الأوضاع الراهنة في دول المغرب العربي

قبل أن نتكلَّم عن هذه الأوضاع كما نراها في دول المغرب متفرقة يحسن أن نقدم لهذا بالإشارة إلى أنه يوجد بين المغرب والمشرق العربيين على ما بينهما من تقارب اختلافات شتى، فمن هذه ما يتعلق بتركب الشعوب المغربية من عناصر قوية الحيوية، وهذه العناصر وإن كان يغلب عليها أحيانًا تغليب مصالحها الخاصة، فإنها في نفس الوقت كثيرًا ما تحركت تحت تأثير قوى عامة. وقد أدى هذا التركيب الاجتماعي إلى أن الدول التاريخية المغربية كان يغلب عليها الارتباط بجماعات وشعوب أكثر مما يغلب عليها الارتباط بوطنٍ أو بأرض؛ ومن ثم كان اهتمام الدعاة بأن يكتسبوا لدعوتهم عصبية، وبهذه العصبية تبدأ محاولة إقامة ملك أو دولة لنصرة فكرة أو مذهب أو عقيدة.

وعلى هذا فالمغرب كان أرض المراكز المحلية العديدة.

يرجع هذا فيما أرى إلى ما يأتي:

إلى موقع المغرب من دار الإسلام، وإلى موقع المغرب من أوروبا، وإلى طبيعته الجغرافية.

فأما الموقع من دار الإسلام فواضح في أنه فيما عدا فترة الفتح وفيما عدا فترة انتقال بعض القبائل العربية في مصر في أواخر عهد الفاطميين، فإن اتصال المغرب بالمشرق كان اتصالًا دينيًّا وفكريًّا وحضاريًّا على يد أفراد أو جماعات، وعلى ذلك فكانت الحركات في التاريخ المغربي تصدر عن خصائص البيئة نفسها؛ وهذه الدولة الفاطمية بعد أن انتقلت إلى مصر ضعف نفوذها في المغرب إلى أن تلاشى، وحينما امتدت السيادة العثمانية إلى المغرب ووقفت عند حدود المغرب الأقصى، نجدها تؤدي إلى إبطال قيام الدول الكبرى المغربية كما كان الحال في الماضي، ولكنها لم تستطع أن تبطل تعدد العصبيات والمراكز المحلية.

أما عن الموقع بالنسبة إلى أوروبا فظاهر أن الكفاح بين المغرب وأوروبا شغل من تاريخ المغرب قدرًا لا تألفه في المشرق، فبالإضافة إلى الكفاح التالي للفتح الإسلامي للأندلس وامتداده في الأندلس نفسه وفي حوض البحر المتوسط نجده يمتد بعد القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس إلى زماننا الحاضر، بحيث نجد تقريبًا في كل السواحل المغربية على المحيط وعلى البحر وفي كل أزمنة التاريخ ربطًا ومرابطين.

وطبيعة البيئة المغربية اقتضت تشتُّتَ مراكز الحيوية لا تجمُّعَها.

فإذا أضفت إلى ذلك أن الغزو الأوروبي لم يصدر عن مركزٍ واحد وأنه قصد إلى محاولة احتلال ثغور متفرقة؛ أدركت أن المقاومة أيضًا كانت تصدر عن مراكز مغربية متفرقة، وأن هذا المركز قد يكون موطن عصبية قبلية أو زعامة دينية، والأمثلة كثيرة، من أقربها الحرب المجيدة التي شنها الأمير عبد الكريم الخطابي على الإسبانيين والفرنسيين في الريف.

وقد يقول قائل: إن اشتداد خطر الغزو ينبغي له أن يؤدي إلى اتحاد يُفرَض فرضًا عند اللزوم، وهذا صحيح عمومًا ولكن بعد تجاوز حدٍّ معين من الضغط الخارجي يُحدِث التشتُّت لا التجمع، وتنشأ المراكز المحلية بعصبياتٍ محلية يحتمي في حماها الناس بقدر الاستطاعة.

ويبقى أخيرًا أن نشير إلى أن انقسام المغرب بين الأقطار أو الوحدات الحالية ليس شيئًا طارئًا أو جديدًا، بل هو قديم يلازم تاريخه معظم الوقت، ليس معنى ذلك أننا عرفناها دائمًا بهذا التحديد. فإن الدول المغربية كانت تسعى دائمًا لبسط سلطانها على المغرب كله، ولكن هذا كان لا يلبث أن يزول وتبرز من جديد أقسام المغرب التقليدية. فهي في الواقع تتجمَّع حول مراكز اقتضت وجودها حاجات البيئة ومطالب الظروف المتكررة.

والذي نرجوه من قلوبنا أنه عندما يتهيأ للمغرب أن تتحرر «الجزائر»، وأن يتم تخلص تونس والمملكة المغربية من القوات الأجنبية، أن لا يثور بين أبنائه مطالب إقليمية على أساس ما كان في أيام دولة كذا أو دولة كذا، بل تسوَّى شئون «الحدود» على أساس مصالح أهلها ومنافعهم بالقدر الذي يسلِّم به العقل والأخوة الصحيحة.

ودراستنا لهذا القسم من العالم العربي تبدأ بأواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر؛ أي تبدأ بزوال الملك الإسلامي بالأندلس نهائيًّا عند أواخر القرن الخامس عشر واتخاذ الممالك الأوروبية خطة الهجوم على جميع ثغور الأقطار المغربية في البحر المتوسط وفي المحيط، ومحاولة ملَّاحي تلك الممالك العثور على طرقٍ ملاحية توصلهم إلى الأقطار الشرقية الآسيوية ملتفين حول بلاد المسلمين، وأملهم أن يُنشئوا بذلك صلاتٍ اقتصادية دينية حربية مباشرة مع تلك الأقطار الآسيوية غير الإسلامية، وكأنهم بذلك يحيطون بلاد المسلمين بدائرة حصار قد تنتهي بتضييق الخناق عليهم.

وعلى هذا فقد توالت حملات الأوروبيين الغربيين على الثغور المغربية كما قدمنا، وترتب عليها — كما قدمنا أيضًا — أن وقفتْ حركات إنشاء الدول المغربية الكبرى نهائيًّا، وصارت الظاهرة — كما قدمنا أيضًا — أن كثرت مراكز الحياة وغلبت عليها الصفة المحلية.

وترتب عليها أيضًا — وهذا نذكره الآن — أن القوات البحرية العثمانية وجدت في الكفاح بين المغاربة والأوروبيين فرصة التدخل لإغاثة المغاربة ولإضعاف القوى البحرية الأوروبية وحرمانها من امتلاك قواعد على السواحل الأفريقية الشمالية.

وبهذه الأحداث يبدأ التاريخ الحديث للمغرب العربي. على أنه يجدر بنا قبل أن ننتقل إلى عرض أحوال أقطار المغرب قطرًا قطرًا أن نلفت النظر إلى ما يأتي:

أولًا: أن الحرب البحرية في تلك الأزمنة لم تكن من شأن أساطيل الحكومات وحدها — كما هو الحال الآن — بل كان الغالب أن يقوم المغامرون بتجهيز سفنهم للحرب وشحنها بالمقاتلين من المغامرين أمثالهم، ثم يخرجون للسطو على السفن التجارية التي يملكها خصومهم الدينيون دون أن يُلقوا بالًا عن ما إذا كانت الدول التي يملك رعاياها تلك السفن في حالة حرب مع دولهم هم. وقد تخرج سفن المغامرين إلى ضرب سواحل أولئك الخصوم ومحاولة سبي أهل قرى تلك السواحل، وقد تلتقي سفن المغامرين في البحر بسفنٍ مسلحة لخصومهم الدينيين فيكون قتال، والمنهزم حظه الأسر والرق، فيعمل مكبَّلًا بالأغلال في تحريك مجاذيف سفن الآسرين، أو يعمل مكبلًا بالأغلال في دور صناعة الآسرين — أو الليمانات — ومن هنا نستخدم في مصر كلمة الليمان لسجن يؤخذ فيه المسجونون أخذًا شديدًا، ويستمر الأسير يعاني ما يعاني إلى أن يمن الله عليه بالموت، أو إلى أن يمن الله عليه بمن يفتديه بالمال من ذوي قرباه أو من المحسنين.

وقد وجدت الحكومات إذ ذاك في هذا النوع من الحرب منافع مختلفة، فكانت تحقق بواسطته ما تحققه الأساطيل الرسمية، وفي نفس الوقت كانت تستطيع التبرؤ من أعمال مغامريها، وهم وحدهم الذين يؤدون ثمن الهزيمة.

وهذه الطريقة عرفتها حكومات ذلك العهد مسيحية كانت أو إسلامية، والمغامرون المسلمون من هذا النوع هم الذين استولوا على تلك الثغور المغربية ثم وجدوا أنْ لا قِبَلَ لهم بالبقاء فيها إلا إذا وضعوا أنفسهم تحت السيادة العثمانية، فأصبحت تلك الثغور وأحوازها البرية أقاليم عثمانية، بيكويات وباشويات وما إلى ذلك. ويطلق عليها الكتاب الأوروبيون اسم Regences، وأرى أن اسميها «نيابات»، هذا نقلًا عن المصطلح المصري السوري في أيام السلطنة الملوكية، حينما كانوا يطلقون على دمشق أو حلب أو ما ماثل اسم «النيابة»، وحاكمها نائب السلطنة.

وهذه النيابات المغربية كانت في طرابلس الغرب وفي تونس وفي ثغور الجزائر (مدينة الجزائر ووهران وقسنطينة).

وتتألَّف الهيئة الحاكمة في كلٍّ منها من حامية برية وقوة بحرية ورجال الشريعة. وعلى رأس الهيئة «الداي» في مدينة الجزائر و«الباي» في تونس أو في قسنطينة، والباشا في طرابلس الغرب. وهؤلاء جميعًا ينتمون لأهل الحرب برية أو بحرية في النيابة، ويصلون للسلطة العليا بقوة السلاح، وبحسن اكتساب الفرص وبالإقدام وبالغدر عند اللزوم وبالحظ السعيد دائمًا، والدولة العثمانية تُقِرُّ ما يُسفِر عنه الأمر الواقع، وهم لا يحيدون عن طاعتها، يشاركون في حروبها، ويؤدون لها ولرجالها أموالًا ومساعداتٍ شتَّى. وقد عَرَفَتْ لهم هذا فتجنبت أن تتدخل في تلك النيابات إلا لمساعدتها أو إذا تطلبت سياستها الخارجية وعلاقاتها بدولةٍ من الدول الأوروبية أن تأمر النيابات بالكف عن الحرب البحرية أو ما إلى ذلك. والنيابات المغربية كانت تَعرِف تمامًا إذا كانت الدولة جادة في أوامرها بالكف عن الحرب أو غير جادة.

وهذه النيابات اعتبرت نفسها في حرب دائمًا مع الدول الأوروبية وتوابع تلك الدول — مثلًا فرسان القديس يوحنا في جزائر مالطة — أو ثغر تجاري مستقل من نوع راجوزا … إلخ.

والدول الأوروبية نفسها اعتبرت هذه النيابات كما لو كانت لا حَقَّ لها في التمتع بأي حقٍّ أو بأي ضمان، وقد تهادنها وتدخل معها في علاقاتٍ، ولكنها لا تتردد في ضربها أو الاعتداء على سفنها أو رعاياها.

وكانت خلال التاريخ نزعة نحو تحول الرياسة العليا في النيابات إلى نظام وراثي في بيتٍ معين، وهذه النيابات أيضًا عاشت على هامش المغرب، وفيما عدا تونس — على ما أعتقد — لم تنجح في أن تتحول إلى وحدةٍ صلحت أساسًا لدولة.

وأخيرًا — وهذا أمر له خطورته — لم ينجح المغامرون العثمانيون في وضع أيديهم على ثغور السلطنة المغربية، وإن نجحوا في التدخل في شئونها في بعض الأحيان أو أثَّرُوا بعض التأثير في خطتها، ولم تنجح الدول الأوروبية إلا في احتلال بعض ثغورها لمددٍ متفاوتة.

وعلى ذلك فالسلطة المغربية بقيت في أيدي أبنائها، ولم تخضع السلطنة أبدًا لسيادة عثمانية ولم تخضع لسيادة أوروبية إلا من وقت الحماية الفرنسية في ١٩١١-١٩١٢.

(١) المملكة الليبية المتحدة

إحياء لاسم قديم وإنشاء لأوضاعٍ جديدة. فليبيا اسم تاريخي قديم، أحياه الإيطاليون أولًا في أيام حكمهم، حينما أرادت إيطاليا إطلاق اسم واحد على ما استولت عليه من أقسام ولاية طرابلس الغرب العثمانية، والأوضاع الجديدة تكوين مملكة اتحادية من برقة وطرابلس الغرب وفزان، وقد اكتسبت خصائص وشخصيات متميزة خلال العهد العثماني والغصب الإيطالي، فكان «النظام الاتحادي» حلًّا حاولوا به أن يرضوا الخصائص والشخصيات المتميزة.

والعهد العثماني، ويبدأ من القرن السادس عشر على النحو الذي شرحنا في الفصل السابق، ومقره طرابلس الغرب بالذات، ثم أصبحت باشوية طرابلس الغرب ولواحقها وراثية فعلًا في بيت القرامانلي، وهذا في أوائل القرن الثامن عشر، ثم حدث حوالي ١٨٣٠ اشتداد أمور النيابة، بالنزاع بين أفراد أسرة القرامانلي على الباشوية، وازدياد التدخل الأوروبي في أمورها وأمور جاراتها. وكانت الدولة العثمانية قد أخذت إذ ذاك — وعلى يد السلطان محمود — بسياسة الإصلاح المعروفة باسم «التنظيمات»، وهذه تقضي بالقضاء على العصبيات المحلية والأسرات المستقلة وإنشاء دولة تسودها المركزية، وقد خشيت حكومة السلطنة العثمانية أنها إن تركت طرابلس الغرب على ما هي عليه أصابها ما أصاب الجزائر في تلك الأيام؛ فأقصت القرامانلية عن الحكم وأخذت منذ ذلك الوقت تعيِّن ولاة من قبلها على نحو ما فعلت في بغداد في نفس الوقت تقريبًا. وقد حاولت أن تفعل ذلك ما استطاعت إليه سبيلًا.

وأصبحت طرابس الغرب ولاية تحكمها الدولة حكمًا مباشرًا منذ ١٨٣٥، واقترن ذلك في نفس الوقت بأمرٍ آخر أكثر خطورة هو نشأة تنظيم آخر في نفس الولاية، هو ما تطلق عليه اسم «التنظيم السنوسي» وقد عرفت بلاد أخرى السنوسية، عرفتها مصر — أو على الأقل واحاتها وصحراؤها الغربية — وعرفها سودان وادي النيل، ولكن السنوسية في طرابلس الغرب لها شأن آخر، فهي — وبصفة خاصة في برقة وما يلحق بها في الصحراء — تكفل للناس رعاية شئونهم من تعليمٍ وتهذيب وإرشاد وحفظ أمن واستقلال موارد الأرض زراعة وأنعامًا وتجارة.

وكان هذا بحكم عوامل سلبية وأخرى إيجابية، فأما العوامل السلبية فأهمها أن طرابلس الغرب لم تنل من عناية حكومة الدولة ما يجب لها، فهي بعيدة وفقيرة نسبيًّا، والدولة من جهتها لا تكاد تفرغ من حل أزمة داخلية أو خارجية إلا وتواجهها أزمة جديدة؛ فكانت النتيجة أن الحكم العثماني لم تكن له آثار ظاهرة إلا في الحواضر الكبرى، وترك ما يليها للزوايا السنوسية تعمل فيها على الوجه الذي رأينا. وبينما نرى الحكومة العثمانية عمومًا يغلب عليها الحذر، بل قد يهيئ لها هذا الحذر ألوانًا من الوهم أو التخيل لوجود أخطاء لا حقيقة لها في الواقع، فإننا نجدها في طرابلس الغرب باتساعها عمومًا قد فهمت السنوسية على حقيقتها، فلم تَكِدْ لها أو تعطل عملها، بل نشأ خلال القرن الثاني عشر نوع من «التفاهم» وعدم تعرض أحد الفريقين للآخر. ويرجع هذا دون شك إلى أن السنوسية في الحواضر أو ما إليها لم يجاوز عملها الإرشاد الديني كما تقوم به أية طريقة من طرق التصوف، وركزت جهودها في زواياها المنبثَّة في المناطق الصحراوية والواحات وما إليها. بل إن الرياسة نفسها كانت في واحة الجغبوب أولًا ثم في الكفرة ثانيًا؛ أي إنها أوغلت في الصحراء، وكان عدوها الأكبر الاستعمار الأوروبي-الفرنسي طول الوقت في السودان الغربي ثم الإيطالي في برقة وطرابلس الغرب فيما بعد.

ومنشئ السنوسية السيد محمد علي السنوسي، شريف حسني من بلاد الجزائر ومن عباقرة الأمة العربية في تاريخها الحديث. درس في بلاده الأصلية وفي الحرمين وفي الأزهر، وتأثَّر بعوامل النهوض المتنوعة التي كانت تعمل في الجماعات في مختلف أنحاء البلاد العربية، ثم هداه اجتهاده وإخلاصه إلى ذلك التوجيه الفريد للسنوسية، وخلفه رجال من أبنائه وأبناء أبنائه، وكانت أحداث الغزو الإيطالي التي أتاحت للسنوسية امتحانها وفرصتها، وهيأت لها أن تكون «المحور» الذي ارتضاه أغلب من كان في أيديهم بناء الأقاليم الليبية بعد الحرب العالمية الثانية.

وأطماع إيطاليا في الساحل الأفريقي المقابل لها قديمة، وهو لها مهاجر، وأغضب الإيطاليين وضع الفرنسيين أيديهم على بلاد الجزائر وتونس، وعملهم على وضع أيديهم على المغرب الأقصى، واقتضى عمل فرنسا لامتلاك المغرب في يومٍ قريب أن تسترضي إسبانيا بشيءٍ من المغرب الأقصى، وأن تطلق يد إيطاليا في ولاية طرابلس الغرب العثمانية. وأقرت ذلك الدول الأوروبية المختلفة، وبدأت إيطاليا عملها الحربي في الثغور، وقاومت الحاميات التركية وجماعات الشعب ما استطاعت، ثم اتسع نطاق الحرب فعاث الأسطول الإيطالي في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، واستولى على رودس وجزائر أخرى، وضرب بيروت بالقنابل … إلخ، وحرك هذا دول البلقان لتأليف حلف لمحو ما بقي للترك في البلقان، وكانت الحرب البلقانية الأولى، وأرغم هذا الدولة العثمانية على أن تسلم بفقدان طرابلس الغرب وعقد الصلح مع إيطاليا.

على أن الدولة العثمانية احتفظت للسلطنة وللخلافة بحقوق، وكانت عندما أرادت أن تتخفف من أعباء المقاومة لإيطاليا في طرابلس أن أقامت على نحو ما السنوسية في مقام النيابة عنها صاحبة السلطان في برقة. وقد يكون في هذا القول شيء من قلة التدقيق، ولكن كان المعروف — من جانب الأهلين ومن جانب الإيطاليين أنفسهم، ومن جانب العرب خارج طرابلس الغرب، ومن جانب الدول الأوروبية التي يهمها الأمر — أن السنوسية تحتل مكان الصدارة في حركة المقاومة.

وفي الحرب العالمية الأولى دخلت إيطاليا الحرب حليفة لفرنسا وبريطانيا، ودخلتها الدولة العثمانية حليفة لألمانيا والنمسا، وأدى هذا إلى انقسام في الزعامة السنوسية، كان من رأي السيد أحمد الشريف متابعة الجهاد وتوسيع رقعة ميدانه ضد إيطاليا وحليفاتها في مصر والسودان وغيرهما، وتنسيق خططه مع الترك العثمانيين وحلفائهم، وانتقل هو في النهاية إلى تركيا ثم الحجاز حيث وافته المنية، وكان من رأي السيد محمد إدريس قبول عقد اتفاقات مؤقتة مع الإيطاليين والإنجليز. وانتهت الحرب العالمية الأولى على هذا الوضع، ثم كان الانقلاب الفاشي الكبير في إيطاليا، واستيلاء موسوليني على السلطة في بلاده، ثم عمله على بناء إمبراطورية استعمارية كبيرة، وتحويل الأقاليم الطرابلسية البرقاوية إلى مستعمرةٍ حقيقية، ومن ثم كانت سياسة الإرهاب والقمع والإبادة التي اتبعها الإيطاليون ضد الأهليين.

وجاءت الحرب العالمية الثانية، وهزيمة إيطاليا، ووجوب تصفية حكمها في أفريقية الشمالية، واحتل البريطانيون أجزاءً من المستعمرة، واحتل الفرنسيون فزان. ولو جرت الأمور وفق ما اشتهى البريطانيون وحلفاؤهم لخلص لهم النفوذ في برقة، ولتبرعوا للطليان بطرابلس نفسها ولفرنسا بفزان، وكانت مفاوضات ومحاولات ليس هذا موضع تفصيلها. وانتهى الأمر بتأليف المملكة الليبية المتحدة ومبايعة السيد محمد إدريس ملكًا عليها.

(٢) تونس

أكثر أقسام الوطن المغربي العربي اتصالًا بالمشرق، وأكثرها تشكلًا بحياة الحواضر، وهذا من عصورٍ سابقة؛ لاندماجه في العالم العربي، وهو أيضًا يغلب عليه في تاريخه نزعة تشكيل شعب متماسك، وإن شارك سائر أقسام الوطن في بناء الدول المغربية الكبرى (ومركز بناء هذه الدول في الغالب المغرب الأقصى). ولزراعة تونس وتجارتها شهرة، وعلى العموم البداوة في القطر أقل.

وإلى تونس اتَّجَه الغزو الأوروبي الصليبي كما اتجه إلى الثغور المغربية الأخرى، وتدخل رؤساء البحر العثمانيون في تونس لإنقاذها، كما تدخلوا في الجزائر وفي طرابلس الغرب، كان ذلك في القرن السادس عشر. وأصبحت تونس نيابة عثمانية — وقد شرحت معنى هذا الاصطلاح فيما سبق — والنائب هو «الباي»، ثم أصبحت «البايوية» وراثية فعلًا — وإن لم تكن كذلك قانونًا — في الدولة الحسينية، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر «كما كانت الحال في بيت القرامانلي في نفس الوقت في طرابلس الغرب كما رأينا»، وذلك مع الخضوع للسيادة العثمانية.

وفي خلال القرن التاسع عشر، أخذ أمراء البيت الحسيني بسياسة التجديد التي سارت عليها الدولة العثمانية نفسها ومصر على يد الخديويين، وعلى نفس الخطة سارت فارس والصين واليابان وغيرها من الدول غير الأوروبية.

وكان لهذا التجديد آثاره الحسنة وآثاره السيئة. وأضعف ما فيه أنه لم يقوَ على بناء دولة تستطيع حقًّا أن تحافظ على استقلالها، دولة تستطيع أن تختار من نتائج مخالطة الأوروبيين ما ينفعها وتنبذ ما لا ينفعها، وأظهر آثار تلك الحقبة الارتباك المالي، وانهيار الحكومة الوطنية بإزاء التدخل الأوروبي، وعجزها عن التحول إلى حكم ديموقراطي صحيح؛ مما جعلها لا تكره — على الأقل — أن تحتمي بالنفوذ الأجنبي.

فارتبكت الأمور في تونس، وفي مؤتمر برلين جرى كلام يرمي إلى تشجيع فرنسا على وضع يدها على تونس. وقد كان الوقت وقت تسابق لبسط النفوذ على الولايات العربية العثمانية أو الآسيوية الأفريقية، وكان فتح قناة السويس للملاحة الحافز الأكبر للدول البحرية، فها هي ذي الحكومة البريطانية تستحوذ على جزيرة قبرص باتِّفَاقٍ سري مع الحكومة العثمانية صاحبة الجزيرة، وهذا لتتخذ منها قاعدة لحماية «تركيا الآسيوية». وأطلق بسمارك يد فرنسا في تونس تشجيعًا لها على المضي في الاستعمار، علها تجد في هذا ما يُنسيها بعضَ الشيء الإلزاس باللورين، ولم تجد بريطانيا بدًّا من أن تطلق هي الأخرى يد فرنسا في تونس، وإيطاليا إذ ذاك لم يعمل لها حساب.

فزاد التدخل الفرنسي، وانتهى الأمر بإرسال القوات العسكرية وفرض معاهدة الحماية على الباي في سنة ١٨٨١ — ولنتذكر أن احتلال بريطانيا لمصر كان في سنة ١٨٨٢ — واحتفظت فرنسا بحكومة الباي وإن كانت قد قطعت ما بين تلك الحكومة وحكومة الدولة العثمانية، وكذلك ألغت فرنسا ما كان للرعايا الأوروبيين من «امتيازات»، وسيرد في الفصول التالية شرح تلك الامتيازات.

و«علاقة الحماية» هذه منعت فرنسا بعض المَنْع من أن تسترسل في خطط الاستعمار الجامح للمدى الذي بلغته في الجزائر، هذا إلى أنها دخلت تونس بعد دخولها الجزائر بخمسين سنة، ووجدت في ذلك القطر شعبًا متماسكًا، يتبع حكومة وطنية واحدة وعلى نوعٍ من المعرفة بأساليب الاستعمار وعلى مقدارٍ من الخبرة بالحضارة الجديدة يكفل له مقدرة على المشاركة في الاستثمار والاستغلال. بيد أن فرنسا لم تقصر — علم الله — في أن تحاول إيثار رعاياها ومن هم في حكم رعاياها من النزلاء الأجانب على الوطنيين، ولم تقصِّر في حرمان هؤلاء من حقوقهم في بلادهم وعزلهم عن عالم المشرق إلى أقصى حدٍّ ممكن، وأن تفرض عليهم أن يتجهوا نحوها في كل شيء.

وأثار هذا كله الشعب التونسي، ونشأت عنه الحركات الوطنية، وهذه حملت في أيامنا بعد كفاحٍ مرير على الاعتراف باستقلال تونس، وإن كانت تقيده قيود، وتألفت حكومة تونسية أعلنت النظام الجمهوري، وتختلط حركة التحرير التونسي في أيامنا بالحركة المماثلة في المغرب الأقصى، والحركتان تختلطان بكفاح الجزائر العظيم.

(٣) الجزائر

يمثل قطر الجزائر بين أقطار المغرب العربي ما كانوا يعرفونه في القديم باسم المغرب الأوسط؛ أي ما يقع بين إفريقية (تونس) والمغرب الأقصى (المملكة المغربية)، وهو على ما ترى تتصل أقسام منه أحيانًا بتونس وأحيانًا بالمغرب الأقصى، وأحيانًا يكون كله من أقاليم الدول المغربية العامة الكبرى.

وفي العهد العثماني لم يكن قطر الجزائر وحدة إدارية، بل تبع مدينة الجزائر وتبع قسنطينة وتبع وهران، وهذه ثغور بحرية يمتد نفوذ أصحابها الخاضعين للسيادة العثمانية إن كثيرًا وإن قليلًا في الأراضي الداخلية، وهذه بلاد قبائل وعشائر والنفوذ فيها للعصبية القبلية وللزعامات الدينية.

وفتح فرنسا للجزائر بدأ في سنة ١٨٣٠ — وكان إعادة لمحاولة فتح مصر في ١٧٩٨ — ويمثل الحلقة الثانية من حركة الاستعمار الفرنسي الحديث.

وقد ختمت الثورة الفرنسية الاستعمار الفرنسي القديم — وهو «تجاري» في الغالب — وبدأت الثورة الفرنسية الاستعمار الفرنسي الحديث؛ فهو نتيجة «الحيوية» التي بعثتها الثورة، وهو فرض لسيادة فرنسا «الثورية» «المتحررة» على الشعوب، وهو نقض القديم السلاح، وهو سلب الحقوق الموجودة ليسلم المسلوب «حقوق الإنسان»، وهذا منتهى البذل والسخاء! ثم انصمَّ الانقلاب الصناعي — وقد صاحبت بوادره مطلع القرن التاسع عشر — للثورة الفرنسية في تشكيل هذا الاستعمار الفرنسي الحديث.

حاولت فرنسا امتلاك مصر في ١٧٩٨ وأخفقت، ولم تحاول إعادة الكرة؛ لأنها أدركت أن إعادة المحاولة تعيد العوامل التي حاربت حملة ١٧٩٨، واكتفت من مصر بالارتباط بها بصلاتٍ شتَّى. وكان أن اتجهت نحو الجزائر حيث السيادة العثمانية على درجةٍ من الوهن لا تحمل السلطان أن يتكلف في الدفاع عن الجزائر ما تكلَّفه في الدفاع عن مصر، مفتاح الحرمين وحيث السلطات المحلية متفرقة في الثغور وفي الداخل، فلا تجتمع الكلمة على المقاومة.

وحيث أخيرًا لا تملك بريطانيا من المصالح ما تملك في مصر، ولا يمكنها أن تزعم أن امتلاك فرنسا لثغر الجزائر خطوة نحو امتلاك الهند.

وهكذا نجد أن فرنسا قدَّرت أن الاعتداء على الجزائر لن يُثير عليها ما أثاره محاولة امتلاك مصر، وصحَّ لها ما قدرت.

وبدأت فرنسا الفتح بحملة تأديبية ضد داي الجزائر كما بدأت حملة مصر لتأديب الأمراء المماليك. واتَّسع نطاق الفتح إلى أن أصبحت الجزائر القطر المترامي الأطراف الذي نراه اليوم.

وإلى ١٨٨١ (سنة الحماية على تونس) وإلى ١٩١٢ (سنة الحماية على المغرب) كانت الجزائر الأرض المغربية التي تملكها فرنسا، فلا عجب أن سعت لتضم لها عن اليمين وعن اليسار وفي الجنوب ما تستطيع ضمه.

ومقاومات الجماعات الجزائرية من ١٨٣٠ للآن فصل رائع حقًّا في تاريخ الحرية، وهي حروب، عمليات حربية ضيقة النطاق أو واسعته بحسب الظروف، وهي حروب تتبعها نتائج الهزائم في الحروب من ضياع أراضٍ ونزوحٍ عن أوطان، وهي حروب لم يكن فيها للجزائريين حليف، اللهم إلا ما كان من سلطنة المغرب أو أهله في وقتٍ من الأوقات.

ولم يلقَ شعب عربي الشقاء الذي لقيه الجزائريون، هم وعرب فلسطين، فنهب الفرنسيون أرضهم وأنزلوا بها طوائف من المهاجرين الأوروبيين والملحقين بالأوروبيين، وأعلنوا أن هؤلاء قد حلوا في إقليم فرنسي — وأوجدوا بجانب المواطنين الفرنسيين «الوطنيين» — وأقاموا حالة قانونية تعرف عندهم باسم Indigénat؛ أي أن يكون الإنسان «وطنيًّا» تمييزًا له عن المواطن اﻟ Citoyen. وخلاصة الموقف أن فرنسا تقيم موقفها كله على إهدار القومية الجزائرية بكل ما يترتب على هذا الإهدار من محاربة اللغة القومية ومن جعل الجزائري غريبًا في بلاده، ولولا أن في بقاء الجزائريين ضرورة اقتصادية لما ترددت في إبادتهم عن آخرهم دفعة واحدة.

هذا هو الموقف، الاختيار بين الاعتراف بالقومية الجزائرية وعدم الاعتراف ولا ثالث.

(٤) المملكة المغربية الشريفية

نجح المغرب الأقصى في الاحتفاظ باستقلاله عن السيادة العثمانية طوال تاريخه والسيادة الأوروبية حتى سنة ١٩١٢، وخضع لأسرات مالكة من أبنائه نحو ألف عام، ومن هذه الأسرات ما أقامت دولًا عامة جمعت بين الأندلس والساحل الأفريقي المغربي كله.

ولا يقلُّ أهمية عن هذا بقاء حيوية الجماعات المغربية خلال تلك العصور الطويلة، ونجحت سياسة السلاطين العظام في المحافظة على تلك الحيوية داخل حدود الأمن والنظام.

ويختلف أيضًا تاريخ المغرب عن سائر الأقطار الشرقية وعن تونس في أن موجة التجديد التي طغت على تلك الأقطار في القرن التاسع عشر لم تَطْغَ على المغرب، فحافظ سلاطينه خلال ذلك القرن جهد ما استطاعوا على إغلاق بلادهم ضد مشروعات التجديد، سواء أجاءتهم من الخارج أو من الداخل. ومن يدري؟ فقد يكون هذا الإغلاق من الأسباب التي جنبت المغرب ما حصل لمصر ولتونس وللسلطنة العثمانية ولإيران … إلخ.

والواقع أن التجديد لم يبدأ إلا في أيام مولاي عبد العزيز. وقد ورث عن أبيه مولاي الحسن سلطنة لا بأس بها في سنة ١٨٩٤، هذا إن صح أن نسمي «صبيانيات» عبد العزيز تجديدًا، وهذه الصبيانيات تركَّبت منها مأساة التدخل الإسباني والتدخل الفرنسي. وفي سبيل الاستحواذ على المغرب بموقعه الفريد وخيراته الصميمة الظاهرة والكامنة وفي وجه القوة الألمانية النامية؛ اضطرت فرنسا وبريطانيا إلى أن يتقاربا وأن يتخذا من مصر والمغرب أداة الاتفاق الودي؛ فسلَّمت فرنسا لبريطانيا بمركزها في مصر وسلمت بريطانيا لفرنسا بأن تخلق لنفسها مركزًا مماثلًا في المغرب، واضطرت فرنسا لأن تقبل مشاركة إسبانيا، واضطر الجميع لأن يتركوا لإيطاليا طرابلس الغرب عوضًا.

ولعل هذا الشرح يمكِّننا من أن ندرك أن هذه الاتفاقات لم تخلق لفرنسا في المغرب أو لإيطاليا في طرابلس أو لبريطانيا «المركز» الفريد الذي توهَّمه ساسة تلك الممالك. فلم يتصور أحد من هؤلاء الساسة في تلك الأيام من القرن التاسع عشر أن تسوية الموقف في النهاية ستكون مع شعوب المغرب الأقصى أو تونس أو الجزائر أو المغرب الأقصى. وقد شرحت في تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية كيف أن كرومر لم يخطر له على بال أن التسوية ستكون في النهاية مع شعب مصر.

ومن جهةٍ أخرى بالنسبة للمغرب اضطرت فرنسا لأنْ تحتفظ للمغرب بسلطنته ممثلة لكيانه ووحدته؛ وجدت في هذا نفعًا، وجدته يمكِّنها من استخدام أداة السلطنة لتيسير مهمة الحكم، ولكن كان في الوقت نفسه شيئًا نود أن لو استطاعت الاستغناء عنه، فهو إذ يصلح أداة يصلح أيضًا لأن يتزعَّم مقاومة وطنية.

وقد وجدت كل من إسبانيا وفرنسا في وجود السلطنة شيئًا يضعف به مزاعم الفريق الآخر، فالجزء الذي تحكمه إسبانيا هو المنطقة الخليفية، هو من أرض السلطان، ينوب عنه فيه «خليفة» عنه، فليس لإسبانيا إلا إدارته، وإسبانيا من جهتها تستطيع هي أيضًا أن تستخدم حقوق السلطنة لمنع فرنسا من سلب مركزها في الشمال، وهذا لم يمنع الدولتين من أن يشتركا في العمل إذا واجههما عدو واحد، كما حدث ضد مولاي عبد الكريم عندما تدخلت فرنسا حربيًّا لإنقاذ الإسبانيين.

وقد قامت الإدارة الفرنسية في المدة التي تلت إعلان الحماية بتجهيز المغرب بأجهزة الحياة الحديثة على نحوٍ رائع حقًّا، وآفة هذا أن الإدارة الفرنسية غلب عليها شيئًا فشيئًا جعل هذه الأجهزة أداة العيش الكريم للنزلاء الأوروبيين وأداة الاستثمار الجيد للماليين الأوروبيين، وكرهت أن طمع أصحاب البلد في أكثر من فتات المائدة، فكانت سياسة القمع وإثارة الجماعات بعضها ضد البعض الآخر، وآخر مظهرها خلع السلطان محمد بن يوسف ونفيه.

وفي النهاية كانت المقاومة المغربية الرائعة وتسليم فرنسا بعودة السلطان لعرشه وإلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال، وهو — كما قلت في تونس — مقيد بقيود، وإزالة هذه القيود وتحرير الجزائر هما مسألة الوقت في المغرب كما في تونس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤