المدينة حوضًا كبيرًا للماء داخل باب اللواء.

وفرغ مولاه حمودة باشا من بناء «دار الباي» فوق القصبة بقليل، وقد وقف جهده على بناء الحصون والثكنات، ورأى أن يحميَ تونس من أهل الجزائر خاصة، فطلب من مهندس هولندي أن يعمِّر أسوارها الخارجية، ولم يكمل هذا العمل من جانبه الجنوبي، واستغرق من عام ١٧٩٧ إلى عام ١٨٠٤م كما يُستدل من الكتابات المنقوشة على الأبراج التي تكتنف الأبواب، واستعيض عنها في هذا الجانب بالمتاريس الأمامية التي بناها علي باشا، وبجدران المنازل الخارجية التي يتكوَّن منها خط دفاعي متصل، وشيد حمودة في عام ١٧٩٨م الثكنات على طول الطريق المجاور لقصره الخلوي البديع في المنوبية، وبنى غيرها في أخريات أيامه عام ١٨١٤م في وسط سوق العطارين (وهي تضم الآن دار الكتب العامة، وإدارة العاديات). وفي العهد نفسه شُيِّدت ثكنات أخرى في المدينة، في شارع القشلة؛ أي الثكنة (وهو الآن الجمعية الفرنسية للبر)، وشارع الكنيسة (وهو الآن إدارة الأوقاف)، وشارع منكويت، وشارع سيدي ابن زياد، وأكبرها ثكنة الفرقة الأولى «برنجي آلاي»، وقد بناها الباي حسين بن محمود، ثم أخوه مصطفى بالقرب من المركاض في موضع المصلى القديمة، وبنى أحمد باي عام ١٨٣٩م مخزنًا للمدفعية خارج المدينة، ويُعد أحمد باي خالق «الجيش التونسي».

وقد قنع بأن يطلب في مناسبتين (١٧٤٣ و١٧٤٤م) سبَّاكًا من طولون لإصلاح عدة مدافع في مصنعٍ للطوارئ، أما حمودة باشا فأنشأ مسبكًا دائمًا في جناح من قصر الحفصية، يُشرف عليه بعض الفرنسيين، ثم نظم أحمد باي الدبدابة التي يُصنع فيها الخبز والزيت للجيش، والظاهر أن هذه المشروعات العسكرية قد عملت على تحويل تونس إلى حامية عسكرية، وأخذت المحلة الأوروبية في الوقت نفسه تحتل جانبًا من المدينة، وكانت تنمو نموًّا مطردًا لا يعوقها عائق بفضل احتلال الفرنسيين للجزائر عام ١٨٣٠م والإصلاحات التي قام بها البايات، ففتح النصارى الدكاكين، وشُيدت الكنائس، وفُتحت المدرسة الإيطالية في سولمة عام ١٨٣١م، والمدرسة اليهودية عام ١٨٤٠م في مربرجو، وكلية بورجاد عام ١٨٤١م، وأصبح حي ميدان البورصة بأسره أوروبيًّا خالصًا (وسُمي حديثًا باسم ميدان الكردينال لافيجري)، وكذلك الشارع الحالي للديوان القديم، وشارع جلاسييه، وشارع القومسيون، وأخذت المدينة الحديثة تتسع خارج الأسوار متجهة ناحية البحيرة، ومن ثَمَّ نقلت قنصلية فرنسا عام ١٨٦١م إلى الدار التي يشغلها الآن المقيم العام، ومع هذا فقد بقيتْ بعض القنصليات داخل المدينة، وهي قنصلية إسبانيا (في شارع سيدي البوني)، وقنصلية بريطانيا العظمى (في ميدان الكردينال لافجري) وقنصلية إيطاليا (شارع زركون)، وقوي بأس الأوروبيين حتى تأثرت به آخر الأمر إدارة المدينة نفسها، وكان لكل من الربضين أيام الحفصيين شيخٌ يقوم عليه، ولعلهما كانا تحت إشراف شيخ المدينة، وقد بقي هؤلاء الشيوخ في عهد الأتراك، وكانوا يقومون على خفارة المدينة بعد أن تغلق أبوابها ليلًا، تعاونهم جماعات من السكان تتناوب العمل فيما بينها، ويتبع هؤلاء «المحركون» وهم شيوخ الأحياء، وكانت شرطة النهار أيام الحسينية من عمل الدولتلي، وكان يقوم بمنصب رئيس البوليس في القاعة المستطيلة المعروفة ﺑ «دريبة» في شارع سيدي ابن عروس، أما القصبة فكانت إدارتها منفصلة تحت إشراف أغا.

ومع ذلك فقد ألف مجلس بلدي عام ١٨٥٨م يضم رئيسًا، ووكيلًا، وكاتب سر، واثني عشر عضوًا من الأعيان، وكان يزود بالمال من ضريبة تفرض على الخمر والكحول، وحل محل الدولتلي عام ١٨٦٠م «فريق» يرأس الضبطية، وقد بُذل جهد كبير لتُساير المدينة العصر، فمرر خط للبرق يصل بينها وبين الجزائر، وخط حديدي يصلها بحلق الوادي، كما زودت المدينة بالمجاري، وقام المهندس الفرنسي كولان بجلب الماء إليها من زغوان، وحل برج الماء محل الصهريج المغطَّى الذي كان قائمًا في القرن السابق بجوار باب سيدي عبد الله.

وبُنيتْ من أماكن العبادة زاويةُ سيدي إبراهيم الرياحي، وأنشئَ المعهد الصادقي (في ثكنات شارع الكنيسة) نسبةً إلى الباي محمد الصادق، ثم بُني المارستان الصادقي، وكان قصر الزورق هو الذي أقام فيه الدايات أول الأمر (في شارع القضاة)، وفي عام ١٨٧٦م عمَّر وزير من وزراء الباي دار الحسين (وهو الآن قصر الفريق) الذي بُني في القرن الثامن عشر، وظل قصر خير الدين، وهو قصر الحفصية القديم بعد توسيعه مقر المحكمة زمانًا في مستهل أيام الحماية (وهو في شارع المحكمة)، أما قصر مصطفى بن إسماعيل فكان في شارع الباشا، وأصبح قصر الخازندار مارستان اليهود، وهو الآن مهجور، ومما يجدر ملاحظته أنه لما ثار أبناء الحسين في وجه علي باشا في منتصف القرن السابق، عني الباي بحي الحلفاويين الذي كان يسكنه «الحسينية» الموالون له.

وأحدث الاحتلال الفرنسي (من عام ١٨٨١م) تطورات خطيرة في تونس، وتمتدُّ المدينة الأوروبية من باب فرنسا — وهو باب البحر القديم — إلى البحيرة؛ حيث الأرصفة والمراسي، ومن البلفدير إلى الجلاز، ثم تمتدُّ في الحي الجنوبي داخل الأسوار وخارجها فتغطي روابي مونفليري، والسور الخارجي باقٍ إلى اليوم، أما سور المدينة فقد اندثر أو كاد، ولم يبق منه سوى أبواب قليلة، وعمرت القصبة تعميرًا كاملًا، وهي الآن ثكنات للجند، وتشغل الإدارة الداخلية دار الباي، وتشغل الإدارات الأخرى مع المعهد الصادقي وقصر العدلية بنايات حديثة تمتدُّ على طول شارع البنات من ميدان القصبة، وتسير مركبات الكهرباء «الترام» حول المدينة، ولكنها لا تجوس خلالها، وقد بُذلت الجهود؛ لكي تحتفظ المدينة بطابعها الشرقي، وهناك بنايات تستعمل في غير ما أنشئت له، بيد أن المظهر العام للمدينة لا يزال كما كان منذ خمسين سنة، وينحصر التعليم الديني في المسجد الكبير، وقد عُمِّرتْ مئذنته تعميرًا كاملًا عام ١٨٩٤م، وأنشأ المقيم الفرنسي مليه المدرسة الخلدونية في سوق العطارين؛ ليتعلم فيها فتيان المسلمين مبادئَ العلوم الحديثة.

ولا تزال الحرفُ الوطنيَّةُ تتجمَّع في الأسواق، لكل حرفةٍ منها «أمين»، ويزور بعضَها كثيرٌ من السائحين، فتنشط حركة التجارة؛ لأنهم يبتاعون الأدوات «الشرقية» والعطور والبسط والسلع المصنوعة من الجلد، ويصيح المنادون في سوق الكتبيين وسوق البركة على الكتب والحلي، وقد هجر الحي اليهودي الحقير أهلوه الذين يستطيعون الإقامة بجوار ميدان بوتييه أو في المدينة الأوروبية، وسوف تقوم عن قريب في هذا الحي البنايات الحديثة والطرق المتسعة. أما المسلمون فهم على العكس من ذلك، يعيشون في الأحياء الوطنية، اللهم إلا بعض الأسر الغنية التي ابتنت لها قصورًا ريفية في آخر طريق باريس، ولا يفوتنا أن ننوِّه بازدياد سكان الأرباض البعيدة من أوروبية وإسلامية ويهودية، وقد اتصلت في الواقع واندمجت في مدينة تونس، وأعيد تنظيم المجلس البلدي بمقتضى المرسوم الصادر في ٣١ أكتوبر عام ١٨٨٣م وأُلحق به مرسومَا عام ١٨٨٨م، ١٩١٤م بخصوص المجالس البلدية للولاية، ويتألَّف المجلس من رئيس، ووكيلين فرنسيين، وسبعة عشر عضوًا يعينون بمرسوم (ثمانية من الأوروبيين، وثمانية من المسلمين، ويهودي تونسي)، وارتفع عدد سكَّان مدينة تونس في تعداد عام ١٩٢٦م إلى ١٨٥٩٩٠ نسمة، منهم ٢٧٩٢٢ فرنسيًّا، و٥١٢١٤ من الأجناس الأوروبية الأخرى، و٨٢٧٢٩ من المسلمين الوطنيين و٢٤١٣١ من اليهود التونسيين.

١  في لغة أهل تونس باب عليوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤