الدنيا في أذهان الصوفية

ذم الصوفية للدنيا شاهد على تعلقهم بها

زارت رابعة أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت: اسكتوا عن ذكرها؛ فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، ألا من أحب شيئًا أكثر من ذكره.١

وإني لأخشى أن تكون هذه النظرة مما يصدق في أكثر الصوفية: فهم جميعًا يذمون الدنيا، ويخافون شرها، ويكثرون من تقبيحها والتنفير منها، ويندر أن يكتب في التصوف كتاب ولا تكون الدنيا شغل المؤلف وهمه في أكثر الفصول. والواقع أن الدنيا شغلت الصوفية فلم تخل منها قلوبهم طرقة عين، ولو خلت منها قلوبهم لما طوقوها بقلائد الهجاء، وإنما مثلها في أنفسهم مثل المرأة المطلقة التي يحن إليها زوجها ويتمنى لو عادت لياليها الملاح، وكيف يخلص الناس من فتنة دنياهم وهم مقيدون بما فيها من هواء وماء؟ إن النفحة السماوية التي يتشوقون إليها لم تكن إلا لفتة فنية، والتطلع إلى السماء إنما هو كبر إنساني شريف، ولكنه على ما فيه من شرف لا يخلو من تهور واعتساف، فالإنسان من الأرض خلق وإلى الأرض يعود، والنفس على ما فيها من رقة وصفاء قيدتها الإرادة الأزلية بأسباب العيش، وفرضت عليها الخضوع لسلطان الأمعاء، فليصنع الصوفية ما يشاءون فسيظل ابن آدم منسوبًا إلى الطين والماء.

هل الدنيا قبيحة في جميع الأحوال؟

وإسراف الصوفية في ذم الدنيا لا يخلو من غفلة وجهل، فللدنيا فتنة روحية، وفي الكفاح في مناكبها سحر وإشراق، والعليل هو الذي لا يدرك جمال هذا الوجود، ولا يعرف أن القبيح نفسه فيه شعر وجمال، وأن دمامة الأخلاق فيها فرص نورانية لمن يعرف على أي أساس بنيت هذه الدنيا الفيحاء.

إن الرجل الذي يعود إلى بيته وهو مهدم الأعصاب يزعجه صراخ الطفل، أفيكون انزعاجه دليلًا على وجود البشاعة في صراخ الأطفال؟ وكيف والرجل السليم يرى في بكاء الطفل ملامح شعرية، ويتوسم في انفعالاتهم بوارق من نور الوجود؟

إن إسراف الصوفية في ذم الدنيا هو الشاهد على انحرافهم في فهم الأخلاق، وهو كذلك الشاهد على أن قواعد الأخلاق أقيمت في الأغلب على الأهواء الذاتية، فنحن نرضى عن الدنيا ساعة ونغضب ساعات، فتكون لنا عند الرضى آراء، وعند الغضب آراء، والصوفية أولى الناس بالتهمة عند الانحراف؛ لأن التصوف يقع في أكثر الأحيان عند المرض والمشيب، والمريض الأشيب ينظر إلى الدنيا نظرة الحقد والازدراء.

حقائق

إن أشنع غلطة اقترفها الصوفية هي التنفير من الدنيا، والدعوة إلى هجر ما فيها من الطيبات، وإصرارهم على إقناع الناس بأنهم يلدون للموت ويبنون للخراب. والحق أن كل ميلاد إلى موت، وأن كل بناء إلى خراب، ولكن بين الحالين مواسم للخير والبر والجمال والصفاء، ومن الحمق أن يجهل المرء أنه خلق لغاية نبيلة تتمثل في تطوره من حال إلى حال، وتنقله بين الحلم والجهل، والعقل والجنون. وكان الصوفية أجدر الناس بأن ينظروا هذه النظرة، وأن يتصوروا ما في تقلب الطباع من رونق وبهاء، ولكن خبز الشعير ولباس الصوف والملح الجريش، كل أولئك طبع أرواحهم بطابع التلوم والاشفاق.

كيف غاب عنهم وجه الخير في هذه الهموم السود التي يعانيها أشراف الرجال؟ وكيف غفلوا عن المغانم النفيسة التي يظفر بها من يحارب الخسة والدناءة والإسفاف؟ إن فرص الجهاد لا تتاح إلا لمن ينغمس في الدنيا ويشهد ما يقع فيه الدنيويون من محاربة الشرف والصدق والنبل، ولو استمع العالم إلى نصائح الصوفية لضاعت أصول كثيرة من الخير والحق والجمال.

إن العالم الباقي لم يتمثل لعشاقه إلا عن طريق العمران: فهو قصور وأنهار وحدائق، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. ولو كان النعيم يبغض لذاته لما رضي الصوفية أن يجعلوه نصيبهم في دار البقاء، فلم يبق إلا أن يكون الكدر في هذه الدنيا أثرًا من الانحراف في أخلاق الناس، وتكون النتيجة أن الناس أعطوا ملكًا فلم يحسنوا سياسته، أعطاهم الله تلك الأنهار الجارية والرياض الحالية، وسخر لهم الشمس والقمر والنجوم، فغفلوا عن مفاتن ذلك الملك الذي ينتظم محاسن الأرض والسماء، وحولوا حياض الأزهار إلى ميادين تسفك فيها الدماء، وتزهق الأرواح.

الجمال في هذا الوجود

وكان الظن بالصوفية وهم من أهل البصائر والقلوب، أن يعرفوا قيمة هذه الدنيا، هذا الملك الذي ضيعه أهله، كان الظن بهم أن يجاهدوا ما فيه من شهوات وأباطيل، ولكنهم آثروا الهرب والانزواء، وصاروا يعرفون من أنهار الجنة ما لا يعرفون من أنهار هذا العالم، ويعلمون من أبواب جهنم ما لا يعلمون من أسباب انحطاط الأمم وضعف الشعوب، ويدركون من نعيم الآخرة ما لا يدركون من معنى الملك والقوة في هذا الوجود.

إن الاعتصام بشواهق الجبال فرارًا من ظلم الناس فيه ملامح شعرية، ولكنه دليل على حب السلامة، وذلك من أخلاق الضعفاء، وأشرف منه أن تدخل المعركة، وأن يخضب الدم وجهك وصدرك ويديك، وأن تلقى الله بوجه شريف لم يعرف صاحبه الجبن ولا الرياء ولا الخداع.

الدنيا جنة دانية القطوف، وفي بعض أركانها أفاع وصلال، وما أفاعيها إلا لئام الناس، فكيف خانتكم الشجاعة أيها الصوفية فلم تقتلوا ما في تلك الجنة من خبيث الحشرات؟

أفي الحق أن الدنيا بنيت على الكيد والفتك والنفاق؟ ليكن ذلك، ولكن لا تنكروا أنها أعظم مما تتوهمون، إن في الدنيا جمالًا جذابًا يستهوي العقول والقلوب، وهي صالحة كل الصلاحية لأن تكون من ميادين المجد في عالم الأخلاق، ولكن أين الصابرون؟ وأين المحتسبون؟ كل امرئ في دنيانا يودّ أن يغنم المعركة في لحظة واحدة، وإلا ففي مهاوي الفرار متسع للجميع، وقود عجز الصوفية ثم تواصوا بالتقهقر والانسحاب، فلنسجل عليهم هذه الخزية البلقاء.

الدنيا في كلام الأنبياء

اهتم الصوفية بنقل ما قال الرسول في ذم الدنيا، فحدثونا أنه وقف على مزبلة. وقال: هلموا إلى الدنيا، وأخذ خرقًا قد بليت على تلك المزبلة وعظامًا قد نخرت، فقال: هذه الدنيا٢ وحدثونا أنه قال: ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟٣ وأنه قال: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له.٤ وحدثوا أن أبا هريرة قال: قال لي رسول الله : يا أبا هريرة، ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها؟ فقلت: بلى، يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى بي واديًا من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس وعذرات وخرق وعظام. ثم قال: يا أبا هريرة، هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم، وتأمل كأملكم، ثم هي اليوم عظام بلا جلد، ثم هي صائرة رمادًا، وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها من بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها. وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد، فمن كان باكيًا على الدنيا فليبك.٥
ولم يكتف الصوفية بكلام نبي المسلمين فنقلوا عن صحف إبراهيم هذه الكلمات:
«يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم، إني قذفت في قلوبهم بغضك، والصدود عنك، وما خلقت خلقًا أهون عليّ منك، كل شأنك صغير، وإلى الفناء يصير، قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد، وإن بخل بك صاحبك وشحّ عليك.٦
ومضوا يقصون أخبار المسيح فرووا أنه اشتد عليه المطر والرعد والبرق فجعل يطلب شيئًا يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد، فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي لكل شيء مأوى، ولم تجعل لي مأوى، فأوحى الله تعالى إليه: مأواك في مستقر رحمتي، لأزوجنك يوم القيامة مئة حوراء خلقتها بيدي، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام، كل يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرنّ مناديًا ينادي: أين الزهاد في الدنيا، زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن .مريم٧
وحدثوا أنه مرّ بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريين، إن هؤلاء ماتوا عن سخطة، ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح الله، وددنا أنا علمنا خبرهم، فسأل الله تعالى فأوحى إليه: إذا كان الليل فنادهم يجيبوك، فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله. فقال: ما حالكم وما قصتكم؟ قال: بينا نحن في عافية أصبحنا في الهاوية. قال: وكيف ذلك؟ قال: لحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبكم للدنيا؟ قال: حب الصبي لأمه، إذا أقبلت فرح بها وإذا أدبرت حزن وبكى عليها. قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: فكيف أجبتني من بينهم؟ قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم. فما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فأنا معلق على شفير جهنم، لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها. فقال المسيح للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة.٨

شخصية المسيح

وما يهمنا في هذا المقام أن نبحث في صحة هذه الأحاديث وفيها الزائف والصحيح، لا يهمنا ذلك؛ لأن عناية الصوفية بدرسها وروايتها هي الشاهد على ما نراه في تصوير مذاهبهم الأخلاقية، وهم يذمون الدنيا إطلاقًا ولا يتسامحون في الرضا عنها إلا في رسوم ضيقة أشدّ الضيق، ولولا غلبة هذه النزعة عليهم لكان لهم موقف آخر في توجيه تلك الأحاديث، فما نظن أن الرسول كان يرى الدنيا جيفة في جميع الأحوال، والمعقول أنه كان يحقرها حين يرى الناس يتكالبون عليها ويقترفون في سبيلها منكر الآثام، ولو عرض الرسول لدنيا رجل صالح لقضى بأن الدنيا مطية المؤمن، وأن الغنى من نعم الله على عباده الصالحين.

إن وقوف الصوفية عند هذا الجانب من كلام الرسول لم يقع إلا عن قصد، فذلك هو منحاهم في الأخلاق، والشخصية الخلقية عندهم هي شخصية فقيرة معدمة لا تعرف غير التفكير في الجزء المجرد من الملكوت، أما النظر في هذا العالم الصاخب المملوء بالمحاسن والعيوب فذلك لأهل الدنيا الذين قضى عليهم الصوفية بالغفلة والسقوط.

واهتمام الصوفية بأدب المسيح يؤكد ما نراه في نزعتهم الأخلاقية، فالمسيح هو أعظم درويش عرفه هذا العالم، وهو في ذاته شخصية جذابة، ولكن الاقتداء به اقتداء مطلقًا لا يخلو من عدوان على مُلك العقل، ولا يصح النظر إلى المسيح كشخصية مستقلة تمام الاستقلال، وإنما يجب النظر فيما كان يحيط به من تكالب أرباب الأموال، وتصور ما كانوا عليه من قذارة التعامل وسفاهة الإجحاف، فاليهود الذين عرفهم عيسى كانوا بغوا في الأرض واشتروا رقاب الناس بالربا الفاحش، وكذلك كانت دعوته إلى بغض الدنيا دعوة طبيعية يقرها الأدب والذوق.

دفاع المؤلف عن الصوفية

ولكن كيف نبخل على الصوفية بما سمحنا به للمسيح، وكيف نحرّم هنا ما حللناه هناك؟

والواقع أن الصوفية نشأوا في بيئات غلب عليها الفساد، فساد الخلق والدين، وما كانت المعاملات بين الناس في العهود الماضية إلا ضروبًا من الختل والعدوان، وهل صلح الناس في زماننا هذا مع قوة القانون وحزم القضاء؟ حدثني كم رجلًا فيمن تعرف يصلح للتعاون بلا صكّ مكتوب؟ وكم رجلًا فيمن تصادق تأتمنه فلا يخون؟ وكم رجلًا فيمن تؤاخي يحفظ سرك ويرعى عهدك، ويظل ظهيرك في المحضر والمغيب؟

لقد نشأ الصوفية في أزمان لم يكن فيها لغير الحاكم المسيطر أمر يطاع، وكانت الدسائس والوشايات أساس الحل والعقد في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء، وكان الندمان والمحاسيب هم محور الحركة والسكون، وأصل الإدبار والإقبال، على نحو ما يقع أحيانًا كثيرة في هذا الزمان، فكيف ننكر أن يكون إسراف الصوفية في ذم الدنيا أثرًا من آثار ذلك الإضطراب في السياسة والخلق والدين؟ وما هي تلك الدنيا البشعة التي يستجيز أهلها الغدر والعقوق؟ وهل يغدر الغادر ويعق العاق إلا وهو مؤيد بقوى خفية من الطمع والجشع، وحب التملك والاستعلاء؟

إن مطامع الدنيا هي الأصل في فساد الأخلاق، فهل يلام الصوفية على تحقيرهم إياها، ورمى عشاقها بالإثم والبهتان، وحربهم بأقوال الحكماء والأنبياء والمرسلين؟

إننا نتهم الصوفية بالضعف حين يفرون من دنيا السفهاء، فلنجالد نحن، ولننظر عواقب المعركة بين الهدى والضلال، وأغلب الظن أننا سنرمي الراية يائسين؛ لأن هنالك سرًا لا يعلمه إلا علام الغيوب، هنالك المشكلة الباقية التي قضت بأن لا يخلص العالم من اشتباك الحلم والجهل، والعقل والجنون.

إن رجل الأخلاق ليس أحسن حالًا من راعى الغنم، يجمع هذه فتنفر تلك، ولا يزال معذب القلب بين الشاردات والواردات، وليس أعظم قدرة من المدرس الذي يساق إليه التلاميذ بلا تخير ولا اصطفاء، ثم يطلب منه أن يتعلم تلاميذه جميعًا وأن ينجحوا جميعًا.

من الحق أن تطالب رجل الأخلاق بالثبات، ولكن من الظلم أن لا تشفق عليه حين ينهزم؛ فإن الضعف أنفذ سهمًا من القوة في عالم الأخلاق، أنت تعظ ولكن أين من يسمع؟ وتسير في طريق الهدى ولكن أين من يسايرك؟ وتبنى، ولكن أين من يشد أزرك، ويحمل معك أحجار الأساس؟!

والخلاصة أن فرار الصوفية من الدنيا وأهلها يدل على ثلاثة أمور:
  • الأول: شعورهم بالتبعة الأخلاقية.
  • والثاني: ضعفهم عن مقاومة الرذائل الاجتماعية.
  • والثالث: فساد ما نشأوا فيه من البيئات الدينية والمعاشية.

ذم الدنيا وأثره في الأخلاق وفي الأدب

فإن سأل القارئ عن أثر ذلك في الأخلاق، فإنا نجيب بأن كتمان الصوفية لأسباب الهزيمة صور فرارهم من الدنيا بصورة العمل المقبول، فاقتدى بهم كثير من الناس وشاع الزهد في الطيبات فضاع من العالم الإسلامي جزء كبير من الثروة المعنوية التي يمثلها جمال العمران وتتابع الرزق في عالم الاقتصاد.

ومضى المنهزمون يسترون الهزيمة بذم الدنيا، فكان للأدب من ذلك مغانم عظيمة، واستطاع علي بن أبي طالب أن يحسن مثل هذه الأقوال:
إنما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما وراءها شيئًا، والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها شاخص والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزود، والأعمى لها متزود٩ … انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها الصادقين عنها، فإنها والله عما قليل تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن، لا يرجع ما تولى فأدبر، ولا يدري ما هو آت منها فينتظر، سرورها مشوب بالحزن، وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن١٠ … لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبتهاعبرة، ولم يلق في سرائها بطنًا إلا منحته من ضرائها ظهرًا، ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا هتنت عليه مزنة بلاء١١ … أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تتركوها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلًا فكأنهم قد قطعوه، وأمّوا علمًا فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى المجرى إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها، وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها، فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها، فإن عزها وفخرها إلى انقطاع، وإن زينتها ونعيمها إلى زوال، وضراءها وبؤسها إلى نفاذ، وكل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء.١٢
وكلام ابن أبي طالب في ذم الدنيا كثير جدًا، وهو يمثل مذهبه في الزهد ويشرح هزيمته السياسية، وكذلك فعل الخوارج، فقد أطالوا القول في التنفير من الدنيا، ولهم في ثلبها خطب ضربت بفصاحتها الأمثال، من ذلك قول قطري بن الفجاءة.
أيها الناس، اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدّارة خدّاعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة: العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها عاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قد قتلت، ومطمئن إليها خذلت، فانظروا إليها بعين الحقيقة، فإنها دار كثرت بوائقها، وذمها خالقها، جديدها يبلى، ومالكها يفنى، وعزيزها يذل، وكثيرها يقل، وحيها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم، قبل أن يقال: فلان عليل، أو مدفن ثقيل، فهل على الدواء من دليل، أو على الطبيب من سبيل، فيدعى لك الأطباء، ولا يرجى لك الشفاء، ثم يقال: فلان أوصى، ولماله أحصى، ثم يقال: قد ثقل لسانه، فما يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك، وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان ومنعت الكلام فلا تنطق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوّادك، واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنًا بأعمالك.١٣

وما نريد أن نطيل في بيان ما غنم الأدب من تبرم الصوفية بدنيا الناس فقد عقدنا لذلك فصلًا موجزًا في القسم الأول بينّا فيه كيف أولع الصوفية بتصوير الدنيا، وكيف لونوها وعرضوها في مختلف التشبيهات …

ولننص في هذا المقام على أن ما قالوه حق، فالدنيا سخيفة لا ثبات لنعيمها ولا بقاء، ولكن الإصرار على إحقاق هذا الحق، والدوران حوله من وقت إلى وقت، أو تمثله في أغلب الأحوال، إنما هو من أوهام النفوس العليلة التي يتراءى لها شبح الموت في كل حين. والموت حق، ولكن الحياة أيضًا حق، والشغل بها من دلائل الفتوة الجسمية والعقلية والروحية، وإليها المرجع في تصوّر النعيم المأمول، وعلى ما فيها يقاس ما سيكون في دار البقاء.

مشكلة خلقية

وهناك مشكلة اختلف في حلها الصوفية، وهي حال الرجل الغني الذي يؤدي حقوق الغنى فينفق في وجوه الحلال، ويتصدق على الفقراء والمساكين، فقد قال رجل للحسن البصري: ما تقول في رجل آتاه الله مالا فهو يتصدق منه، ويصل منه، أيحسن له أن يتعيش فيه — يعني يتنعم — فقال: لا، لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف، ويقدم ذلك اليوم فقره.١٤

فالحسن يقاوم التنعم، وينهى عنه الأغنياء الذين يؤدون حقوق المال.

أما أبو حازم المدني فيقول بغير ذلك في شيء من الرفق، فقد قال له رجل: أشكو إليك حب الدنيا وليست لي بدار. فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها، فلا تأخذه إلا في حله، ولا تضعه إلا في حقه، ولا يضرك حب الدنيا.١٥
وهذا جواب حكيم، ولكن الغزالي يأبى إلا التعقيب عليه فيقول: وإنما قال هذا لأنه لو آخذه بذلك لأتعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها.١٦
وهذا التعقيب يعيّن مذهب الغزالي في الزهد، وجوهره يدل على ما كان عند أبي حازم من حكمة وعقل، فإن الإغنياء الذين يؤدون حقوق الغنى هم ظل الله في الأرض، وهم أهل الحرث وأرباب العمران، والحكم عليهم بالانحراف عن جادة الحق فيه تيئيس وتثبيط وتعويق، والصوفية لا يستكثر عليهم أن يسرفوا في التزهيد، وإن كانوا يتلطفون أحيانًا، فقد نقل الغزالي قول أبي سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها فإذا كانت الدنيا في القلب لم ترحمها الآخرة؛ لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة. ثم قال: وهذا تشديد عظيم، ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصحّ إذ قال: الدنيا والآخرة تجتمعان في القلب، فأيهما غلب كان الآخر تبعًا له. وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك.١٧

وفي هذا الحكم اعتدال، وهو يقضى بأن الدنيا خليقة بالحب، وليس في حبها ما يعيب، على شرط أن لا تكون هي الغالبة، وأن يكون ما فيها من الطيبات وسيلة لصالح الأعمال.

المحمود والمذموم في الشؤون الدنيوية

وقد وضع الغزالي علائم واضحة للمحمود والمذموم من الشؤون الدنيوية، ويتلخص كلامه المطول في الفقرة الآتية:

ليس كل ما تميل إليه بمذموم بل هو ثلاثة أقسام: الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت، وهو شيئان: العلم، والعمل فقط، والعلم هنا هو العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله، وملكوت أرضه وسمائه، والعلم بشريعة نبيه، والعمل هو العبادة الخالصة لوجه الله. والقسم الثاني: كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة، كالتلذذ بالمعاصي، والتنعم بالمباحات الزائدة على قدر الحاجات. والقسم الثالث: متوسط بين الطرفين، وهو كل حظ عاجل يعين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام، والقميص الواحد الخشن، وكل ما لا بد منه ليتأتي للإنسان البقاء.١٨

النفس كالشجرة التي تحيا بالحرية في مكافحة الهواء

وهذا الكلام في ذاته مقبول. ولكنه ينتهي إلى غاية واحدة: هي أن يكون الإنسان كتلة خلقية لا يتقدم ولا يتأخر إلا وفقًا لسياسة روحية ضيقة المسالك. ومن الجميل أن يكون الإنسان كتلة خلقية، وأن يكون له في كل خطوة هاد من القلب والوجدان، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ما يهدم جانبًا من دعائم الأخلاق، فالنفس قريبة الشبه بالشجرة الصغيرة التي تحيا بالحرية في مكافحة الهواء، ويؤذيها أن يرعاها الجنان في كل لحظة، وأن لا يدعها بغير سناد، وكذلك تخمد النفس حين تسأل عن كل شيء، فلا تقرب الطعام إلا لغرض، ولا تباشر اللباس إلا لغرض، ولا تنظر في في كتاب إلا بعد أن تميز لأي غاية ألف، ولا تصحب أحدًا إلا بعد أن تستوثق من الطهر في قصده المكنون.

لقد أسرف الصوفية في ذم الدنيا وأهلها، وأسرفوا في الدعوة إلى التحرر منها، ولو كانوا أصحاء لآثروا الاعتدال.

١  الإحياء ج٣ ص٢٠٨.
٢  الإحياء ج٣ ص٢٠٢.
٣  الإحياء ج٣ ص٢٠٢.
٤  الإحياء ج٣ ص٢٠٢.
٥  ص٢٠٤.
٦  الإحياء ج٣ ص٢٠٤.
٧  الإحياء ج٣ ص٢٠٤.
٨  الإحياء ج٣ ص٢٠٥.
٩  نهج البلاغة ج١ ص٢٧٠.
١٠  ج١ ص٢١٣.
١١  ج١ ص٢٣٤.
١٢  ج١ ص٢٠٧.
١٣  نهاية الأرب ج٥ ص٢٥١.
١٤  الإحياء ج٣ ص٢٠٩.
١٥  ص٢٠٧.
١٦  ص٢٠٧.
١٧  الإحياء ج٣ ص٢٠٩.
١٨  انظر الصفحات ٢٢٠–٢٢٥ ج٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤