المملوك الشارد

جبل لبنان

جبل لبنان: سلسلة جبال شامخة، يشرف على البحر الأبيض المتوسط، وتفصله عنه شواطئ سوريا، وهو آهل بالعشائر، تكسوه المزارع والغياض، ويلبسه الثلج عمامة بيضاء على مدار السنة. وقد كانت حكومته إلى منتصف القرن الماضي في قبضة أمراء من عشائر مختلفة، ينتهي نسب أكبر عشيرة منهم إلى لؤي بن كعب من قريش، وهؤلاء هم الأمراء الشهابيون أو بنو شهاب.

وقد حكم الأمراء الشهابيون في لبنان أكثر من سائر العشائر الأخرى، وكان مركز حكومتهم غالبًا بلدة دير القمر، وهي واقعة غربي الجبل المذكور، في سفح مشرف على وادٍ خصب، يفصلها عن سفح آخر مقابل له، ويحيط بها كغيرها من قرى لبنان بساتين مغروسة بالكرْم والتين والتوت وغيرها.

وفي أواخر القرن الثامن عشر، اتصلت إمارة هذا الجبل بالأمير بشير الشهابي، المعروف بالمالطي والمشهور بعلو الهمة والشجاعة وعظم الهيبة، حتى إن كثيرين كانوا لا يقوون على التأمل في وجهه والوقوف بين يديه أو التكلم في حضرته، دون أن يقع الرعب في قلوبهم، والرعدة في فرائصهم، مع ما عُرف به اللبنانيون من قوة البدن ورباطة الجأش.

وكان في السفح المقابل لدير القمر قرية صغيرة، تدعى بيت الدين، فيها معبد لطائفة الدروز، فابتاعها الأمير بشير، وابتنى فيها دورًا ومتنزهات له ولأولاده، وأحضر إليها المياه فأصبحت من أبهى المتنزهات منظرًا، وأحسنها هواءً.

وقد عُرف الأمير بشير بتيقظه الدائم وتعهده راحة الرعية. وكانت له فراسة خاصة في معرفة الأشخاص وأطوارهم، فكثيرًا ما كان يكتشف الجاني بمجرد النظر إليه، وتأمل حركاته، ويروون عنه في ذلك أحاديث أشبه بالخرافات منها بالحقائق، يتحدث بها العامة والخاصة. وقد كان في جملة مساعيه لحفظ السلام، ومنع التعدي، اختيار رجال اختبر شجاعتهم وحذقهم، وبثَّهم في تلك الأودية، يتربَّصون في مخابئها، يراقبون حركات الناس، فإذا خرج أحد في حاجة من قرية إلى أخرى، تراقب عيون أولئك المتربصين حركاته، وربما رافقوه كلَّ طريقه وهو لا يعلم، وفي صباح الغد يأتون إلى الأمير ويخبرونه بما شاهدوه وعلموه، فكان بذلك على بيِّنة من جميع أحوال رعيته، وكان ذا ذاكرة وقَّادة لا تفوته فائتة، حتى قيل إنه موجود في كل مكان، فسادَ الأمن على عهده في جبل لبنان حتى إن النساء والأطفال كانوا يخرجون ليلًا ونهارًا وفي أيديهم المال، يسافرون من بلد إلى آخر، ومن مقاطعة إلى أخرى، لا يخشون حرجًا ولا يخافون معتديًا.

طارق مفاجئ

وكان بجوار بيت الدين دير منفرد فيه جماعة من الرهبان يقضون جانبًا من نهارهم في العبادة، والجانب الآخر في حرث حقول الدير، التي يستغلون منها قمحهم وزيتهم وخمرهم وسائر حاجات طعامهم.

ففي مساء يوم من أيام شهر «ديسمبر» سنة ١٨١٢، وقد قضى الرهبان معظم نهارهم في جرف الثلوج المتراكمة على سطوح الدير، دخلوا غرفة من غرفه قد أوقدوا فيها حطبًا، وأحاطوا بالنار يستدفئون ويتسامرون، والباب مقفل عليهم، وهم متسربلون بعباءات مشدودة إلى أوساطهم. وكان يعترض حديثهم قصف الرعد، ولمعان البرق وهطول المطر، والجليد المتساقط على جدران الدير ونوافذه، وهزيم الرياح والعواصف التي تكثر في فصل الشتاء.

فقال رئيسهم: «قد سمعت اليوم حديثًا أقلقني، فهل طَرقَ آذانكم؟» فقالوا: «وما ذلك الحديث؟»

قال: «بلغني أن اثنين من بني المعلوف، من قرية بسكنتا، تعرَّضا لبطريرك الكاثوليك، أغناطيوس صروف الدمشقي، بالقرب من قرية زوق مكايل، وقتلاه، وقد علمت أن الأمير بشيرًا أسف لذلك، وقد سعى في القصاص من المذنبين.»

فقال أحد الرهبان: «كيف يحدث مثل هذا في إمارة الأمير بشير إلا إذا كان بتواطؤ منه، لا يغرنك ما سمعته عن كدره فإن الشهابيين لا يهمهم قتل كل البطاركة لأنهم ليسوا من دينهم.»

فقاطعه الرئيس بقوله: «أظنك لا تعلم أن الأمير قد اعتنق الديانة المسيحية سرًّا!»

فقال أحدهم: «أصحيح ما تقول؟ ولماذا هذا التستر إذن؟ أليس الأولى به إعلان تنصره والتصريح به وإلا فهو مخالف لقول الإنجيل؟»

فقال الرئيس: «لا يخفى عليكم أنه يترتب على إعلان تنصره أضرار مادية تضر بمصلحته، فضلًا عن كُره بني شهاب عامة له؛ لاتصال نسبهم بقبيلة قريش، وكم عُزل ووُلِّيَ على عهد أحمد باشا الجزار بسبب ذلك!»

فقال راهب: «كيف يكون مسيحيًّا ولم نشاهده يزور كنيسة لأداء الفروض النصرانية؟»

فقال الرئيس: «إن الأمير لا يغفل عن أداء واجباته إبان الصلاة المفروضة في ديننا، وقد خصص غرفة خفية من غرف قصره اتخذها كنيسة يصلي فيها سرًّا، ولا يعرف تلك الغرفة إلا أفراد قليلون؛ فإن بابها مكسو بما يشبه لون الحائط، حتى لا ينتبه الناظر إلى أن في ذلك الحائط بابًا.»

فقال راهب قوي الإيمان: «لا يليق بنا أن نرائي في عقيدتنا، وننكر مخلصنا رغبةً في مصلحة دنيانا.»

فقاطعه الرئيس قائلًا: «اخفض صوتك حتى لا يبلغ قولك مسامع الأمير فنقع في شر أقوالنا.»

فقال الراهب مقهقهًا: «أين نحن وأين الأمير بشير؟ أليس بيننا وبينه أكثر من ميلين؟»

فقال الرئيس: «لا أعلم مقدار البعد بيننا وبينه، وإنما أعلم أنه رجل قد خصَّه الله بما لم يخص به أحدًا من الناس غيره، وكأني بجميع هذه الجدران عيون وأرصاد تنقل له الأخبار فيعلم ما يجري بأقاصي لبنان وهو جالس في قصره.»

ولم يكد يتم الرئيس كلامه، حتى سمع طارقًا يطرق الباب فوقع الرعب في قلبه وقلوب رهبانه، ولم يستطع أحد منهم النهوض لفتح الباب، فأخذوا يهمسون فيما بينهم ليختلقوا عذرًا يبرئون به أنفسهم، وفي أثناء ذلك نهض أحدهم وفتح الباب، وإذا هو برجل أسود اللون طويل القامة غريب الزي، إلى جانبه امرأة مبرقعة عليها ثياب سود حالكات، وعلى يدي الأسود طفل، وكلهم ينتفضون من شدة البرد. فسألهما الراهب عن قصدهما. فقال الرجل: «هل هذا المكان دير؟» قال: «نعم.» قال: «هل تقبلوننا عندكم ضيوفًا هذه الليلة؟» قال: «نعم.» وأدخلهما الغرفة وأجلسهما على مقعد بالقرب من الرئيس، فتأملهما الرئيس فإذا هما غريبا الشكل والملامح فسكن جأش الرهبان، وظهر لهم من مجمل حالهما أنهما آتيان من مكان بعيد، وقد قاسيا عذابًا شديدًا من التعب والبرد.

فبدأ الرئيس بالكلام قائلًا: «حقًّا إنكما قد شرفتمانا هذه الليلة، وحلَّت البركة بحلولكما عندنا، فمرحبًا بكما، من أين أتيتما؟» فأجابه الرجل متأوهًا: «قد أتينا أيها الأب المحترم من بلاد بعيدة.» فقال الرئيس: «إذن لا بد أنكما محتاجان إلى طعام.» ثم أمر أحد الرهبان فجاءهما بطعام من اللبن والجبن و«القاورمة» والعسل، وبأرغفة رقاق فأكلا وشربا قليلًا من الخمر الجيدة المعتقة التي يعزُّ وجودها في غير الأديرة. وقد أماطت المرأة البرقع، في أثناء الأكل، عن وجه كأنه البدر، ومع ما كان يبدو عليه من دلائل التعب والشقاء والحزن والكآبة، فقد كانت تتجلى فيه ملامح المهابة والجلال، فتعجَّب الجميع من مرافقة هذا الملاك الأبيض لذلك العبد الأسود.

وأمر الرئيس لهما بكثرة الوقود فجلسا يستدفئان ويستريحان، والرئيس يتأمَّل هيأتهما وملابسهما وحديثهما، فلاحَ له أنهما ليسا من لبنان، فبدأ الحديث معهما ثانية قائلًا: «اسمحا لي أن أسألكما عن سبب مجيئكما إلى هذه القرية في هذا الليل، وإن كان ذلك غير لائق منَّا، فقد ظهر لي أنكما من بلاد بعيدة، فهل حضرتما من دمشق؟»

فأجاب الرجل: «لا، ولكننا من إحدى قرى تلك المدينة، وفي صباح الغد إن شاء الله نشرح لكم حقيقة حالنا.»

قال الرئيس: «حسنًا، يظهر أنكما في حاجة إلى النوم، وقد أعددنا لكما فراشًا.» ثم أمر أحد الرهبان أن يأخذهما إلى غرفة وضع فيها مصباح زيتي، وفرش على أرضها فراشان حقيران لكنهما نظيفان مرتبان — واللبنانيون أهل نظافة وترتيب على اختلاف طبقاتهم، حتى أفقر الفقراء منهم لا تستنكف من مؤاكلته أو مجالسته أو النوم في فراشه إذا نزلت عنده — فغسلا أرجلهما بماء ساخن أُحضر لهما، ثم سألهما الرئيس عمَّا إذا كان في نفسيهما حاجة إلى شيء بعدُ، فقالا: «لا.»

فغادر الرئيس ومن معه الغرفة وأغلقوا بابها وراءهم، وهم يتساءلون فيما بينهم عن أمر هذا الرجل وهذه المرأة وطفلها، ثم عادوا إلى غرفة التدفئة.

فقال الرئيس: «نحمد الله على نجاتنا من غضب الأمير بشير، فقد كنت خائفًا أن يكون الطارق أحد جواسيسه.» فقال راهب: «وما يدريك، لعل هذا الرجل من الجواسيس!» فاعترضه سائر الرهبان معًا قائلين: «ذلك لا يمكن أن يكون، ألم تفهم من مجمل حالهما أنهما غريبان، وفي صباح الغد نعلم الحقيقة.» وبعد ساعة أو بعض الساعة، سار كلٌّ إلى غرفته للنوم.

سر عميق

وفي الصباح خرج الرهبان مبكرين كعادتهم، لجرف الثلوج التي تراكمت على أبواب الغرف وسطوحها في تلك الليلة. فلما كان الضحى استيقظ الضيوف، وبعد أن تناولوا القهوة والطعام، طلب العبد الأسود الانفراد برئيس الدير فانفردا في غرفة.

فقال العبد: «هل عندكم للسر مكان؟» قال الرئيس: «تكلم ولا تَخَف فإننا نحن جماعة الأكليروس، قد عهد إلينا بحفظ أسرار الشعوب، وعندنا سر الاعتراف.» فقال العبد: «إني أعلم ذلك، وهذا مما يدعو إلى ثقتنا بك، فاعلم يا سيدي الأب أننا لسنا من دمشق ولا من قراها، وإنما نحن من بلاد مصر وقد جئنا إلى هذه البلاد فرارًا من القتل.»

قال الرئيس: «وكيف ذلك؟»

قال العبد: «إن السيدة جميلة التي رأيتها معي، هي زوجة أمير من أمراء المماليك الذين كانوا حكامًا لمصر قبل ولاية الوالي الحالي المدعو محمد علي باشا القولي.»

فابتدره الرئيس قائلًا: «قد سمعنا أن محمد علي باشا المذكور قد ذبح الأمراء المماليك في السنة الماضية بقلعة القاهرة، بعد أن دعاهم إلى الاحتفال بخروج ابنه طوسون لمقاتلة الوهابيين بجزيرة العرب.»

فقال العبد: «نعم يا سيدي، وكان زوج هذه الأميرة في جملة المدعوين إلى ذلك الاحتفال، وقد ذُبح في جملة من ذُبح، فإننا لم نسمع أن أحدًا منهم استطاع النجاة من تلك المذبحة، ولم يكتفِ محمد علي باشا بقتل هؤلاء الأمراء بل أباح لرجاله قتل كل من يلاقونه من أتباعهم في كل جهات القطر، فأغارت العساكر المصرية والأرناءوط والمغاربة وغيرهم على دور الأمراء، وأمعنوا فيهم قتلًا وفتكًا بغير شفقة ولا حساب.

وقد كنت في بيت ذلك الأمير خصيًّا من خصيان قصره، وكنت أحبه حبًّا عظيمًا، وكانت هذه الأميرة حبلى، ولها غلام سنه سبع سنوات اسمه سليم، فطلبت إليَّ الفرار بها وبابنها من وجه الموت والعار، ولما كنت أعلم أن الإخلاص وصدق الخدمة إنما يظهران في مثل هذه الحال، فقد لبيت طلبها وحملنا ما استطعنا من خفيف الحمل وغالي الثمن، وخرجنا من المدينة في ظلام الليل على ظهور خيل، فلما صرنا إلى خارجها جددنا المسير، مع صعوبة الركوب على تلك السيدة المنكودة الحظ، حتى بعدنا عن المدينة فلجأنا إلى مكان اختبأنا فيه إلى الصباح، ثم تابعنا السير في الصباح التالي. وما زلنا نجِدُّ في السير ما استطعنا، حتى دخلنا حدود سوريا، ولا تسل عما قاسته هذه المسكينة من العذاب والمشقة، وما ذرفته من الدموع الغزار.

ونزلنا بلدة غزة في بيت، والناس هناك يسألون عنا، فقلنا إننا من بلاد الترك نفيًا للشبهة. وبعد بضعة أشهر آن وقت الولادة، فوضعت السيدة هذا الغلام، فسميناه غريبًا لأنه ولد في بلاد غربة!

وبعد أن تمت الولادة، كما ذكرت، أخذنا نفكر في وسيلة ننسى بها تلك المصائب، وفي مكان نعيش به يعزي هذه الحزينة عن فقد زوجها، فعلمنا بالاستقصاء أن جبل لبنان من أفضل ما خلق الله من الأماكن الجيدة الهواء، فتاقت أنفسنا إلى الإقامة فيه، ولا سيما بعد أن سمعنا عن تيقظ أميره وتعهده راحة الرعية وسيادة الأمن بينهم، وقد كنت — فضلًا عن ذلك — أرى في سيدتي الأميرة ميلًا خاصًا إلى السكنى بهذا الجبل لداعٍ لا أعلمه.

خرجنا من غزة، ثم مررنا بيافا فاسترحنا فيها مدة، ثم شددنا الرحال إلى عكا، وهناك أُصبنا بمصيبة لا تقل عن المصيبة الأولى هولًا.»

فأصاخ الرئيس متلهفًا لسماع ما يقوله العبد، وقد تأثر بحديثه تأثرًا أجرى عبراته لأنه كان من ذوي الشفقة، والشفقة صفةٌ أكثر ما تكون فيمن يعيشون عيشة الفطرة بعيدين عن المدن.

وأتم العبد كلامه قائلًا: «تأمل أيها الأب المحترم حظ هذه المسكينة، إنها — بعد وصولنا إلى عكا ببضعة أسابيع — فقدت ابنها الأكبر بكيفية غريبة.»

قال الرئيس: «وكيف ذلك؟»

فقال العبد: «اتخذنا في عكا مسكنًا منفردًا في أحد المنازل على شاطئ البحر ترويحًا للنفس، وتجنبًا لانكشاف أمرنا، فمكثنا في تلك المدينة بضعة أسابيع نسأل عن أسهل السبل المؤدية إلى لبنان، وعن أفضل جهة من جهاته. وكانت سيدتي الأميرة لشدة تعلقها بابنها سليم، شبيه والده، لا ترد طلبه لشيء، واتفق في أحد الأيام أنه رأى غلمان الحي ينزلون إلى البحر بقارب صغير للتنزه، فطلب الذهاب معهم فأبت والدته خوفًا عليه من الغرق، فألحَّ عليها فأذنت له على أن أكون أنا برفقته، فجرى بنا القارب في البحر يسيرًا، فسرَّ سليم بذلك كثيرًا، ثم عدنا إلى البر سالمين. وقد لاحظت في أثناء جري القارب أن عيني الغلام، لم تفارقا النوتيَّ لحظة، بل كان يراقب حركاته وسكناته وكيفية استخدام المجاذيف، وكأنه أحب مهنة الملاحة.

فلما وصلنا إلى الشاطئ، وجدنا السيدة الوالدة في انتظارنا فقبلت الغلام ثم عدنا إلى البيت، ولكن لسوء الحظ كان ذلك النوتي يرسو بقاربه بالقرب من منزلنا، فيشده مساءً إلى صخر هناك، ويذهب إلى بيته، فإذا عرض له راكب، يأتي إلى القارب فيحله ويذهب به معه، ومتى انتهى من النزهة يعود فيشده في مكانه. مضت على ذلك بضعة أيام، ثم خرج الغلام ليلعب خارج البيت كما جرت عادته بذلك، وكنا نحن في البيت ندبر بعض المهام لغريب فانشغلنا ساعتين، ثم انتبهت والدته بغتة ونادت: «أين سليم؟» فقلت لها: «قد تركته يلعب أمام البيت.» ثم خرجنا نفتش عنه، فلم نقف له على أثر فصاحت: «ويلاه قد فُقد الولد!» فأخذت أناديه وأستطلع أمره وقد ذهب كل جهدي عبثًا، ثم نظرت إلى البحر فلم أرَ القارب، وقد كان منذ أيام لا ينفك مشدودًا إلى الشاطئ، فقلت في نفسي: «أظنه ركب القارب يجرب نفسه في مهنة الملاحة، فقذفته الأمواج إلى حيث لا نعلم.»

أما الأميرة الوالدة، فقد أخذت تصيح وتندب حظها وولدها وتقطع شعرها، حتى أغمي عليها، وصرت في حيرة، فأخذتُ في تسكين روعها. ثم قمت أفتش عن الغلام في جوار المنزل، وبعثت مناديًا يَنشده في الأسواق، فلم أقف له على خبر. وبعد التفتيش عنه أربعة أيام يئسنا من العثور عليه، فكرهنا البقاء في تلك المدينة. والمصيبة الكبرى، أننا لم نكن نستطيع الظهور أمام الحكومة لنطلب إليها التفتيش عن الغلام بوسائلها الدقيقة؛ خوفًا من أن ينكشف أمرنا، ويعود ذلك وبالًا علينا.

غادرنا عكَّا ونحن في حالة يرثى لها من الحزن والكدر، وهذه المسكينة لا تنفك عن البكاء ليلًا ونهارًا، حتى أسقمت ولدها الآخر من إرضاعه ألبان الهموم والأحزان …» قال ذلك، وتساقطت العبرات من عينيه فبكى معه الرئيس. ثم قال العبد: «لا أطيل عليك أيها الأب المحترم، ثم وصلنا صيداء، وهناك علمنا أن هذه الجهة من أفضل جهات لبنان فأخذنا نسير فيها من قرية إلى أخرى، وقد صممنا على الإقامة في مكان منفرد، فهدانا بعض العارفين إلى هذا الدَّير، فسرنا صباح أمس على أمل الوصول إليكم عند الظهيرة، ورافقنا رجل من إحدى القرى معظم الطريق، وكنا كلما سألناه عن المكان المقصود يقول: «ها قد وصلنا فإنه لا يبعد منا أكثر من مرمى حجر، أو طول رسن بغل، أو مقدار شرب غليون» أو غير ذلك، حتى أنهكنا التعب، وتبللت ثيابنا من الأمطار، وقاسينا من البرد أشد العناء ولم نستطع الركوب لوعورة الطريق، فغربت الشمس ونحن في مكان قيل لنا إنه قرية بيت الدين مسكن أمير هذه البلاد.

فلما وصلنا إلى هناك أشار الرجل إلى مكان هذا الدير، وقال: «اعذراني إذ لا يمكنني الوصول معكما إلى هناك»، وودعنا ورجع، كل ذلك والبرد شديد والثلوج متراكمة، وقد لامنا كثيرون على قدومنا إلى هذه الأماكن في فصل الشتاء، ولكن المقدَّر المحتوم لا سبيل إلى التخلص منه.

بعد أن فارقنا ذلك الرجل، لقيَنا رجلٌ متسربل بعباءة سوداء، يظهر عليه أنه ليس من عامة الناس، فسألنا بكل لطف عن وجهة مسيرنا، فأجبناه بأن علينا نذرًا للدير الفلاني، وقد أتينا الآن لوفائه، فقال: «أتريدان أن أرافقكما إلى ذلك الدير لأني أراكما غريبي الديار؟» قلنا: «ولكم الفضل.» فلما وصلنا إلى باب الدير وقف بنا الرجل هنيهة، ثم قال: «هذا هو المكان فاقرعوا الباب يُفتح لكم»، ثم ودعنا وسار فشكرنا فضله، وقرعنا باب الدير ففُتح لنا ودخلنا على ما رأيتمونا.»

وبدا القلق على الرئيس، فقد يكون ذلك الرفيق جاسوسًا من جواسيس الأمير بشير سمع شيئًا مما قالوه، ولكن تأثره من قصة سعيد شغله عن التفكير في غيرها.

والتفت الرئيس إلى سعيد قائلًا: «طِبْ نفسًا يا ولدي وقرَّ عينًا، قد حفظت كل مقالك وسيظل في صدري سرًّا مصونًا، ونطلب إلى الله سبحانه وتعالى أن يعزي هذه المسكينة ويهبها الصبر الجميل على أحزانها، فإذا شئتما الإقامة عندنا فأهلًا بكما فإنكما ستحلان على الرحب والسعة، وإلا فإني مستعد لقضاء كل ما تحتاجان إليه، ولا فرق عندي بين أن تكونا مسيحيين أو غير مسيحيين فإننا جميعًا نعبد الإله الواحد القهار، وفضلًا عن ذلك فإن الديانة الإسلامية هي ديانة مولانا السلطان صاحب البلاد.»

الأمير بشير

بعد أن أتم سعيد حديثه سأله الرئيس عن جميلة، فقال له: «إنها ذهبت بعد الطعام إلى غرفتها، ولا تزال هناك، والباب مغلق عليها.» فقال لسعيد: «هلم بنا لنعزيها.» فسارا حتى بلغا الغرفة، فسمعا صوت ندب وبكاء، فوقفا خارج الباب صامتين، وإذا هي تقول: «يا للمصيبة أين أنا الآن؟ وأين زوجي وحبيبي؟ وأين حشمه وخدمه؟ وأين أنت يا ولدي سليم؟ أواه أصرت طعامًا للأسماك وتركت والدتك المسكينة تتقلب على جمر الغضا؟ أما كان الأولى بي أن أموت فداءً لك ولأبيك وأستريح من شقاء هذا العالم؟! أما من وسيلة يا إلهي للنجاة من هذه المصائب؟ ترى هل أطلع الأمير على حقيقة أمري؟ أخشى أنه إذا علم به يزيد غضبه عليَّ وينتقم مني، أو لعله يشفق على ضعفي ويقبل توبتي!»

ثم أخذت تخاطب نفسها قائلة: «مالكِ يا مسكينة ولهذا الكلام! ألقي حملك على هذا العبد الأمين، واتكلي على الله وهو يقودك إلى ما فيه خيرك.»

طرق سعيد الباب طرقًا خفيفًا لئلَّا يزعجها فسكتت، فقال سعيد: «لا تخافي يا سيدتي، فأنا عبدك سعيد.» ثم فتح الباب ودخل فرآها في حالة يرثى لها، وقد بللت ثيابها بالدموع، وحلَّت شعرها ومزقت ثوبها، وخنقتها العبرات حتى كاد يغشى عليها، فتقدم إليها وأخذ بيدها وأجلسها، ثم استأذن للرئيس في الدخول فأذنت فدخل، وقد تعجب من فرط جمالها، وزاد ذلك حزنه عليها، حتى لم يعد يمكنه حبس دموعه، لكنه تجلَّد وتقدَّم قائلًا: «اصبري يا سيدتي ويا ابنتي فإن الأحزان تجلب الأسقام، فاتكلي على الله تعالى، وأشفقي على نفسك، وعلى هذا الطفل فإنه تعزية كبيرة لك. وفوضي الأمر لله، فهذا سعيد خادمك الأمين، قد أطلعني على حقيقة حالك، وعاهدته على أن يكون ذلك سرًّا بيني وبينه. واعلمي يا ابنتي أني مشارك لكما في جميع أحزانكما وسأبذل جهدي في تعزيتك ومرضاتك، فاتخذيني لك أبًا أو صديقًا تُلقين عليه أحمالك.» وما زال الرئيس يحدثها بمثل ذلك حتى سكن روعها ومسحت دموعها. أما هو فكان في أثناء ذلك يتأمل جمالها، وما يغشاه من الأحزان، وما يتجلى في وجهها من الهيبة والكمال، فقد كانت قمحية اللون، مستديرة الوجه، سوداء العينين، واسعتهما قليلًا مع حدة وذبول، رشيقة الحركة مع تعقُّل ووقار.

ثم استأنف الحديث قائلًا: «ها أنا ذا قد علمت حقيقة الحال، وليس من الرهبان أحد هنا؛ لأنهم خرجوا جميعًا للعمل في الحقول، وهم لا يعلمون شيئًا من قصتنا، فماذا أقول لو سُئلت عن سبب مجيئكما؟» فقال سعيد: «قل إنهما جاءا من صيدا لوفاء نذر عليهما.»

وفي أثناء ذلك سمعوا صوت نداء في الدار، فخرج الرئيس وإذا بأحد رجال الأمير بشير، قد جاء يدعو رئيس الدير لمواجهة الأمير في قصره ببيت الدين، فوقع الرعب في قلب الرئيس، ولكنه تجلَّد لعلمه ببراءته، فلبس جبَّته وقلنسوته وسار حتى بلغ القصر (السراي)، فلما أدخل قاعة المجلس، وقعت المهابة في قلبه لأنها على كثرة من فيها من الناس لا يُسمع فيها صوت، بل جميعهم جلوس كأن على رءوسهم الطير. وقد كانت تلك عادة الأمير في مجلسه، فلم يكن أحد يستطيع أن يتفوه أمامه بكلمة من تلقاء نفسه لعظم هيبته. أما الرئيس فكان أجرأ من غيره، والظاهر أن الأمير بعد اعتناقه الديانة المسيحية بالغ في الإكرام لجماعة الأكليروس.

وكان الأمير جالسًا على مقعد في صدر القاعة مسندًا يده إلى وسادة فوقها «طبنجة» محشوة بالرصاص لا تفارق مجلسه، وليس على ذلك المقعد غيره لأنه لم يكن يأذن لأحد أن يجلس بجانبه. وكان عليه قباء بسيط، شبيه بالقفطان، من صنع دمشق، فوقه مِنطقة من الصوف من صنع كشمير، وقد تقلَّد في منطقته الدواة والخنجر المرصعين بالجواهر، وفوق القفطان جبة من الفرو الثمين، وعلى رأسه إذ ذاك العمامة الكبيرة. أما الطربوش فلم يلبسه إلا في آخر أيام حكمه، إذ أصبح الطربوش من ذلك الحين شعار الدولة العثمانية يلبسه كلُّ من يتولى أعمالها. وكان الأمير ربعة في الرجال واسع الصدر عريض الكتفين، أما هيئته فكانت أقرب إلى هيئة الأسود منها إلى الآدميين؛ لأنه كان عريض الجبهة عاليها غليظ الشفتين، له حاجبان يتدلى الشعر منهما على عينين براقتين كأنهما تتقدان نارًا، وبينهما أنف كبير به انحناء قليل، تحته شارب طويل، وله لحية مجعدة مسترسلة على صدره، وقد وخط الشيب شعره قليلًا.

وكانت أرض القاعة مفروشة بالطنافس والسجاد الثمين، فدخل الرئيس بعد أن نزع حذاءه خارج الباب حسب العادة، فرأى الأميرَ جالسًا وبين يديه أرباب مجلسه فحياه قائلًا: «عم صباحًا يا سيدي الأمير.» فرد التحية وأذن له في الجلوس، ثم أمر له بالقهوة والغليون. أما الرئيس فلم يسره هذا الإكرام لقلقه من هذه الدعوة على أثر تخوفه أمس. ثم نظر الأمير إلى الرئيس بتينك العينين الحادتين وبما فيهما من ملامح الشجاعة والذكاء، مبتسمًا تبسمًا يزيده هيبةً ووقارًا، وقال بصوته الجَهْوَري: يا أبانا، إن غرباء نزلوا عليك أمس، فمن هم؟

فقال الرئيس: «إنهم يا سعادة الأمير قادمون من صيدا لوفاء نذر للدير.»

فقال الأمير: «إخالك جاهلًا الحقيقةَ أو متجاهلًا … أتقصد أن تغش الأمير بشيرًا؟»

فنهض الرئيس على قدميه، قائلًا: «العفو يا سعادة الأمير، فإن سعادتك تعلم أننا عبيد مطيعون مخلصون، ولم يسبق لنا شيء مثل هذا، وليس هؤلاء أول من جاء لمثل ذلك، فإن هذا الدَّير مشهور بالكرامة، وتأتيه النذور من سائر أنحاء العالم.»

فأقعده الأمير، وسأله: «من أي طائفة هم؟» فقال الرئيس: «لا بأس يا سيدي، مهما كانت طائفتهم، فإن الدير يقبل النذور من جميع الطوائف والملل بدون استثناء.»

فضحك الأمير، وقال: «جئني بهم.» فقال: «سمعًا وطاعة.» وخرج وهو في حيرة خوفًا على جميلة من غضب الأمير، فلما وصل إلى الدير وجد جميلة وسعيدًا قد عِيل صبرهما من الانتظار فأخبرهما بما كان وشجَّعهما، وقال لجميلة: «انهضي يا ابنتي والبسي أحسن ما عندك، وهلمي مع سعيد وأنا أسير بكما إليه، لعل لكما في ذلك خيرًا.» فقالت جميلة: «وماذا نفعل بغريب؟» قال الرئيس: «نتركه هنا ونوصي به أحد الرهبان.» فقالت: «لا لا، لا أفارقه قبل أن تفارق روحي جسدي فإنه وحيدي، ومنتهى أملي، وكفاني من فقد!» فقال الرئيس: «إذن، نأخذه معنا.»

فلبست جميلة ثوبًا ليس فيه مطرزات ولكنه بسيط نظيف، ومشطت شعرها وضفرته وأرخته على ظهرها، ولبست البرقع على رأسها، وكانت قد استراحت من تعب الطريق فأشرق وجهها، وارتدَّ لونه الوردي على ما به من الكمال والوقار.

سراي بيت الدين

سار الجميع حتى بلغوا «السراي» فدخلوا من باب السور إلى صحن «السراي» الخارجي، فإذا هو أشبه بميدان متسع محاطٍ بالأشجار، في صدره باب الصحن الداخلي يوصَل إليه ببضع درجات، ترى فوق عتبته بيتين من الشِّعر تأريخًا لبناء تلك «السراي». فدخلوا من ذلك الباب، والحراس وقوف هناك، يتأملون تلك السيدة وذلك العبد، ويتساءلون عن أمرهما، ثم وصلوا الصحن الداخلي فإذا هو مرصوف بالرخام، في وسطه بركة رخامية، وحوله غرف بعضها يؤدي إلى مماشٍ تشرف على ما وراء بيت الدين من البساتين والأودية والجبال، وفي صدر ذلك الصحن قاعة الأمير، ويُصعد إليها بعدة درجات، وإلى كلٍّ من جانبيه حارس منتصب ببندقيته، يمنع الدخول بغير استئذان.

فلما وصل الرئيس عرفه الحراس فلم يمنعوه من الدخول، فدخل هو أولًا وأخبر الأمير بشيرًا بمجيء السيدة والعبد، ثم طلب إليه إن شاء أن يصرف مَن في مجلسه قبل أن تدخل عليه تلك المرأة، لئلا تستحي، فصرف الجميع. ودخلت جميلة فرأت الأمير جالسًا على مقعده، وقد أشعل غليونه، وهو على ما ذكرنا من الهيبة والوقار، وعلى محياه هيئة الأسود، فلما وقع نظرها عليه اضطرب قلبها، وارتعدت فرائصها، فهوَّن عليها ودعاها إلى صدر القاعة، ورحَّب بها تخفيفًا لرعبها.

ثم استأذن سعيد، فأذن له ودخل عليه، وجلس متأدبًا قرب الباب.

فنظر الأمير إلى تلك الحورية وعلى يدها ذلك الطفل، وتأمل ذلك العبد الطويل رفيقها فاستغرب أمرهما، فقال لسعيد: «ماذا تكون أنت من هذه المرأة؟» فوقف سعيد احترامًا، وقال: «عبدك يا سيدي خادم لحضرتها.» فعظمت المرأة في عيني الأمير، والتفت إليها قائلًا: «أين زوجك يا سيدة؟» فأطرقت جميلة برأسها إلى الأرض، ولم تستطع جوابًا إذ خنقتها العبرات، وأخذت تتساقط على خديها كاللؤلؤ المنثور، فأثر ذلك في قلب الأمير بشير تأثيرًا عظيمًا، وأدرك الجواب. فسأل سعيدًا قائلًا: «من أين أتيتم؟» فقال سعيد: «أتينا من مدينة صيدا لِنَفِيَ بنذر علينا لهذا الدير.»

فقال الأمير: «من أوصلكم إلى باب الدير مساء أمس؟»

فقال: «أوصلنا رجل لا نعرفه إذ لم نر وجهه، ويظهر لي أنه ليس من العامة.»

فقال الأمير: «هل تعرفونه إذا رأيتموه ثانية؟»

فقال سعيد: «نعم يا سيدي.»

فتبسم الأمير، فأدرك سعيد أن ذلك الرجل إنما هو الأمير بشير نفسه، وقد خرج متنكرًا يطوف في القرية سهرًا على حالة الأمن في البلاد، على أنه قلما كان يتيسر له التنقل والتجول منفردًا، لكثرة ما كان له من الأعداء المترصدين في كل مكان.

ثم استأنف الأمير الحديث، فقال: «تقولان إنكما من مدينة صيدا، ويظهر من حديثكما أنكما من بلاد مصر.» فأجاب سعيد: «إن سيدي المرحوم سكن مع أسرته بلاد مصر مدة من الزمن، فاكتسبنا اللهجة المصرية في حديثنا.»

فقال الأمير: «هل أنتما عازمان على العودة إلى بلادكم قريبًا؟»

فقال سعيد: «هذه مسألة فيها نظر؛ لأني أرى سيدتي تكره الإقامة في بلد فقدت فيه رفيق حياتها وليس لها فيه مصلحة، ولم نفقد سيدنا فقط بل فقدنا معه كل متاعنا وأصبحنا كما ترانا، وربما فضلنا الإقامة تحت رعاية سعادة الأمير بقية حياتنا.» قال ذلك ولم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء، وكذلك جميلة والرئيس. أما الأمير فكان ثابت الجنان قوي الجأش على عادته فلم يظهر عليه شيء من ذلك، وإنما شعر شعورًا غير اعتيادي عند تأمله تلك السيدة، فقال: «اعلمي يا سيدة أني أقبلكما في بلادي بكل ترحاب، بل أدعوك أن تقيمي عندي في داري كأعز من فيها لتعيشي مع حرمي.» فأشارت جميلة بملامح وجهها أنها تقبل الدعوة بالامتنان والشكر، ثم استوت واقفة على قدميها أمام الأمير كأنها من حور الجنان، والدموع ملء عينيها، وخاطبته بكل رزانة ووقار قائلة: «إننا نشكر الحي الأزلي الذي هدانا لهذا السبيل، وقادنا إلى أعتابك أيها الأمير، فقد جبرتَ قلوبنا، وخفَّفتَ مصابنا فوجبت علينا طاعتك، والانقياد إلى أمرك.»

فأشار الأمير إلى أحد الخدم أن يذهب بالسيدة إلى دار الحريم، وأوصى بما يلزم لإكرامها، فحمل سعيد ولدها غريبًا، وخرجت من القاعة، ثم ودعت الرئيس، وقالت له: «لن أنسى يا سيدي الأب فضلك علينا، فعسى أن يمكننا الله من مكافأتك، وأسألك أن تذكرنا وأن تزورنا من وقت لآخر.» فأجابها الرئيس بمثل قولها، وانصرف.

دار الحريم

وبعد انصراف جميلة والرئيس، عاد سعيد إلى الأمير وقبَّل يديه، وأثنى على معروفه، وانتظر أمره، فسأله عما يعرف فقال إنه يعرف التركية كلامًا وكتابةً ويحسن العربية. فأمر بأن يكون من خدمه الخاصين به، فشكر فضله وخرج.

أما جميلة فخرجت من القاعة إلى الصحن الداخلي، فرأت بجانب القاعة بابًا كبيرًا مرصعًا بالفسيفساء الجميلة، يؤدي إلى دار صغيرة، ودهليز، حتى ينتهي إلى غرف الحريم، فأوصلها الرجل إلى أول غرفة، وسلمها إلى الخصيان، فساروا بها إلى قاعة الاستقبال المفروشة بالسجاد الثمين والمحلاة جدرانها بنقوش بديعة. وذهب أحد الخصيان لإخبار زوجة الأمير بذلك، فجاءت ومعها بعض أهل «السراي» من السيدات لاستقبالها والترحيب بها، فلما تأملتها تساقطت العبرات على خديها رغم إرادتها. ثم أخذت غريبًا وجعلت تتأمله وتقبِّله لأنه كان بارع الجمال، ثم تناولته منها نساء «السراي» جميعهن وجعلن يقبِّلنه ويدعون له بطول العمر، ويذكرون اسم الله وقايةً له من العين.

استأنست جميلة بهؤلاء النسوة، لكنها لم تضحك لأن قلبها لم يكن يفرح لشيء، بعد أن فقدت زوجها وولدها، وقاست ما قاسته من المشقة والعذاب. ولم تكن تتعزى عن مصابها بشيء، برغم ما لاقته من الترحاب وحسن المعاملة من امرأة الأمير ومَن في بيته من النساء.

وفي مساء ذلك اليوم، جاء الأمير إلى دار الحريم فسأل زوجته عن جميلة فقالت إنها آنست منها امرأة فاضلة كاملة ليس فيها عيب. فأخبرها عن كيفية توصله إليها، إلى أن قال: «ومما حملني على إكرام هذه السيدة، فضلًا عن انكسار قلبها، وما هي عليه من الكمال، أني رأيت فيها مشابهة تامة لك في الشكل والملامح والخلق، فسبحان الخلاق! ولذلك عندما شاهدتها استأنست بها وعاملتها معاملة القريب، ووجدت في نفسي ميلًا لها ولإكرامها.» فقالت زوجته: «لقد قلت الصواب يا مولاي؛ لأنها حقيقةً تشابه صديقة لي من بنات أسرتنا عرفتها منذ الصغر، رحمها الله، ولذلك عندما رأيت جميلة اليوم قبَّلتها، واستأنست بها ولم أستطع حبس دموعي عند مشاهدتها لتذكري تلك الابنة المسكينة، التي ذهبت ضحية تعصب والدها.»

ثم دعا الأمير جميلة، فهمَّت بتقبيل يده، فأمسك بها قائلًا: «انظري أيتها السيدة، لقد قدَّر الله لك أن تَصِلي إلينا، وقد كان ذلك من بواعث سرورنا، ولا سيما أن الست (يعني زوجته) قد أحبتك واستأنست بك، فلك من الآن كل ما تطلبينه، واعلمي أني على استعداد لأن أقدِّم لك كل ما تحتاجين إليه عن رضًا ورغبة مني؛ إذ يبدو لي أنك من قوم كرام. ولا حاجة بي إلى معرفة نسبك؛ لأني فهمت أنك لا تريدين التصريح به عندما كلمتك في صباح هذا اليوم، وإنما أسألك أن تقترحي عليَّ كل ما تريدينه.»

وكان وجه جميلة أثناء ذلك يتقلب بين الاصفرار والاحمرار، ثم خنقتها العبرات وتنهدت تنهدًا خفيفًا، فلما أتم الأمير كلامه قالت له، وهي مطرقة إلى الأرض: «ليس لي عندك اقتراح ولا وصية إلا رعاية ولدي غريب، فإنه عزائي الوحيد في هذا العالم.»

فقال لها الأمير: «طيبي نفسًا وقرِّي عينًا، فإني سأعامله معاملة ولدي.» ثم استأنفت الحديث قائلة: «وأتوسل إلى سيدي إذا شاء كرمه أن يسمح لي من حين إلى آخر بمشاهدة ذلك العبد الأمين، بل الصديق الوفي سعيد، فإنه كان سببًا في حفظ حياتي، وقاسى من أجلي مشقات عظيمة.» فأجابها إلى ذلك، على أن يجيء إليها مرة في كل أسبوع، فأثنت على عطفه وأكبَّت على يده لتقبِّلها فمنعها.

مكثت جميلة في بيت الأمير بشير كواحدة من أهله مكرمة معززة، وكان سعيد يتردد عليها من وقت إلى آخر، وهي تستأنس به وتحادثه بما بينهما من الأمور التي لم يطلع عليها إلا رئيس الدير. وظل سعيد يغتنم كل فرصة لزيارتها ومواساتها، وظلت تشكره لأنه كان السبب في وصولها إلى هذه الحالة.

أما غريب فظل ينمو ويشب بسرعة، عقلًا وجسدًا، حتى بلغ الثامنة من العمر، فكان الناظر إليه يظنه ابن خمس عشرة سنة، وكان هو يظن نفسه ابن الأمير بشير لأن أمه كتمت عنه كل ما يتعلق بوالده. وقد أسند الأمير تعليم غريب وتثقيفه لنديمه المعلم بطرس كرامة من أهالي حمص، وكان ذا معرفة باللغة والشعر، وكان يعلم الأمير «أمين» ابن الأمير بشير أيضًا. فرأى المعلم بطرس في غريب ذكاءً حادًّا وقريحة وقَّادة فأحبه وزاد رغبة في تعليمه. والحقيقة أن هذا الغلام كان لفرط ذكائه ولطف خلقه لا يراه أحد إلا ويتعلق بمحبته، فإنه كان طويل القامة على صغر سنه، حاد العينين واسعهما عريض الجبهة، رشيق الحركة، ساكن الجأش برغم صغر سنه، حاد الذهن، سريع الانتباه.

ولا حاجة بنا إلى ذكر مقدار فرح والدته به، غير أنها لم تكن تظهر له استحسانًا، بل كانت تظهر له أنها تنتظر منه أكثر من ذلك.

أما الأمير بشير فكان يحب غريبًا محبة شديدة ويعامله معاملة أولاده، ومع أن منصبه كان يقضي عليه بالتغيب عن بيت الدين كثيرًا، فإنه كان كلما عاد من سفر سأل عن غريب وعن راحته وتلقاه، فيُقبِّله.

وكان غريب يحب الأمير محبة عظيمة ممزوجة بالاحترام. أما سعيد فكان معجبًا بالأمير بشير لأنه لم يشاهد في حياته رجلًا مثله، ومع أنه اختلط مدة طويلة بالمماليك والأرناءوط والمغاربة والإنكشارية فإنه لم يرَ قط مثل هيبة هذا الرجل. وكان إذا خاطبه في أمر، اعتبر نفسه يخاطب رجلًا أعلى رتبة من البشر، فلا يستطيع التكلم إلا مطرقًا، ولا سيما إذا دخل عليه في مجلسه ورأى المجلس على كثرة من فيه من الأمراء والمشايخ قد استولى السكوت عليه، لا يسمع فيه إلا صوته الجهوري آمرًا أو ناهيًا.

فراق مر

ولما عزم الأمير بشير على السفر إلى مصر سنة ١٨٢١ بسبب تهديد والي البلاد إياه بالقتل، كان في بلدة خارج بيت الدين، فدعا ولديه خليلًا وأمينًا ليرافقاه. وكان أمين شديد التعلق بغريب رفيقه في التعليم، فطلب إلى المعلم بطرس أن يستعطف الأمير لعله يأذن لغريب في مرافقته إلى مصر. وكان الأمير ممن يصغون إلى كلام رجال العلم، هذا إلى أنه كان يحب المعلم بطرس بوجه خاص ويثق به لأنه نديمه، فقبل الأمير تحقيق تلك الرغبة. كل ذلك وجميلة لا تعلم بشيء، فلما بلغها ورود الأمر بسفر غريب وقع الرعب في قلبها؛ لأنها تمقت الأرض التي فقدت فيها زوجها، وخرجت منها خروج اللصوص، فدعت سعيدًا إليها وحدثته على انفراد قائلة: «انظر يا سعيد، إن الأمير قد بعث إلى حبيبي غريب أن يرافقه إلى مصر، وأنت تعلم مدى تعلقي به، وكيف هجرت الدنيا من أجله، ولا يخفى عليك أنه صغير السن إذ لم يتجاوز العاشرة من العمر، وهو ذاهب إلى بلاد قُتل فيها أبوه، ويقيم فيها قاتله، وسيمر بأرض فقد فيها أخوه (قالت ذلك وتنهدت) فلا أدري ماذا أعمل.»

فأجابها سعيد قائلًا: «لا بد لك يا سيدتي من الصبر، فإن غريبًا مسافر مع عصبة قوية من الرجال لا خوف عليهم. وأما قولك إنه ذاهب إلى حيث قُتل أبوه، فهو لا يعلم بذلك، ولا يعرفه أحد بهذه الصفة في الدنيا كلها إلا رئيس ذلك الدير، وإلى ذلك، فإن بقاءه هنا أكثر خطرًا عليه؛ لأن الأمير سائر إلى مصر لاضطراب الأحوال هنا.»

فقالت جميلة بلهفة: «ما هذا الاضطراب؟ أخبرني بأمره!»

فقال سعيد: «لا تخافي يا سيدتي، فإنها خلافات سياسية لا تمس الأشخاص.»

فقالت جميلة: «ألا تريد أن تخبرني بحقيقة هذه الخلافات، وما هي؟»

قال سعيد: «بلى، لا يخفى على سيدتي أن إمارة سيدي الأمير بشير في لبنان، تحت ولاية عبد الله باشا والي عكا المولَّى من قِبل الدول العلية، وقد اتحد الاثنان في السراء والضراء، وفي هذه الأثناء غضبت الدولة على عبد الله باشا المذكور؛ لما تقدم ضده من الشكاوى، فأمرته أن يسلِّم زمام الأحكام فعصى، فأمرت درويش باشا أحد وزرائها في دمشق أن يخرج الحكومة من يده قهرًا، فابتدأ بسيدي الأمير بشير فأخرج إمارة لبنان من يده إلى أمير يقال له الأمير عباس، فذهب سيدي إلى عكا لإخبار عبد الله باشا بالأمر، فبعث درويش باشا جندًا يقطع عليه الطريق، فعزم على المسير إلى مصر ليطلب وساطة محمد علي باشا عزيز مصر لالتماس عفو الباب العالي عن عبد الله باشا.»

فنهضت جميلة مرتعدة قائلة: «ويلاه يا سعيد! كيف نبقى نحن هنا والبلاد في قبضة أعدائنا، وليس من يحمي ذمارنا؟ يا للفضيحة!»

فطمأنها سعيد قائلًا: «وقانا الله من الفضيحة يا مولاتي، إننا لا نزال بِحِمَى الأمير في أمن من طوارق الزمان، فإن العرين لا تقربه الثعالب ولو غاب الأسد عنه، ومع ذلك فإن حرم الأمير لا يزلن هنا، وهو أحرص على عِرضه منه على حياته، وقد علمت أن الأمير عباسًا قد عاهد سيدي سرًّا أن يحمي ذماره في بيت الدين فغيابه كحضوره.

ولا تظني أن هذه الحال تدوم، فقد علمت أن إمارة لبنان خرجت من يد الأمير منذ تولاها إلى الآن عدة مرات، ثم عادت إليه والناس مجمعون على أنه ما من أحد يليق بها إلا هو، فقد خرجت من يده على عهد أحمد باشا الجزار الذي كان يبيع إمارة لبنان بيعًا، فيسلم زمامها إلى من يدفع الرشوة الكبرى، حتى إنه أخرج الأمير بشيرًا منفيًّا غير مرة، وحاربه مرارًا، ومع كل ذلك لم تثبت إمارة لبنان إلا له. وأنت يا سيدتي تعلمين أهليته ومحبة الرعية له، فعلى كل حال لا خوف علينا بإذن الله، والذي نجانا من مصر قادر على أن يحفظ حياتنا هنا، وإذا كانت ذنوبنا كثيرة فأظنها قد غُفرت بما حلَّ بنا من النكبات.»

فقالت جميلة: «هل أنت واثق من ذلك يا سعيد؟» قال: «نعم، وعلى كل حال أرى أن سفر سيدي غريب أفضل من بقائه هنا، وفوق ذلك ليس لنا حيلة فيما حدث إذ لا يمكننا مراجعة الأمير فيما طلب، وأنت يا سيدتي تعلمين كرهه للمراجعة فيما يقوله — ولو كان خطأً — على أننا نعلم يقينًا أنه يحب سيدي غريبًا كأحد أولاده، وفي اعتقادي أنه إذا قاسى مشاقَّ الغربة في صغره يشب محنكًا عالمًا بأحوال الدنيا. ويا حبَّذا لو أستطيع مرافقته منعًا لبلبالك، غير أن دون ذلك عدة موانع، منها أنني أخشى انكشاف أمري هناك، ولا آمن أن أتركك وحدك؛ إذ ربما تحتاجين إلى خدمتي خدمة لا يستطيع غيري أن يقوم بها، أما غريب فقد سار بمعية أسد الغاب وبطل هذا العصر، فلا خوف عليه.»

فتنهدت جميلة، وقالت: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إذا لم يكن ما تريد فَأَرِد ما يكون، فليس لنا إلا الاتكال على الله والتمسك بالصبر الجميل.» وبينما هما في ذلك، إذ دخل غريب ووجهه يطفح سرورًا، وتقدم إلى والدته وقبَّل يدها جريًا على عادته، ثم قال لها: «إن أبي (يقصد الأمير بشيرًا) قد بعث إليَّ أن أسير إليه مع أخي أمين، ومن هناك نسير جميعًا إلى مصر، فهيا بنا نذهب!» فقبلته وقالت: «أنا لست ذاهبة معكم يا ولداه، وإنما أنتظركم هنا.» فاغرورقت عيناه بالدموع وسكت هنيهة، ثم قال: «فليذهب سعيد!» فقال سعيد: «حبذا يا سيدي لو أستطيع الذهاب، ولكنني باقٍ هنا مع سيدتي ننتظر رجوعكم فعسى أن يحلو لكم السفر؛ لأن بلاد مصر بهيجة، ولا سيما في فصل الشتاء.»

ثم أقبلت عليه والدته تُقبِّله وتودِّعه قائلة: «سرْ يا ولدي في رعاية المولى وحراسته، وأستحلفك بمحبة الأم، ألا تنسى والدتك في سفرك!» فبكى الغلام، وقال: «كيف أنساك يا أماه وقد ربيتني في حجرك أعوامًا؟» فقالت: «أحب منك أن تكتب إليَّ كلما سنحت لك الفرصة، وتخبرني عما تشاهده في سفرك تعزيةً لقلبي عن بُعْدِك.»

وبينما هم في ذلك، إذ قرع الباب ودخل الخادم يطلب الأمير غريبًا ليسير في ركب الأمير بشير، فنهضت والدته وقبَّلته فقبَّل يدها وودَّعها، وسار مع الرسول ومعهم أولاد الأمير الآخرون، وأعين جميلة وسعيد ترافقهم حتى تواروا.

غريب في مصر

وكانت هذه أول مرة خرج فيها غريب من بيت الدين، فحوَّل نظره إلى رُبا لبنان وهو على جواد مطهم، لا يمنعه صغر سنه من الظهور بمظهر كبار الفرسان. وقد جعل على رأسه كوفية من الحرير فوقها العقال البدوي، وارتدى قفطانًا من الحرير فوقه الجمدان المزرر بأزرار القصب. وكان على حداثة سنه يحسن ركوب الخيل شأن أولاد أمراء لبنان، فإنهم يشبون على ظهور الخيل، ولا سيما بيت الأمير بشير، فقد كان يُضرب المثل بإصطبله. وكان الرَّكَبُ يلتفتون إلى غريب بوجه خاص ويلاطفونه، مراعاةً لصغر سنه وجماله ودعته، فإذا وصلوا إلى مكان أو قرية، يقول السياس بعضهم لبعض: «هل نخبر الأمير الصغير بهذا الأمر وذاك المنظر؟» وكان يقابل ذلك منهم بالبشاشة واللطف والثناء.

وما زال الركب سائرين إلى المساء فباتوا في إحدى القرى، ثم نهضوا في الصباح التالي، وما زالوا بين حلٍّ وترحال حتى الْتَقوا بالأمير بشير، فسلموا عليه وقبَّلوا يديه، وسار الركبان معًا، وجدا السير نحو مصر، وكان عددهم ينيف على مائة فارس، ومعهم الخدم والحشم، والناس يتقاطرون من القرى والبلاد، يقفون على جانبي الطريق لمشاهدة الأمير بشير الذي طالما سمعوا عنه.

أما الأمير ومن معه، فظلوا في طريقهم حتى أتوا إلى الشاطئ فنزلوا بعدتهم وخيلهم في زوارق، سارت بهم إلى العزبة بقرب دمياط، فبعث كاشف دمياط يسأل الأمير عن سبب مجيئه، فأجابه أنه جاء يتشرف برحاب العزيز. فبعث إليه الكاشف أن يبيت الليلة في العزبة، وفي الغد يدخل ثغر دمياط، فنزل الأمير بحاشيته وأولاده في تلك القرية، وبعث إليهم الكاشف بما يحتاجون إليه من الزاد والعلف فأعدت لهم الأطعمة. وبعد تناول الغداء والقيلولة خرجوا إلى الحقول والمزارع، يسرحون الطرف في أرض مصر وحقولها.

أما غريب فأقام في الخيمة، وقد أعد ورقًا وحبرًا فجلس يكتب كتابًا إلى والدته، لأن خيالها لم يبرح في ذلك السفر ذاكرته، مع ما اعترضه في طريقه من لبنان إلى مصر من المناظر العديدة المختلفة، فأخذ القلم والورق وقصَّ لها ما شاهده في سفره من أوله إلى آخره، يتخلل ذلك عواطف الشوق والحنو.

ولما أتم الكتاب خرج من الخيمة، فلم يرَ أحدًا غير الخدم والسياس، وقد سرحوا الخيل للمرعى في تلك المزارع فتأمل ما حوله من الأرض، فإذا هي مستوية السطح تربتها مائلة إلى السواد لا شيء فيها من المرتفعات أو الجبال، فتذكر رُبا لبنان وأوديته وينابيعه، فانتقلت به مخيلته إلى سراي بيت الدين، وما تشرف عليه من الجبال والأودية والغابات والبساتين، ثم ذكر والدته وما أوصته به فخفق قلبه شوقًا، واشتد به ذلك حتى غلب عليه البكاء. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فجعل ينظر إليها من وراء الأفق، ويعجب بما لبسته من الحلل القرمزية والذهبية والفضية مما يأخذ بالعقول، غير أن ذلك لم يكن ليشغله عن تذكر والدته والحالة التي شاهدها عليها أثناء اللقاء الأخير، فقد كانت تلك الحال تزيد من إثارة عواطفه وتجعله يندم على مجيئه، ويتمنى لو كان طائرًا ليعود إلى بيت الدين ليشاهدها ويقبِّل يدها.

وبينما هو في تلك الهواجس، إذ عاد الأمير وأولاده وهم يتحدثون بما شاهدوه من خصب تلك الأرض وطيب زرعها، فلما وصل الأمير إلى فسطاطه رأى غريبًا فقال له: «أين كنت يا ولدي؟ ولمَ لم تذهب معنا؟» فاعتذر بأنه كان يكتب كتابًا إلى والدته، ثم دفع إليه بالكتاب، وقال له: «أسألك يا سيدي أن تبعث به إلى والدتي!» فوعده بذلك، وبعد قليل حضر العشاء فتناولوه، وذهب كلٌّ منهم إلى فراشه عاجلًا طلبًا للراحة بعد الذي قاسوه من وعثاء السفر.

•••

وفي الصباح استقبلهم الكاشف مُرحِّبًا، وكان قد بعث إلى الإسكندرية يخبر محمد علي باشا بذلك، فأجابه أن يسيِّر الأمير إلى القاهرة مكرمًا، وكتب إلى نائبه هناك أن يستقبل الأمير ومن معه، ويقدم لهم الإكرام والمبرة، ويقول له إن العزيز يهنئك بالسلامة، وإنه لم يدخل أحد أعز منك إلى مصر. فركب الأمير وبطانته، حتى إذا ما وصلوا بولاق ميناء القاهرة، وجدوا في استقبال الأمير حنا البحري الحمصي فرحب به، وأخبره أن العزيز في الإسكندرية، وسيحضر قريبًا. ثم سار به وبأولاده إلى جزيرة الروضة المقابلة لمصر القديمة، وأنزله في قصر الخازندار.

أما غريب فإنه لما وصل إلى القاهرة أعجبه كبرها وكثرة الناس بها؛ لأنها أول مدينة رآها بهذا الاتساع، فأخذ يسأل من حوله عن كل جديد شاهده، وكانوا يصفون له ذلك وصفًا دقيقًا. فلما ساروا إلى جزيرة الروضة دهش غريب لأمر تلك الجزيرة القائمة في وسط النيل المبارك الغدوات، وما زالوا سائرين حتى نزلوا القصر على الرحب والسعة فوجدوا فيه كل ما يحتاجون إليه، وقد أعد الخدم سائر الحاجيات. وفي تلك الليلة كتب غريب إلى والدته بما حدث له بعد الكتاب الأول.

مصر القاهرة

وفي الصباح التالي، ذهب الأمير لمقابلة إبراهيم باشا في قصره بضواحي القاهرة، ورافقه ابناه. أما غريب فأوصى به الأمير أحد رجال القصر المدعو أحمد، وكان فيما مضى من جنود محمد علي ثم تولى خدمة ذلك القصر، وكان يخرج بغريب للنزهة أثناء غياب الأمير بشير، فسرَّ غريب بذلك؛ لأنه لصغر سنه لم تكن تلذ له المقابلات الرسمية.

خرج أحمد بغريب وببعض حاشيته من رجال الأمير، ودار بهم حول الجزيرة فمروا بالمقياس فشرح لهم كيفية قياس النيل به. ثم ركبوا زورقًا عبروا به النيل إلى بر القاهرة، فأعجب غريبًا عِظمُ ذلك النهر. وكان على صغر سنه مدركًا فطنًا محبًّا لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينظر وهو في الزورق إلى كلٍّ من ضفتي النيل متأملًا ما هناك من مزارع الحبوب وغياض النخيل، حتى وصلوا إلى بر القاهرة، فنزلوا عند مصر القديمة، فجعل غريب يتأمل مبانيها ويسأل عن كل شيء فيها.

وكان أحمد ينظر إلى ذلك الغلام ونباهته وذكائه ولطفه نظرة الإعجاب، فمروا في أسواق مصر القديمة الضيقة، والناس يشيرون إلى ذلك الغلام الغريب الزي، بما عليه من الملابس اللبنانية التي لم يكونوا تعودوا مشاهدتها، ولا سيما ذلك الجمدان المقصب، وكميه المرسلين من كتفيه، فاستوقف غريبًا بناءٌ كبير يظهر أنه قديم العهد في جدرانه تهدم، وهو أشبه بالحصون منه بالبيوت، فسأل الغلام عنه، فقال له أحمد: «إن هذا البناء دير يقال له دير النصارى، فيه كثير من المعابد النصرانية والأديرة.» فداروا حوله من الخارج ومروا ببابه فإذا هو صغير يتوصل إليه بانحدار، ثم وصلوا إلى جداره الجنوبي وبه برجان هائلان قد غشيهما الخراب بينهما أثر عتبة علوية لباب كبير، فقال: «يا عم، إن الأديرة في بلادنا بخلاف ما هي هنا، فإني لم أشاهد مطلقًا بناءً بهذه الضخامة، ولم أرَ في الأديرة مثل هذه الأبراج.» فقال أحمد: «صدقت يا سيدي، ولا في سائر الأديرة مثل هذه الأبراج ولا شيء من ذلك، وهذا البناء لم يكن ديرًا وإنما هو في الأصل حصن قديم، يقال إن الفُرس حين تسلطوا على مصر قبل الميلاد بقرون شادوه ودعوه باسم عاصمة بلادهم إذ ذاك، فَعُرف بحصن بابل، وفيه تحصَّن المصريون عندما جاءهم المسلمون فاتحين، تحت قيادة عمرو بن العاص، ثم سكنه الأقباط وغلب عليه اسم الدير.» فأراد غريب الدخول لمشاهدة ما حواه ذلك البناء فطاوله أحمد، كأنه يريد أن يريه شيئًا أعظم فسار الجميع حتى مروا بقناطر السباع، فشرح له حديثها إلى أن قال: «إن الملك الظاهر بيبرس أحد سلاطين المماليك بناها لتوصيل الماء من النيل إلى قلعة القاهرة، التي تراها بسفح هذا الجبل.» وكان يظهر من معاملة أحمد أنه يحب الاختصار في الحديث، والعجلة بالمسير نحو القاهرة.

وكان غريب مشغولًا عن ملاحظة ذلك بمشاهدة ما حوله من الحقول الخصبة، ثم صعد إلى إحدى الآكام الخربة هناك، فأشرف على قسم عظيم من القاهرة على يمينه جبل المقطم، وعند سفحه قلعة القاهرة. وساروا حتى دخلوا المدينة ومروا بأسواقها وكان غريب يعجب لكثرة الازدحام فيها، لكن أهلها كانوا أكثر تعجبًا منه لامتيازه عنهم باللباس والهيئة، وبمن معه من اللبنانيين.

وكانت القاهرة في ذلك العهد ضيقة الطرق، ليس فيها شيء من الشوارع الحديثة المتسعة، أو المبنية على النمط الجديد، ولم يكن فيها شيء من الأشجار التي تحف بشوارعها الحديثة الآن، فإن جهات الإسماعيلية والفجالة وشبرا والتوفيقية، وسائر هذه الضواحي كانت كلها حدائق وبساتين وآكام ومستنقعات، قلما شوهدت فيها المساكن والبيوت.

وقد كان من أكثر الشوارع ازدحامًا حينذاك وأطولها الشارع الممتد طولًا من باب الحسينية، إلى باب سعادة، يدخل فيه شارع الحسينية والنحاسين والغورية وما وراء ذلك من الصليبة. والشارع الممتد على موازاة ذاك، أوله عند باب الشعرية، وآخره عند باب السيدة زينب، ويدخل فيه باب الشعرية والشعراوي وما بين السورين، وشارع منصور باشا ودرب الجماميز … إلخ، هذان هما أطول شوارع القاهرة وأكثرها عمرانًا، وما بينهما وما جاورهما من الجهات، كالحمزاوي وبركة الفيل … إلخ.

الدوسة

وما زال الاثنان ومن معهما سائرين، حتى وصلوا إلى بركة الأزبكية فإذا هي حديقة شائقة تحيط بها ترعة محفوفة بالأشجار، فمروا على جسر إلى داخل الحديقة فرأوا الناس يتراكضون إليها مزدحمين، فالتفت أحمد إلى غريب قائلًا: «انظر، ها نحن الآن في ما يدعونه بركة الأزبكية، وقد اتفق وصولنا مع وقت احتفال يقال له «الدوسة» فلنغتنم الفرصة لمشاهدتها، ولكن يجب قبل كل شيء أن تحافظ على ما معك من الأشياء الثمينة خوفًا من «النشالين» الذين يسرقون أمتعة الناس من جيوبهم وأيديهم، ولا يشعر أحد بهم، والأحسن أن توصي أتباعك بذلك.» فاستخف غريب بهذا التحذير، ولكنه قبل النصيحة بالشكر.

ثم قال أحمد: «انظر يا سيدي إلى هذا الشيخ ذي العمامة، الراكب على هذا الجواد الأصيل الذي تراه يخطو خُطا العروس!» فأجاب غريب: «من يكون هذا؟» قال أحمد: «هذا يقال له شيخ السعدية، وعما قليل تراه يمر بجواده فوق ظهور الناس.» ثم أوقفه على مرتفع ليتمكن من المشاهدة. وبعد برهة رأى غريب الرجال ينامون منبطحين على وجوههم، متلاصقين بحيث لا يكون بين الواحد والآخر خلاء، فتألَّف بذلك جسر من الرجال، ثم جاء ذلك الشيخ وأمامه رجلان ممسكان بلجام الفَرس يقودانه نحو ذلك الجسر، فأحجم الفَرس أولًا ثم تقدَّم ماشيًا على ظهور الناس، والقائدان أمامه ممسكان بلجامه، فأخذ يخطو على مهل، وكلما خطا على رجل نهض ذلك الرجل وراءه تبركًا به، فدهش غريب لهذا المنظر، وقلبه يختلج خوفًا على أولئك الرجال من الأذى، ولكنه زاد دهشة عندما علم أن أحدًا منهم لم يصب بسوء.

وكانت الشمس قد صارت في الهاجرة، فقال أحمد: «قد حان وقت الظهر يا سيدي، ونحن على بعد فرسخ من القصر، ومرادنا مشاهدة ما بقي من المدينة، فهل تقبلون دعوتي لتتناولوا طعام الغداء عندي في منزلي، وهو قريب من هنا، وبذلك نستطيع إتمام جولتنا اليوم، ونعود في المساء إلى القصر؟»

فأجاب غريب الدعوة، وسار الجميع حتى أتوا شارعًا وصلوا منه إلى حارة قيل لهم إنها حارة قيسون، فاتجهوا إلى باب كبير عنده بواب بعمامة بيضاء فناداه أحمد، فلما حضر همس في أذنه أن يخبر من في البيت من النساء أن رجالًا غرباء سيدخلون البيت فليخلوا لهم السبيل، ثم دخل أحمد وغريب ورجاله فوصلوا إلى صحن مكشوف في صدره باب صغير، يؤدي إلى دار تتصل بغرفة الاستقبال (المندرة) فدخلوها، وجلسوا على المتكئات فقُدِّمت لهم القهوة، ثم تناولوا الطعام جلوسًا على بساط حول مائدة عليها أنواع الأطعمة، وفيها الملوخياء والأرز واللحوم المطهية، ثم قُدمت لهم القهوة ثانية.

ثم عرض أحمد على الأمير غريب أن يتوسد للقيلولة، فقبل فقاده إلى دور علوي ودخل به إلى غرفة مشرفة على بيت آخر مقابل لذلك البيت، فنزع غريب بعض ثيابه وتوسد.

نساء المماليك

ولم يكد غريب يضطجع حتى سمع لغطًا يتخلله صوت امرأة تنوح وتندب فأصاخ بسمعه، فإذا ذلك اللغط في البيت المقابل، وأطل من النافذة فرأى في ذلك البيت امرأة كالبدر جمالًا، تستجير من رجل رث الثياب، يضربها كأن له سلطانًا أن يفعل ذلك، فتحركت في قلب غريب عواطف الشهامة والمروءة فأمر بعض من معه من اللبنانيين أن ينزلوا لإنقاذ هذه المرأة من يد ذلك الرجل، فنزلوا أسرع من لمح البصر بعد أن سألوا أحمد عن الطريق، فأخذهم إلى باب البيت بعد أن أوصاهم أن لا يخبروا أحدًا بذلك، وعاد إلى غرفة غريب فإذا هو مطل من النافذة ينظر إلى ذلك الرجل، وقد كان يتميز غيظًا حتى إنه هم أن يلقي بنفسه من تلك النافذة لنصرة تلك المرأة.

فلما دخل أحمد انتبه غريب، فالتفت إليه قائلًا: «من هذا الوحش الذي يضرب هذه المسكينة؟» قال له: «إن لهؤلاء يا سيدي قصة سأتلوها عليك الآن.» ثم سمعا صوت رجال غرباء في تلك الدار، وقد دخلوا فضربوا الرجل وخلصوا المرأة وجاءوا بها إلى بيت الحريم، كل ذلك والرجل ينادي بأعلى صوته، قائلًا: «أنَّى لكم أن تأخذوا امرأتي مني؟ أليست ملكي ولي أن أتصرف معها كيف أشاء؟» فتعجب غريب من هذا القول، والتفت إلى أحمد قائلًا: «أصحيح أنها امرأته؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «يظهر أنهما مختلفا التفكير والذوق.» قال: «نعم، وسبب ذلك أنه حكم هذا القطر منذ بضعة قرون جماعة من الشراكسة وغيرهم، يقال لهم «المماليك» كانوا في أول الأمر خدمًا في دور الخلفاء العباسيين وغيرهم، يرسلون إليهم من ولاتهم في تركستان، في جملة هدايا أخرى بدلًا من الجزية، فلما اعتنقوا الديانة الإسلامية وتعلموا وتثقفوا، أحبهم الخلفاء وعهدوا إليهم بإدارة عدد من مصالح الدولة، فقلدوا بعضهم الولاية، وبعضهم الخراج، وبعضهم إمارة السر إلى آخره. وما زالت أنفسهم تتوق إلى السلطة وحب السيادة، حتى تحقق لهم ذلك في أواخر الدولة العثمانية فصاروا أمراء أشبه بمديرين، ولكنهم أرادوا الاستبداد فسعت الحكومة العثمانية في إبادتهم فلم تنجح، حتى كانت أيام محمد علي باشا عزيز مصر الحالي، فعمد منذ نحو اثنتي عشرة سنة إلى مكيدة ذبحهم بها عن آخرهم في القلعة، التي شاهدتها عن بعد في هذا الصباح، ثم أمر بمصادرة كل ما يملكونه من المال والمتاع، وأذن لرجاله من الجند وغيرهم في التزوج بنسائهم فأصبح هؤلاء النساء في حالٍ الموتُ أهون عليهن منها؛ لأنهن بعد أن كنَّ في عزٍّ وجاه أصبحن إماء لرجال لم يكنَّ يقبلنهم عبيدًا لهن. وهذه المرأة كانت من نساء أمير من هؤلاء الأمراء، فكان نصيبها التزوج بهذا الرجل، وهو من عساكر العزيز، فتراه ناقمًا عليها يضربها لأقل سبب. وقد مضى على هذه المسكينة عشر سنوات أو أكثر، وهي في مثل هذا العذاب، يأتيها كل ليلة وقد أسكره الخمر، فيعاملها كما رأيت.»

فتأثر غريب بهذه القصة حتى كاد يبكي، وبينما هما في الحديث، إذ دخلت خادمة تقول لسيدها: «إن السيدة كاملة تريد الدخول لتكلم الأمير.» فسأل غريب عن تلك السيدة، فقال أحمد: «هي المرأة التي نحن بصددها.» فقال: «دعوها تدخل.» فدخلت، والدموع ملء عينيها، وترامت على قدمي غريب قائلة: «إني ملتجئة إليك يا سيدي، وأستحلفك برأس أبيك أن تنقذني من هذه الشدة، فتأمر رجالك أن يحملوني من هذا المكان إلى حيث تشاءون، فأتخلص من هذا الإنسان المتوحش.» وكانت تقول ذلك، وهي تجهش بالبكاء، فازداد قلب غريب رقة وحنوًّا فأنهضها وأجلسها قائلًا: «لا تخافي يا خالتي، وسأكلم أبي الليلة إن شاء الله وأستحلفه أن يخلصك من هذا الرجل فتذهبي معنا إلى لبنان.» قالت: «يا حبذا ذاك!» ثم قال لأحمد: «أتريد أن تبقيها في بيتك إلى الغد حتى نرى والدي ونكلمه؟» قال: «حسنًا وإنما أخشى تبعة ذلك.» فقال غريب: «لا تخف، فإنني سأخبر أبي بحقيقة الأمر.»

فتقدمت السيدة وقبَّلت غريبًا وألحَّت عليه ألا ينسى، فوعدها خيرًا إذ امتلأ قلبه شفقة عليها. أما زوجها، فكان قد خرج يريد عرض دعواه على أغا الضابط، فقيل له إن دعواه مع ابن الأمير بشير، الذي هو صديق حميم لعزيز مصر. فتريَّثَ على أمل أن يسترجع امرأته باللطف.

أما غريب فخرج برجاله مع أحمد، يطوفون المدينة حتى وصلوا إلى قلعة الجبل، فقال أحمد: «هذه قلعة الجبل، فيها ديوان الحكومة، وفي هذه القلعة قتل المماليك كما أخبرتك.»

figure
وكانت تقول ذلك وهي تجهش بالبكاء، فازداد قلب غريب رقة وحنوًّا، فأنهضها وأجلسها قائلًا: لا تخافي يا خالتي!

فلما وصلوا إلى بابها اعترضهم حارس عليه لباس غريب، لم يرَ غريب مثله، وهو تنورة بيضاء كثيرة الزم والتجعد لا تتجاوز الركبتين، عليها منطقة من الحرير الملون قليلة الشد، وفوق ذلك الجمدان الجوخ المزرر، وعلى رأسه طربوش طويل مثني إلى الوراء، تتدلى منه طرة طويلة، وفي منطقته زوج غدارات، وطبنجة وخنجر، وقد تقلد سيفًا محنيًّا. وكان طويل النجاد مستوي القامة كبير الشارب حاد العينين، تظهر عليه ملامح الشجاعة والنشاط، فخاطبه أحمد يستأذنه في الدخول فأذن لهم. فلما دخلوا سأل غريب عن ذلك الرجل، فقال أحمد: «هذا من جماعة الأرناءوط، وهم جنود من جهات ألبانيا في الروملي، وكان منهم تحت قيادة محمد علي باشا في بدء تدخله في حكومة مصر أربعة آلاف، وكانوا له عونًا في كثير من أعماله.»

وكان دخول غريب، ومن معه، من باب العزب المشرف على الميدان. ويؤدي إلى هذا الباب مرتفع أشبه بتل منبسط، فقال أحمد لغريب: «قبل الدخول انظر يا سيدي، إن لهذا التل وهذا الباب حكاية سأتلوها عليك.» فلما دخلوا من الباب، دلفوا منه إلى مضيق صخري، والقلعة قائمة على سفح الجبل، وقد نُحِتَ كثير من جدرانها من صخر الجبل عينه. ويؤدي ذلك المضيق إلى أبنية القلعة، وهي تشبه بلدًا صغيرًا لسعتها، فلما صعدوا إلى أعلى ذلك المضيق قال أحمد: «هذا هو المكان الذي ذبح فيه الأمراء المماليك، وكانوا أكثر من أربعمائة، أتوا بالملابس الرسمية مدعوين لتناول القهوة في سراي القلعة؛ احتفالًا بخروج طوسون باشا ابن محمد علي باشا لمقاتلة الوهابيين في شبه جزيرة العرب، بإشارة من مولانا السلطان. فتناولوا القهوة في القاعة التي ستشاهدونها في صدر القلعة حيث مجلس العزيز، وقد وقف الرجال صفوفًا للخروج في الموكب، وكان العزيز قد تواطأ مع قواده على إهلاكهم. فلما اقترب الموكب من هذا الباب حوصر المماليك في هذا المضيق يحيط بهم الأرناءوط من ناحية والمغاربة من ناحية أخرى، ثم أقفلت أبواب القلعة بغتة وقتل هؤلاء المماليك عن آخرهم، ولم ينجُ منهم إلا أمير عاقه شأن من شئون بيته فجاء إلى الاحتفال متأخرًا، فلما وصل إلى الباب، وكان الموكب آتيًا للخروج آثر التريث حتى يخرج الموكب فيسير في أثره، فوقف بجواده خارج هذا الباب فوق ذلك التل المنبسط، ولم يمضِ إلا القليل حتى سمع إطلاق البارود، ورأى الأبواب قد أقفلت، فعلم أنها مكيدة، فهمز جواده طالبًا الصحراء فرارًا من الموت، ولم نعد نسمع عنه شيئًا.»

كل هذا الحديث وغريب ومن معه سكوت، يصغون إلى أحمد، ثم راحوا يتجولون في القلعة، وهم يتحادثون في حكاية المماليك ومذبحتهم، حتى أتموا مشاهدة ما فيها من المشاهد، كدار الضرب (الضربخانة)، ومخازن الأسلحة والبئر المسماة بئر يوسف نسبة إلى السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي باني تلك القلعة، ثم سار بهم أحمد إلى مرتفع، فأشرفوا على القاهرة، وإذا هي متسعة كثيرة المباني تحيط بها البساتين المغروسة بالنخل، ويتخلل منازلها الحدائق، ولكنهم لم يروا في جوها الصفاء المعهود في جو سوريا، لما يتخلل هواء القاهرة من الغبار المتصاعد من الطرق. وشاهدوا وراء كل ذلك نهر النيل المبارك، وقد تكسرت على سطحه أشعة الشمس فأكسبته رونقًا بديعًا، وقد دهشوا بوجه خاص لكثرة المآذن التي تعد بالمئات.

ثم نزلوا من القلعة، وقد مالت الشمس نحو المغيب، فاستحضر لهم أحمد حميرًا ليركبوها قائلًا: «إن ركوب الحمير هنا رياضة لطيفة لسرعة جريها وإراحة راكبيها.» فركبوا عائدين حتى بلغوا مصر القديمة فنزلوا في المعدية إلى جزيرة الروضة، فلما وصلوا إلى القصر أسرع غريب مستفسرًا عن مجيء الأمير، فقيل له إنه جاء، فدخل عليه وقبَّل يديه، فسأله عما رآه فقص عليه القصة، وطلب إليه أن ينقذ تلك المسكينة، فقال له: «ما لنا ولها يا بني، إننا في بلاد غريبة.» فألح عليه واستحلفه، فاستدعى أحمد فحكى القصة فأمره أن يذكِّره بها في الغد. أما غريب فسار بعد العشاء إلى حجرته، وكتب إلى والدته عما شاهده من أول الأمر إلى آخره.

صعيد مصر

وفي صباح اليوم التالي، جلس الأمير لتناول القهوة مقطب الوجه، وولداه وغريب بجانبه، فاستولى السكوت على من حضر، ولم يجسر واحد منهم أن يسأله عن سبب ذلك، ولا عن موضوع المرأة ونجاتها من مخالب ذلك الشرير. وبينما هم على هذه الحال، إذ جاء أحد حراس القصر ينبئه أن حنا البحري بالباب، فنهض الأمير لاستقباله مرحبًا به وأجلسه بالقرب منه، وبعد أن تبادلا التحيات أبلغه البحري أن العزيز بعث إلى نائبه بالقاهرة يأمره بإرسال سيادتكم إلى بني سويف في الصعيد حيث تمكثون في طمأنينة ريثما يعود أفندينا من الإسكندرية فتنالون بغيتكم، ثم أفهمه أن العزيز أمر له بعشرة آلاف قرش شهريًّا والتموين الكافي.

فَسُرَّ الأمير وأمر بالتأهب للرحيل وأحضرت معدات السفر من «ذهبيات» وقوارب لنقل الرجال والأمتعة والزاد فركبوا النيل، ومعهم الخبراء والبحارة، فكانوا يقلعون نهارًا، ويرسون ليلًا عند الشاطئ، ومعهم كل ما يحتاجون إليه من معدات الطعام والنوم.

أما غريب، فلم يكن همه إلا الاستفهام عما يشاهده على ضفاف النيل من الآثار، مرَّ بالجيزة فرأى من ورائها الأهرام العظيمة فسأل عنها، فقال له أحدهم: «إنها مبانٍ هائلة من صنع الجان.» فلم يعبأ بقوله وما زال يسأل، حتى علم أنها قبور لجثث الملوك اعتقادًا منهم أن أجسادهم المحنطة ستعود فتحيا بعد أجيال، فبنوا لها هذه الأهرام لحفظها من طوارئ الحدثان حتى يأتي زمن بعثها.

فلما كان المساء، رست بهم «الذهبيات» ونزلوا إلى البر فلاحظوا أن النيل يجري من الجنوب إلى الشمال في أرض خصبة، يحدها من الشرق والغرب جبلان يمتدان طولًا موازيين للنيل مسافة أيام؛ ولذلك سمي الصعيد وادي النيل. وفيما كان غريب يتأمل الفارق بين تربة أرض لبنان وتربة أرض مصر، طرق ذهنه أمر المرأة التي وعدها بإنقاذها، فأسرع إلى الأمير فرآه جالسًا أمام خيمته على ضفة النيل فذكَّره بالمرأة، فأجابه قائلًا: «إني قد أخبرت حنا البحري بالقصة، وكلفت أحمد أن يساعده في الوصول إلى نتيجة، والغالب أنها سوف تطلَّق من زوجها، وتخيَّر في السكنى حيثما تشاء، أما نحن فلا يمكننا يا ولدي أن نحملها معنا حيثما توجهنا؛ إذ ليس معنا في الحريم سواها، وأنت تعرف عادات هذه البلاد وتحجب أهلها.» فقبَّل غريب يد الأمير، وأثنى عليه.

قضوا طوال الليل ثم نهضوا في الصباح وعادوا إلى سفنهم، وأقلعوا إلى المساء، وكانت الريح هادئة ومسيرهم معاكسًا لمجرى النيل، فكانت مراكبهم تسير ببطء. وفي المساء يبيتون على الشاطئ الغربي غالبًا؛ لأنه أكثر عمرانًا وخصبًا.

وما زالوا على ذلك حتى وصلوا إلى مدينة بني سويف، فتلقاهم كاشفها بالترحاب، وأنزلهم في دار معدة لهم في الفشن على ضفة النيل، ولكنه ارتعد عند مشاهدة الأمير بشيرًا لما كان يبدو في وجهه من الهيبة.

ضياع «غريب»

وكان الأمير قد جاء من بر الشام بعدد من الخيل الأصيلة، قدَّم منها خمسة للعزيز، وبقي معه بعضها لركوبه وركوب أولاده وبعض خاصته. ففي ذات يوم بعد نزوله بالفشن، اشتاقت نفسه للفروسية فبعث يسأل الكاشف عن ميدان للعب الخيل، فأخبره أن في البر الشرقي وراء ذلك الجبل سهلًا رمليًّا يصلح لذلك، فبعث الخيول باكرًا تقطع النيل ثم قطعه هو وأولاده، وما زالوا ومعهم الأتباع والخدم والكاشف حتى وصلوا إلى ذلك السهل، فضربوا الخيام واستحضروا ما يحتاجون إليه من طعام وشراب لذلك اليوم.

وكان وصولهم إلى ذلك المكان بعد شروق الشمس بقليل، فتركوا الرجال ينصبون الخيام ويعدون المعدات، وسار الخيالة يجولون ويلعبون بخيولهم، وكان غريب في جملتهم لأنه تعلم الفروسية وهو في سن السادسة، وكان إذا ركب جواده ظننته والسرج قطعة واحدة. وتعلَّم رمي الجريد، ولعب السيف والترس، فجعل يركض جواده، وقد سدل الكوفية على رأسه اتقاءً للحر فذهل الجميع، ولا سيما الكاشف ورجاله، وامتدحوا شجاعته وفروسيته على مسمع منه، فزاد همةً ونشاطًا، وكان يركب جوادًا من خيل أبيه فتعب الجواد ولم يتعب هو، ثم ترجَّل ودنا الكاشف منه يمدحه بما هو أهل له، وتقدم الأمير وقبله. ثم التفت غريب فرأى جواد الكاشف واقفًا، فسأله أن يأذن له في ركوبه ليجربه فلم يسعه إلا الإجابة، ولكنه قال له: «احذر منه لأنه جموح إذا ركب رأسه لم يُثنه شيء!» فضحك غريب معجبًا، وقد ثار في رأسه إقدام الشباب، واعتلى صهوة ذلك الجواد الأشهب، وكان جميع الخيالة قد نزلوا عن خيولهم لأنها تعبت وأخذوا ينظرون إلى ذلك الفارس الصغير ويعجبون له.

أما غريب فما إن اعتلى الجواد حتى شعر أنه جموح، ولكنه أبى إلا أن يُركضه فلكزه لكزة قوية، فعدا الجواد صوب الصحراء، وسار ملء عنانه فظن الواقفون أن ذلك كان بإرادة غريب، وأنه لا يلبث أن يرجع به، ولكنهم انتظروا فلم يعد، وأوغل في الصحراء متواريًا عن الأبصار، فصاح الأمير بشير برجاله قائلًا: «لقد ضاع الغلام فهلموا إليه!» فركب جماعة منهم، واقتفوا أثره، والأمير ينتظرهم على أحر من جمر الغضا.

وكانوا قد أعدوا الطعام ودعوا إليه، فجلسوا وأبصارهم شاخصة إلى الأفق لعلهم يرون الخيالة راجعين، فمضت ساعة وساعتان، ولم يظهر أحد. فالتفت الأمير إلى الكاشف، وكان تركي الأصل، فإذا هو أصفر اللون مضطرب، لا يستطيع أن يتفوه ببنت شفة، فقال له الأمير: «ما رأيك في هذا الغلام؟» فقال له: «الله أعلم يا سيدي، إن جوادي هذا لم أشتره إلا منذ بضعة أيام من أحد العربان ولم أختبره بعد، وإنما قال لي صاحبه إنه جموح صعب المراس.» فقال له الأمير: «هل تعرف العربان الذين ابتعته منهم؟» قال: «لا أعرف أسماءهم، وإنما أعلم أنهم من عرب بني واصل القاطنين في هذه الصحراء.» فوقف الأمير على قدميه صارخًا: «لا بد أن الجواد قصد تلك القبيلة، فهل عندك أحد ممن يعرف الطريق إليها؟» قال: «نعم وإنما الطريق صعب خطر.» قال: «لا تكلمني بمثل هذا الكلام، فإننا لا نعرف الخطر ولا الخوف، فأحضر لي بعض الخبيرين الذين يعرفون الطريق، وأنا أسير بنفسي للتفتيش عن هذا الفتى الضائع.» فنهض ابناه خليل وأمين وغيرهما من رجاله قائلين: «لا، لا يا سيادة الأمير، فإننا نحن سوف نذهب.»

فركبوا ومنعوا ابني الأمير من الركوب معهم، فلم يقبل الأمير أمين لأنه كان يحب غريبًا محبة عظيمة، وقد وخزه ضميره لأنه هو الذي سعى في استحضاره إلى مصر فاحتدمت في رأسه النخوة، وآلى على نفسه ألا يرجع إلا بعد أن يجد غريبًا، ويعود به سالمًا.

التفتيش عن «غريب»

انقسم الخيالة قسمين: قسم سار شمالًا وقسم سار جنوبًا، وكان الأمير أمين مع الفريق الأخير، وكان مع كلٍّ من القسمين خبير عارف بالطريق، واتفق الخبيران على أن يلتقي الفريقان عند الغروب في مكان متوسط بين الجهتين يعرفانه، للاطلاع على نتيجة البحث، والمشورة فيما يفعلونه.

ولما جاء الغروب ولم يعد أحد منهم، زاد قلق الأمير على ابنه أمين وباقي رجاله، فالتفت إلى الكاشف فإذا هو غارق في بحر من الهواجس، فسأله عن أمره فقال: «يا سيدي قد أخطأ الأمير أمين بسيره بهذا العدد القليل من الرجال؛ لأن البدو القاطنين بهذه الصحراء قوم غزاة، والحكومة لم تستطع إخضاعهم حتى الآن، وفيهم قطَّاع الطرق واللصوص، حتى إنهم كثيرًا ما يهاجمون هذه البلاد وينهبونها، ومع سهر أفندينا العزيز الذي أمَّن البلاد وأهلك المماليك، فإن هؤلاء العرب لا يزالون من الخونة العاصين، وقد اعتاد المماليك قبل هلاكهم أن يلتجئوا إليهم في حال فرارهم من وجه الحكومة.»

وكان الكاشف يتكلم، وَعَيْنَا الأمير بشير تتقدان حتى أصبح منظره كالأسد الكاسر، ثم التفت إلى الكاشف قائلًا: «إذا كانت الحال كذلك فلا بد لي من الركوب لأتبع أثر هؤلاء لعلهم يكونون في شدة، على أني أعلم يقينًا أنهم أشداء لا خوف عليهم، فإن بينهم عددًا من بني الدحداح، وفيهم خيالة مشهورون، ولكن يجب أن أتبع أثرهم إذا غربت الشمس ولم يعودوا، أو لم يحضر من يخبرني عنهم.»

وأحب الكاشف أن يثني عزمه، فأصرَّ وأمر أن يسرج له الجواد، وفيما هم على هذه الحال نظروا فرأوا في عرض الأفق غبارًا ظهر من تحته خيالة فاستبشروا، فلما اقتربوا منهم رأوهم قليلي العدد، وليس فيهم الأمير أمين فقالوا له: «يا مولانا، إن الأمير أمينًا لم يشأ المجيء معنا، وقد آلى على نفسه ألا يرجع ما لم يقف على خبر الأمير غريب، وقد حملنا هذا الكتاب إلى سيادتك.» فتناوله وفضَّه فإذا هو يقول فيه:

سيدي وملاذي

أقبِّل يديك … وبعدُ، فلم أتأخر عن المجيء إليك مع من رجعوا إلا لأننا لم نظفر بغريب، وأنا أشعر بأني السبب في مجيئه إلى مصر؛ ولذلك آليت على نفسي ألا أرجع إلا بعد أن أجده، فألتمس منك المعذرة، ولا تظن أني خالفت أوامرك، فإني لا أستطيع العودة إليكم بدون أخي غريب، وقد أبقيت معي عشرين فارسًا من رجالنا تطييبًا لخاطرك، والسلام.

ولدك المطيع: أمين

فالتفت الأمير إلى حامل الكتاب، وقال له: «أين تركتم أمينًا؟» فقال: «يا سيدي إننا بعد أن تركناكم انقسمنا قسمين: قسم سار شمالًا وقسم سار جنوبًا، واتفقنا على أن نلتقيَ عند الغروب في مكان متوسط فيه ماء لنعلم نتيجة سعينا، فسرنا نحن نحو الشمال وبحثنا طويلًا، فلم نقف لغريب على أثر، فعرجنا نحو الملتقى، فالتقينا بالأمير أمين ورجاله، فسألناهم عما كان من أمرهم فقالوا إنهم لم يروا أحدًا، وإنما مرادهم أن يقصدوا قبيلة بني واصل في هذا المساء، وهي بالقرب من مكانهم، إذ ربما كان الجواد قد قصد تلك الجهة لأن هذه عادة خيول العرب. فقال لنا الأمير أمين: «الأصوب أن تسيروا وتخبروا والدي وتطيبوا خاطره.» ودفع إلينا بهذا الكتاب، فأتينا به إلى سيادتكم امتثالًا لما أمر.»

اضطرب خاطر الأمير بشير عند سماع ذلك وأطرق هنيهة، ثم قال: «خير لنا أن نتكل على المولى القدير، وهو قادر أن يرد ضائعنا ويحفظنا.» فسأله الكاشف إذا كان يريد العودة إلى البلدة للمبيت تلك الليلة، فقال الأمير: «كيف نبيت نحن في القصور، وأولادي في الصحراء يتعرضون للخطر الشديد، لعلنا نرى في منتصف الليل أن نسير لنجدتهم، فلنبقَ هنا لنرى ما يكون من الأمر.»

وبعد تناول العشاء، اجتمع الأمير بشير وولده خليل في خيمة، فشعرا بأن الدنيا كلها ظلام لتغيب الأميرين أمين وغريب، وعدم الاطمئنان على سلامتهما، فجلسا يتحدثان في ذلك الشأن.

الأمير «أمين»

أما ما كان من أمر الأمير أمين، فإنه بعد أن استراح هو ورجاله عند ذلك الماء، وكان الليل قد أظلم، تشاور مع رجاله في الأمر فإذا هم متشجعون جميعًا إلا الخبير، فإنه تغيرت أحواله ووقع في خوف عظيم، وتقدم إلى الأمير أمين قائلًا: «ليعش رأس الأمير، إننا الآن معرضون للخطر، وقلما جاء جماعة إلى هذا المكان ونجوا؛ لأن عرب هذه الجهات فرع من عرب العبابدة المشهورين، وهذه القبيلة التي هي أقرب إلينا تُعرف بقبيلة بني واصل، وهي على جانب عظيم من البأس. وسيادتك تعلم أن هؤلاء البدو لا يؤدون عملًا، وهم يعيشون بالنهب والسلب، ينامون نهارًا، ويسرحون ليلًا، وإني أضن بك أن تُلقي بنفسك في هذا الخطر العظيم.» فالتفت إليه الأمير أمين قائلًا: «إني عالم بكل الأخطار، ولست أجهل شيئًا منها، وإن كنت تراني شابًّا فقد خبرت الناس، واختلطت بأمثال هؤلاء كثيرًا في جهات الشام، وإنما أطلب إليك أن تتشجع وتصدقني الخدمة.» ثم التفت إلى رجاله وقال لهم: «وكيف أنتم؟» فقالوا: «نحن عبيدك، وأرواحنا رهن أمرك، ومستعدون جميعًا أن نذهب فداء الأمير غريب.» فشكرهم ثم رتَّب مسيرهم، وأخبرهم بأنه يجب أن يحافظوا على مراكزهم بقرب بعضهم البعض.

ثم ركبوا خيلهم وساروا في ظلام الليل قاصدين قبيلة بني واصل، وقد شهروا سلاحهم للدفاع، وجعلوا في مقدمتهم رجلًا يحمل مشعلًا متقدًا استئناسًا بالنور وإيهامًا لمن يراهم بأنهم من أهل ذلك البر، فساروا خببًا في ذلك الليل، وهم لا يشاهدون حولهم إلا أفقًا مظلمًا، لا يتخلله شيء من العمارة.

وبعد مسير نحو ساعتين، ظهر لهم شبح كأنه فارس سائر على مقربة منهم نحو اليمين، فأمر الأمير أحد رجاله أن يقتفي أثره ويسأله عن أمره، فسار وعاد من فوره يقود جوادًا ليس عليه إلا السرج، فلما رآه الخبير صاح بأعلى صوته: «هذا هو جواد الكاشف، فأين الغلام؟» فوقف الجميع وتقدم الأمير أمين إلى الجواد وتأمله فتحقق من قول الخبير، فقال رجل منهم: «الأرجح أن الغلام سقط عن ظهر الجواد.» فقال الأمير أمين: «إن غريبًا لا يقع عن ظهر الجواد، فقد عرفته فارسًا منذ كان أصغر من ذلك في أرض أكثر وعورة. فما رأيكم؟»

وهنا تقدم منهم من هو أكثر خبرة من الجميع، وقال له: «يا سيدي الأمير، ورأس أبي سعدى «يقصد الأمير بشيرًا» إن الغلام لم يسقط عن ظهر الجواد رغم إرادته، فإني أعرف دليل ثبوته، إذ يؤيد ذلك أن السرج لا يزال كما هو، والركاب لم يتزحزح من مكانه، فلو فرضنا سقوطه رغم إرادته، لما أمكنه إخراج رجله من الركاب، بل لبقي معلقًا يجره الجواد لأن هذا النوع من الركاب يمسك الحذاء، والحقيقة لا يعلمها إلا الله. وأما مسيرنا إلى قبيلة بني واصل فلم يعد له لزوم إذ قد تحققنا أن الجواد لم يصل إلى هناك بعد؛ وبالتالي فإن غريبًا لم يصل، والأصوب على ما أرى أن نعود من طريق غير الذي جئنا فيه، ونتفرس في أركان هذا الفضاء، ونسير سيرًا بطيئًا، وليتأمل كل منا طريقه، والأفضل أن نكثر من المشاعل، ونجعل بين كل اثنين منا مشعلًا لكيلا يضل بعضنا عن بعض، ونواصل السير هكذا حتى نصل إلى محل الميدان.» فاستحسن الجميع هذا الرأي وساروا جميعًا على هذا الترتيب، ولم يسمع وقع أقدام خيولهم لأن الأرض رملية هناك، وكل منهم ينظر أمامه يتأمل ما على الأرض لعله يرى شبحًا أو أثرًا يستدل منه على شيء، والركب صامتون، والطبيعة هادئة.

وبعد مسير ثلاث ساعات أجفلت خيولهم بغتة، وأخذت تصهل كأنها شاهدت أمرًا مخيفًا، فصاح الأمير أمين: «قفوا» فوقفوا إلا جوادًا لم يهدأ مطلقًا، وقد صاح راكبه: «إني أشاهد جثة ملقاة على الأرض.» فلما سمع الرجال ذلك اتجهوا جميعًا نحوه، فإذا هم بجثة مضرجة بالدماء، وقد سمعوا منها أنينًا خافتًا، فخفقت قلوبهم ووجهوا المشاعل نحوها، وتقدم الأمير أمين وتأملها، فإذا هي جثة رجل أسمر اللون متوسط العمر عليه ثياب العربان، فخاطبه فلم يجبه ففحصوا جراحه، فإذا هو مضروب بسيف على عنقه، وقد كسرت الضربة العظم، فقال الخبير: «هذا الرجل من قبيلة بني واصل، وأنا أذكر أنه من قطَّاع الطرق، فما لنا وله، لنسر في طريقنا.» فتنهَّد الأمير أمين، وقال: «لا أستطيع أن أتركه ملقًى على هذه الحال فإنه يمثل لي منظرًا لا أرانيه الله. أما الآن وقد مات الرجل فلنحفر له حفرة نواريه فيها فذلك خير من أن تأكله الوحوش.» وأمر بعضًا من رجاله بحفر حفرة.

وفي أثناء ذلك وقف الأمير أمين، يتأمل هذا الميت، ويتوسل إلى الله أن يقي أخاه من مثل ذلك وقد كاد قلبه ينفطر. وبعد قليل، تم حفر الحفرة وجاءوا ليحملوا الجثة، فحالما قلبوها شاهدوا في حجر الميت شيئًا غير ثيابه فاستقدموا المشاعل، وتفرسوا في ذلك الشيء، فإذا هو كوفية من الحرير وعليها العقال، وفي الحال صاح الأمير أمين قائلًا: «هذه كوفية غريب، تعالوا فتشوا هذا الميت لعلنا نقف منه على شيء.» فجاء أحدهم وفتش الجثة فوجد عقدًا من الذهب، فأعطاه للأمير، فقال: «وهذا لغريب أيضًا.» ولما لم يروا شيئًا غير ذلك واروا الجثة، ومكثوا يفكرون في هذا الحادث، وقد ارتاعوا لذلك المنظر.

أما الأمير أمين، فإنه اشتمَّ رائحة أخيه من ذلك العقال وذلك العقد، فاضطرم فؤاده، وحسب ألف حساب، فبعث رجاله يفتشون ذلك الجوار.

غريب

ووقف الأمير أمين منفطر القلب، وقد خيِّل له أنه سيرى أخاه مضرجًا بدمائه مثل ذلك الأعرابي، فبهت مفكِّرًا في ذلك الليل الدامس، وتصوَّر والدة غريب وما يلم بها لو ظهر أن الغلام قد أصيب بسوء، فكانت عواطفه تتلاعب به تلاعب الريح باللهب، فيبدو مختلف المشاعر، كأنك تصب عليه ماءً ساخنًا تارة، وماءً باردًا تارة أخرى، ثم تذكر أنه كان السبب في مجيء غريب إلى تلك الأرض، فهب من ساعته مرتعدًا وقد اتقدت في قلبه الحمية والشهامة. ثم آنس عن بُعد ضوءًا خفيفًا فركب جواده وسار بغير مشعل قاصدًا ذلك النور، وقد عزم أن يقوم بالبحث بنفسه، ولم يعد يخشى بأسًا ولا يقدِّر عاقبة.

وبعد مسيرة برهة، تمثَّل له عن بُعد شبح فارس واقف، وسمع صوتًا يناديه: «ارجع من عندك يا كلب العرب، وإلا أفقدناك الحياة!» فصاح الأمير أمين: «من أنتم يا قوم؟ إننا لسنا من العرب، تمهلوا لنتقابل، فإن لي عندكم مسألة.»

فقاطعه ذلك الصوت قائلًا: «تكلم من عندك ولا تقترب منا.»

فقال الأمير: «نحن عدة رجال، ولسنا من أهل هذه الأرض، وإنما ضاع لنا ضائع، ونحن ساعون في التفتيش عنه.»

ولم يتم كلامه حتى سمع صوت رجاله وراءه مغيرين على خيولهم نحو مكانه، فأوقفهم ليتم حديثه مع ذلك الفارس، فإذا هو قد تقدم إليه، وكانت المشاعل قد اقتربت فتفرس الأمير في ذلك الفارس فرآه ملثمًا بكوفية بيضاء، وقد التفَّ ببرنس أبيض، وراكبًا جوادًا أزرق، فلما اقترب من الأمير أمين قال: «مرحبًا بكم، لقد ظفرتم بضالتكم.»

فلما سمع الأمير أمين ذلك، خفق قلبه ونادى: «أين غريب؟» فقال ذلك الفارس: «هو عندي سليم معافًى، فكن مطمئنًا.» ثم سار بهم مسافة ميل حتى وصل إلى مبعث ذلك النور فوجد هناك مضرب خيام منصوبًا، ثم قال لهم: «لا تدخلوا جميعكم معًا.» فقال الأمير أمين: «أنا الذي أدخل لأن الضائع أخي.» فأدخله إلى خيمة فيها مضجع، وبجانبه رجل جالس، فتقدم الأمير أمين سائلًا بلهفة: «أين غريب؟» فقال له الفارس: «هذا هو نائم هنا.» فتقدم منه وتأمل وجهه، فإذا هو معصوب الرأس مغمض العينين، فأمسك الفارس بأمين قائلًا: «لا توقظه فإنه محتاج إلى الراحة.» فقال: «ما باله معصوب الرأس؟» قال: «إنه مصاب بجرح خفيف، وقد ضمدناه وهو معافًى بإذن الله.» فسكن روعه وجلس يستفهم من ذلك الفارس عما حدث.

فقال له: «هلم بنا إلى الخارج لأقص عليك الأمر»، فخرجا.

فقال الفارس: «خرجت في أصيل هذا اليوم للصيد والقنص، وفيما أنا عائد إلى هذا المكان، سمعت مناديًا يستجير، فتقدمت جهة الصوت فرأيت هذا الغلام بين يدي أربعة من العربان، وقد ضربه أحدهم بعصًا على رأسه، وحاول أن يُجهز عليه، فصحت صيحة قوية وضربته بالسيف على عنقه فسقط على الأرض، وفر رفقاؤه، وكان بجانبه جواد فرَّ منه، فتقدمت إلى هذا الغلام وقد أغمي عليه من الألم فحملته على جوادي، وجئت به إلى خيمتي فغسلت جراحه وضمدتها وأعطيته قليلًا من اللبن فشرب وهو بين اليقظة والغيبوبة، وفرشت له وسادة لينام. وبعد أن أخذته سِنة من النوم تركته، وكان قد مضى هزيع من الليل، ثم تركت الخيمة وأوصيت خادمي أن يعتني به، وخرجت أراقب حركات اللصوص؛ حذرًا من أن يأتوا إلينا بعدتهم ورجالهم، ولم يمضِ قليل حتى أتيتم، ورأيتمونا على هذه الحال.»

وكان الأمير في أثناء تلك القصة يراقب حركات ذلك الرجل، ويحاول أن يعرفه، ولكنه لم يستطع ذلك لأنه كان ملثمًا، فلم يقدر أن يرى إلا عينيه، وإنما استدل من صوته على أنه ليس بدويًّا، وأن لسانه قريب من اللسان المصري.

فلما أتم كلامه تقدم إليه الأمير أمين وعانقه، وهتف قائلًا: «لقد غمرتنا بلطفك وإحسانك، وأوليتنا جميلًا لا ننساه مدى العمر فالله يجازيك عنا خير جزاء، وإني لأتجاسر عليك بسؤالي لعلي أحصل منك على جواب.» قال: «سل ما بدا لك.» فقال الأمير: «هل لك أن تعرفني باسمك، وسبب مجيئك إلى هذا المكان؛ إذ يظهر لي أنك لست من سكان البادية؟»

فتنهَّد الرجل وقال: «ليس هذا وقت الإجابة على سؤالك، فدعنا الآن، وتعالَ أنت ورجالك للاستراحة هنيهة؛ إذ يظهر أنكم أجهدتم أنفسكم في التفتيش عن ضالتكم.» قال: «نعم، إننا لم نزل نتجول في الصحراء منذ ظهر اليوم حتى وصلنا إليكم.» فقال الرجل: «هلم إذن إلى الطعام والاستراحة.»

فنهض الأمير، ولكنه لم يستطع المرور بخيمة غريب دون أن يدخل إليها، ويستطلع أحواله فرآه لا يزال راقدًا كأنه ملاك، وقد كلل العرق جبينه، وبجانبه الخادم يطرد عنه الذباب، فأراد أن يقبِّله فمنعه الرجل خوفًا من أن يوقظه. ثم نادى الأمير بعضًا من رجاله وأمرهم أن يعجلوا بالسير لتبشير والده الأمير بأن غريبًا معهم، فبعث معهم ذلك الرجل بعض الخدم ليدلوهم على الطريق، فساروا بعد أن أوصاهم الأمير أمين أن يخبروا أباه أنه وجد غريبًا، وأنه سيكون عنده غدًا إن شاء الله، فساروا طالبين ساحة الميدان.

ضيافة بدوية

عاد الأمير أمين، فجلس ومن معه من الرجال إلى المائدة، أما صاحب الضيافة فلم يجلس معهم، ولكنه وقف يخدم ضيوفه، مع أن الخدم كانوا عنده كثيرين، وتلك عادة العرب في ولائمهم.

أما المائدة فكانت طبقًا كبيرًا من النحاس عليه ذبيحة من الضأن وكومة من الأرز فوقها السمن الكثير. وكان الأمير أمين ورجاله يعرفون عادات البدو، فتناول الأمير قطعة من رأس الذبيحة، وأعطاها لصاحب الضيافة فعرف الرجل أن ضيفه ممن خالط البدو وعاشرهم. وكان جلوسهم جثوًا على ركبة واحدة، يتناولون الطعام بأصابعهم من الأرز واللحم، ويجعلون اللقمة على شكل الكرة، ثم يدفعونها بالإبهام إلى أفواههم.

ولما انتهى الطعام شرعوا في عمل القهوة المشهورة عند البدو، فعمدوا إلى أجران من الخشب، وجعلوا يدقون البن فيها بمدقات يسمع لها صوت ألذ إلى سمعهم من نغم الموسيقى، فإن لهم دقًّا في البن المحمص بالأجران المصنوعة من خشب البطم، يؤدونه بأسلوب يطرب الأسماع ويشنف الآذان، وبعد دق كمية منه، غلاها الخدم على النار، ثم جاءوا بها إلى صاحب البيت، فسكب منها في الفنجان الأول لنفسه، ثم سكب لضيوفه مبتدئًا بالأمير أمين، حتى انتهى إلى أقل رجاله. وكان الأمير أمين ورجاله قد تعودوا شرب قهوة البدو المتقنة، بما يجعلونه فيها من الأفاويه كالبهار وزهر القرنفل وحَبِّ الهان وغيرها، فانشرح صدر الأمير كثيرًا، ولا سيما بعد أن سكن روعه بلقاء غريب.

وبعد تناول القهوة، رغبوا في النوم، فساروا إلى أماكن أُعدَّت لهم، فلم يرضَ الأمير أمين أن ينام إلا في غرفة غريب، وقد تأملها هذه المرة جيدًا فإذا هي مصنوعة من الشَّعَر الأسود كسائر خيام البدو، ولكنه لم يرها مقسومة قسمين كما جرت عادتهم بأن يجعلوا الخيمة قسمين: قسمًا للنساء وقسمًا للرجال، فظن أن تلك الخيمة جُعلت كذلك عمدًا، فاضطجع. وفي الضحى استيقظ غريب ففتح عينيه فرأى أخاه أمينًا عند رأسه، فكاد يذهل، فقبَّله أمين وابتدره بالكلام مطيبًا خاطره، فقال: «أين أولئك اللصوص أولاد الحرام؟» فقال: «قد ذهبوا وليس منهم أحد هنا، فكن مطمئن البال ولا تجزع، فأنت بين يدي وأنا أخوك أمين.» قال: «أمين، أمين، أين والدي؟ وأين ذلك الجواد؟ أين والدتي؟»

وأخذ أمين يسكِّن روعه، ويخفف عنه حتى صحا تمامًا، فقال: «نشكر الله على ما جرى.» فسأله أمين عن حقيقة الأمر، فقال غريب: «بعد أن ركبت ذلك الجواد جمح بي في عرض البيداء، فلم أعد أستطيع كبح جماحه، ولكنه لم يقدر أن يرميني، فظل يعدو بي أكثر من ساعتين، يسير تارة يمينًا وطورًا شمالًا، وبينما أنا في ذلك، إذ رأيت بعض الناس عن بُعد، فجعلت أناديهم وأستغيث بهم، فجاءوا إليَّ وهولوا على الجواد فوقف، فأمسكوه وأنزلوني عنه، ثم تقدم إلي واحد منهم وأخذ يفتشني، ويطلب إليَّ أن أعطيه ما معي فرفضت، وقاومته لأني لم أرهم أفضل من الخدم، بل هم أقل بكثير من خدم أبي، فلم أشعر إلا وقد أُصبت بضربة على رأسي كما ترى فسقطت، ولم أعد أعرف ماذا جرى إلا أني أرى نفسي الآن في هذه الخيمة، وكأني شربت لبنًا، وها أنا ذا أراك بجانبي.»

تقدَّم إليه أمين وقبَّله وحدَّثه بقصته من أولها إلى آخرها، وقال في ختام كلامه: «إن الفضل الأكبر في نجاتك، إنما هو لهذا الشهم الغيور (وأشار إلى صاحب الخيمة) فنسأل الله أن يمكننا من مكافأته.» فقال غريب: «كيف؟ لو تعلم والدتي بذلك لكانت تحبه وتكرمه.» وبعد أن أتما حديثهما تقدم ذلك الرجل، وقال للأمير أمين: «هل لسيدي أن يخبرني عن حقيقة أمره، وأمر هذا الفتى!» فقال: «نعم، إننا أولاد الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وقد جئنا إلى القطر المصري منذ مدة قصيرة، ونزلنا بأمر العزيز في بلدة، يقال لها الفشن وراء بني سويف، ريثما يأتي جنابه من الإسكندرية لمقابلة والدي، وأمس خرجنا إلى البر المقابل للبلدة لركوب الخيل، فجمح جواد أخي هذا وتاه في عرض الصحراء، وجرى له ما سمعت، ولا شك أن والدي عندما يسمع حديثنا يود أن يراك، فهل ترافقنا إليه؟»

فسكت برهة، ثم قال: «ذلك لا يمكنني لأسباب كثيرة، لا يسعني أن أخبركم عنها الآن.» ثم سكت ثانية، وعاد فاستأنف الحديث قائلًا: «لعل الأصوب أن تمكثوا عندنا بضعة أيام، ريثما يبرأ جرح الأمير غريب، ثم تسيرون في حراسة الله.»

فقال الأمير أمين: «ذلك لا يمكننا لأن والدنا الآن في انتظارنا.»

قال البدوي: «نرسل إليه من يخبره بذلك، وإذا شاء المجيء بعثنا إليه من يرافقه إلينا.»

فقال الأمير: «لا أظنه يجيء، ولا بد لنا من الذهاب في آخر هذا النهار؛ إذ تكون الشمس قد مالت إلى الغروب، ولم تعد تضر بنا، فإذا شئت أن ترافقنا زدتنا فضلًا، وإلا فأخبرنا عن اسمك لنُطلع والدي عليه.»

قال البدوي: «حبذا ذلك، ولكن إن جمعني الزمن بوالدكم فربما أخبره عن اسمي، أما المكافأة فأنا لم أنتظرها لأني لم أفعل ما فعلت إلا مندفعًا من نفسي، دون أن أعلم إلى أي عائلة ينتمي هذا الغلام.»

ثم خرجا من الخيمة، فتأمل الأمير أمين تلك المحلة فإذا هي مؤلفة من عدة خيام، يحيط بها سهل رملي لا يدرك الطرَف آخره، فازداد تعجبًا من أمر ذاك الرجل، وما هو عليه من التستر، وأزمع أن يخبر والده عنه.

الأمير والكاشف

أما الأمير بشير، فقد تركناه في خيمته يتحادث هو وابنه الأمير خليل في أمر غريب وأمين، ولم يتمكنا من النوم طوال تلك الليلة من كثرة الهواجس، وبينما كان الأمير بشير يفكر في ذلك الجواد، لاح له أنه ربما كان الأمر مكيدة نصبت لبعضهم فأصابت الغلام، فلما طلع الفجر بعث إلى الكاشف فجاءه فقال: «هل تلقيت خبرًا من أحد؟» قال: «لا.»

فقال الأمير: «أريد منك أن تقبض على الذين باعوا لك ذلك الجواد.» قال: «سمعًا وطاعة.» فبعث بعض الشرطة فجاءوا بهم إليه، وكان الأمير بشير جالسًا كأنه طود راسخ، وقد ظهرت على وجهه ملامح الغضب، فنظر إلى الكاشف وقال: «إني لا أطلب ما أفقده هنا إلا منك، وأنا لا أعرف سواك، وأنت عليك أن تستقصي حقيقة الأمر من هؤلاء العربان الذين باعوا لك الجواد.» فوقع الرعب في قلب الكاشف، واستشاط غيظًا، فأمر أن يجلد هؤلاء العربان بالسوط حتى يعترفوا بالحقيقة، فطرحوهم وجعلوا الفِلق في أرجلهم، وظلوا يجلدونهم بالسياط حتى سالت الدماء من أرجلهم، وهم لا يفوهون ببنت شفة، كأنما كان الجلادون يضربون في حديد بارد، حتى تعجَّب كل من حضر. أما الأمير فَسُرَّ بذلك، وأشار إلى الكاشف أن يحلهم ففعل، فوقف الأمير وقفة الأسد ونادى هؤلاء الرجال بصوته الجَهْوَرِي: «تقدموا إلى هنا.» وهمَّ بصفعهم، ثم حملق فيهم وقال: «أنا لا أسأل سواكم عن ولدي، فما بالكم ولهذا النكران؟ أتظنون أن أمركم لا يزال مكتومًا وقد أخبرني واحد منكم بحقيقة الأمر وعلمت أنكم لم تفعلوا ذلك باختياركم؟ أنتم غير مسئولين، أما إذا أصررتم على الكتمان فلا نحمل المسئولية أحدًا غيركم.» فصرخوا بصوت واحد: «ليعش رأس أفندينا، نحن مظلومون!» فقال الأمير: «قلت لكم إنكم مظلومون إلا إذا لم تخبرونا بحقيقة الأمر لنتأكد مما سمعناه.»

•••

فتقدم واحد منهم وترامى على قدمي الأمير وقبَّلهما، وهو يرتجف خوفًا ورعبًا، وقال: «وحياة رأس أفندينا نحن عبيد مأمورون، ولم نفعل شيئًا من تلقاء أنفسنا، ولكن أمير قبيلة بني واصل أرسلنا لنبيع هذا الفرس للكاشف بأي ثمن كان ولا نعلم غرضه.» فقال الأمير: «كفى، خذوا هؤلاء إلى مركز الشرطة.» ثم سأل الكاشف عما إذا كان بينه وبين ذلك الأمير عداوة فقال: «نعم، كنت أرسلت بعض رجالي فقبضوا على بعض لصوصه.»

فتحقق للأمير الأمر، فزاد اضطرابه، والتفت إلى ولده وقال: «يا خليل، ما العمل؟ أتسمع بتضحية أخويك ونحن جالسون هنا؟» فاهتز الأمير خليل لذلك، ونهض للحال إلى جواده، وفعل مثل ذلك الأمير بشير، وسائر مَن عنده من الرجال، فأمسكه الكاشف قائلًا: «إن الحكومة مسئولة عن هذا الأمر»، فلم يُصْغِ. وفيما هم في ذلك أبصروا غبارًا وراء الأفق، انقشع عن بضعة فرسان عرفوا في الحال أنهم من رجال الأمير، فتوجَّه الأمير لملاقاتهم وإذا هم قادمون من عند ابنه فبشروه بما كان، فاطمأن خاطره، ولكنه ظل متشوقًا لمعرفة الحقيقة.

فتريَّث إلى المساء، حتى وصل الأميران أمين وغريب، ومَن معهما من الرجال، بعد الغروب بنحو ساعتين. فاستقبلهم الأمير بشير، وقبَّل غريبًا، وذهب الجميع إلى البر الثاني، يحمدون الله على عودة ذلك الغلام سالمًا. وأخذ الأمير أمين في أثناء الطريق يحدث والده بالخبر من أوله إلى آخره.

فلما أتمَّ حديث ذلك الرجل الذي أنقذ غريبًا من الموت، قال له والده: «ولماذا لم تأتِ به معك لكي نكافئه على صنعه؟» قال: «صدقني يا سيدي، إني ألححت عليه كثيرًا وسألته المجيء غير مرة فلم يقبل، والذي يظهر لي من كلامه وحركاته أنه ليس بدويًّا، والأغلب أنه من أعيان هذه البلاد، وقد أتى أمرًا استوجب من أجله غضب عزيز مصر عليه؛ لأني لاحظت شيئًا من ذلك أثناء تمنعه عن المجيء معي إلى هنا. ومما يقوِّي عندي هذا الظن، أنه لم يرفع اللثام عن وجهه قط أثناء اجتماعي به أمس حتى ساعة وداعنا له اليوم، وقد تركته في عصر هذا النهار وأنا أفكِّر في أمره، ولا أزال أذكر جملةً قالها لي ساعة الوداع وهي: «بلغ تحياتي إلى سيادة والدكم، وأرجو أن يسعدني الحظ بمقابلته حيث لا حرج عليَّ، إني أظن أن مجيئه إلى هنا لا يخلو من المشقة عليه لبعد المسافة، وقد كان عليَّ أن أسعى إليه وإنما ليس بوسعي، فاترك الأمر لله، ولعلي أنال خيرًا إذا اجتمعت به».»

كشف المخبأ

قال الأمير بشير: «يظهر يا أمين أن الرجل في ضيق ويحتاج إلى مَن ينفِّس كربته، وأنه كما قلت لا يستطيع المجيء إلى هنا حذرًا من رقابة الحكومة له، فيجب عليَّ قيامًا بواجب الإنسانية والشهامة أن أسير إليه بنفسي، مهما كلفني ذلك من المشقة، فإنه أحيا لنا غريبًا بعد أن أشرف على الموت، ففي صباح غد إن شاء الله أركب إليه بمعيتك، وبعض الرجال الذين عرفوا الطريق.»

وكان الأمير خليل يكلم غريبًا في أثناء ذلك ويلاطفه ويقبِّله، ويسأله عن قصته حتى وصل الجميع إلى المنزل.

وكان الخدم قد أعدوا الطعام فجلس الجميع لتناوله، وبعد الاستراحة سار كلٌّ منهم إلى فراشه، طلبًا للنوم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم النوم في الليلة الغابرة.

وفي الصباح اجتمع الجميع في غرفة غريب، وفحصوا جراحه، فإذا هي قد قاربت الشفاء فأوصوه ألا يخرج من المنزل مدة يومين؛ خوفًا عليه من تأثير الحرارة، عملًا بمشورة طبيب الأمير بشير الذي كان برفقته.

ثم ركب الأمير بشير مصحوبًا ببعض الرجال وولده أمين، وسار قاصدًا خيام ذلك الفارس، بعد أن أوصى الطبيب بملازمة غريب، وقد آلى على نفسه أن يبذل كل ما في وسعه لإنقاذ ذلك الرجل، الذي صنع معه خيرًا، من الضيق المستحوذ عليه.

وبعد بضع ساعات وصلوا إلى تلك الخيام، وكان صاحبها قد علم بذلك من بعض رجاله فخرج لاستقبال أمير لبنان، وحين رآه لم يستطع أن يحول نظره عنه لعظم هيبته. ثم ترجَّل الجميع وساروا إلى الخيمة الكبرى، فجلسوا فقدمت لهم القهوة ولفائف التبغ، وأخذ المضيف يرحب بضيوفه، ويوجِّه كلامه بوجه خاص إلى الأمير بشير، كل ذلك وهو ملثَّم الوجه.

ثم مدَّ السماط كعادة العرب، وقام الضيوف إلى تناول الطعام، فقال صاحب الضيافة: «أخشى أن تكونوا لم تألفوا الطعام على الطريقة البدوية!» فأجابه الأمير بشير: «نحن جميعًا قد ألفنا هذه العادة.» وبعد الطعام أُديرت عليهم القهوة ثانية. كل ذلك والأمير بشير يتأمل حركات ذلك الرجل، ويعجب لأمره، ولم يكد ينتهي الطعام حتى طلب الأمير الانفراد به فانفردا. فقال له الأمير: «ارفع هذا اللثام عن وجهك، إذ لم يبقَ من داعٍ إلى الحجاب بيني وبينك؛ لأنك أوليتني جميلًا لا أستطيع مكافأتك عليه، واعلم أن الأمير بشيرًا سيكون رهين كل ما تحتاج إليه، وموضع سرك، فارفع هذا اللثام عن وجهك وحدثني.»

فوقف ذلك الرجل بين يدي الأمير ورفع اللثام عن وجهه، فبان من تحته وجه رجل بين الأربعين والخمسين من العمر، ذي عينين واسعتين سوداوين وجبين عريض مرتفع، وأنف أقنى، وشارب ولحية قد وخطهما الشيب في غير أوانه، فتأمله الأمير بشير فإذا هو ليس مصريًّا أصيلًا وليس عربيًّا.

وابتدره الرجل بالكلام قائلًا: «انظر يا سيدي إلى هذا الشَّعر، فقد شاب قبل أوانه، وما ذلك إلا من صنع قوم كنا لهم أشد الأنصار وقت العسر واليسر.» فقاطعه الأمير قائلًا: «اجلس يا أخي واشرح لي قصتك بإسهاب.» فقال الرجل: «أتعدني أنك إذا سمعت من قصتي ما يثبت أني مذنب، أن تترفق بي!» قال: «نعم، فقل ما بدا لك.»

فجلس الرجل يقص حكايته، قال: «إني أيها الأمير من أمراء المماليك الذين سمعتم بمذبحتهم في قلعة القاهرة منذ نيف وإحدى عشرة سنة، وقد كنت دعيت في ذلك اليوم المشئوم، وقدَّر الله لي أن نجوت بنفسي لتأخرى عن وقت الدعوة.»

فقاطعه الأمير بشير قائلًا: «أظنك أمين بك؟» قال: «نعم، وقد مضت عليَّ مدة بعد فراري من مخالب الموت، وأنا في هذا المكان أتوقع فرصة للعودة إلى القاهرة لمشاهدة أهلي، فقد تركت هناك امرأتي وولدي، وعلمت أن عزيز مصر أباح لجنده التزوج بنساء المماليك، فلا أعلم ماذا كان من أمر أسرتي. على أني قد أنفذت من يسأل عنها، فلم يستطع أحد أن يوقفني على خبرها، فمن قائل إنها في مصر، وقائل إنها في غيرها من البلاد. وقد أصبحت في قلق من جراء ذلك لأمرين؛ الأول: أني لا أعلم إذا كانت زوجتي المسكينة لا تزال على قيد الحياة أم قد تزوج بها أحد أعدائي أم هلكت على أثر ولادتها لأنها كانت حاملًا، ولا أعلم ماذا جرى لولدي. والأمر الثاني أني منقطع في هذا المكان ولا أستطيع السكنى في المدن خوفًا من عيون الحكومة؛ لأنها جعلت دماءنًا هدرًا، فلكل من لقينا أن يقتلنا ولا إثم عليه ولا حرج.»

فقال له الأمير: «طِب نفسًا، فإني سأقابل العزيز بعد قليل، ولا بد من أن أذكرك أمامه، وأطلب لك العفو منه، فلا تَخَفْ بإذن الله فإن ذلك فرض علينا، ولا بد من أن تنال ما تريد.»

الحملة الفرنسية

قال الرجل: «ليس هذا حديثي كله أيها الأمير، فإن عندي قصة أشد تأثيرًا في نفسي من كل شيء، وهي سبب قلقي واضطرابي فأسألك الإصغاء إليها بعد أن تعدني عفوًا عن خطئي.»

فقال: «قل ولا تُخْفِ عني شيئًا.»

قال: «اعلم أيها الأمير أن زوجتي هذه (قال ذلك وتنهَّد) قد جلبتُ لها الشقاء بيدي، فإنها ليست من أمثالي المماليك، وهي ليست من بلادي، وإنما ساقتها يد الأقدار إليَّ بحكم الاتفاق ونتيجة الجهالة.»

فقال الأمير: «ومن هي إذن؟»

قال: «يا سيدي هي …» ثم خنقته العبرات وسكت، فابتدره الأمير قائلًا له: «قل لا تخف!» فوقف الرجل، ثم جثا بين قدمي الأمير وقبَّل ركبته قائلًا: «إنها من أنسبائكم أيها الأمير الجليل.»

فاضطرب الأمير بشير، ثم أوقف الرجل قائلًا: «وكيف أمكن أن يكون ذلك؟»

فقال: «إنني حين كنت شابًّا توجَّهت مرة مع عمي، أحد أمراء الألفية الذين تولوا مشيخة البلد زمنًا طويلًا، إلى بلاد الشام؛ هربًا من الجيوش الفرنسية التي جاءت إلى هذا القطر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة ١٢١٣هـ (١٧٩٨) فساقتنا الأقدار إلى جبل لبنان، ولم يعلم بنا أحد. وكنتَ يا سيدي أميرًا على الجبل إذ ذاك، ولكن الجزار والي عكا كان قد غضب عليك واتهمك بالاشتراك مع الجنود الفرنسيين، وكان هدفه أن يولي أولاد الأمير يوسف، وقد بلغني أنه ولاهم، ولكنه لم يرسلهم لاستلام الإمارة لاشتغاله بالفرنسيين وعزمهم على فتح سوريا، وقد كان في علمنا إذ ذاك أنكم من حزب الفرنسيين؛ وبالتالي قد رسخ في نفوسنا حب الانتقام منكم، غير أننا لم نرَ لذلك سبيلًا، فلبثنا نحاذركم ونتربص بكم الموت.

واتفق أننا كنا ذات يوم في إحدى قرى لبنان المجاورة لدير القمر، وكان أهل البلاد في شغل شاغل لخلاف بين أحزابهم، فعزمنا على العودة إلى مصر إذ عرفنا أن الفرنسيين كادوا يخفقون بسبب المنشورات التي كان يرسلها الباب العالي ضدهم، فوردت الرسائل إلى عمي أن يرجع إلى مصر، لينضم إلى رفاقه المماليك. وذات ليلة تأهبنا للرحيل، فهيأنا الخيول وركبنا، وفيما نحن خارج تلك القرية شاهدنا عن بُعد شبحًا بين الكروم، وكنا قد أرسلنا أحد رجالنا ليأتي لنا بشيء من العنب، وسرنا في طريقنا فعاد إلينا ومعه فتاة تبلغ من العمر أربع عشرة سنة كأنها من حور الجنان، فتأملتها، وذكرت أنني شاهدتها من قبل، وقد مالت عواطفي إليها، ولكنني لم أتجرأ على مخاطبتها، لعلمي أنها من بنات الأمراء.

فلما جاء بها سألته عن شأنها، فقال لي: «إنني رأيتها بين الكروم وقد أمسى عليها المساء، ولما كانت قد رأتني قبل هذه المرة سألتني أن أوصلها إلى بيتها، وهو قريب من هذا المكان، فجئت بها إليك.» ثم همس في أذني: «إنها تصلح أن تكون زوجة لك.»

أما أنا فحدثتني نفسي أن آخذها معي إلى مصر وأتزوج بها، ولما كلمتها في هذا الشأن لم تظهر معارضة، ولعلها خافت منا، غير أنها كانت تبكي، فقلت لها: «لا بأس عليك»، وصرت أطيِّب خاطرها، وأنظر إلى عمي لأرى إن كان يبدي لي معارضة فرأيته قد استحسن الفتاة، وكأن لسان حاله يقول: «إنها تصلح لك!» فأغواني الشيطان وأغويت الفتاة، وسرنا بها في ظلام ذلك الليل، ونحن نجدُّ في المسير حتى خرجنا من حدود لبنان، ووصلنا إلى مدينة صيداء، وهناك عقدت عليها، وبمرور الزمن نسيت الفتاة أهلها وتعلَّقت بي.»

فقاطعه الأمير قائلًا: «هل هي الأميرة سلمى؟» قال: «نعم أيها الأمير.» فعلا وجه الأمير الاصفرار رغم إرادته، وقال: «نعم إني أذكر أمر ضياع هذه الفتاة، وكنت قد أبحت دم الجاني عليها، ولكن مضى ما مضى، فأنت الآن من أصهارنا، فعسى أن تكون تلك الأميرة على قيد الحياة.»

فبكى أمين بك، وقال: «لا يعلم ذلك إلا الله، أيها الأمير، إن خداعي لتلك المسكينة لا يزال يتردد في خاطري، وقد وبَّخني عليه ضميري لأني لم أستطع أن أحتفظ بها؛ وذلك لأنك بعد أن مكثت في صيدا عدة أيام قيل لنا إن الفرنسيين جاءوا بجيوشهم لفتح سوريا ولكنهم لم يتجاوزوا عكا، بل رجعوا عنها بعد أن حاصروها خمسين يومًا، فقد امتنعت عليهم بمساعدة الأسطول الإنجليزي الذي كان يساندها من البحر.»

فقال لي عمي: «ها هم الفرنسيون قد عادوا إلى مصر، فلا نظن عودتنا إليها ينفعنا، فالأحسن أن نعود إلى حيث كنا.» فأشرت بأن رجوعنا إلى لبنان لم يعد ممكنًا لأننا سنموت هناك شهيدين. فصمت برهة حتى فاتحه أحد رجاله قائلًا: «لا أظن إلا أن أهل مصر سيقابلون الغزاة بمثل ما قابلهم به أهل سوريا بعد مذبحة يافا التي ذبح فيها الفرنسيون أربعة آلاف رجل من الأرناءوط والمغاربة، بعد أن سلموا سلاحهم. أتظن أن أهل مصر ينخدعون بقول الفرنسيين أنهم مسلمون مثلهم، إن المسلمين لا يشربون الخمر ولا يكشفون عورات نسائهم، وقد علمت من أهل هذه المدينة اليوم أن جلالة السلطان بعث يحرض المصريين على إخراج الفرنسيين من بلادهم.»

أما أنا يا سيدي الأمير، فكنت ميالًا إلى البعد عن لبنان ما استطعت؛ خوفًا من الوقوع في شر أعمالي، ولذلك كنت أحرض عمي على العودة إلى مصر، حتى إنني قلت له: «وأيًّا كانت الحال، فإن سكننا قرب حدود مصر آمن لنا.»

وبعد مناقشة طويلة قرَّ القرار على التوجه إلى حدود مصر ففرحت وفرحت الأميرة سلمى، ولم يكن شغلي الشاغل إلا التفكير فيها، وفيما يريحها؛ ولذلك كنت في قلق دائم خوفًا من أن تتوطد قدم الفرنسيين في مصر، ولا نعود إليها نحن، فأكون قد جلبت الشقاء لنفسي ولها. وما زلنا سائرين حتى نزلنا في مكان بالقرب من العريش، فألقينا عصا التسيار وبعثنا جواسيسنا لاستطلاع أخبار الفرنسيين في مصر، فعلمنا منهم أن بونابرت سافر من مصر سرًّا إلى بلاده في أواخر سنة ١٧٩٩م فاستبشرت بذلك وأسرعت بتبشير سلمى. ثم أخبرني عمي أن المماليك وأهل مصر جميعًا هبُّوا لمحاربة الفرنسيين، ولكنهم لم يتمكنوا من إخراجهم منها، فبقي الفرنسيون أيها الأمير في مصر إلى سنة ١٨٠١م إذ جاءت الحملة العثمانية وأخرجت الفرنسيين من مصر بمساعدة الأساطيل الإنجليزية، كما تعلمون يا سيدي، فابتهجنا وهممنا بالتوجه إلى القاهرة. ثم علمنا أن البقاء في مكاننا أولى بنا؛ لأن الإنجليز قد تعهدوا أن يعيدوا مصر إلى الباب العالي، وقد سلموا ولايتها إلى والٍ عثماني معه أوامر سرية بقتل جميع المماليك وإبادتهم.

فتأمل سوء حالتي، وهذه المسكينة إذ ذاك، لكني لم أكن أذكر لها شيئًا من ذلك منعًا لاضطرابها.

وليس غرضي الآن أن أشرح لسيدي تاريخ الحوادث المصرية إذ ذاك، وإنما المقصود إظهار ما كنت أحمله من التبعة إذا أغفلت أمر تلك المرأة، فأقول بإيجاز: أنه لما ظهر محمد علي باشا الوالي الحالي من بين الجنود العثمانيين الذين جاءوا مع الحملة التي أخرجت الفرنسيين وظهر منه أنه أهل للولاية، وقع بينه وبين الوالي المشار إليه نفور، فطلب إلى أمرائنا أن يساعدوه على مقاومة ذلك الوالي، وأن يكونوا معه يدًا واحدة، فساعدناه جهدنا، حتى إذا صارت الولاية إليه تنحَّى عنا، ولم يسمح لنا بأن نحصل على حقوقنا فاضطررنا إلى مقاومته. وكان عمي إذ ذاك في جهات الصعيد، وكنت معه، وكذلك كانت عزيزتي سلمى.

والحق أقول إن عمي الأمير الألفي فاوض إذ ذاك خورشيد باشا الذي كان واليًا قَبل محمد علي ليساعده على خلع محمد علي باشا، فتعهد له أنه إذا فعل ذلك يعيد الأحكام إليه. ثم فاوض في ذلك أيضًا قنصل إنجلترا، وتعهَّد له أن يسلم القطر المصري إلى إنجلترا. وما كدنا نحقق الهدف حتى ذهبت مساعينا عبثًا، فجاءت الأوامر بتثبيت محمد علي والعفو عن المماليك، فقلنا إن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، فنزلنا من الصعيد وسكنَّا في جهات مختلفة، أما أنا فكانت إقامتي في القاهرة.

وحسبت نفسي سعيدًا لأني صرت قادرًا على إرضاء سلمى فأخذت لها قصرًا كبيرًا، وأتيت لها بالخدم والجواري، وظننت أن الدهر قد صفا لنا بعد أن تنازلنا عن كل حقوقنا في الحكم، وما علمنا بما أعده لنا الزمان، فإن محمد علي باشا دعانا يومًا دعوة رسمية إلى سرايه في القلعة احتفالًا بسفر ابنه طوسون على رأس حملة لمحاربة الوهابيين، كما لا يخفى على سيدي، فحضر الجميع إلا أنا؛ فإني حين أردت الخروج من البيت بعد أن أمرت الخادم أن يهيئ لي الجواد نادتني سلمى وهي حامل، وقالت: «رويدك لا تستعجل فإني أشعر باضطراب في جسمي اليوم لأني حلمت أمس حلمًا مزعجًا.» فقلت لها: «يا عزيزتي، إن الأحلام أوهام لا يُعبأ بها.» ولكنني لم أستطع مخالفتها، فجلست بجانبها نتجاذب أطراف الحديث مدة، وأنا أتأمل ملامح وجهها ولطفها فانتبهت وقد كاد يفوتني الوقت، فركبت جوادي وقصدت إلى القلعة، فلما وصلت إلى باب العزب من أبوابها رأيت الموكب قادمًا نحو ذلك الباب يريد الخروج منه، فقلت: الأصوب أن أبقى خارجًا ريثما يخرج الموكب فأرافقه. فوقفت بجوادي على مدخل أمام الباب المذكور، ثم رأيتهم أغلقوا الباب بغتة وأعقب إغلاقه إطلاق الرصاص داخل القلعة، فعلمت أنها مكيدة لقتلنا، وحملني حب النجاة على الفرار في الصحراء، بدلًا من المسير إلى البيت لأنقذ حبيبتي، فوثب جوادي من فوق ذلك التل وخرَّ ميتًا، فسرت ماشيًا حتى خرجت من ضواحي القاهرة، وانتظرت لأعلم النتيجة، فعلمت أن دم المماليك أصبح مهدرًا حيثما كانوا، فأوغلت في هذا البر حتى وصلت إلى هنا حيث التجأت إلى أمير إحدى القبائل، فهو يرسل لي كل ما أحتاج إليه من الطعام واللباس والخدم. وها أنا ذا كما تراني وقد وخطني الشيب في مقتبل العمر.

عجب الأمير لهذه القصة الغريبة، ولكنه برغم فراسته المشهورة لم يفطن لعلاقة أمين بك بغريب، أو لعله انتبه وتجاهل لغرض في نفسه، على أنه قال لأمين بك: «طِب نفسًا وقرَّ عينًا، فلا بد لي من أن أفاوض العزيز في ذلك عندما أعود إلى القاهرة، وأرجو أن أستطيع مكافأتك على حسن صنيعك.» فطلب إليه أمين بك أن يحفظ كل ذلك سرًّا، فوعده الأمير خيرًا.

إبراهيم باشا

ثم خرجا من الخيمة، فإذا هما برسول قادم من بني سويف، وبيده كتاب للأمين ففضَّه فوجده ينبئ بقرب مرور إبراهيم باشا بالفشن متوجهًا إلى الفرطوش في جهات الصعيد، فالتفت الأمير إلى أمين بك قائلًا: «هذه فرصة لا ينبغي ضياعها، فإن إبراهيم باشا ابن عزيز مصر سيمر بنا قريبًا، ولا ريب أنه سينزل ليبيت عندنا ليلة أو يقضي بيننا نهارًا، وأنت تعلم أنه صاحب منزلة كبيرة عند والده، وقد سبق لي أن حادثته فوجدته حسن الطوية محبًّا للعدل، فإذا اغتنمنا هذه الفرصة وقصصنا عليه القصة ساعدنا ولا ريب مساعدة كبيرة، فالأصوب على ما أظن أن تركب معي إلى الفشن في زي واحد من رجالي، فلا يعرفك أحد.

وإذا لم يَعْفُ العزيز عنك، أو لم تجد امرأتك وأولادك، وكرهت الإقامة في هذه البلاد، فإنك تسير معي إلى لبنان، وتكون من خاصتي لأنك أوليتني جميلًا لا أنساه مدى الدهر.» فانشرح صدر أمين بك لهذه العبارات اللطيفة، وقال: «سمعًا وطاعة.» ثم أمر مَن في الخيام أن يقتلعوها، وكتب كتابًا دفعه إلى واحد منهم، وأمره أن يوصله إلى أمير القبيلة التي ساعدته مثنيًا عليه، وأسرَّ إلى ذلك الرسول بما جرى، وطلب إليه أن يبلغ ذلك إلى أميره سرًّا.

figure
فانتبهت وقد كاد يفوتني الوقت، فركبت جوادي وقصدت إلى القلعة، فلما وصلت إلى باب العزب — من أبوابها — رأيت الموكب قادمًا.

وفي عصر ذلك اليوم، ركب القوم وسار الأمير بشير في طليعتهم، وإلى جانبه الأمير أمين وأمين بك، وكان هذا قد طلب من الأمير بشير أن يناديه باسم سليمان خوفًا من إفشاء الأمر، فصار كل من معه يعرفونه بهذا الاسم، وحينما وصل الجميع إلى الفشن، سأل سليمان عن غريب وجراحه. فقيل له إنه بخير وسلامة، فذهب إليه وقبَّله فقبَّل الغلام يده، ولم يكن غريب ولا أحد من أولاد الأمير يعلم شيئًا عن أمين بك سوى أنه رجل له فضل عليهم، وقد جاء به الأمير بشير ليكافئه بالتوسط له عند عزيز مصر ليعفو عن ذنب كان قد اقترفه، وأن اسمه سليمان.

ثم بعث الكاشف إلى الأمير، يطلب إليه الحضور بمن معه إلى بني سويف بأمر العزيز فنزلوا هناك، وبعد يسير وردت الأخبار بقرب وصول إبراهيم باشا فأخذ «المتسلم» يهيئ معدات الاستقبال والترحيب، فجاء بمن عنده من الجند ورتَّبهم صفوفًا عند ضفة النيل بأحسن ما لديهم من الملابس، ونزل أيضًا الأمير بشير ومن معه لاستقباله، أما أمين بك فبقي في البيت متنكرًا بثياب أحد رجال الأمير.

•••

وذات صباح وصل إبراهيم باشا بالذهبية على النيل، ولما طلع إلى البر تلقَّاه الكاشف وقبَّل يده، ثم حوَّل انتباهه إلى الأمير بشير فتصافحا وسارا معًا إلى المنزل حيث أعدَّ لهما ما يلزم.

وكان إبراهيم باشا ربعة في الرجال، مستوي القامة منتصبها، وكان عمره خمسًا وثلاثين سنة، دقيق الأنف أشهل العينين حادهما مستطيل الوجه، وكان بوجهه أثر الجدري، وقد لبس الحلة الرسمية، وعلى صدرها مستعرضات من جدائل القصب، وكذلك كمَّاها محليان موشيان به.

وكان وجهه أقرب إلى العبوس منه إلى الطلاقة والدعة، ولذلك لم تكن الرعية تحبه كأبيه، وكان سريع الغضب حاد الطبع، لكنه سليم النية، ليس في قلبه مكر ولا خداع البتة.

فلما وصلوا إلى المنزل، دخل الأمير وأولاده والباشا غرفة الاستقبال المفروشة بالسجاد والوسائد والمقاعد فجلسوا، وكان غريب في غرفته، وبجانبه سليمان يلاطفه ويعتني به، وقد فعل ذلك تسترًا من وجه إبراهيم باشا.

حول مذبحة المماليك

أما الحديث بين إبراهيم باشا والأمير بشير، فقد دار بينهما على الوجه الآتي:

إبراهيم باشا : كيف وجدت مصر أيها الأمير؟
الأمير : في غاية ما يكون من الخصب، وقد وجدت أن تربتها تختلف عن تربة بلادنا كثيرًا. نعم، إني قدمت إلى القطر المصري مرة قبل هذه، غير أني لم أتجاوز الإسكندرية حينئذٍ، ولم أرَ شيئًا من خصب هذا البر السعيد، وقد علمت أيضًا أن الفضل يرجع إلى والدكم في حفظ الأمن وسعادة الأمة.
الباشا : لو تعلم أيها الأمير الحال التي كان عليها هذا القطر، قبل أوائل هذا القرن — أي في أيام الأمراء المماليك — لكنت تتعجب من التغيير العجيب الذي طرأ عليه، فقد كانت الأرواح والأموال إذ ذاك لمن كان أقوى بطشًا، ولا بد أنك كنت تطلع على أخبارهم في أواخر القرن الماضي، فأين تلك الحال مما هي عليه الآن؟
الأمير : هذا أمر لا يختلف فيه اثنان حتى ليقال بحق إن سيادة والدكم هو الذي أوجد هذا القطر من العدم، غير أنه لا ينكر استعداد الشعب المصري للطاعة والإذعان.
الباشا : نعم، إن هذا لا ينكر، غير أن المماليك وأحزابهم كانوا مصدر ذلك الفساد؛ ولذلك ترى أننا بعد أن أهلكناهم هدأت البلاد وساد الأمن.
الأمير : هل يأذن لي السيد الوزير أن أذكر له بعض الملاحظات في شأن هؤلاء المماليك وإهلاكهم؟
الباشا : قل.
الأمير : يقال إن هؤلاء المماليك كانوا في أيام تسلطهم يعيثون فسادًا في البلاد، غير أن ذلك الحكم لا يطلق عليهم طوال عهدهم؛ لأنهم كانوا في القرن السابع والثامن والتاسع وأوائل العاشر سلاطين هذا القطر، وقد تركوا من الآثار ما لا ننكر عظمته، ثم بعد تغلب السلطان سليم الغازي العثماني ودخول مصر في حوزة العثمانيين، غُلَّت أيديهم عن الحكم بعد أن كانت السلطة في قبضتهم، فأصبح دورهم ثانويًّا كما تعلم.
ولا أظنك تخالفني في أن الباشوات الذين كانت ترسلهم الدولة العلية ولاة على مصر، منذ دخول هذه البلاد في حوزتها كانوا سببًا لتمرد المماليك واستبدادهم؛ لأنهم كانوا لا يرون هؤلاء الباشوات إلا أشباحًا بلا أرواح، حتى انتهى الأمر إلى استقلال علي بك الكبير بحكم مصر عن الباب العالي، وفتح سوريا في أواسط القرن الماضي، ولو لم يخنه صهره محمد بك أبو الذهب لبقيت مصر وسوريا مستقلتين، ولا أعلم أن هذا الرجل لجأ في كل أعماله إلى ما يقال عنه إنه خيانة.

ثم لما جاء الفرنسيون إلى هنا نقموا على المماليك، وبالغوا في طعنهم وثَلْبهم، ولم يكن ذلك إلا إثارة لعواطف المصريين ليساعدوهم عليهم، رغبة في الاستيلاء على هذه البلاد.

وزد على ذلك أني أراهم بعد تولي جناب والدكم قد أذعنوا له وخضعوا لأوامره، بعد أن ساعدوه على تحقيق أمنيته، وورود العفو عنهم من جلالة السلطان محمد، حتى علمت أن تمكن عرى الألفة والولاء حملهم على تبادل الزيارات العائلية بين زعيمهم شاهين بك وجناب والدكم، أما كان مستحسنًا الوقوف عند هذا الحد، والكف عن قتلهم بالطريقة التي علمناها؟!
الباشا : اعلم أيها الأمير أن هذه الملاحظة قد أبداها كثيرون من كبار القوم الذين تحدثوا مع والدي في هذا الشأن، وقد تبادر إلى الذهن أنهم هم المصيبون، غير أن للمسألة وجهًا آخر يستوجب لوالدي العذر، هو أن هؤلاء القوم قد عرفوا منذ كانوا في منصب السلطنة على مصر، أنهم ليسوا من أصحاب العصبية، بمعنى أنهم قلما كانوا يتوارثون الملك، بل كانت الحكومة عندهم تصل إلى أشدهم بأسًا وأكثرهم أحزابًا، وإن الملك لم يكن يصل إليهم إلا خلسة واغتصابًا. ثم لما صارت البلاد في حوزة بني عثمان، لم يُبْقِهم السلطان سليم في منصب الأمراء إلا رغبة منه في التخلص من شرهم، ولكي يكونوا عيونًا على غيرهم من أعضاء الحكومة.
وقد علمت ما كان من تطاولهم على الباشوات العثمانيين الذين كانوا يتولون هذا القطر، حتى إن الحكومة العثمانية عهدت إلى ولاتها هنا بعد الحملة الفرنسية أن يقتلوهم، وكانت تلك الأوامر سرية، غير أن الباشوات لم يتمكنوا من ذلك.

فلما اعتلى والدي منصب الولاية، كانوا بحسب الظاهر قد أذعنوا له لقاء ما نالوا من العفو السلطاني، ولكنهم ما برحوا سببًا لقلقه. فلما عهد إليَّ والدي سنة ١٨١١م في إخضاع الوهابيين الذين تكاثروا في شبه جزيرة العرب، نمى إليه أنهم سيغتنمون فرصة غياب الجند هناك لِنَيل مآربهم فسبقهم هو وأهلكهم. ولا بد أنه فعل ذلك بإيعاز من الباب العالي. وإني أؤكد لك أيها الأمير أنه لو لم ينلهم ما نالهم، لكانوا شر عقبة في سبيل أمن البلاد وتقدمها.
الأمير : مادام إهلاكهم قد تم تنفيذًا لأوامر سلطانية، فجناب والدكم بريء من تبعته، ولم يفعل إلا واجبه. غير أنه تخطر لي رواية سمعتها عن والدكم، حدثت يوم مقتل هؤلاء المماليك، هي أنه لما خرج موكبهم من سرايه بالقلعة، كان جالسًا على ممشًى يشرف على مكان المذبحة يدخن النارجيلة، ولم يكن معه إلا صديقه محمد بك لازغلو وصالح قوش زعيم الإنكشارية، فلما بدأت المذبحة لم يعد يستطيع البقاء على مشهد منها فدخل ديوانه بعد أن أخرج من كان فيه، وبقي فيه منفردًا، وقد استولى عليه السكوت والرهبة، وتغيرت هيأته لشدة تأثره واضطراب فؤاده، ولم يشأ أن يشاهد ذلك المنظر البشع، ولعل ذلك من الأدلة على عدم تدبيره لهذه المذبحة اختيارًا، والله أعلم.

•••

والآن لديَّ أمر سأعرضه على جنابكم وله علاقة ببحثنا، هو أن أحد هؤلاء المماليك نجا من تلك المذبحة اتفاقًا، وهذا الرجل قد أولاني جميلًا بإنقاذ أحد أولادي من مخالب الموت، ولم أرَ لي وسيلة أكافئه بها إلا التماس العفو له من جناب والدكم فهل تظن ذلك ممكنًا؟
الباشا : إن هذا المملوك قد عرفنا بنجاته، وأنه ملتجئ إلى بعض القبائل البدوية في هذه الجهات، وقد كان في عزم والدي أن يقتله حالما يعلم بمكانه، على أنه لم يكن مصرًّا هذا الإصرار على غيره من المماليك. ولكنني أعلم أنكم مكرمون لديه، فلا شك في أنه يجيب طلبكم، ومع ذلك فإني بعد أن أعود من السفر، سأعرض هذا الأمر عليه.
الأمير : أشكركم شكرًا عظيمًا أيها الوزير، وإني إذا لم أستطع خدمة هذا الرجل في شيء فلن يستريح ضميري.
الباشا : طِب نفسًا فسيكون ما تريد إن شاء الله.

وبعد ختام الحديث في هذا الموضوع انتقلا إلى البحث في موضوعات أخرى، فسأله الأمير عن حرب الوهابيين، وما كان من أمره فأفاض الباشا في شرح ذلك، ثم حضر الطعام فتناولوه، وانتهى ذلك اليوم. وفي اليوم التالي سافر إبراهيم باشا إلى الجهة التي كان يقصدها، وعاد يسير إلى القاهرة.

محمد علي باشا

وأقام الأمير بشير في جهات بني سويف بضعة أشهر، حتى ورد إليه كتاب العزيز بالحضور إلى مدينة القاهرة؛ لأنه جاء من الإسكندرية، وكان غريب قد شفي تمامًا. وكان سليمان قد علم بما دار بين الأمير بشير وإبراهيم باشا في شأنه واطمأن خاطره، فلما وصلوا إلى القاهرة، نزلوا في قصر بضواحيها كان قد أعدَّه محمد علي لسكنى الأمير ومن معه، ثم أرسل إليه خمسة من جياد الخيل وطلب إليه أن يأتي إلى قصره بالقلعة.

فنهض الأمير وسار معه ولداه وغريب للسلام على عزيز مصر، فدخلوا القلعة حتى بلغوا «السراي» فوقف لهم الحراس إجلالًا، ودخلوا غرفة الاستقبال المفروشة أرضها بالسجاد والبسُط فإذا بمحمد علي باشا جالس على وسادة، وفي إحدى يديه سبحة وفي الأخرى مذبة، فوقف محمد علي لاستقبال الأمير ورحَّب به كثيرًا، وأجلسه إلى جانبه، ورحَّب بأولاده بعد أن عرفه الأمير بهم. وكان غريب أكثر اندهاشًا بتلك المقابلة الرسمية من الجميع لأنه لم يسبق له رؤية مثلها.

فنظر غريب إلى محمد علي باشا، فألفاه ربعة في الرجال عالي الجبهة واسعها بارز الحاجبين، أسود العينين، صغير الفم باسمه، كبير الآنف، متناسب الملامح مع هيبة ووداعة، ولباسه في غاية البساطة، وعلى رأسه الطربوش الجهادي.

وبعد التحية والسلام، سأل محمد علي الأمير بشيرًا عن أولاده، والتفت إلى غريب ودعاه إليه وأجلسه بجانبه، ورأى أثر الجرح في رأسه، فقال للأمير بشير: «ما هذا الأثر أيها الأمير؟» فقال الأمير بشير: «يا سيدي العزيز هذا أثر ضربة كادت تقضي عليه في صحراء مصر.»

فقال العزيز: «وكيف ذلك؟» فقصَّ عليه حكايته إلى أن قال: «ولولا أن أحد الرجال الفضلاء أنقذه من مخالب الموت لما كنت رأيته، فكم أنا مدين لهذا الرجل!»

فقال العزيز: «إن مثل هذا الرجل يستحق كل مكافأة.»

فقال الأمير: «مكافأته بيدك أيها العزيز.»

قال العزيز: «وكيف ذلك؟»

قال: «هل يسمح لي جناب العزيز أن أخبره بأمره سرًّا؟»

فقال: «نعم.» فنهض الأمير إلى جانب العزيز، وفهم الحاضرون أنهم يجب أن يخرجوا ويتنحوا جانبًا، وبعد ذلك قصَّ الأمير بشير القصة من أولها حتى آخرها، ثم قال: «وأفضل ما يمكننا مكافأته به إنما هو العفو من جنابكم عليه.»

فالتفت العزيز إلى الأمير قائلًا: «قد ذكره لي ابني إبراهيم، وإكرامًا لخاطرك قد عفوت عنه، وإنما أرجو ألا يقيم في هذه البلاد؛ إذ لا يمكنني إظهار ذلك جهارًا خوفًا من الملام؛ لأني كنت ناقمًا عليه بوجه خاص، لاتصال حبل قرباه بالأمير الألفي الذي كان يسعى في إخراج مصر من يدي وتسليمها إلى الإنجليز، وإنما مَدْحُك لأخلاقه، وإقرارك بمعروفه، قد حملاني على العفو عنه.»

فقال الأمير: «سيكون بمعيتي إلى أن أبرح هذا القطر فآخذه معي، ولكن أرجو السماح له بالتفتيش عن منزله، لعله يعثر على أسرته.»

فقال العزيز: «قد أجزنا له ذلك.» ثم قال: «وأود أن أختلي بك برهة يسيرة للتكلم معك في شئون خطيرة، فإذا شئت فتعالَ مع الأنجال إلى قصر شَبرا، حيث يمكننا المفاوضة مليًّا، وليس هناك من يشغلنا فإن «السراي» هنا محل العمل، وهناك مكان الاستراحة.»

خرج الأمير بعد وداع العزيز مسرورًا، لتمكُّنه من الظفر بالعفو عن سليمان، فعادوا جميعًا إلى المنزل، وبعث الأمير إلى سليمان فحضر فاختلى به وأخبره بأمر العفو، وأنه صرَّح له بالتفتيش عن بيته برفقة أحد الضباط، فسار سليمان في الحال مع بعض الضباط وبعض رجال الأمير للتفتيش عن زوجته. ثم جاء حنا البحري يطلب الأمير وأولاده للتوجُّه إلى قصر شبرا حسب أمر العزيز، فأحبَّ غريب الامتناع فألحَّ عليه الأمير فأطاع، وفيما هم في الطريق على خيولهم تذكَّر غريب أمر تلك المرأة التي وعدوها بالتخلص من زوجها، فذكر والده بها فسأل عنها الأمير حنا البحري لأنه كان قد كلفه بذلك، فقال: «لقد طلقناها من ذلك الحشاش، ورتَّب لها العزيز راتبًا شهريًا مرضاة لك.» فَسُرَّ غريب لذلك سرورًا عظيمًا.

وصلوا جميعًا قصر شَبرا فوجدوه قصرًا بديعًا تحيط به حديقة فيها أطيب الثمار والأزهار والرياحين، وهناك استقبلهم العزيز ورحَّب بهم وأدخلهم غرفة الاستقبال، وهي مشرفة على النيل وأجلسهم بجانبه، وقدَّم للأمير كرسيًّا وقرَّبه من مجلسه، وأخذ يسأله عن كل ما يتعلَّق بولايته في لبنان، فأدرك أولاد الأمير أن وجودهم في تلك القاعة لا داعي له، فخرجوا إلى الحديقة وجعلوا يطوفون فيها، ويتمتعون بمشاهدة أزهارها وثمارها، ويتحادثون مقارنين بين يوم ضياع غريب، وهذا اليوم وما يمكن أن يكون من أمر سليمان والعفو عنه، وفي تلك الليلة تناولوا الطعام في بيت العزيز، وقد أحسن ضيافتهم. ولما خرجوا من عنده ودعهم، والتفت إلى الأمير قائلًا: «لا بد من مقابلة أخرى سرية بيني وبينك لا يحضرها أحد.» فقال: «سمعًا وطاعة.»

وبعد أيام استُدعي الأمير بشير إلى القلعة، فعرف أن تلك هي المقابلة السرية فلم يأخذ معه أحدًا من أولاده، بل تركهم في المنزل الذي كانوا قد نزلوا فيه في جزيرة الروضة. فلما جاء إلى محمد علي انفرد به وكلَّمه مليًّا عن مقاصده في بلاد الشام، فوعده الأمير بالمساعدة، ثم أخبره أنه عما قليل ستصدر الأوامر الشاهانية بالعفو عن عبد الله باشا حاكم عكا ورجوع الولاية إليه.

ثم قال الأمير: «ومما يزيد ثقتي بنجاح مساعيكم في توسيع دائرة بلادكم اعتناؤكم بتدريب الجند على النظام الحديث المأخوذ عن نظام الجيش الفرنسي، فإن ذلك من أول دواعي فوزكم؛ إذ إن أهالي الشام وغيرهم من أهالي المشرق لا يعرفون هذا النظام، ولذلك لا يتأتى لهم الوقوف أمام جنودكم.»

فتبسم محمد علي، ثم قال: «نعم إن ذلك صحيح، ولكن لا يخفى عليك أني قاسيت في سبيل ذلك مشقات عظيمة، ولا أزال أقاسي أعظم منها لأن عساكر الأرناءوط والأتراك، قد عظم عليهم هذا التغيير، واعتبروه بدعة مخالفة للشرع الشريف فنقموا عليَّ حتى كادوا يشقون عصا الطاعة، فجئتهم من حيث أرادوا ودبرت لهم وسيلة تريحني منهم ولا تخلو من الفائدة لي؛ وذلك أني أرسلتهم تحت قيادة ولدي إسماعيل إلى الأصقاع السودانية ليفتتحوها، فإذا استطاعوا فخيرًا، وإن هلكوا أكون قد نجوت من مقاومتهم، وقد عدت بعد ذهابهم إلى إتمام مقاصدي في تدريب الجند، فأخذت من أهالي البلاد من يصلح للجندية، وجعلت لهم قوادًا من الإفرنج يدربونهم على الأعمال الحربية، فإن هذا الشعب قريب من الطاعة والتدريب.»

فأعجبت الأمير هذه الحكمة، وقال في نفسه: «لا عجب إذا دانت البلاد المصرية وغيرها لمثل هذا الرجل!» وعاد الأمير من عند العزيز مسرورًا. وفيما هو في الطريق تذكَّر سليمان، وأنه قد مضى عليه ثلاثة أيام ولم يرجع من التفتيش عن زوجته، وكان قد ألح عليه أن يأتي بها إليه ليراها.

فلما وصل إلى «السراي» في المنيل، وجد سليمان قد جاء ولكنه كان متجهم الوجه مضطرب النفس، فسأله عما فعل، فقال: «فتشت عنها يا سيدي في المدينة فلم أقف لها على خبر؛ ولذلك تراني قلقًا لا أدري ماذا أفعل، وكأن الدنيا قد أظلمت في عيني.»

وأخذ الأمير يخفف عنه ويعزيه، فقال: «يا سيدي لا عزاء لي سوى معرفة مكان تلك المرأة التي كنت سببًا في شقائها، فقد قيل لي إنها لم تظهر من يوم المذبحة لا هي ولا ولدها، فلم أعد أستطيع الإقامة في هذه الديار، بل صرت أفضل الموت على الحياة. إني لم أكن راغبًا في العفو إلا طمعًا في لقائي بها، وإلا فلا رغبة لي في الحياة وحبذا ذلك النفي، ولا حبذا هذا العفو.»

فقال له الأمير: «لا تستعظم الأمر إلى هذا الحد، وإن كنت لا تستحسن البقاء هنا فمرحبًا بك نأخذك معنا إلى بلادنا ونحلك هناك على الرحب والسعة.»

فتنهد ثم قال: «لا، لا يا سيدي، فإني لا أستطيع المسير إلى تلك الأنحاء وحدي، وقد خرجت منها بملك كريم سلبته مني يد القدر، فلا أعلم إلى أين أذهب.»

ثم تقدم إلى الأمير وهمَّ بتقبيل يديه فمنعه، فقال: «إني لا أنسى حسن صنيعك أيها الأمير الجليل»، وقبَّل وجنات أولاد الأمير، ثم قبَّل غريبًا قبلة حارة لما كان يرى بينه وبين ابنه سليم من المشابهة، ولا بد أن يكون القارئ قد عرف أن هذا الرجل هو زوج تلك المرأة والدة غريب، أما هو فلم يعرف ولده لأنه لم يكن قد ولد يوم فارقه، وكذلك الولد لا يعرف أن له أبًا غير الأمير بشير، والأمير بشير لا يعرف من أين أتت جميلة.

ولعل حكاية أمين بك قد ذكرته بسلمى، وربما مر بذهنه الشك في أن تكون هي جميلة بعينها، غير أن سابق اعتقاده بأنها من أهل صيدا واستبعاده نجاة مثل هذه المرأة وهي حامل وفرارها إلى لبنان، دون أن تخشى انكشاف أمرها، كل ذلك قد أبعد الشك عن ذهنه.

وبعد أن قبَّل أمين بك يد الأمير وأراد الخروج، قال له الأمير: «ما معنى هذا التقبيل يا أمين بك؟» قال: «ها أنا ذا خارج وسأستخير الله فيما أفعل، وأخشى ألا يقدر لي الرجوع إليكم، ولعل الله يجمعنا مرة أخرى.»

قال ذلك وخرج ولم يلتفت وراءه، فأخذ الأمير يفكر في أمره، وقد ساءه خروجه على هذه الطريقة، ولكنه عذره لاضطراب ذهنه وتأثر عواطفه، وظن أنه ربما يكون قد خطر له أن زوجته قد ذهبت إلى مكان يعرفه فذهب للتفتيش عنها.

أما أولاد الأمير وغريب، فلم يفهموا معنى هذا الوداع، لأنهم لم يكونوا يعلمون بالأمر.

وبعد بضعة أيام تلقَّى الأمير بشير كتبًا من لبنان، بينها كتاب من جميلة تقول فيه إنه لم يعد لها صبر على فراق غريب، وتلتمس من الأمير أن يرسله إليها، فسأل غريبًا عن رأيه، فقال: «نعم يا أبي، إني أرغب في الذهاب إلى بيت الدين لمشاهدة والدتي.» فأرسل معه بعض رجاله يوصلونه إلى لبنان، فودَّع رفاقه وقبَّل يدي الأمير، فأوصى الأمير الرجال أن يعتنوا به، فاستمعوا إليه وتوجهوا قاصدين لبنان.

أما ما كان من أمر أمين بك، فإنه بعد خروجه من عند الأمير بشير سار توًّا إلى سراي محمد علي باشا، وطلب مقابلته فأذن له فدخل عليه وقبَّل الأرض بين يديه وشَكَره على عفوه عنه. ثم قال له: «اعلم أيها العزيز أنه لم يعد يطيب لي المقام في هذه الديار، ولا التوجه إلى بلاد الشام، وها أنا ذا بين يديك، فهل لك أن تقبلني من بعض خدمك، على شرط أن ترسلني إلى جهة يكثر فيها احتمال الموت؛ لأني صرت أفضل الموت على الحياة، بعد فقد زوجتي وولدي، وكنت قد عولت على الانتحار، فحدثتني نفسي أن ذلك ليس من شيم الرجال، فقلت لعل العزيز يرسلني في حرب فأحارب حتى تأتي ساعتي فأموت في ساحة القتال، فذلك خير من أن أقتل نفسي بيدي!»

فتأثر محمد علي من هذا الكلام، واجتهد في أن يثنيه عن عزمه فلم ينجح، فقال: «إذا كان لا بد لك من ذلك، أرسلك إلى جهات السودان، حيث ولدي إسماعيل يحارب السودانيين ويفتح بلادهم، وستسير إليه فرقة من الأرناءوط والدلاة في هذا النهار مددًا.» فقال أمين بك: «ذلك جل مرادي، وإنما أسألك أن تدعوني باسم سليمان بدلًا من اسمي الحقيقي، إخفاءً لحقيقة أمري.»

فقال محمد علي: «حسنًا»، وأمر أن يلحق بالفرقة المسافرة على أنه من ضباطها. فسارت الحملة في ذلك النهار، وسار سليمان معها بعد أن ودع العزيز فدعا له بالعودة سالمًا، ولم يعلم الأمير بشير ولا أحد ممن معه بذلك.

كشف السر

أما ما كان من أمر جميلة، فإنها بعد أن فارقها غريب، لم يعد يهنأ لها طعام ولا نوم. وكانت دائمًا تفكر فيه وتنتظر ورود رسائله لتقرأها وتقبِّلها، ولم يكن لها مُعَزٍّ إلا سعيدًا فإنها كانت تحادثه وتظهر له مكنونات سرها، وهو يعزيها ويصبِّرها إلى أن ورد لها كتاب غريب، يصف لها فيه زيارته للقاهرة وحكاية مذبحة المماليك، فلما وصلت إلى الفقرة التي يقول فيها: «إن أحدهم تأخر عن وقت الدعوة ونجا من المذبحة»، خفق قلبها وبعثت إلى سعيد أن يحضر إليها فأطلعته على كتاب غريب وما فيه، فأطرق هنيهة ثم قال: «يا سيدتي عسى أن يكون ذلك الرجل سيدي البيك!» فبكت جميلة قائلة: «لا أعلم يا سعيد لماذا خفق قلبي عند قراءتي هذه الفقرة، ولكن ماذا نعمل لنعرف الحقيقة؟»

فقال لها سعيد: «أرى يا سيدتي أن نكتب إلى الأمير بحقيقة الحال، لعله يساعدنا في ذلك ويفتش معنا عن المفقود.»

فقالت: «لا يسعني ذلك يا سعيد، بعد أن بالغت في الكتمان عنه.»

فقال سعيد: «وما المانع أن نخبره بحقيقة حالنا الآن، لا أظن إلا أنه يعذرنا ويساعدنا.»

فتنهدت جميلة ونظرت إلى سعيد وقد خنقتها العبرات، ثم قالت: «إني أخشى أمرًا آخر.»

فقال: «وما عسى أن يكون ذلك الأمر، فهل هناك أمر لا أعرفه أنا؟»

فقالت: «نعم يا سعيد، هناك سر لم أطلعك عليه بعد.»

فنظر إليها مدهوشًا وقال: «وما هو ذلك السر؟»

قالت: «هو خطأ وقعت فيه منذ صباي، ولا أقوله لك ما لم تتعهد لي بكتمانه كعادتك معي في حفظ الأسرار.» فقال: «يجب أن تثقي بي يا سيدتي بعد الذي رأيته من صادق خدمتي لك، وإني أتعهد لك بما تريدين.»

فقالت له: «اعلم يا سعيد أني لست من نسل المماليك كما تظن، وإنما أنا من بنات أسرة بني شهاب.»

فقال سعيد مدهوشًا: «أمن أسرة الأمير بشير؟»

قالت: «نعم، ألا تذكر كيف كنت أود المجيء إلى لبنان بوجه خاص على أثر خروجنا من مصر؟»

فقالت: «وكيف صرت زوجة لسيدي؟»

قالت: «اعلم أني ابنة الأمير … من قرية تقرب من هنا، وكان والدي رحمه الله — لأني سمعت أنه توفي — يريد أن يزوجني بواحد من أولاد عمي، لم أكن أحبه، بل كنت أكره معاشرته، أما والدي فكان مصرًّا على ذلك بدعوى أن الاتفاق قد تم على أن أكون له ويكون لي، فأنا مخطوبة له من يوم ولادتي، وقد سبق منه الوعد بذلك لوالده، ولا ينبغي أن ينقض كلامه، فتوسلت إليه مرارًا أن يشفق علي، وأنا حينذاك لم أتجاوز الثالثة عشرة من العمر فأبى إلا ما أراد، فسكتُّ مضمرة الشر في قلبي.

وكان سيدك قد جاء إلى هذه الجهات في جملة من أقاربه الأمراء المماليك فرارًا من وجه الفرنسيين الذين دخلوا مصر في تلك الأيام، وكان شابًّا لطيفًا فأبصرته في الكروم وأحببته، وإنما لم يخطر ببالي أمر التزوج به لبعد العلاقة بيننا، ولأني لم أنشأ نشأة تتيح لي ذلك.

وذات يوم فاتحني أبي في أمر الزواج بابن عمي فلم أجبه، ففهم أني راضية، وبعد قليل خرج من البيت وجلست أفكر في أمري حتى ضجرت فخرجت إلى الكروم، ومكثت هناك مرتبكة حتى غربت الشمس، فشاهدت جماعة على خيول كأنهم مسافرون، وتبينت أنهم سيدك وجماعته، فوقفت مذهولة، وقد كدت أملُّ الحياةَ فاقترب مني رجل منهم يسأل عن الناطور ليشتري عنبًا، وكنت قد شاهدته مرارًا قبل ذلك الوقت فلم أخف منه، فلما عرفني قال لي: «ما بالك أيتها الصبية؟» فقلت: «إني أنتظر بين الكروم.» فقال: «تعالي معي لأوصلك إلى بيتك لأن الشمس قد غابت، وقد يُخشى عليك.» فسرت معه وأنا لا أعلم ماذا أفعل، فإذا هو قد أخذني إلى جماعته وأنا لا أدري، ثم رأيتهم يهمسون فيما بينهم، وبعد قليل تقدَّم إليَّ سيدك وسألني عما إذا كنت أريد الزواج به، فلم أجبه لأن الحياء غلب عليَّ، فضلًا عن أني لم أكن أفهم معنى الزواج، غير أنه أصر على إرضائي، وأنا لشدة غيظي من والدي ورغبتي في الفرار من الحفرة التي حفرها لي، سلمت بما أرادوه وأنا آسفة على ذلك، ولم يكن جوابي إلا الصمت فأخذوني معهم في ظلام ذلك الليل، وبقيت عدة أيام لم تجف دموعي لحظة، وما زلنا حتى وصلنا إلى صيدا وهناك عقد عليَّ شرعيًّا. ولما عاد إلى مصر أخذني معه، وما زلت كما علمت؛ ولذلك تراني أود إخفاء أمري لئلا أقع في بلاء أعظم، لأن أبي قد أباح دمي، وكذلك الأمير بشير لأنه كان حاكمًا على لبنان إذ ذاك أيضًا.»

فدهش سعيد لهذه الحكاية التي لم تكن تخطر له على بال، وقال لجميلة: «إذن أنت من أقرباء هذا الأمير، فسبحان جامع المتفرقين، والآن ماذا نفعل؟»

فقالت: «ما لنا إلا الاعتصام بالصبر الجميل، وأنا واثقة أن سيدك إذا كان لا يزال حيًّا، لا بد أن نجتمع به بإذن الله، والله مع الصابرين، وأما الآن فأنا مشتغلة البال قلقة على غريب.»

وأخذ سعيد يطيِّب خاطرها، ويخفف من قلقها حتى صبرت. ولكنها نهضت ذات يوم من النوم مذعورة، وبعثت إلى سعيد وقالت له: «اسمع يا سعيد، لقد نهضت في هذا الصباح من النوم منزعجة على أثر حلم مزعج هالني أمره؛ ولذلك تراني قلقة على غريب، ولم يعد لي صبر على فراقه، فاكتب إلى الأمير بالنيابة عني تطلب إليه أن يبعث إليَّ غريبًا، إذ لا عزاء لي سواه فعسى ألا يحرمني الله منه.» قالت ذلك وتنهدت

فأخذ سعيد ورقًا وكتب إلى الأمير بشير بما أمرت، وأرسل الكتاب مع الساعي الذي كلف بإيصال البريد إليه كما جرت العادة.

وبعد ذلك ببضعة أسابيع، جاءت البشائر إلى بيت الدين بقرب وصول غريب، فخرج عدد من الرجال لملاقاته وفي مقدمتهم سعيد، وحين التقوا به أطلقوا البارود ترحيبًا به. أما سعيد فعانقه وقبَّله وجاء به إلى والدته، وكانت تنتظره عند باب الدار فأسرعت إليه وقبَّلته، وشكرت الله على سلامته، ودخلت به حجرتها، وبعد أن استراح هنيهة واغتسل وأبدل ملابسه جلست بجانبه، وجاء جميع أهل «السراي» للسلام عليه، فكان يسلِّم عليهم ويحادثهم ويلاطفهم، وهم معجبون به وبلطفه.

أما والدته فرأت في جبينه أثر جرح، فتقدمت إليه وسألته عن سبب ذلك الجرح، فقال لها: «لهذا الجرح قصة سأقصها عليك في هذا المساء.»

فلما كان المساء، تناول الطعام ثم دخلت به حجرتها، ولم يكن هناك أحد غيرهما، فجعلت تتأمله بتلهف لا مزيد عليه، وهي لا تصدق أنها تراه، ثم تذكرت أمر قصته فسألته أن يقصها عليها كما وعد بذلك.

أخذ غريب يشرح حكاية الميدان، وكيف تاه في الصحراء، ومقابلة أولئك اللصوص له إلى أن وصل إلى موقف ذلك المتلثم، وكيف ألقى بنفسه في الخطر لإنقاذه. كل ذلك وهي صامتة تتأمل إشارات غريب وحديثه، وقلبها يخفق لما كان يحدق بالغلام من الخطر، ولم تستطع أن تكف عن البكاء من أجل ذلك. وقد مالت كل الميل إلى معرفة ذلك الرجل، فسألته عما إذا كان قد عرفه فقال: «لا يا والدتي، فإنه لم يشأ أن يخبرنا بحكايته، ولكن حينما عرف والدي ما فعله معنا، زاره في محل إقامته وقد أخبره بقصته وجاء معه إلى منزلنا وسار معنا إلى القاهرة، وقد فهمت أنه كان في مصيبة عظيمة فنجَّاه أبي منها بتوسطه له لدى محمد علي باشا، وقد كان في نيتنا أن يبقى معنا لكي نأتي به إلى هنا، ولكنه جاء ذات يوم مودعًا وانصرف ولم نعد نعلم مقره.»

فشعرت جميلة كأن هاتفًا حدثها، فانشرح صدرها لذلك الرجل، وأسفت لعدم مجيئه إليها لتكافئه على معروفه، ولم تعلم سبب ذلك السرور، وإنما نسبته لنجاة ولدها من مخالب الموت.

وفيما كان غريب يحادث والدته ويشرح لها ما شاهده في مصر من الغرائب، حانت من والدته التفاتة إلى منديل من الحرير الجميل كان في يده، فارتجف قلبها ونظرت إليه وتأملته، فلم تستطع أن تخفي الدهشة، ولكنها أمسكت نفسها وتناولت المنديل وتأملته فإذا هو منديل زوجها، وعليه زركشة من صنع يدها، فقالت لغريب: «من أين لك هذا المنديل يا ولدي؟» فقال لها: «هو المنديل الذي عصب به ذلك الرجل رأسي، وقد بقي معي سهوًا.» فخافت أن تكثر من السؤال، فتشغل بال الغلام، فصبرت حتى تقابل سعيدًا في الصباح التالي وتفاوضه في هذا الشأن، ولكنها لم تستطع النوم تلك الليلة لشدة التأثر، واشتغال بالها بأمر هذا المنديل.

وفي صباح اليوم التالي، بكَّر سعيد لمشاهدة ابن سيده، فما أن قابلته جميلة حتى دعته إلى مكان منفرد، وكان غريب لا يزال نائمًا من عناء السفر. وقالت له: «هل تعرف هذا المنديل؟» فهتف سعيد: «هذا منديل سيدي، من أين أتيت به؟» فأخبرته بالقصة التي قصها عليها غريب.

فقال: «يا سيدتي، لا يظهر من الحكاية شيء يؤكد ظنوننا.»

فقالت له: «أضف هذه الحكاية إلى ما كتبه لنا غريب في كتابه الأخير من مصر وتأمل.»

فقال سعيد: «هل سألته عن اسم ذلك الرجل؟»

قالت: «لا، كان يجب أن أفعل ذلك، فإن الاسم يحل لنا هذا المشكل فحالما يستيقظ أسأله.»

فلما استيقظ سألته عن اسم صاحب المنديل قائلة: «إني قضيت هذه الليلة وأنا أفكر في أمر هذا الرجل وفضله علينا، ولكني لا أذكر أنك لفظت اسمه.»

فقال: «إن اسمه سليمان يا والدتي.»

فقالت: «حسنًا» ولكنها رأت أن هذا الاسم هو غير اسم زوجها فانتفت الشبهة من ذهنها، وقالت في نفسها: لعل هذا المنديل قد وقع اتفاقًا في يد ذلك الرجل، وعلى كلٍّ فإني أستأنس به، وأشم منه رائحة أعز الناس إليَّ، فاحتفظت به، ولما كلمت سعيدًا في ذلك الشأن وافقها على ظنها.

بارقة أمل

أما ما كان من أمر الأمير بشير، فإنه بقي في مصر حتى كانت سنة ١٨٢٢م، ووردت فرمانات العفو عن عبد الله باشا من الباب العالي، فشكر همة عزيز مصر، واستأذن في العودة إلى بلاده، فطلب إليه محمد علي أن يبقى في مصر مدة، إلى أن قال له: «إني لم أفعل ما فعلته مع والي عكا إلا مرضاة لك، وأود بقاءك هنا لأنك بمنزلة ابني إبراهيم.» فشكر له فضله قائلًا: «عسى أن أستطيع مكافأتك أيها العزيز الجليل» فأهدى له ولأولاده ثلاث فراء وثلاثة من الخيل الجياد، وقال له: «إذا كنت تستطيع أن تعبئ لي أربعة آلاف مقاتل من رجالك الأقوياء فافعل؛ لأن مرادي أن أرسلها نجدة لولدي إبراهيم فإنه سارٍ لمحاربة بلاد اليونان لأنها شقت عصا طاعة الدولة العثمانية، وعهدي برجال لبنان أشداء يُعتمد عليهم وقت الشدة.» فقال: «سمعًا وطاعة.»

ثم ودع العزيز ورحل إلى الإسكندرية، فلم يدخلها لتفشي وباء الطاعون فيها ونزل خارجها، ثم ركب السفينة إلى عكا. فلما وصل إلى تلك المدينة أطلقت المدافع، وكانت عكا محاصرة بعساكر الدولة حتى ورد الفرمان فبطل الحصار. وأطلقت جيوش الدولة ترحابًا بالأمير، وذلك بعد اطلاعهم على الفرمان الذي أُرسل إليهم على يد السلاحدار المرسل مع الأمير بشير من لدُن محمد علي باشا. ورضوخًا للأوامر العلية، غادرت الجنود العثمانية عكا، وسار الأميران خليل وأمين إلى بيت الدين، وأما الأمير بشير فبقي في تلك المدينة مدة، وسارت البشائر إلى اللبنانيين بالعفو عن عبد الله باشا.

أما ولدا الأمير فلما وصلا إلى بيت الدين، جاءت أعيان البلاد للترحيب بهما، واستأنس بهما غريب بوجه خاص.

أما جميلة وسعيد، فكانا في قلق زائد تتقاذفهما الأفكار والظنون بحكاية ذلك الرجل وذلك المنديل، وكانا في انتظار مجيء الأمير بشير عساهما أن يستطلعا الحقيقة منه بوجه من الوجوه. لأنهما حاولا معرفة ذلك من ولديه، فلم يكن عندهما أكثر مما عرفاه من غريب. وشاء القدر أن يتأخر مجيئه لشواغل تتعلق بإمارته وغيرها.

فلما جاء، لم تتمكن جميلة من معرفة شيء؛ لأن مجلس الأمير لم يخلُ من المسلِّمين والمهنئين، ولم يهدأ إلا بعد مدة طويلة. وذات ليلة كان القمر بدرًا، والجو صافيًا، فأحب الأمير أن يقضي بضع ساعات في صحن «السراي» الداخلي أمام بركة الرخام، ففرشت الطنافس في ذلك الصحن، وجاء الأمير فجلس، وجلست امرأته وجميلة وأولاده بعد تناول العشاء وشرب القهوة. اتكأ الأمير يتأمل جمال الطبيعة، ويتنقل بأفكاره من حال إلى أخرى، فجال بخاطره سفره إلى مصر، وما كان من ترحاب عزيزها به إلى أن طرقت ذهنه مسألة غريب وجموح ذلك الجواد به، فالتفت بغتة إلى زوجته قائلًا: «أتذكرين يا أم خليل (يريد زوجته) قصة الأميرة سلمى؟» فخفق قلب جميلة بغتة وقالت زوجة الأمير: «نعم، أذكرها ولا أنساها لأني كنت أحبها محبة عظيمة، ومما زادني تذكرًا لها عزيزتي جميلة؛ لأنها تشبهها شبهًا تامًّا كما أشرت إليك بذلك مرة.» فتزايد خفقان قلب جميلة حتى إنها لم تعد تستطيع إخفاء عواطفها. فقال الأمير: «وما ظنك بها؟» قالت: «لا أظن أنها باقية على قيد الحياة، فرحم الله والدها إنه كان سبب فقدانها، ولكن ما الذي جعلك تذكرها الآن؟»

قال الأمير: «سمعت في أثناء سفري قصة عجيبة سأقصها عليك على انفراد لأني أوصيت ألا أبوح بها إلى أحد، ولكني وإياك جسد واحد فلا أكون قد خالفت الوصية بذكر تلك القصة العجيبة لك.»

ولا تسل عن حال جميلة وقتئذٍ، فإنها خشيت أن يكلمها الأمير فيتلعثم لسانها لشدة تأثرها وينكشف أمرها، على أنها كانت متشوقة لسماع تلك الحكاية، ولكن لم تستطع إظهار تلك الرغبة، بل لم يكن في إمكانها أن تسأل الأمير عن ذلك لأنها كانت شديدة الاضطراب، وقد خالج قلبها الخوف والهلع فآثرت الخروج من الغرفة ريثما يسكن روعها، غير أنها لم تستطع الوقوف.

فقالت زوجة الأمير: «ما المانع من أن تقص علينا تلك القصة الآن دون أن تذكر أسماء الأشخاص بحيث تكون الحكاية مبهمة، ثم توضحها لي على حدة بالتفصيل؛ إذ لم يعد لي صبر لتأجيل وقت استماعها!»

فقال الأمير: «أخشى أن أكون قد خالفت الوصية، وهذا أمر يعز علي؛ إذ أكون قد فعلت فعل الخائنين، ولكني أقول لك الآن كلمة واحدة من تلك القصة، وهي أني التقيت في سفري هذا بالرجل الذي اختطفها وأطلعني على …» ولم يكد يتم عبارته حتى تنهدت جميلة من صميم قلبها وأغمي عليها، وكان غريب بجانبها، فذعر وصاح: «أماه، ما بالك؟» ثم بادر الحاضرون فأتوها بالمنبهات ورشوا على وجهها الماء حتى أفاقت، وهي لا تكف عن التنهد والبكاء، فاضطرب الجميع، وظنوا أنها أصيبت بداء الصرع أو غيره من الأمراض العصبية، فأخذوا يسألونها عن سبب ذلك، ولما سكن ما بها أحبت أن تعتذر وتضبط عواطفها فتجلدت، وأخذت تظهر أن ذلك حدث لها لغير سبب تعلمه!

أما الأمير فلم يصدق ذلك الاعتذار، وقد سبق أن خامره شك في دعوى جميلة، ولا بد أن ذلك بقي يختلج في صدره إلى أن عاد إلى بيت الدين، وربما أراد الإشارة إلى تلك الحكاية تحقيقًا لظنه، فلما ظهر منها ذلك الانفعال لم يجد له سببًا غير ما شك فيه، على أنه لم يشأ أن يلح عليها مراعاة للطف مزاجها، وخوفًا عليها مما هو أعظم من ذلك، فأخذ يمهد لها العذر ويقول: «نعم، إن هذا الإغماء كثيرًا ما يصيب عصبيات المزاج.» وجعل يراجع في ذاكرته ما عرفه عن جميلة حتى عاد بذلك إلى أول ساعة عرفها فيها فتذكر أنها لم تخبره عن أصلها، بل كانت تحاول إخفاء ذلك ما استطاعت.

ومرت كل هذه التصورات في مخيلته بأسرع من لمح البصر، فاستأنف الحديث مُظهرًا أنه لا يعلم شيئًا من أمر جميلة، وقال لزوجته: «إني سأخبرك بهذا الحديث في مساء هذه الليلة أو غدًا إن شاء الله تعالى، إلا أن عزيزتنا السيدة جميلة قد كدرت صفاءنا الآن بما حدث لها في هذه الليلة.»

أما جميلة فكانت متكئة على صدر غريب لا تبدي حراكًا ولا تنطق بكلمة. وشعر الأمير بذلك وخاف عليها، فقال لها: «أظن أن الأفضل لك أن تذهبي إلى فراشك، فلعل ما عرض لك من تأثير ضوء القمر!» فلم تجبه، ولكنها حاولت النهوض فلم تستطع لأن ركبتيها كانتا ترتجفان رغم إرادتها، ولم يكن ذلك لينقص من ارتباكها وخجلها، لكنها تجلدت ونهضت بمساعدة غريب، وسارت توًّا إلى حجرتها، وسار غريب معها فاستلقت على الفراش وأطلقت لنفسها عِنان البكاء لأن العبرات كانت قد خنقتها، فاضطرب غريب وأخذ يكلمها ويسألها عن سبب ذلك فلم تجبه، وإنما كانت تشير إليه ألا يرفع صوته لئلا يسمع أحد منهم، فاضطرب الغلام، وصار يبكي لبكائها.

أما هي فتمثَّل لها زوجها كما شاهدته المرة الأخيرة خارجًا من البيت راكبًا جواده قاصدًا القلعة، وزاد بها الوجد حتى ظنت ذلك الخيال حقيقة فنادت: «أمين، أمين!» فظنها غريب تريد أمينًا ابن الأمير بشير فخرج وناداه، فلما دخل وجدها على تلك الحال، فقال لها: «ما بالك يا خالتي تنادينني، هل تريدين شيئًا؟»

فانتبهت لنفسها ونهضت من الفراش قائلة: «أنا لم أنادك يا عزيزي، وقد ناداك غريب خطأً.» فقاطعها غريب قائلًا: «بل سمعتك ترددين ذكر أمين أكثر من ثلاث مرات، وليس عندنا أمين آخر هنا.» فقالت: «ربما كان ذلك خطأً مني.» فأخذ أمين يلاطفها ويخفف عنها، ويأتيها بماء الزهر وغيره من المنعشات تهدئة لعواطفها.

أما الأمير بشير فسأل امرأته عما إذا كانت هذه الأعراض تصيب جميلة من قبل، فقالت: «لا، بل إن هذه أول مرة شاهدتها فيها.» وظهر على زوجة الأمير الانزعاج لذلك المنظر، ففضلت الدخول إلى حجرتها، ورافقها الأمير بشير فدخل كلُّ منهما مخدعه مفكرًا في أمر جميلة، ثم بعثا يسألان عنها وعن راحتها، فردت هي تطيِّب خاطرهما خوفًا من أن يأتيا إليها ويشاهدا سوء حالها.

أخذت جميلة تلوم نفسها على ما ظهر منها، لعلمها أن ذلك مما يوجه إليها الشبهة وربما أدى إلى انكشاف أمرها، ولو علمت أن الأمير بشير قد صفح عن صنيعها وصنيع زوجها لما تأثرت إلى هذا الحد، ولكنها كانت تعتقد أن انكشاف أمرها ربما أدى إلى انتقام الأمير منها، فضلًا عن أنه يجلب العار عليها.

قضت جميلة الليل وهي في لجج من الهواجس والمخاوف، حتى ضاق بها المخدع فنهضت من فراشها، وكان غريب قد نام، ففتحت باب المخدع رويدًا رويدًا وخرجت إلى الدار، والسكوت مخيم على تلك «السراي» لا يُسمع فيها إلا صوت سواقي المياه التي تسقي بساتين بيت الدين، فأخذت تنقل قدميها بكل هدوء إلى نافذة مشرفة على كروم تلك القرية وبساتينها، ثم تطلعت من تلك النافذة، فأبصرت ذلك الوادي الحافل بأشجار التوت والتين والكروم، الممتد إلى البحر المتوسط بعد أن يمر متعرجًا بين جبال شامخة مكسوة بتلك الأشجار حتى ليخيل للناظر أن ظلالها أرواح علوية، قد راق لها التوسد على تلك التلال، فخافت من عيون البشر واستترت وراء الشجر. استولت الرهبة على جميلة، وأثَّر في نفسها ذلك المنظر العجيب، وأخذت تستعيد ما حدث لها وما سمعته من الأمير بشير، وكانت كلما ذكرته يختلج قلبها وتصطك ركبتاها، ثم تحدث نفسها باحثة عن وسيلة تصل بها إلى معرفة حقيقة الخبر، فكانت تقول تارة: «الأفضل أن أطلع الأمير بشير على حقيقة أمري وأترامى على قدميه، وأطلب السماح منه، وأستطلعه حقيقة الأمر فعسى أن يكون حبيبي لا يزال على قيد الحياة.» ثم ترجع فتقول: «لا لا، لا أظن ذلك، فقد أصبح في عالم الأموات منذ سنين.» ثم تعود فتتذكر ما كتبه إليها غريب عن الذي نجا من المماليك، فتعلل نفسها بلعل وعسى، حتى قضت ساعة في تلك الهواجس.

ثم طرق ذهنها بغتة خادمها سعيد ورئيس الدير فخفَّت هواجسها؛ إذ إنهما يعلمان بأسرارها ولا سيما سعيد، فعزمت أن تستدعيه في الصباح وتطلعه على حقيقة الأمر، ثم تطلب إليه أن يدعو لها الرئيس ليتفاوضوا جميعًا في الأمر، وعند ذلك هان عليها كشف أمرها للأمير على يد رئيس ذلك الدير، لما تعلمه من منزلته عنده، فشعرت عندئذٍ كأن حجرًا ثقيلًا تزحزح عن صدرها وانفتح لها باب الفرج، ثم أحسَّت بالبرد فعادت الهوينا إلى مخدعها، وباتت وقد خيل لها أنها بلغت غاية السعادة.

أما الأمير بشير، فإنه حين وجد امرأته قد انصرفت إلى فراشها منزعجة، أجَّل رواية الحكاية إلى وقت آخر، وسار هو كذلك إلى فراشه.

وفي الصباح بعثت زوجة الأمير تسأل عن جميلة وصحتها، فقيل لها: «إنها بخير وسلام.» ولما استيقظت جميلة بعثت غريبًا يستدعي سعيدًا، فلما حضر قصَّت عليه ما كان من أوله إلى آخره، وطلبت إليه أن يستحضر الرئيس للمفاوضة في ذلك، فلما حضر الرئيس قبَّلت جميلة يده، وجلس الثلاثة يتفاوضون.

فقالت جميلة: «إن قلبي أيها الأب المحترم، لم يعد يحتمل شيئًا لشدة ما عانيت في الليلة الماضية، وقد شعرت أنني لا أستطيع أن أصنع شيئًا إذا لم تمداني برأيكما. سمعت حديثًا عن زوجي إن صدق ظني به فقد تجددت آمالي (قالت ذلك وتنهدت) وليس ذلك مجرد وهم، وإنما هناك بعض ما يؤكد هذا الظن، من ذلك: الحديث الذائع بنجاة أحد أمراء المماليك، ثم هذا المنديل الذي أتى به غريب من ذلك الرجل الذي أنقذه من الموت، فإنه منديل سيدي ومهجة فؤادي، ثم قول الأمير أمس إن الرجل الذي اختطفني لا يزال على قيد الحياة، وهذا أكبر داعٍ عندي لانتعاش الأمل، وعليه فلم يعد علينا إلا سؤال الأمير عن قصة ذلك الرجل فإنها تزيل كل شك، وهذا يقتضي كشف أمري، ولا يصح أن أكون أنا السائلة خوفًا من ذلك على حياتي، أو على شرفي؛ لأني أعلم أني فعلت وأنا صغيرة السن ما يخالف إرادة والدي، ويخالف مبدأ أسرتنا، بالاقتران برجل أجنبي؛ ولذا فإني أخاف على نفسي من العار أكثر مما أخاف عليها من الموت.» وكان الرئيس لا يعلم خبر اختطافها ولا كونها من أسرة الأمير بشير، فرأى في حديثها شيئًا أبهم عليه، ولاحظ سعيد منه ذلك، فقص عليه حكاية سلمى منذ خروجها من بيت أبيها، فعجب الرئيس لذلك الاتفاق العجيب، ثم تبسم ونظر إلى جميلة بوجهٍ ضاحك قائلًا: «طيبي نفسًا أيتها السيدة ولا تخافي، فإني قد تعهدت لك منذ عرفتك بأن أكون مستعدًّا لكل خدمة أقدر عليها يكون فيها خيرك، وأنا الآن سعيد إذ يلوح لي أني قادر بعون الله أن أقوم بهذه الخدمة، وأظنها أكبر خدمة لك.»

فتنهدت جميلة قائلة: «نعم نعم يا سيدي الأب، إنك تكون بذلك قد أنقذت نفسًا من الموت، وعسى أن تكون العاقبة خيرًا، ويكون ذلك الحبيب لا يزال على قيد الحياة فتكون قد أنقذت نفوسًا.»

وأسرع سعيد فقبَّل يدي الرئيس وجثا عند قدميه قائلًا: «إذا فعلت ذلك أيها السيد المحترم كنت لك عبدًا إلى الأبد، فبحياة كهنوتك أعنَّا برأيك.»

استطلاع الحقيقة

قال الرئيس: «طيبا نفسًا وقرَّا عينًا، فإني ذاهب إلى الأمير في هذه الليلة لأني أخشى ألا أستطيع مقابلته في النهار لكثرة شواغله في هذه الأيام، لأن الأمير عباسًا الذي تولى لبنان في المدة الأخيرة يسعى في استعطاف خاطر الأمير، وقد توسط الناس في أمر الصلح بينهما، ولا نرى إلا مشايخ وأمراء يدخلون مجلس الأمير ويخرجون منه، أما في المساء، فالغالب أن يكون خاليًا من مثل هذه الشواغل، ومسألتنا هذه في غاية الدقة، وينبغي أن أخاطب فيها الأمير، وألزم جانب الحذر والاحتياط خوفًا من غضبه؛ لأنه إذا غضب يصعب علينا استعطافه، وإذا أمر فلا يرد أمره غير الله، فيجب أن نتكل على الله الأزلي القادر على كل شيء. وقد عزمت من الآن فصاعدًا أن أصلي من أجلك يا ابنتي، ومن أجل زوجك، عسى أن يجمعكما الله مرة ثانية قبل اجتماعكما في الدار الأبدية.» قال ذلك ونهض فنهضت جميلة وقبَّلت يديه، وفعل سعيد مثل ذلك وودَّعاه ورجعا.

وفيما هو خارج من دار الحريم، حانت منه التفاتة فسمع حرس قاعة مجلس الأمير يناديه قائلًا: «إن الأمير بشير يدعوك إليه.» فصعد السلم حتى دخل القاعة فرأى الأمير وحده فتعجب لأن ذلك قلما يتفق للأمير بشير، فلما دخل وحيَّا رد عليه الأمير السلام وقبَّل يده، فتوسم في وجه الأمير بعض ملامح الكدر والارتباك، فجلس الرئيس وقد انشغل باله فابتدره الأمير بالخطاب قائلًا: «يسرني أن أراك مشرفًا هنا في هذا الصباح، يا سعادة الرئيس، وقد طال زمن غيابك.»

فقال الرئيس: «أنت تعلم يا سيدنا الأمير أننا من حشم سيادتك، وليس لنا راحة إلا برضاك، وقد تشرفنا بزيارتك والسلام عليك يوم مجيئك من الديار المصرية، ثم رأيت كثرة الشواغل التي تتجاذبك، فقللت من التردد، لئلا أكون شاغلًا لك عن مهامك.»

فقال الأمير: «إذن، فيمَ شرفتنا في هذا الصباح الباكر؟ لعله خير إن شاء الله!» ففكر الرئيس في هذا السؤال الذي لم يكن ينتظره من الأمير، ولكنه تجاهل وأجابه قائلًا: «إني أتيت في هذا الصباح لزيارة صديقتي القديمة السيدة أم غريب.»

figure
فقال الرئيس: أنت تعلم يا سيدنا الأمير أننا من حشم سيادتك، وليس لنا راحة إلا برضاك، وقد تشرفنا بزيارتك والسلام عليك يوم مجيئك من الديار المصرية.

فقاطعه الأمير مازحًا: «أدام الله هذه الصداقة بينكما، ولكني لا أظن مجيئك مبكرًا في هذا الصباح كان من تلقاء نفسك!» فتأكد الرئيس أن الأمير يريد أن يتبين سبب مجيئه، فتقدم نحوه باهتمام وقال: «إن حقيقة الأمر أيها الأمير الجليل أني جئت بدعوة من السيدة جميلة لتشكو لي ما ألم بها أمس، من الأحداث التي كادت تقضي عليها، وقد أفهمتني أمورًا قصدت كتمانها عن سيادتكم خوفًا من غضبكم لأن حكايتها أغرب من حكاية السيدة سلمى التي أشرتم إليها مساء أمس.» فضحك الأمير قائلًا: «إن قصة السيدة أم غريب ليست غريبة عن الأمير بشير، وإن كانت غريبة عن قدسك فإن الذي علم بمجيئها إلى هذه القرية ساعة وصولها، لا تخفى عليه حكايتها، وإن حاولت هي إخفاءها.

أتظن أني لم أقرأ حكايتها أمس في وجهها مكتوبة بيراع عواطفها، فلا حاجة إلى التستر فيما بعد، ولولا خوفي عليها أمس أن تذهب فريسة الخوف والوجل لصرحت لها بذلك، ولكنني تجاهلت وأمرتها أن تذهب إلى مخدعها تلافيًا للأمر، وقد كان في نيتي أن أستدعيك في هذا النهار لأجعلك واسطة للتفاهم بيننا؛ لأني أعلم أنها ربما لشدة تأثرها تصاب بسوء، وقد أوصيت الحراس أن لا يأذنوا لأحد بالدخول عليَّ، لكنني أخبرك أنني عفوت عن زوجها يوم حدثني بحديثه على أثر إنقاذه غريبًا من مخالب الموت، وهب أنني لم أعف عنه فإني أضن بهذه المرأة لأن مثيلاتها قليلات.

وأحب الآن أن آتي بها إلى هنا، وأطلعها على حكاية زوجها، ولكن لا يحسن أن أبعث وراءها إذ أخشى أن تشتبه في مقصدي فترتعب، فالأفضل أن تذهب سيادتك إليها، وتشرح لها كل ما قلته لك، ثم تأتي بها إلى هنا، بعد أن تتأكد من اطمئنان قلبها.»

ذهب الرئيس إلى جميلة فوجدها لا تزال تحدث سعيدًا بتلك القصة، فلما رأته تغير لونها وخشيت أن يكون لذلك سبب يدعو إلى الخوف، فابتدرها هو بالكلام قائلًا: «تعالوا نشكر الله تعالى الذي وفقنا في سعينا!» فاستبشرت جميلة وشكرت الله وأطلعها الرئيس على كل ما سمعه من الأمير فانشرح صدرها، ولكنها ظلت تخشى مقابلة الأمير، فأخذها ورافقهما سعيد حتى وصلوا إلى حيث الأمير، فدخل الرئيس أولًا وأمسك بيد جميلة وأدخلها، أما هي فكانت مطرقة برأسها إلى الأرض، فلما وقفت بين يدي الأمير ارتمت على قدميه باكية وقبلتهما قائلة: «اصفح أيها الأمير عن هذه الشقية المخطئة العاقة، أو اقتلها فإنها تستحق القتل!» فأمسك الأمير بيدها وأنهضها قائلًا: «أهلًا ومرحبًا بابنة عمي سلمى، لقد صفحت عنك يا عزيزتي، والله غفار الذنوب، تعالي واجلسي إليَّ ودعي عنك الخوف!» ثم بعث إلى زوجته فلما حضرت أطلعها على حقيقة الأمر، وأخذ يقص عليهم حكاية أمين بك، وقد ذهل الجميع واستولى الصمت عليهم كأن على رءوسهم الطير، وهم ينتظرون ما سيكون من تتمة هذا الحديث. أما جميلة فكانت تنتظر ختامه بفروغ صبر لأنها كانت عالمة ببدئه، فلما وصل الأمير إلى وداع أمين بك له ولأولاده وذهابه، قالت جميلة: «إلى أين توجَّه؟» قال الأمير: «لا أعلم يا عزيزتي ولو عرفت أنه ذاهب ما سمحت بذهابه مهما كلفني منعه، كما أنه لو علم أن زوجته عندي ما سمح لنفسه بفراقي، ولكن ما العمل فهذه إرادة الله!»

فتقدم سعيد واستأذن الأمير في الكلام فأذن له، فقال: «ما الفائدة يا سيدي وقد سمعنا بوجود سيدي أمين ولم نرَه؟ يجب علينا بعد أمر سيادتكم أن ندبر وسيلة نصل بها إليه.»

فقال الأمير: «لا بد لنا من إرسال رجل خبير بأحوال الطريق يتوجه إلى مصر بكتاب إلى العزيز، أطلب إليه فيه أن يساعده على لقاء ذلك الرجل.»

قال سعيد: «أنا أذهب ولا أعود إليكم إلا بعد أن آتي به سالمًا إن شاء الله.»

فقال الأمير: «سننظر في ذلك غدًا.» قال سعيد: «يا سيدي لا حاجة بنا إلى التأجيل، فإني أعلم أن سيدتي على أحر من جمر الغضا، وأما أنا فلا تسأل عن قلبي الآن، وأرجو أن تأذن لي في الذهاب إلى مصر اليوم للتفتيش عن سيدي، فخير البر عاجله.» فعجب الجميع من شهامة هذا العبد الأسود وغيرته، وفي الحال أمر الأمير كاتب أسراره المعلم بطرس كرامة أن يعد كتابًا إلى محمد علي باشا في هذا الشأن ليساعد سعيدًا في البحث عن سيده، فأخذ سعيد يعد كل ما يلزمه للسفر.

وبعد ظهر ذلك النهار، حيَّا سعيد الأمير بشيرًا وجميع أهل القصر، ولا سيما جميلة وغريب، وخرج من بيت الدين راكبًا، والجميع يدعون له بالتوفيق.

أما جميلة فبعد أن أتم الأمير حديثه وقفت بين يديه قائلة: «أسألك يا سيدي وأسألكم جميعًا أيها الحاضرون ألا تطلعوا غريبًا على هذه الحكاية؛ لأني أخشى ألا نظفر بوالده، لا سمح الله، فنكون قد سببنا له الكدر بغير داعٍ، أما إذا ظفرنا به فسنطلع غريبًا على حقيقة حاله؛ لأنه الآن يظن نفسه ابن الأمير بشير، فاتركوه على هذا الاعتقاد، حتى نرى ما سيكون من أمر سعيد وسفره.» فوافقها الجميع على ذلك، ثم خرجت من عند الأمير، فخرجت معها زوجة الأمير، ولم تفارقها طول ذلك النهار، وقد أخذت تسألها عن أمرها وتخبرها عما جرى لأبيها بعد ضياعها، فذكرتها بوفاته فبكت عليه، وأخبرتها زوجة الأمير أنه لم يعد من أسرتها أحد؛ لأن والدتها توفيت بعد وفاة والدها بقليل، فتكدرت جميلة لذلك.

أما غريب فلبث لا يعلم شيئًا من حكاية والده، حتى إنه لما جاء سعيد لوداعه عجب من ذلك وسأله: «إلى أين أنت ذاهب؟» فقال: «إلى مصر.» فسأل والدته عن سبب سفره، فقالت: «قد توجه بأمر خاص من الأمير بشير إلى عزيز مصر»، فصدقها.

أما سعيد، فإنه سار قاصدًا إلى مصر وبيده كتاب الأمير، وقد عقد النية على ألا يعود إلى لبنان قبل أن يجيء بسيده حيثما كان، وكان هذا الرجل من أصحاب الغيرة والعزيمة والتدبير.

فلما وصل إلى القاهرة، عاودته ذكرى الأيام التي قضاها فيها، وكان قد عرف شوارعها وحاراتها معرفة جيدة، وتوجه لمقابلة عزيزها فقيل له إنه في «سرايه» بشبرا منذ بضعة أيام، فسار إليه. فلما وصل إلى باب «السراي» قابله الحارس وسأله عن غرضه فقال: «بيدي كتاب لسيادة الباشا، وأريد أن أسلمه إليه يدًا بيد.» فاستأذنوا الباشا فقال: «ليحضر!» فدخل سعيد وفي يده كتاب الأمير، فقبَّل يد الباشا، فأخذ محمد علي باشا الكتاب وفضَّه وقرأه، ثم التفت إلى سعيد قائلًا: «هل أنت سعيد خصي أمين بك؟» قال سعيد: «نعم نعم يا سيدي.» فقال الباشا: «وأين كنت إلى الآن؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن سيدك قد سار إلى الأقطار السودانية طلبًا للموت، بعد أن يئس من الحياة؛ لأنه لم يعلم مقر زوجته، ففضل الانتحار، ورأى أن يسير إلى حيث يكون عرضة للموت، لعله يموت شريفًا، فعرض عليَّ رأيه هذا، فنصحت له أن يعدل عن هذه الأفكار فأبى، فبعثته مع حملة كانت متجهة إلى السودان لمساعدة ابني إسماعيل، قائد الحملة هناك.»

فلطم سعيد وجهه قائلًا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!» ثم أطرق هنيهة وقال: «لا بأس، لعله بخير، وهل تعلم يا سيدي أين يكون الآن على وجه التقريب؛ لأن السودان بلاد واسعة؟» فأجابه الباشا: «في الغالب أنه يكون ما بين الخرطوم وسنار أو قبل ذلك بقليل، ولكن ما الفائدة من هذا السؤال؟»

فقال سعيد: «مرادي أن أسير إليه بنفسي لعلي أظفر به، أو أصاب بما أصيب هو به!» فقال الباشا: «ولكنَّ هناك أخطارًا جمة ومشقات عظيمة إذ لا يستطيع الرجل أن يسير منفردًا في تلك الأصقاع.» فتبسم سعيد قائلًا: «إن عبدك أيها العزيز يعرف الأصقاع السودانية شبرًا شبرًا، وأعرف لغة تلك البلاد وكل عاداتها، وفي نيتي أن أدخل بينهم كواحد منهم، وأبلغ ما أستطيع تبليغه من الأنباء السرية إلى قواد جنابكم هناك إن شاء الله.»

وقبَّل سعيد يد الباشا، بعد أن أخذ منه كتاب توصية لابنه، فجعل ذلك الكتاب في بطانة حذائه إخفاء له، وقد اختلج قلبه في صدره خوفًا على سيده من الانتحار، أو الوقوع في مأزق يؤدي إلى هلاكه، فقضى بقية ذلك اليوم في التأهب للمسير، وعمد إلى شحم، دهن به جلده كما يفعل السودانيون، وجدل جدائل الشعر وأرخاها متلبدة على رأسه بعد أن دهنها بالشحم، وجاء بشملة من القطن واشتمل بها، وهي قطعة مستطيلة من نسيج الصعيد تبلغ عشرة أذرع، وهو أسود فلم يستطع أحد أن يميزه عن أهل السودان في شيء، واشترى جملًا سريع الجري عليه رحْل خفيف، وعلق في كلٍّ من جانبيه قربة من الماء، وأعد كل ما يحتاج إليه المسافر إلى تلك البلاد، وكتب رسالة إلى بيت الدين ينبئهم بما تم له وبعزمه على السفر.

وفي صباح اليوم التالي سأل عن كل ما أمكنه السؤال عنه من أخبار الحملة التي سار سيده برفقتها بعد أن عرف اسمه الجديد «سليمان» وركب الجمل خارج القاهرة بعد أن لبس تلك الثياب، وعلق برجل الجمل الدرقة السودانية المصنوعة من جلد وحيد القرن صنع أهل السودان، وأمسك رمحه، وعلَّق سيفه السوداني بكتفه، وسكينًا سودانية، وملأ جعبة من التبغ الصعيدي الذي يدخنه أهل تلك الأصقاع، وتوجه قاصدًا إلى الخرطوم، فاتخذ الصحراء الشرقية طريقًا لمسيره ملازمًا لمجرى النيل، قاصدًا كورسكو، على أن يسير من هناك في الصحراء التي يسمونها العطمور إلى أبي حمد بجوار بربر، ومن هناك يسير مع النيل إلى الخرطوم.

التفتيش عن أمين

فلنترك سعيدًا متوجهًا إلى الخرطوم، ولنعد بالقارئ إلى بيت الدين حيث تركنا جميلة تتقلب على مثل جمر الغضا في انتظار عودة سعيد، إذ لم تكن تعلم بسفر زوجها إلى الأقطار السودانية، وإنما كانت تظن أنه في مصر، وأنه لن يمضي شهر بعد مسير سعيد، حتى يعود به فتراه.

مضى أسبوعان وثالث، وفي أوائل الرابع جاءها البريد بكتاب من مصر وهذا نصه:

سيدتي المحترمة المصونة

أقبِّل يديك … وبعد، فإني بلغت القاهرة، وبحثت عن سيدي فعلمت أنه توجه إلى الأقطار السودانية منذ أشهر، في حملة كانت ذاهبة لنجدة إسماعيل باشا في حملته لإخضاع السودان، وقد طلب السفر إلى هناك، على ما علمت، يأسًا من الحياة لأنه لم يكن يعلم ببقائك على قيد الحياة، وقد كان عازمًا على الانتحار ففضل الموت في ساحة الحرب، وأرجو أن تطمئني فها أنا ذا قد أخذت كتابًا من العزيز محمد علي باشا، وتهيأت للسفر إلى السودان؛ كي أفتش عن سيدي البك، وفي الغالب أني لن أغيب أكثر من شهرين، ثم أعود إليكم به إن شاء الله تعالى.

خادمك

فلما قرأت الكتاب خفق قلبها ووقعت في حيرة، وأطلعت زوجة الأمير بشير عليه، وهذه أخبرت الأمير، فطيَّب خاطرها.

مضى الشهران ولم يرد لهم خبر، فاضطربت جميلة (أو سلمى) ولم تعد تستطيع الانتظار، وجعلت تحسب ألف حساب، ولما زاد بها القلق توجهت إلى الأمير بشير، وقبَّلت يديه وحدثته عن قلقها، فوعدها أن يكتب إلى عزيز مصر يسأله عن حقيقة الخبر.

وبعد أسبوعين ورد خطاب من عزيز مصر يقول فيه: «إن الفرقة التي سار برفقتها أمين بك، قد ألحقت بحملة ولدي إسماعيل، والجميع قادمون من الخرطوم متجهين شمالًا لجمع الميرة والرجال، والأغلب أن يلتقي بهم سعيد رسول سيادتكم في جهات شندي، وقد بعثته بكتاب إلى ولدي إسماعيل حتى لا يشك في أمره، ولكي يسلم له أمين بك، والسلام.»

فلما اطَّلعت جميلة على ذلك سكن روعها، وأخذت تنتظر الفرج من عند الله، أما غريب فكان بعيدًا عن تلك الحوادث، يقضي بعض نهاره في التعلم والبعض الآخر في ركوب الخيل، وألعاب الجريد والسيف، وسائر أنواع الفروسية مع أولاد الأمير بشير، وكان الجميع يحبونه حبًّا عظيمًا.

وبعد قليل وردت الأخبار من مصر بمقتل إسماعيل باشا ومن معه في شندي بمكيدة، وأول من سمع ذلك الخبر الأمير بشير، وكان يعرف أن أمين بك معه، فترجح عنده أنه قُتل في جملة من قُتل، ولكنه أَحبَّ كتمان الأمر عن جميلة خوفًا عليها، ولكنه أخبر زوجته، غير أن ذلك الخبر شاع في بيت الدين بعد بضعة أيام، وبلغ جميلة، فوقعت في وهدة اليأس، وجاءت إلى الأمير، وكان قد أذن لها بمقابلته في أي وقت أرادت جبرًا لقلبها المكسور، فحدثته بما سمعت، فقال لها: «اعلمي يا سلمى أن ذلك قد بلغني منذ بضعة أيام، ولا يمكننا أن نسلم بشيء قبل أن نتحقق من صحة الخبر، فها أنا ذا سأكتب إلى عزيز مصر كتاب تعزية في ولده إسماعيل، وأسأله عما يعلمه عن زوجك.»

فتنهدت سلمى وصمتت وقد اغرورقت عيناها بالدموع، ثم قالت: «الحق يا سيدي أن قلبي لم يعد يحتمل العذاب والشقاء، فيا ليتني لم أسمع بوجوده لأني قد كنت سلوته، وقطعت الأمل من حياته، ولعل ذلك لم يكن إلا لأجل عذابي وتكفيرًا لذنوبي التي اقترفتها في صباي.»

فأخذ الأمير يسكِّن روعها ويصبِّرها ثم قال: «إن الخبر الصحيح سيكون عندنا بعد أسبوعين، على الأكثر، وسأكتب اليوم إلى عزيز مصر في هذا الشأن.»

فانصرفت جميلة من حضرة الأمير، وهي لا ترجو خيرًا، فرافقتها زوجة الأمير، وأخذت تسكِّن روعها وتمنِّيها بالوعود المطمئنة، ولكن قلبها لم يكن ليطمئن لشدة ما قاساه من الشقاء، وما تعوده من الانقباض.

وبعد أسبوعين ورد خطاب من محمد علي باشا ونصه بعد الديباجة:

إن التقارير التي وردت إليَّ كتابة وشفاهًا، لم تذكر شيئًا عن أمين بك، وقد سألت بعض الذين كانوا في تلك المذبحة فقالوا إن الرجل كان في جملة الضباط، ولم يعد يراه أحد بعد ذلك لأن الذين نجوا من المذبحة قليلون، وقد تشتتوا، فلا يمكننا الحكم على شيء من ذلك، فمن الممكن أن يكون قد نجا في جملة الذين نجوا، أو يكون قد قُتل في جملة مَن قُتل، والله أعلم.

وصل الخطاب رأسًا إلى الأمير، وبعد أن تلاه ترجح له مقتل أمين بك؛ لأنه علم من كتاب سعيد الأول أن الرجل سار إلى السودان طلبًا للموت، فكيف يموت كل رفاقه وينجو هو وحده؟

وكانت سلمى تنتظر ورود خطاب من مصر بفروغ صبر، فلما مضى الأسبوعان توجهت إلى الأمير تسأله عن ذلك، فلما دخلت عليه أحب أن يخفي عنها الحقيقة فألحت عليه، فقال لها: «إن الأخبار الواردة من عزيز مصر تقول إنهم لا يعلمون شيئًا عن زوجك، فقد كان مع رجال إسماعيل في شندي، ولم يعودوا يعلمون عنه شيئًا، فلم تصدق جميلة ذلك، فأطلعها على الخطاب فتأوَّهت وبكت، ولكنها أمسكت نفسها أمام الأمير، فلما خرجت من حضرته سارت توًّا إلى غرفتها، فدخلت وأقفلت الباب عليها، وأخذت تندب سوء حظها وتلطم وتبكي، وكان الأمير قد أحس منذ خروجها من عنده أنها ذاهبة إلى حيث يمكنها إطلاق العِنان لبكائها فخاف عليها، فبعث إلى زوجته فحضرت، فأخبرها بالأمر، وقال لها: سيري إلى سلمى وخففي عنها وعزِّيها؛ لئلَّا تضر بها شدة الحزن.»

جاءت زوجة الأمير إلى حجرة سلمى فرأت الباب مقفلًا، وسمعت صوت بكاء ونحيب من الداخل، فقرعت الباب قرعًا خفيفًا، ونادت سلمى فأجابتها وفتحت لها الباب، فرأتها في حالة يرثى لها من الحزن والكآبة، فأخذت تلاطفها وتعزيها قائلة: «يا أختي تذكري أنك كنت قد يئست من الاجتماع به فافرضي أنك لم تعلمي بوجوده، فضلًا عن أننا لم نتأكد من الخبر، ولعله تأخر لسبب لا نعلمه، فاصبري والله مع الصابرين.»

فأجابت سلمى وقد احمرَّت عيناها من البكاء قائلة: «إني لا أجهل شيئًا من ذلك يا عزيزتي، ولكني أتحسر على يوم يئسنا فيه من حياته. أما قولك إننا لم نتأكد من خبره، فأنا لا أشك في أنه — وا لهفي عليه — قد صار في عالم الأموات.» قالت ذلك وتساقطت العبرات على خديها حتى بللت منديلها، فتداركتها زوجة الأمير وهي تمسح عينيها قائلة: «كيف يمكننا أن نجزم بذلك ونحن لم نتلقَّ خبرًا صريحًا نفيًا أو إيجابًا، وإنما أعمالنا هذه كلها مبنية على مجرد التخمين؟! فعلينا أن نثق بالله ولا نقطع الأمل.» فأمسكت سلمى هنيهة عن البكاء، ثم التفتت إلى زوجة الأمير قائلة: «أنا أطلعك على الداعي لظني الذي ذكرته لك.» ثم نهضت إلى خزانة وفتحتها وجاءت منها بكتاب ودفعته إليها، وإذا هو كتاب سعيد الذي يقول فيه: «إن سيده سافر إلى السودان يأسًا من الحياة؛ لأنه لم يعرف طريقنا، وكان يريد الانتحار ففضل أن يموت في ساحة الحرب على أن يقتل نفسه بيده.»

وبعد أن أتمت زوجة الأمير تلاوة الخطاب، قالت لها سلمى: «أتظنين أن الرجل الذي يذهب إلى الحرب رغبةً في الموت ثم يُقتل مَن معه، ينجو هو وحده؟ إنه لا ينجو إذا لم يهرب، وهو لا يمكن أن يهرب؛ لأنه طالب للموت ساعٍ وراءه، فمتى جاءه رحب به.»

فقالت امرأة الأمير، وكأنه قد فتح عليها برأي جديد: «دعي عنك هذه الأوهام فإن سعيدًا لم يمضِ عليه غير ثلاثة أشهر منذ ذهب، ولم يعد إلينا ولا أرسل لنا عِلمًا بذلك، ونحن نعلم أنه في السودان، فلو فرض أنه علم بشيء لآثر أن يحضر لإبلاغنا ذلك، أو يكتب إلينا بما علم، فلا مسوِّغ لحزنك ويأسك، ولا فائدة من الحزن واليأس، وبعد قليل يأتي ولدك من الميدان، فيراك على هذه الحال، وهو لا يعلم بشيء من قصة أبيه، فيشغل باله ويزيد قلقه عليك، وربما ألجأك إلى إطلاعه على سبب هذا البكاء، فهل تخبرينه بالسبب الحقيقي؟»

فأجابت سلمى: «لا، لا يمكن أن أخبره، وإني أشكر الله تعالى لأني لم أُطلعه على هذه القصة من أول الأمر، ويا ليتني لم أطَّلع عليها أنا أيضًا؛ إذ لا فائدة منها إلا تجديد الأحزان والأكدار!»

فنهضت زوجة الأمير، وأمسكت بيد سلمى، وأنهضتها قائلة: «قومي بنا يا عزيزتي نذهب إلى الحديقة ترويحًا للنفس؛ لئلَّا يأتي ولدك غريب، ويراك على هذه الحال.»

فمسحت سلمى دموع عينيها ولبست ثيابها، وخرجت معها من باب السر إلى الحديقة، وفيها إيوان (كشك) من خشب استظلتا به، وجلستا هناك نحو ساعة حتى قاربت الشمس من المغيب، فنهضتا وعادتا إلى «السراي»، فوجدتا الأمير بشير يتمشى في القاعة، فلما رآهما، أشار إليهما بالمجيء إليه ففعلتا. فلما وصلت إليه سلمى تأملها فإذا هي حزينة مكتئبة، على الرغم مما كانت تحاول إظهاره من البشاشة واللطف إكرامًا له، فقال: «يا سلمى إني مشارك لك في حزنك، ولكني لا أرى مسوغًا للإفراط في ذلك، وخاصة أننا لم نعلم الحقيقة، وسأرسل رجلًا خبيرًا من خاصتي إلى مصر ليبحث الأمر بنفسه ويأتينا بالخبر اليقين.» فهمَّت سلمى بتقبيل يده ثم شكرته على ذلك، ولكن قلبها لم يطمئن البتة.

أما رسول الأمير إلى مصر فلم يأتِ بشيء، لكنه أكَّد ما كان قد كتبه محمد علي باشا، وخلاصة ذلك أن أمين بك كان في معسكر إسماعيل باشا إلى ساعة المذبحة، ثم لم يعد يعلم عنه شيء.

قطعت سلمى الرجاء من حياة زوجها، وصبرت على بلواها، رغمًا عنها، ولكنها كانت تفكر كثيرًا في خادمها سعيد الذي ذهب لإنقاذ زوجها وتحدث نفسها قائلة: ماذا جرى له يا ترى؟ لقد كانت تخشى أن يكون قد أصيب بسوء؛ لأنها كانت تحبه لكثرة ما قدم لها من خدمات، وما أظهر من الصدق والأمانة، ولكنها كانت عندما يضيق بها رحاب الفكر تترك الأمر لله، وتعزي نفسها حاسبة أن حديث زوجها من أوله إلى آخره أضغاث أحلام.

سعيد في العطمور

أما ما كان من أمر سعيد، فإنه بعد مسير ثمانية أيام في الصحراء الشرقية وصل إلى أسوان، ومنها إلى كروسكو، فوصل إليها بعد يومين، وهناك أعد كلَّ ما يحتاج إليه لمدة عشرة أيام من الماء والطعام؛ لأن عطمور أبي حمد يقل فيه الماء كثيرًا، وتكثر فيه الأخطار. ولاح له أن الأفضل أن يرافق أحدَ مَن يعرفون الطريق لئلَّا يضل، فوجد تجارًا من المصريين ومعهم جماعة من السوريين ذاهبين للاتِّجار بإشارة من عزيز مصر؛ اعتمادًا على أن بلاد السودان قد فُتحت، وفيها أفضل أنواع التجارة من العاج والخرتيت وريش النعام والصمغ العربي، وما شاكل ذلك، وهؤلاء كانوا قد اصطحبوا معهم خبراء، وأعدوا كل ما يحتاجون إليه.

فلما رآهم سعيد حياهم بلغة أهل السودان، فردوا عليه التحية، فسألهم عن مقصدهم، فقالوا: «جهات الخرطوم شمالًا، ولعلك جئت من هناك لأمر ذي بال!» قال: «نعم جئت لأمر سرِّي، وأنا عائد بمثله إلى إسماعيل باشا.» فاستأنس هؤلاء به وأحبوا مرافقته، وكان هو أشد رغبة في ذلك منهم، فركب الجميع في الصباح على جِمالهم ومعهم قافلة محمَّلة أحمالًا مختلفة وسارت الجِمال التي عليها الأحمال في جانب، والتي عليها التجار في جانب ومعهم سعيد، يقطعون جميعًا تلك الصحراء الرملية، ولا صوت لسير جِمالهم على تلك الرمال، وقد أشرقت الشمس.

فلما مضى جانب من النهار، سألهم عن تلك الأحمال التي هم ذاهبون بها، فقالوا: «هي بضائع إفرنجية من ثياب وأدوات، وبعض مقادير من الأرز والسكر والقهوة، نحملها إلى الأراضي السودانية ونقايض عليها بحاصلات تلك البلاد.»

قال سعيد: «وهل كانت هذه مهنتكم منذ زمن طويل؟» فقال أحدهم: «لا يا عبد الخير؛ لأن البلاد السودانية لم تكن التجارة فيها سهلة قبل سنتين من الزمن، بل كانت محفوفةً بالمخاطر والمكاره، وكانت حاصلاتها تأتينا على يد بعض التجار من أهلها، ولكن بعد أن بعث إليها محمد علي باشا والينا ولدَه إسماعيل، وفتح جانبًا كبيرًا منها دعانا العزيز إليه وحثَّنا على أن نتوجه إلى تلك الأصقاع، فتمنَّعنا أولًا، ثم قبلنا، فأمدنا بخبراء، ودربنا على طرق التصرف أثناء الرحلة.»

فقال سعيد: «يظهر أن أفندينا مُعْتَنٍ بحكومته وراحة بلاده!» فقالوا جميعًا: «هذا لا شك فيه، فإنه ما من أحد ينكر فوائد مشروعاته، ومن كان يتصور إمكان وصول مصر إلى هذه الحالة، بعد أن كان المماليك الملاعين يستبدون بها، فنحمد الله على نجاتنا منهم.»

فقال سعيد متجاهلًا: «ومَن هم هؤلاء المماليك؟»

فقال الرجل: «هم الذين كانوا حكَّامًا لمصر قبل والينا محمد علي، وقد كانوا يقتلون وينهبون ويستبدون بغير حساب.»

فقاطعه أحد رفاقه قائلًا: «نحمد الله أننا تخلَّصنا من المماليك الآن، وإن كانت لا تزال هناك عراقيل أخرى تقف في سبيل نجاح بلادنا، وهم هؤلاء الأرناءوط والمغاربة.»

•••

فقال سعيد: «ومن هم؟» فقال: «هم جنود كانوا في جملةِ مَن جاء مع الحملة التي أنقذت مصر من يد الفرنسيين، وهؤلاء حين أراد أفندينا تدريبهم على النظام العسكري الحديث امتنعوا وأصروا على الامتناع، حتى هددوا الباشا بالعصيان لأنهم اعتبروا أن كل ما يخالف عاداتهم القديمة بدعة.»

فقال آخر: «ولكن لا يخفى عليك أن أفندينا عرف كيف ينبغي أن يعاملهم؛ ولذلك أرسلهم إلى هذه البلاد المميتة ليفتحوها، ولم يكن يهدف إلا أن يشغلهم عن العصيان، وأن يغتنم فرصة غيابهم ليدرب الجنود المصرية كما يشاء.»

وقال آخر: «ليس ذلك كل قصده من إرسال الحملة إلى السودان، وإنما قصده الأول على ما بلغني التفتيش عن مناجم الذهب التي في أرض السودان، وتوسيع نطاق التجارة.»

فقال سعيد: «وما معنى تدريب الجند على هذه الصورة وما الفائدة منه؟»

فقال الرجل: «الفائدة منه عظيمة؛ لأن المائة من الجند المنظم تلاقي ألفًا من غير المنظم، وهل تظن أن الجيش الفرنسي الذي جاءنا منذ نيِّف وعشرين سنة لو لم يكن منظمًا على النمط الحديث كان يمكنه أن يتغلب على فرسان المماليك الذين لا يبالون بالموت؟» فقال الجميع: «لا، بل إن النظام هو السبب الصحيح لتغلُّب الفرنسيين.»

•••

فاستأنف الرجل كلامه قائلًا: «ولأفندينا مقاصد، كل منَّا يعرفها، وإن يكن هو لم يُطلع أحدًا عليها لأن الكتاب يقرأ من عنوانه.»

فقال سعيد: «وما ظنك بمقاصده؟» فقال: «إن أفندينا أصبح بعد تربُّعه على عرش الولاية لا يقنع بالقطر المصري، ولا سيما بعد أن اختبر جنوده وأولاده في محاربة الوهابيين والسودانيين وغيرهم، ويقول البعض إن في نيته افتتاح بلاد الشام وما وراءها، وأنه إنما يدرب الجند لهذه الغاية.»

فقاطعه واحد منهم قائلًا: «لا يبعد أن يكون ذلك صوابًا، وإلا فما معنى زيارة الأمير بشير الشهابي أمير لبنان، والمفاوضة معه سرًّا عدة مرات.»

وتكلم أحد الرفاق قائلًا: «ما لنا ولهذه الظنون، إن ذلك كله رجم بالغيب لا يعلم به أحد إلا الله، وأما الشيء الذي لا خلاف فيه فهو سعي أفندينا محمد علي الدائم لتوطيد دعائم الأمن، وافتتاح المدارس والمعامل، وغير ذلك من أسباب الفلاح، وقد علمت أنه بعث إلى فرنسا يستدعي طبيبًا ماهرًا لافتتاح مدرسة طبية، وهذه مأثرة عظمى أيضًا.»

عرب السودان

وبينما هم في الحديث، ظهر لهم غبار عن بُعْدٍ فتطلعوا نحوه، فإذا هم بفارس يسوق هجينه غاية جهده، وهو ملثَّم بكوفية، يظهر من هيئته أنه من أهل السودان، فلما اقترب منهم أمسك بزمام الهجين، وسار سيرًا حثيثًا حتى رآهم وحيَّاهم، فألفَوه أحد ضباط إسماعيل باشا، وقد عرفوه، فسألوه عن سبب مجيئه وحده في تلك الصحراء، فقال إنه آتٍ من الخرطوم ومتوجِّه إلى القاهرة بكتب إلى العزيز من ولده إسماعيل.»

ثم سألوه عن الأحوال فقال: «إن جنودنا ساروا حتى افتتحوا الخرطوم، ثم خضعت لهم الشائقية، ثم سار إسماعيل باشا بجنوده حتى أتى جبل فزغل، فاكتشف معدن الذهب، غير أن وباءً أصاب الجنود فاضطر إلى العودة. وقد تركته بجهات الخرطوم، وجئت بالأخبار إلى والده في القاهرة.»

فقال سعيد: «هل لك أن تخبرني عما إذا كانت حملة الأرناءوط والمغاربة التي توجهت أخيرًا لمعاونتكم قد وصلتكم؟» قال: «نعم قد وصلت منذ زمان، وقد اختلطت الآن بجنود إسماعيل؛ لأن كثيرًا من رجالها قد قتلوا في الحروب فأُلحق من بقيَ بجيش إسماعيل، وهم قادمون إلى جهات شندي لجمع الرجال وجباية الأموال، بعد أن تركوا أحمد بك الدفتردار بما بقي من الجند في سنار.»

وأحب سعيد أن يسأله سؤالًا آخر، فاعتذر بعدم إمكانه التأخر أكثر من ذلك؛ خوفًا من فوات الوقت، فودعهم وسار.

أما سعيد فوقع في اضطراب من جراء ذلك الخبر، خوفًا على سيده أن يكون قد قُتل في جملة من قتل، فبقي سائرًا مدة طويلة وهو صامت لا ينبس ببنت شفة، فأدرك رفاقه ذلك فسألوه عن سبب سكوته، فقال: «إني أتأمل هذه الصحراء الواسعة التي برغم خلوها من الماء، نشاهد فيها نباتات وأشجارًا كثيرة كأنها بلاد يرويها ماء النيل!» فأجابه الرجل: «إن هذه الأشجار والأعشاب ترتوي من ماء المطر في زمن الشتاء، وتبقى معشوشبة في سائر الفصول فترعاها الجمال.»

وتملكت الهواجس سعيدًا، فجعل يتخيل سيده تارة مصابًا بطعنة مضرجًا بدمه، وطورًا غير ذلك من أنواع الموت، حتى اسودت الدنيا في عينيه.

وبينما هو في هذه التصورات، وقفتِ القافلة للغداء والاستراحة؛ لأن الحر كان قد اشتدت وطأته، ولم يعد المسير ممكنًا، فوقف سعيد مترددًا بين أن يرافق هذه القافلة كل الطريق، أو أن يتركها ويسير وحده خوفًا من الإبطاء؛ لأن التجار لا يمكنهم الإسراع في سيرهم وجمالهم مثقلة بالأحمال، وهي ليست من الجمال السريعة.

توقف سعيد مع القافلة للاستراحة وتناول الطعام فأكل مما كان قد أحضره معه وشرب كمية من الماء، وظل جالسًا. أما رفاقه فقد توسدوا للقيلولة. وقد خطر له أن تأخره دقيقة واحدة قد يترتب عليه موت سيده، فهبَّ واقفًا وشعر بحرارة الاهتمام تغلي في صدره، فنهض للحال وركب هجينه، وودع رفاقه معتذرًا بأنه لا يستطيع الإبطاء في الطريق مثلهم، وأطلق لهجينه العِنان في الصحراء منحدرًا إلى الجنوب لا يلوي على شيء حتى أمسى المساء. وكان الليل لحسن حظه مقمرًا، فلم يتوقف إلا في آخره، إذ شاهد خيامًا عن بُعد فيها بعض العربان العبابدة فاقترب من المحلة، فناداه رجل قائلًا بلغة تلك القبيلة: «مين الزول؟» أي: «مَن الرجل؟» فأجاب سعيد قائلًا: «موحِّد»؛ أي مسلم فظنوه من قبيلتهم، فقالوا: «يا هلا الزول.» فتقدم إليهم سعيد مسلِّمًا بسلامهم المعتاد، فسألوه عن قبيلته، فقال: «إنني من قبيلة الشائقية.»

ولما أراد السفر في الصباح، سأله الشيخ عن جهة مسيره بقوله: «يا زول أنت مبحر والَّا مقبل؟» أي: «هل أنت سائر شمالًا أم جنوبًا؟» فأجابه: «لا والله مقبل يا زول.» فقال له: «تكوس شونو؟» أي: «عن أي شيء تفتش؟» فقال سعيد: «أكوس سيدًا لي مرق مني في الليل الغبر»؛ أي: «أفتش عن سيدي الذي تاه مني في الليل الماضي.»

فقال الشيخ لسعيد: «هل تريد أن أرسل معك بعض رجالي كي يساعدوك في التفتيش عن سيدك؟» فقال سعيد: «إن ذلك غاية مرادي، ولكني أخشى أن يكون سيدي قد سار إلى أبي حمد؛ أي مسيرة ستة أو سبعة أيام من هنا، ولا يليق بي أن أُتعب رجالك بهذا القدر.»

فقال الشيخ: «مرحبًا بك يا وجه الخير فإن أسيادك من أصحاب المروءة، ولا يليق بي أن أتركك دون أن أرسل معك بعض رجالي.»

ثم نادى: «تيراب!» فحضر بدوي رقيق البنية، حاد العينين أسودهما، صغير الأنف، أسود الشعر خفيفه، صغير الفم والأذنين، منتظم الأسنان أبيضها، دقيق الساقين، ومع خفة جسمه فإنه تبدو عليه مظاهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، فلما وقف بين يدي الشيخ قال له: «سِرْ يا بُنيَّ برفقة هذا الرجل تفتشان عن سيده، ومتى التقيتما به أوصلهما إلى قبيلتهما وتعالَ إليَّ.»

فقال البدوي: «سمعًا وطاعة.» وركب هجينه وسافر في ركابه اثنان من العبيد، وسار الجميع جنوبًا. أما سعيد فسرَّ لنجاح مشروعه بمرافقة هذا البدوي؛ لأنه أصبح في مأمن من أن يضل الطريق، ولكنه خشي أن يرافقه يومًا ثم يعود، فأخذ يحتال عليه ليبقى معه إلى آخر الطريق، فافتتح الحديث قائلًا: «يا تيراب، ما اسم شيخكم؟» قال تيراب: «هو والدي، واسمه الشيخ أبو سرحان.» ثم بادره تيراب قائلًا: «وكيف تاه منك سيدك؟» قال: «أتريد أن أقول لك الحق؟» قال: «تفضل مشكورًا.»

فقال سعيد: «إن سيدي هو ابن الأمير وُد علي، وهو شاب يحب الفروسية، فلما سمع بأن الجنود المصرية تحارب في جهات الخرطوم، وأنهم قادمون إلى جهات شندي، أحب أن يذهب للانضمام إلى بعض القبائل هناك لينتقموا من إسماعيل باشا؛ لأنه قَتل صديقًا له في إحدى المواقع، ولا شك أن هذه الرغبة نتيجة لقلة التبصر وضحالة التفكير، وقد حاول والده مرارًا إقناعه فلم يقتنع، حتى كان صباح أمس، إذ خرج ولم يعلم به أحد ولم يرجع بعد. فبعثني والده للتفتيش عنه، وأنا أظن أنه سار نحو أبي حمد قاصدًا المتمة.»

فقال تيراب: «الأفضل إذن أن نتوجه توًّا إلى أبي حمد.» فقال سعيد: «هذا هو الأنسب على ما أظن.» وكان ذلك غاية ما يتمناه سعيد، وقد ابتكر تلك القصة لكي يسمع ذلك الرأي.

وبالاختصار انطلق الاثنان يجدَّان في السير، حتى وصلا بعد ثلاثة أيام إلى محطة مرات، وهي المحطة المتوسطة في ذلك العطمور، وفيها آبار من الماء ينزل إليها المسافرون للاستقاء وملء القِرب لما بقي من الطريق إلى أبي حمد، فاستراحوا هناك، وأكلوا وشربوا وملئوا قِرَبهم ثم ساروا. وبعد بضعة أيام وصلوا إلى محلة أبي حمد على الشاطئ الشرقي للنيل آخر ذلك العطمور.

فقال تيراب: «إننا لم نقف لابن سيدك على أثر، فهل تظن أنه سار إلى المتمة؟»

فقال سعيد: «يغلب على الظن أنه سار إلى هناك، وإلا لكان من المؤكد أن نلتقي به أو نسمع شيئًا عن خبره، وعلى كل حال أرجو الآن أن تعود إلى والدك، وتقدم له عني وعن سيدي مزيد الشكر والثناء على معروفه، ومتى رجعت أنا إلى القبيلة فسأحيط سيدي الأمير الكبير علمًا بمعروفكم.»

فألح تيراب أن يرافق سعيدًا إلى المتمة، فلم يقبل خوفًا من انكشاف أمره.

فودعه تيراب وعاد بخادميه إلى أبيه، أما سعيد فإنه عبر النيل إلى البر الغربي، ولم يعد أمامه إلى المتمة إلا عطمور واحد لا بد أن يسير فيه مدة تعادل المدة التي استغرقها في عطمور أبي حمد، غير أن الماء هنا موجود في آبار على الطريق أكثر مما هو موجود هناك.

الملك النمر

ركب سعيد هجينه بعد أن ملأ قربتيه من ماء النيل، وسار قاصدًا المتمة سيرًا سريعًا، وبعد مسيرة بضعة أيام وصل إلى آبار جكدول في منتصف ذلك الطريق تقريبًا، وهي مكان جبلي فيه مجتمع من الماء الشتوي غزير، فشرب وسقى جمله وملأ قربتيه وبات هناك ليلة. وفي الصباح سار فمر بآبار أبي طليح بعد يومين. وفي اليوم الثالث أشرف على المتمة، وهي بلدة واقعة على ضفة النيل الغربية مقابل بلدة شندي، وكانت هذه أكثر عمرانًا من تلك، وبينهما مجرى النيل.

فلما وصل إلى المدينة، دخل كأنه واحد من أهلها، وكان ذلك اليوم يوم الثلاثاء وهو يوم سوق المتمة، فوجد الناس مجتمعين في ساحة هناك يبيعون ويشترون ويتبادلون، فيهم الجزارون قد ذبحوا بقرة أو جملًا علَّقوه في جذع شجرة بحبل، يبيعون من لحمه لمن يشاء بغير وزن ولا قياس، وفيهم حاملو التبغ السوداني واللبن والزيت والتمر وسائر لوازم البيوت. والعادة في تلك البلاد أنهم يجعلون لكل بلدة يومين في كل أسبوع، يقيمون فيهما سوقًا عامة يأتي إليها أهل البلدة وما جاورها من القرى يبيعون ويشترون ويتقايضون — وكانت سوق المتمة في يومي الثلاثاء والجمعة — فالراعي يعطي الفلاح غنمًا ويأخذ بدلًا منها حنطة أو تينًا، ويعطي زبدًا ويأخذ بدلًا منها تمرًا أو تبغًا، والحائك يبادل بمنسوجاته التاجرَ القادم من المدن ومعه السكر والقهوة والأرز وما شاكل ذلك.

ولا تقتصر أهداف السوق على التبادل التجاري، وإنما هي أيضًا وسيلة لتبادل الأخبار والآراء فيما هو جارٍ من الحوادث العامة، فهم يغتنمون الفرصة في أيام السوق للحديث في مختلف الشئون.

دخل سعيد السوق كواحد من أهل القرى المجاورة، وأخذ يتحدث معهم، فسأل عن حالة الجنود المصرية فقيل له: «إنهم دوخوا البلاد، وعما قليل يصلون إلى شندي؛ لأنهم عائدون إليها لجباية الأموال.»

وفي اليوم التالي، قيل له: «إنهم على مقربة من شندي.» وفي عصر ذلك اليوم، وصل إسماعيل باشا ورجاله إلى شندي، فنصبوا خيامهم ونزل إسماعيل في قصر مُعَدٍّ لنزوله بالقرب من شجرة كبيرة خارج البلدة، فجاء الناس بحاجات الجيش من المأكل والمشرب، وجاء كثيرون من أهالي المتمة إلى شندي يتسلَّون بمشاهدة العساكر المصرية، فنزل سعيد في أحد القوارب حتى بلغ معسكر إسماعيل، وجعل ينظر يمينًا وشمالًا، ويتأمل وجوه ضباطه وعساكره لعله يقف لسيده على أثر، وخشي أن يشتبهوا في أمره، فجاء بطبق عليه بيض وتمر، ومضى بين الخيام مدعيًا أنه أحد الباعة.

وفيما هو في ذلك سمع لغط الناس، ثم رأى الملك النمر ملك شندي من قبيلة الشائقية قد جاء برجاله لملاقاة إسماعيل باشا، وأخذ الناس يُهرعون ليروا تلك المقابلة، فسار سعيد في جملة من سار، وكان إسماعيل — في لباسه العسكري، وطربوشه التونسي، وسراويل الأتراك — متكئًا خارج القصر على مقعد سوداني (عنقريب) غُطي ببساط عجمي، وفي يده غليون يدخن به، وحوله ضباطه ورجال معيَّته بين جالس وواقف.

ثم أقبل الملك النمر فإذا هو شيخ متوسط القامة، خفيف شعر اللحية، أسمر اللون، كبير العينين حادهما، عليه القفطان الحريري، وفوق كتفيه العباءة البيضاء، وعلى رأسه العمامة، وبيده الغليون، وفي خدمته عدة رجال، واحد يحمل له سلاحه من رمح وسيف وجراب، وآخر ينقل له الغليون والتبغ، وآخر غير ذلك. وحينما اقترب من معسكر إسماعيل، أعطى غليونه لخادمه وأمر رجاله أن يلبثوا بعيدين، وتقدم هو احترامًا للباشا، فلما دنا منه حيَّا التحية المعتادة حانيًا رأسه، ولمس يد الباشا وقبلها، ثم وقف منتصبًا، كل ذلك وإسماعيل متكئ، والغليون في يده لا يبدي حراكًا احتقارًا له، وبعد مدة أشار إليه فجلس على الأرض. ثم أخذ الملك يرحب بإسماعيل ويبدي له الخضوع، فلا يزداد إلا كبرًا وعجرفة، وبعد أن أتم ذلك الملك كلامه التفت إليه إسماعيل قائلًا له: «اسمع يا ملك، إني جئت إليك لجباية الأموال الأميرية وجمع الرجال، فيجب عليك أن تأتيني بما يملأ قاربي هذا من الفضة، وتجمع لي ألفين من الرجال في مدة خمسة أيام.» فوقف الملك النمر مسترحمًا وقال: «حيَّا الله الباشا، من أين لنا هذا القدر من الفضة ونحن قوم مساكين فقراء؟»

•••

استوى إسماعيل على متكئه، ونظر إلى وجه الملك النمر عابسًا وقال: «قلت لك ذلك فلا تجادلني!» فكرر الرجل قوله: «إنه لا قِبل لنا بجمع هذا المبلغ.» فقال الباشا: «حسنًا، نجعله عشرين ألف ريال (نحو خمسمائة ألف قرش).» فشكا الملك من قِصر المدة وقال: «إن المدة لا تكفي لجمع هذا القدر من المال وهذا العدد من الرجال.» فما كان من إسماعيل إلا أن ضربه بأنبوبة الغليون على وجهه فاستشاط الملك غيظًا، لكنه أظهر الخضوع وإن أضمر الشر.

أما سعيد فلم يكن هذا المشهد ليشغله عن سيده، ولكنه لم يكن يستطيع التقدم إلى مجلس الباشا، حيث يجتمع ضباطه، ليفتش عن سيده بينهم؛ لأن العساكر كانت تمنع الناس من الاقتراب إلى حيث كان الباشا والملك، فلما رجع الملك النمر إلى المدينة كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فخشي سعيد ألا يسمح لأحد من أهل المدينة بالبقاء في المعسكر، فسار مع من سار إلى شندي بمعية ذلك الملك، ولم يكن أحد يعرف حقيقته مطلقًا، بل كان الجميع يخاطبونه ويحدثونه كأحد أهل القرى المجاورة، وقد عزم أن يبكِّر في الصباح لاستطلاع أمر سيده في معسكر إسماعيل باشا.

مقتل إسماعيل

وحينما وصل الملك إلى بيته، جمع بعض رجاله، وعيناه تقدحان بالشرر من شدة الغيظ، فدخل سعيد متنكرًا، ووقف الملك بينهم وخاطبهم قائلًا ما معناه: يا معشر الشائقية، لقد رأيتم ما أصاب ملككم النمر في هذا اليوم من الإهانة بغير ذنب، وأنتم تعلمون أن الإهانة لا تطاق، فهل تخالفونني إذا أردت الانتقام ممن أهانني؟

فأجابه الجميع: «لا.» فسكت ثم اختلى ببعض أصدقائه وخرج بعد ذلك. فعزم سعيد أن يذهب في الصباح التالي إلى إسماعيل باشا ويحذره من النمر، وانصرف يطلب مكانًا يبيت فيه تلك الليلة.

وفيما هو سائر، رأى الناس يحملون أكياسًا من التبن إلى معسكر إسماعيل، فظنه علفًا للجِمال فلم يبالِ، ثم رأى الناس يتقاطرون نحو المعسكر، فقال في نفسه: «هلم معهم لعلِّي أقف على خبر!» فسار حتى وصل إلى المعسكر فإذا الملك النمر والباشا وضباطه قد جلسوا في بقعة وسط المعسكر يتمازحون ويضحكون، وأمامهم حلقة من الرجال السودانيين ينفخون ويرقصون الرقصة السودانية، وقد أدار الملك النمر نوعًا من الشراب يكثر تعاطيه في السودان، يقال له: «المريسة» ويسميه أهل مصر «البوظة»، وهو يُصنع من منقوع الذرة، ويشبه في طعمه وخواصه الجعة (البيرة)، وكان النمر يعطي إسماعيل باشا وأهل مجلسه وهم يشربون حتى مضى معظم الليل، كل ذلك وسعيد شاخص ببصره ينظر إلى الناس ويتأمل وجوههم، فوقع نظره على رجل مقطب الوجه جالس في مجلس الباشا، لا يشرب من ذلك الشراب ولا يكترث لتلك الألعاب، بعكس رفاقه، فإنهم كانوا يقهقهون ويصرخون، وكذلك الباشا.

•••

فتأمل سعيد ذلك الوجه الذي تبدو عليه ملامح الكبر أكثر كثيرًا مما كان يعهد بسيده، وهو مطرق إلى الأرض، وبيده غليون يدخن فيه وينفخ متأففًا، ثم خطرت له حكاية الأمير، وأن سيده شاخ قبل أوانه، فرجح عنده أنه سيده، فكاد يطير من الفرح، وهمَّ أن يناديه من بين الجماهير، ولكنه تجلَّد خوفًا من أن يقع عليه غضب إسماعيل باشا، إذ لم يكن قد نسي ما أصاب الملك النمر من الإهانة، وأراد أن يتريث، ولكن عواطفه لم تطاوعه فصار يرقص فرحًا، والناظر إليه يظنه يرقص مع الراقصين حتى أخذ الحاضرون يضحكون منه، وقد دخل في جملة الراقصين عسى أن يتمكن بذلك من الاقتراب من سيده، وأخذ يقترب منه شيئًا فشيئًا، بينما كان جميع مَن في مجلس الباشا يترنحون، وقد لعبت الخمر برءوسهم، فصاروا يرقصون أيضًا.

أما سيده فكان لا يزال مطرقًا عابسًا، لا يبدي حراكًا، وكلما فرغ غليونه، ملأ غيره.

ثم نهض من بين الناس ودار من وراء مقعد إسماعيل، فظنه سعيد ذاهبًا في حاجة لا يلبث أن يعود بعد قضائها، ولم يكن يستطيع الوصول إليه لتوسط مقعد الباشا وحاشيته بينهما فمكث في انتظار عودته، ولكن غيبته طالت، وفي أواخر الليل نهض إسماعيل باشا ورجاله، فذهب كلٌّ منهم إلى مكان نومه، وسار إسماعيل إلى قصره، كل ذلك وسعيد لم يعد يشاهد سيده فانشغل باله. وفيما هو يفتش عنه رأى اللهيب يتقد، والدخان يتصاعد من جهة قصر إسماعيل وما جاوره من الخيام ومن التبن الذي كانوا قد جمعوه في مساء ذلك اليوم، ولم يكن سعيد قبل ذلك يعلم بتلك المكيدة، فخشي على سيده أن يذهب فريسة النار قبل أن يعلم بحياة زوجته، فأسرع إلى مكان اللهب يفتش عنه، ولما لم يجده جعل يطوف كالمجنون، وينادي بعبارات مختلفة كان يقولها على غير هدًى، وكان يرى بعينه اشتعال النار من جهة، وسيوف الشائقية وحرابهم من جهة أخرى تعمل في رجال إسماعيل، فسار نحو النيران، وقد شهر السيف في يده إيهامًا لرجال الملك النمر أنه مثلهم عامل على تحقيق هدفهم، وفيما هو بقرب اللهيب، رأى سيده خارجًا من خيمته مسرعًا نحو النار كأنه يريد أن يلقي بنفسه فيها تخلصًا من الحياة، فناداه سعيد: «قف يا سيدي لا تقتل نفسك إن سيدتي سلمى حية.» وكان أمين بك قد شاهد سعيدًا هاجمًا عليه في زي السودانيين، فظنه منهم، فضربه بالسيف على عنقه، فسقط لا يبدي حراكًا، وسمعه يقول: «قتلتني يا سيدي، أنا عبدك سعيد.»

•••

أراد أمين أن يعود إلى المكان ليتحقق من الأمر، فإذا بجماعة كبيرة هاجمون عليه بالحراب والسيوف والبنادق، وكانت الحياة قد عزَّت عليه حين سمع ببقاء زوجته في عداد الأحياء، فخشي إن هو ثبت أمام الهاجمين، أن تدور الدائرة عليه، فلا يعود إلى زوجته، فآثر الفرار في عرض الصحراء حتى وصل إلى مأمن جلس فيه يفكر فيما سمعه ورآه، وهو يحسبه أضغاث أحلام، فندم على فراره دون أن يتحقق من حال سعيد، وحدثته نفسه أن يعود إلى موضع المكيدة، لعله يستطلع شيئًا من أخباره، ولكنه رأى في رجوعه خطرًا عليه، وهو مع ذلك لا يأمل أن يستفيد شيئًا لأن ضربته كانت قاتلة، وتذكر أن سعيدًا قال له: «قتلتني يا سيدي» فتأسف كثيرًا، ولكنه عاد فتذكر أن سعيدًا لم يقل له أين هي زوجته فازداد أسفًا، وحينما يئس من سعيد، هام على وجهه يفتش عن زوجته.

حصار عكا

لنترك أمينًا يفتش عن زوجته، ولنرجع إلى بيت الدين، فنرى سلمى قد يئست من وجود زوجها، وقد مرت عليها سبع سنوات ولم تسمع عنه خبرًا. ففقدت الأمل في لقائه والاجتماع به، وكان غريب قد بلغ الحادية والعشرين من العمر، وتعلم الفروسية جيدًا وسافر مع الأمير بشير عدة مرات، وحضر عدة وقائع حربية أظهر فيها بسالة عظيمة حتى أجمع الكل على محبته، فكان ذلك أكبر تعزية لوالدته، وهو إلى ذلك اليوم لم يعلم شيئًا عن والده الحقيقي.

اهتمت والدة غريب بأمر زواجه شأن كل الأمهات، فاختارت له ابنة فريدة الأوصاف من العشيرة الشهابية، وعندما عقدت النية على خطبتها لابنها أرادت أن تعرف رأيه قبل التحدث في هذا الشأن. ففي ليلة من ليالي شهر تشرين الأول (نوفمبر) سنة ١٨٣١م دعته إلى حجرتها وعرضت عليه رأيها، وامتدحت الابنة ما استطاعت، ثم سألته عما إذا كان يحبها فقال: «يا والدتي إني أحب الذي تحبينه، وإن كنت لا أعرف الابنة لا اسمًا ولا جسمًا، فأنا واثق أنها ستكون موافقة لي كثيرًا ما دام اختيارك قد وقع عليها، ولكنني أرى أن هذا الوقت ليس وقت زواج.» فقالت: «وما المانع؟» فقال: «إن والدي الآن منشغل البال مضطرب النفس بسبب الأحوال السياسية، فلا يليق مفاتحته في هذا الأمر وهو بتلك الحال، فالأفضل إرجاء الزواج لفرصة أخرى.»

فقالت سلمى: «وكيف ذلك يا ولدي؟ وما الداعي لاضطراب الأمير؟ أخبرني!»

فقال غريب: «أنت تعلمين أن إمارة والدي الأمير بشير على لبنان تحت ولاية عبد الله باشا والي عكا، ولا يخفى عليك أن والدي حينما توجَّه في المرة الماضية إلى مصر، وتوجهت أنا برفقته، إنما كان غرضه من ذلك مساعدة عزيز مصر على التماس العفو من مولانا السلطان، عن عبد الله باشا المذكور، فصدر العفو وعادت ولاية عكا إليه بعد أن كادت تخرج من يده، وكان المعتقد أن يقر بهذا المعروف لوالدي ولمحمد علي، ولكنه بدلًا من ذلك جحد فضلهما، فأصبح والدي ناقمًا على عبد الله باشا وإن كان لا يستطيع التظاهر بذلك لأنه تحت ولايته.

أما محمد علي باشا والي مصر، فلم يمكنه كتمان غضبه لأسباب أوجبت زيادة حقده عليه، فبعث ابنه إبراهيم في حملة من الرجال لافتتاح عكا وقهر عبد الله.

فكتب عبد الله إلى والدي يطلب إليه أن يحشد الرجال ويأتي لنجدته في عكا، وأنت تعلمين أنه لا يمكنه مخالفة الأوامر، فبعث والدي إلى جميع المقاطعات لجمع الرجال والتأهب للسفر. وفيما هو في ذلك، ورد إليه كتاب من إبراهيم باشا من عكا يستدعيه إليه، فوقع والدي في حيرة؛ إذ لا يمكنه إجابة طلب إبراهيم خوفًا من غضب عبد الله باشا، ولا يريد رفض طلب إبراهيم باشا لأنه قد سبق منه الوعد بمساعدته عند قدومه إلى البلاد السورية؛ ولذلك ترينه لا يملك نفسه من التردد، فلا يمكننا أن نحدثه في شأن الزواج الآن، وهذا موضوع مستدرك على كل حال.»

فاضطربت جميلة لذلك الخبر، وقالت: «وماذا تظن أنه سيفعل يا ولدي؟»

فقال غريب: «أرجِّح أنه سوف يجيب إبراهيم باشا، وفي نيته أن يسافر غدًا من بيت الدين في حاشيته، والأرجح أنه سوف يقصد عكا، ولا بد من التوجه برفقته.»

فصاحت جميلة: «لا يا ولدي، ما لك وهذه المخاطرة؟»

فقاطعها غريب بالكلام قائلًا: «انظري يا والدتي، إني قد صرت رجلًا والحمد لله، ولم أعهد فيك مثل هذا الخوف عليَّ يوم كنت صبيًّا، وسافرت إلى بلاد بعيدة!»

فقالت: «إن ذهابك أول مرة لم يكن إلى حرب، وكفاني ما قاسيت على أثر ذلك السفر!» قالت ذلك، ولم تستطع أن تمسك نفسها عن البكاء لتذكرها حكاية زوجها.

فتعجب غريب لذلك البكاء وقال: «ما الداعي يا والدتي لهذا البكاء الآن؟»

قالت جميلة: «ليس هناك داعٍ يا حبيبي، سوى أني تذكرت الخطر الذي وقعت فيه هناك، وما حدث من تعدي اللصوص عليك.» ثم لاح لها أنه لا ينبغي أن تُظهر جبنًا أمامه، وندمت على ما فرط منها، فقالت: «لا تظن أني أخاف عليك من الحروب، فإن الرجال خلقوا لمواجهة الحروب، والأرزاق والأعمار بيد الله. لا لا، لست أخاف من ذلك، ولا سيما أنك ذاهب في جماعة من الأبطال، وفيهم والدك البطل المغوار الذي تهابه الأسود، وإذا صممت على السفر ففي حراسة الله، وإنما أوصيك وصية واحدة وأرجو ألا تنساها.»

قال غريب: «قولي ما تشائين، فأنا ابنك المطيع.»

قالت جميلة: «عليك يا ولدي بتقوى الله، والاتكال عليه في السراء والضراء.» ثم مدَّت يدها إلى بطاقة صغيرة، كتبت فيها بضع كلمات ثم طوتها ودفعتها إليه قائلة: «خذ هذه البطاقة فقد كتبت لك فيها آية ذهبية، ولا تفتحها إلا وأنت في أشد الضيق.» فقبَّل البطاقة ووضعها في جيبه، واغرورقت عيناه بالدموع، ولكنه تجلَّد وأمسك نفسه، ولم يشأ أن يظهر الجبن لئلا ينتقد عليه.

•••

وفي صباح الغد أمر الأمير بشير بالاستعداد للسفر، وأن يكون غريب في جملة المسافرين لأنه كان يحبه حبًّا عظيمًا، لِما رأى فيه من نخوة الرجال، والشهامة، والهمة، والشجاعة، وذهب غريب لوداع والدته فقبَّلته وشجَّعته، ولكن قلبها كاد يقطر دمًا على فراقه.

فركب الجميع وساروا قاصدين إلى عكا، وفيما هم في الطريق لاقاهم فارس بيده كتاب سلمه إلى الأمير ففضَّه، فإذا هو من عزيز مصر إلى الأمير بشير يهدده ويتوعده بالعقاب الشديد، إذا كان لا يقدم إلى عكا لمعاونة ولده إبراهيم، ومن كلامه له:

إن ولدي إبراهيم كتب إليَّ أنه استدعاكم إلى صحراء عكا ولم تذهبوا، فإما أن تفعلوا، وإلا فإننا نهدم مساكنكم ونغرس في مكانها زيتونًا.

فطوى الأمير الكتاب، وظل سائرًا حتى بلغ صحراء عكا شمالي حيفا وجبل الكرمل حيث معسكر إبراهيم، فخرج لملاقاته الأميرالاي بعسكره وبعض ضباطه بالموسيقى وإطلاق البارود، وفي جملتهم مصطفى بربر وحنا بك البحري رئيس الكتبة، فدخلوا به المعسكر في موكب عظيم، وكان ذلك هو المكان الذي عسكر فيه بونابرت قبل ذلك الوقت بنحو ثلاث وثلاثين سنة، فنزل الأمير ومن معه في خيمة خاصة به قرب خيمة إبراهيم.

والي عكا

وكانت عكا محصنة تحصينًا منيعًا، وقد دافع عنها جندها دفاعًا شديدًا، حتى امتنعت على إبراهيم أكثر من خمسة أشهر، كانت الحرب في أثنائها سجالًا.

وكان غريب يغتنم فرص الهدنة، ويذهب إلى تلك الأماكن للصيد والقنص، حتى كان يصل أحيانًا إلى سهول شفا عمر، يصطاد من غزلانها وحجلاتها وغيرها من الطيور.

وكانت جنود إبراهيم باشا مدربة على النظام الحديث الذي وضعه بونابرت، وكان يخالطهم كثير من الأتراك والأرناءوط والمغاربة، من بقايا الجنود القديمة، وكان الضباط يخرجون في أوقات الهدنة للصيد والنزهة.

وفي صباح يوم من أيام شهر (ديسمبر) سنة ١٨٣١م، خرج غريب من خيمة الأمير بشير مبكرًا، وكان البرد قارسًا فالتفَّ بثيابه وصعد إلى مكان عالٍ، وأخذ يتأمل تلك الصحراء عند سفح ذلك الجبل، وقد أصبحت بعد أن تساقطت عليها الأمطار في الليل الغابر كأنها مغسولة، وقد صحا الجو وصفتِ السماء، وأشرقت الشمس على تلك الأنحاء فانعكست أشعتها على سطح البحر المتوسط فتلون سطحه ألوانًا بديعة.

وكان يتخلل ذلك السكون زقزقة الطيور، وقد خرجت من أعشاشها، فيجيبها البحر بتلاطم الأمواج، فَسُرَّ غريب بذلك المنظر كثيرًا، واشتاقت نفسه إلى الركوب والطواف في تلك الجهات المجاورة، والركوب يحلو في تلك الصحراء الرملية، والرمل أجمل ما يكون بعد المطر، فركب جواده وسار ولم يخبر أحدًا بذلك.

•••

على أن بعض الجند رآه وعرفه، فلما خرج من المعسكر أوغل في تلك الصحراء شرقًا، وكأنه يريد أن يركض الفرس فاتجه شمالًا إزاء باب عكا، وأخذ يتأمل في أسوار تلك المدينة أو القلعة وحصونها وخنادقها، ثم رأى أمامه آثار قناطر قديمة كان الماء يجري فيها إلى عكا، من مسافة تستغرق أربع ساعات، وفيما هو يتأمل تلك الأسوار عرج به جواده نحو المدينة وهو لا يدري، فما أحس إلا وهو بالقرب من بابها الشرقي، ولم ينتبه إلا عندما سمع صوت إطلاق الرصاص عليه، فلوى عِنان جواده وطلب الصحراء تخلصًا من الموت، ولكنه لم يخطُ بضع خطوات حتى أصيب جواده برصاصة أوقعته صريعًا، فأراد الفرار على قدميه فلم يستطع لأن عددًا من حرس عكا خرجوا عليه بالسلاح، قبل أن يُخرج قدميه من الركاب، فحاول الدفاع فلم يجد إلى ذلك سبيلًا، فقبضوا عليه وساقوه مخفورًا إلى المدينة فأدخلوه من ذلك الباب، وهو يظن أنه في حلم، فدخل وهو على ما علمت من اللباس الفاخر وملامح الأمراء، وقد أرسل كوفيته فوق رأسه وعلى كتفيه، وجمدانه المزركش بالقصب يسطع فوق قفطان من الحرير صنع في دمشق، وقد تقلد السيف، وتمنطق ﺒ «الطبنجات» والخنجر، وكانت مشيته تدل على أنه ليس من عامة الناس، وكان أهل عكا ينظرون إلى ذلك الأسير نظرة تعجب، ويتحادثون فيما بينهم قائلين: ترى مَن يكون هذا الشاب؟ أما هو فكان يمشي غير مبالٍ كأنما هو ذاهب إلى بيته، حتى أتوا به إلى القلعة، فدخلوا على عبد الله باشا وإذا هم برجل ربعة، أشمط الشعر، جالس على مقعد يدخن الشبق، مقطب الوجه، عريض اللحية، على رأسه الطربوش العثماني، وبين يديه رجال دولته، وقد وضع الحسام على فخذه، ويظهر من وجهه أنه في حال ارتباك واضطراب وغضب شديد.

فلما دخل غريب الغرفة عرفه عبد الله باشا فناداه منتهرًا: ألست ابن الأمير بشير خائن الدولة والأمة؟

فقال غريب: «بلى إنني ابنه، ولكنني لا أرى مسوغًا لأن تصفه بهذه الصفة يا سيادة الوالي، ولعلك إذا التقيت بأبي يومًا تعرف حقيقة الأمر.»

فقال عبد الله باشا: «بعثت إليه أن يقدم إليَّ برجاله فانحاز إلى عدونا، فلو ظفرت به لعلَّمته الطاعة والأمانة، وستبقى أنت عندنا رهينة حتى يقضي الله بيننا وبينه.»

فقال غريب: «لا تُكثر من التهديد والوعيد فإن ما نسبته إلى والدي يعد إجحافًا منك بحقه، فإنه لم يقصر في الخدمة والعمل لمصلحتك. ألم يكن هو الذي أنقذك من غضب الدولة؟ وساعدك على إخضاع رعيتك؟ أما انحيازه الآن إلى الجنود المصرية فلعل له عذرًا يعلمه ولا أعلمه.»

فقاطعه عبد الله باشا قائلًا: «ولا عذر له إلا خيانة دولته، وقد قلت لك إني سوف أعلمه الأمانة إن ظفرت به، وما أنا بناقم على إبراهيم بقدر نقمتي عليه، فما هكذا تكون الأمانة والشهامة.»

فقال غريب: «ليسمح لي سيادة الوالي أن أردَّ قوله وأبرئ والدي من هذه التهمة، ولعلكما إذا اجتمعتما وتفاوضتما تعلم مَن الذي تصدق عليه أقوالك، فإن الخيانة ليست من شأن الأمير، ولكن …»

فابتدره الباشا منتهرًا وكأنه يريد الوقوف، ونادى بأعلى صوته: «سالم أغا، خذ هذا إلى السجن مغلولًا!» فتقدم إليه رجل في لباس الضباط، طويل القامة، جميل المنظر، في نحو الثلاثين، أزرق العينين، أشقر الشعر، في يده سيف مسلول وبجانبه جنديان بالبنادق، وأشار إلى غريب أن يمشي فامتنع غريب، والتفت إلى الوالي قائلًا وهو ينتفض من شدة التأثر: «هل اعتدتم أن تكبلوا أبناء الأمراء وتقودونهم إلى السجن مهانين؟ لن أنتقل من هنا حتى تفك أغلالي فأسير بنفسي إلى حيث تشاءون.»

فصاح عبد الله باشا بأعلى صوته: «يا للجسارة، أتعارض أوامري وتمتنع عن الذهاب؟ خذوه حالًا من أمامي وإلا قطعت رأسه بهذا السيف.»

فتقدم غريب، وهو لا يرتعد، وكأن كلام الوالي لم يؤثر فيه إطلاقًا، وقال: «أتظن أنك تروعني بهذا التهديد؟ إنني لست أخشى الموت:

وإذا لم يكن من الموت بدُّ
فمن العجز أن تموت جبانا

أنا لا أبالي بالتهديد والوعيد ما دمت بريئًا، ولكن عار عليك أن تجرد عليَّ سيفًا وأنا أعزل مكبل، فإذا شئت أن تجرب نفسك ففك أغلالي وليحكم الله بيننا بالقسط، ولا تستنكف من ذلك، فإنك تبارز أميرًا.»

فعجب الجميع لهذا الشاب، وأعجبتهم جسارته وثبات جأشه، حتى إنهم خافوا عليه من غضب الباشا، وأشفقوا أن يأمر بقتله للحال، ولا سيما ذلك الضابط الذي أحضر ليسوقه إلى السجن فإنه تقدم إليه وأمسك بذراعه، وضغط بأصبعه عليه كأنه يقول له: «اقصر من هذا الحديث فذلك خير لك.»

أما الوالي فاشتد غضبه، وهمَّ بضرب غريب، لكنه رأى الشرطة تسوقه إلى السجن فسكت، على أنه لو ساير غضبه واتبع هوى نفسه، ما أبقى على غريب، لكنه كان يشعر بضعفه عن مقاومة الجنود المصرية، وكان يعلم أن الدائرة ستدور عليه، حتى إنه كان قد طلب قبل ذلك الحين المفاوضة في أمر الصلح فجاءته أوامر من الآستانة تشدد عزيمته، فأمسك عن المفاوضة في انتظار النجدة، بيد أنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه لا يقوى على مقاومة تلك الجنود العظيمة التي دوخت الأقطار السودانية والغربية والرومية فضلًا عمَّا هي عليه من النظام، فخشي إن هو قتل غريبًا أن يثير عليه انتقام الأمير بشير، فإذا وقع في يده فلا شيء ينقذه من القتل، ولذلك أمسك نفسه ورضي بأن يؤخذ ذلك الشاب من أمامه.

ثقْ بالله ولا تبالِ

أخذ رئيس الشرطة غريبًا مخفورًا إلى سجن عكا المشهور، وهو سجن مظلم يُنزل إليه بعدة درجات تحت الأرض. وفيما هم في الطريق أخذ غريب يفكر في صروف الحوادث، وهذا الحظ السيئ الذي جر عليه هذا البلاء العظيم، فأظلمت الدنيا في عينيه، ولا سيما عندما تذكر والدته وما يكون من حزنها عليه إذا أصابه سوء، ثم طرق ذهنه ما أوصته به أمه عند وداعه، وتذكر تلك البطاقة التي أعطته إياها، ونصحته أن يقرأها في وقت الشدة والضنك، فمدَّ يده إلى جيبه وكان قد حل وثاقه، واستخرج تلك البطاقة فقبَّلها وفتحها، والحراس ينظرون إليه، وأخذ يتأملها فقرأ فيها هذه الآية الذهبية: «ثقْ بالله ولا تبالِ»، فاطمأن قلبه وانبسط وجهه، كأنه كان في شدة ونجا منها، وقد لاحظ ذلك سالم أغا رئيس الشرطة؛ لأنه كان بجانبه، فحدثته نفسه أن يسأل غريبًا عن تلك البطاقة، وكان قد أحبه ومال إليه منذ رآه، ومن ثم لم يتحول بصره عنه.

figure
أما الوالي فاشتد غضبه، وهمَّ بضرب غريب، لكنه رأى الشرطة تسوقه إلى السجن فسكت، على أنه لو ساير غضبه واتبع هوى نفسه، ما أبقى على غريب.

فتقدم إلى غريب قائلًا: «ما هذه الورقة التي فتحتها؟»

قال: «هي ورقة لا فائدة لك فيها.»

فقال الأغا: «أعلم ذلك، ولكني أريد أن أطَّلع عليها.»

فقال غريب: «ليس فيها شيء يوجب إخفاءها لكنها ثمينة عندي لأنها من أعز الناس علي.» فضحك الأغا وقال: «لعلها تذكار من حبيبتك!» فخجل غريب لذلك، وقال: «لا، وإنما هي تذكار من والدتي.» فأراد الأغا أن يطيل السؤال، ولكنه كان قد وصل إلى السجن فأدخل غريبًا ذلك السجن المظلم، وصرف مَن كان واقفًا هناك من الشرطة، ودخل السجن معه لكي يعد له مكانًا يمكث فيه.

•••

استعظم غريب الدخول إلى ذلك المكان المظلم، وكاد الشرر يطير من عينيه، ولم يكن معه إلا الأغا فسار به إلى حجرة مضيئة ليس فيها أحد، وأجلسه على حصير هناك، وجلس هو بجانبه فتعجب للطف ذلك الأغا، وخشي أن يكون وراء ذلك دسيسة مدبرة، تهدف إلى قتله، فصار ينظر إليه نظرة الحذر، غير أن ملامح وجهه لم تكن تظهر فيها دلائل الخيانة.

تقدم الأغا إلى غريب — بعد أن جلسا — وطلب منه بصوت ضعيف أن يطلعه على تلك البطاقة، فقال غريب: «وما غرضك منها؟» قال: «لا غرض لي سوى أني أحب الاطلاع على نصائح الوالدين.» فأعطاه البطاقة، فلما قرأها وقف شعر رأسه من التأثر، وقال: «حقًّا إن هذه الوالدة لجوهرة ثمينة، فهذه أجمل وصية يمكن أن توجهها أم لولدها.»

وقد حمل غريب ذلك اللطف والدعة محمل الخديعة؛ لأنه قلما ظهر بين رجال والي عكا أناس في مثل هذه العواطف النبيلة.

ثم قال الأغا لغريب: «قد آن وقت الغداء، ولا بد أنكم تحتاجون إلى طعام.» فقال غريب: «إن نفسي لا تطلب طعامًا ولا شرابًا.» فأخذ سالم أغا يخفف عنه ويعزيه إلى أن قال: «يظهر لي أنك لم تقاسِ عذاب السجون أيها الأمير، كل واشرب واهنأ فعسى أن يمنَّ الله بالفرج من الآن إلى المساء!» وقد لمح غريب من ذلك أن الرجل يقصد مساعدته فهدأ روعه، ولما جاء الطعام أكل ولكنه عاد فتذكَّر والدته فانقبض وجهه، فقال له سالم أغا: «ما بال سيدي الأمير منقبض الوجه؟»

فأجاب غريب: «لا تظن يا أخي أني خائف من الموت، لا ورأس أبي وإنما خوفي مصدره الإشفاق على والدتي التي إذا علمت بسوء أصابني لا تعيش ساعة من بعدي، وإذا كنت أحب الحياة فمن أجلها وحرصًا على راحتها.»

فتبسم سالم أغا قائلًا: «طِب نفسًا يا عزيزي، فإني عون لك على النجاة من هذا الضيق إن شاء الله.» فقال غريب: «وكيف يمكنك ذلك وقد أمرتَ أن تحافظ عليَّ في السجن؟» فقال الأغا: «ما لنا وللأوامر، إننا نفعل ما نشاء!» فقال غريب: «أخشى أن يسبب لك ذلك ضررًا، ثق إنني أفضل البقاء هنا والموت على أن يمسك أي سوء، نتيجة ارتكاب مثل هذه الخيانة.» فعجب الأغا لهذه العواطف النبيلة وازدادت محبته له، وهمَّ إليه وقبَّل عارضيه وقال: «لا، لا يا سيدي إن ذلك لا يعد خيانة لأني أكون قد أنقذت بريئًا من يد ظالم، فإن عبد الله باشا رجل مستبد غشوم لا يعرف الصداقة، ولا تظن أني أطعن فيه وهو رئيسي، وإنما رأيت منه أمورًا أوجبت نفوري منه، وميلي إلى الجنود المصرية.»

فقال غريب: «يا للعجب، ألا تكون قد خرجت عن طاعة مولاك وخنت وطنك؟» فضحك سالم أغا، وقال: لا يا سيدي، إن عبد الله باشا ليس مولاي ولا أنا من أهالي عكا ولا أهالي سوريا، وإنما ساقتني الأقدار إلى هنا مصادفة، وسأقص عليك قصتي في فرصة أخرى إن شاء الله.

قال غريب: «والآن ماذا نفعل؟» فقال الأغا: «أنا أتعهد لك بالخروج من هذا السجن في هذا الليل بكل أمان إلى معسكر أبيك، ولكني أريد منك أن تؤمنني على حياتي أمام إبراهيم باشا، ولا بد لي قبل كل شيء من أن تعاهدني على الصداقة فنكون أخوين متحالفين، فأنا أتعهَّد بإخراجك من هذا السجن، وأنت تتعهد بحفظ حياتي عند وصولنا إلى معسكركم بكل أمان، والآن سأخرج من هذا السجن لأهيئ ما يلزم وسآتيك بعد الغروب.»

قال: «حسنًا» فخرج الأغا، وبقي غريب وحده يفكر في ذلك الرجل، وهو لا يزال في ريب مما قاله، ثم نظر إلى ذلك السجن المخيف، وترقب بلهفة ساعة عودة الأغا، فلما رجع رأى غريبًا في انتظاره بفارغ الصبر، فقال له: «ها أنا ذا قد أعددت كل ما يلزم، فهل أنت مستعد للفرار؟» فقال: «يسوءني، وأيم الحق، أن أخرج من هذا المكان فرارًا ولكن، ما الحيلة؟»

سار الأغا ممسكًا بيد غريب متلمسًا طريقه في ذلك الظلام، حتى وصل إلى باب مقفل ففتحه ودخل به إلى حجرة داخلية، في أعلى جدار من جدرانها طاقة عليها شباك من الحديد، فقال سالم أغا لغريب: «قف عندك قليلًا» وجاء بسلم من إحدى زوايا الغرفة وصعد به إلى تلك النافذة، وما زال يعالج الحديد بأداة في يده حتى قطعه وسحب قضيبين من قضبانه، فصار في الإمكان خروج الإنسان منها، وثبت بالحديد الباقي حبلين وأرخاهما إلى الخارج.

انتهى سالم أغا من ذلك، ثم قال: «تفضَّل واصعد يا سيدي هذا السلم!» فصعد وأطلَّ من الطاقة فإذا هو عند البحر، والأمواج تلطم جدار السجن، وتدوِّي في هدوء ذلك الليل، فقال سالم: «لا تُضع الوقت، أنزل رجليك من النافذة أولًا، ومتى أنزلت يديك أمسك بالحبل، ولا تخف، فإن قاربًا ينتظرنا هناك ليتلقاك البحَّارة بسلام.» فأخرج غريب نفسه من النافذة مبتدئًا برجليه جاعلًا صدره إلى جهة الحائط، فلما قرب من إنزال يديه فطن إلى الخطر المحدق به، فيما لو انقطع به الحبل وسقط في الماء؛ لأنه لا يحسن السباحة، ولكنه تجلَّد وتشجع، فلما صار جسمه كله خارجًا أمسك بالحبلين معًا، ونظر إلى أسفل الحائط فإذا هو بقارب فيه اثنان من البحارة، وقد رأى في خلال ذلك الظلام إشارتهما إليه بالنزول، فأخذ يمسك بهذا الحبل ويترك ذاك، وهكذا حتى قرب من القارب. وبعد قليل رأى سالمًا نازلًا، فلما صار الاثنان في القارب أخذ البحارة يجدفون بسرعة مع مراعاة الهدوء بقدر الإمكان، حتى داروا من وراء سور المدينة وبعدوا عن الخطر، فدنوا من الشاطئ ونزلوا، وإذا هما بجوادين ينتظرانهما كانا قد أعدهما سالم أغا فركبا، وما زالا سائرين حتى بلغا معسكر إبراهيم باشا.

سالم أغا

أما ما كان من أمر الأمير بشير، فإنه لم يكن يعلم بخروج غريب في ذلك الصباح، ولكنه حين حلَّ وقت الغداء ولم يحضر، سأل عنه، فقيل له: «إن بعض الجند رآه راكبًا جواده في الصباح الباكر.» فكرر الأمير السؤال عنه، ولما لم يقف له على أثر بثَّ رجاله يفتشون عنه في تلك الصحراء، فعادوا دون أن يعلموا عنه شيئًا، فغضب الأمير غضبًا شديدًا، وأصبح النور في عينيه ظلامًا، ولم يعد يستطيع صبرًا، فركب جواده وركب معه بعض رجاله، وساروا يفتشون عن غريب في جهات الجنوب ظنًّا منهم أنه توجَّه للنزهة في نواحي حيفا وجبل الكرمل، فقضوا هناك بضع ساعات يبحثون بغير جدوى، فعادوا إلى المعسكر، وإذا هم بغريب قد عاد ومعه سالم أغا وجلسا في خيمة الأمير، ودخل الأمير فسلَّم غريب عليه، فسأله عن سبب غيابه فأخبره بما جرى وعرَّفه بسالم أغا، وطلب إليه أن يذكر معروفه لأنه أنقذه من الموت.

فقال الأمير لسالم أغا: «لقد غمرتنا بفضلك، ولا بد من مكافأتك فاطلب ما تشاء.»

فوقف الأغا وتقدم يريد تقبيل يد الأمير فأمسكه، فقال: «يا سيدي أسألك أن تتوسط لي عند إبراهيم باشا ليقبلني في جيشه؛ لأني كنت فيما سبق من جنده وخرجت بغير إذن منه.» فوعده بذلك، وأكرمه غاية الإكرام، على أن يأخذه في صباح الغد إلى خيمة إبراهيم باشا من أجل ذلك.

ثم باتوا تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي سار الأمير بشير وولده غريب وسالم أغا إلى خيمة الباشا، فدخل — أولًا — الأمير وولده، ثم استأذنا لسالم أغا فأذن له فدخل، فلما شاهده إبراهيم باشا عرفه وسأله قائلًا: «ألست سالم أغا؟»

قال: «بلى يا سيدي، إني عبدك سالم.»

قال الباشا: «وأين كنت بعد رجوعنا من حرب المورة، فإني منذ نزولنا إلى مصر، لم أعد أشاهدك قط، فظننت أنك أصبت بسوء؟!»

قال سالم: «يا سيدي إنني لم أصب بسوء قط، وإنما ذهبت إلى عكا أفتش عن ضائع لي وأقمت بها.»

قال الباشا: «يا للعجب كيف يكون لك ضائع هنا، وقد جئت معنا من بلاد اليونان وأنت من أهل تلك البلاد، فكيف تقول إن لك ضائعًا في هذه الجهات؟»

فتنهد الأغا وقال: «هذا هو الواقع يا سيدي، وقد جئت الآن في صحبة سيدي الأمير طالبًا العفو عن زلتي.»

فقال الأمير بشير: «اعلم يا سيادة الوزير أن هذا الرجل قد صنع فينا معروفًا وأنقذ غريبًا من الموت، وقص القصة عليه ثم همس في أذنه: إن بقاء الرجل معه يفيده كثيرًا لأنه يستطلع منه أخبار العدو.» فقال الباشا: «لا بأس قد عفونا عنك، ولكن عليك قبل كل شيء أن تخبرني عن حالة عكا ومن فيها من الجنود، وعن مقاصد عبد الله باشا.»

فوقف سالم أغا على قدميه، ثم جثا أمام الباشا قائلًا: «ليعفني سيدي من ذلك فإنني عاجز عنه؛ إذ يكفي أني خرجت من المدينة سرًّا، وأخرجت معي أسيرًا كان يجب أن أبقي عليه في السجن، وخالفت بذلك أوامر رئيسي، وأما إطلاع سيادة الباشا على أسرار المدينة فإن الأمانة والإخلاص في الخدمة يمنعاني من ذلك.» فعجب الأمير بشير لتلك الشهامة، أما إبراهيم باشا فلم يدهش لأنه كثيرًا ما شاهد منه مثلها في حروبه بأرض المورة، لكنه قال له: «أنت في الأصل من جندنا وأنت بذلك تخدم مصلحتك القديمة.» فقال: «العفو يا سيدي إني لا أحب حرفة الجواسيس ولا يمكنني أن أمارسها قط، فلا يسعني أن أخبرك بشيء عن حال المدينة مهما كلفني ذلك، والأمر لسيادتك.»

فتبسم إبراهيم باشا وقال: «لا بأس يا سالم فقد عودتني مثل هذه الشهامة مذ كنت معي في حرب المورة.» ثم نادى أركان حربه وأمره أن يجعل سالمًا في عداد الضباط، وأن يعيد اسمه إلى الجيش، فقبَّل سالم يد الباشا، وخرج إلى المعسكر.

فقال الأمير بشير لإبراهيم باشا: «حقيقة إني لم أشاهد مثل هذه الشهامة قط!» فتبسم الباشا قائلًا: «إن هذه ليست المرة الأولى التي أعرف فيها ذلك الرجل، فقد عرفته منذ خمس سنوات تقريبًا في نافرين بالمورة من بلاد اليونان.

ولا يخفى على سيادتكم أني توجهت بحملة بحرية بأمر الباب العالي لمحاربة أهل المورة حين أشعلوا ثورة اليونان على الدولة، ففي سنة ١٨٢٦ بينما كانت سفننا راسية في ميناء نافرين، ونحن بين هجوم على تلك المدينة ودفاع عنها، جاءنا هذا الرجل في قارب رافعًا علمًا أبيض، ولما وصل إلينا سألناه عن غرضه، فقال إنه من جنود اليونان، وقد جاء مسلِّمًا، وإن تسليمه ليس نتيجة خوف أو خيانة، ولكنه يود البقاء معنا ريثما نعود إلى مصر، ولما رأيته يتكلم العربية تعجبت من حاله، وسألته عن حكايته فاعتذر بأنه لا يستطيع إطلاعي عليها، فأردت الاستفهام منه عن قوة اليونانيين ومقاصدهم، فكان جوابه أنه لا يستطيع إفشاء ما اؤتمن عليه من الأسرار، وإن لم يكن يوناني النزعة، غير أنه قال إن الشهامة تقضي عليه بكتمان ما يعلمه، فهددناه بطرق مختلفة فلم يفه بكلمة، فتعجبت من شهامته ووافقته على طلبه فبقي معنا حتى قضت الأحوال بعودتنا إلى الديار المصرية فرجع معنا، وبعد وصولنا إلى الإسكندرية بقليل لم أعد أراه. وكنت دائمًا أفكر فيه، وأود بقاءه بين جنودي حتى رأيته الآن على ما شاهدتم منه.» فأوصى الأمير بشير إبراهيم باشا وصية خاصة بمساعدته إلى أن قال: «إنك إذا فعلت ذلك معه، فكأنما تكون قد فعلته معي.»

غرائب الاتفاق

في أوائل سنة ١٨٣٢م، حينما كتب محمد علي باشا إلى ولده إبراهيم أن يفوِّض إلى الأمير بشير مباشرة أعمال ولاية صيدا، وأن يكون هو المتصرف في جميع شئون الأهلين وأصحاب المقاطعات، رأى غريب أن وجوده هناك لم يعد يأتي بفائدة، فطلب إلى الأمير أن يسمح له بالعودة إلى بيت الدين فأذن له، فركب في جماعة من رجاله وسار بعد أن ودع صديقه سالم أغا، وبعد مسيرة يوم ونصف يوم، وصل إلى مدينة صور، فلم يشأ النزول في المدينة ولكنه أراد المبيت عند رأس العين قبل المدينة بنحو نصف ساعة، وهو مكان فيه مياه غزيرة تندفع من تنُّور قد بُني حولها فانحصرت فيه، وهناك بساتين تسقى منها وأرحية تدور بها، فنصبت لهم الخيام هناك، وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب، والبساتين مخضرَّة في أول الربيع والجو صافيًا على أثر وابل غسل الأرض ونقَّى الجو، فترجَّل غريب عن جواده وسار يتنزه في تلك البساتين ترويحًا للنفس، بعد أن أمر من معه بنصب الخيام وتهيئة الطعام. وسار برفقته أحد أتباعه، فشاهد عن بُعد شخصًا عليه عباءة قديمة فتقدم نحوه، فإذا هو شيخ طاعن في السن بيده عكاز، وقد أرخى شعر رأسه الشائب على كتفيه، وكانت لحيته ملء صدره، وتلوح على وجهه أمارات الكآبة، فتأمله فإذا هو ماشٍ مطرق لا يلتفت يمينًا ولا يسارًا، فتعجب من حاله، وحدثته نفسه أن يسأله عن أمره فناداه قائلًا: إلى أين يا حضرة الشيخ؟

فانتبه الشيخ كأنه هب من نوم، ووقف ينظر إلى غريب، ثم عاد إلى الإطراق وسار.

وأعاد غريب السؤال قائلًا: «ما بالك لا ترد عليَّ جوابًا؟ ألا تعلم أن المسير في هذه الأرض غير مباح بدون استئذان؟»

فالتفت الشيخ مغضبًا، وقال: «إني من عبيد الله، أسير في أرض الله، فما لك ولهذه المعارضة؟»

•••

تعجَّب غريب لهذا الجواب، وتقدَّم إلى الرجل وأمسك بيده فنفر منه مغضبًا، وهوَّل عليه بالعصا، فقال غريب في نفسه: «إن في عقل الرجل اختلالًا، فالأولى أن آخذه بالتأني.» أما تابع غريب فأمسكه بيده قائلًا: «تأدب يا رجل واعلم أنك تخاطب ابن الأمير بشير.»

فبهت الشيخ ورفع عينيه إلى غريب وتأمله برهة، ثم أطرق إلى الأرض، ولكنه صار يرتجف حتى وقعت العصا من يده، فتأمله غريب فتوسم فيه شخصًا يعرفه، فبهت مفكرًا لعله يتذكر تلك الصورة، ثم أوقف تابعه عن الكلام، وتقدم إلى الشيخ بكل هدوء وقال له: «ألا تريد أن تخبرني عن اسمك؟»

فقال الرجل: «لا، بل أنت ما اسمك؟»

قال: «أنا الأمير غريب ابن الأمير بشير، وأنت، من أنت؟»

فرمى الشيخ بنفسه على غريب وكأنه أراد أن يتكلم فلم يستطع، وصارت شفتاه ترتجفان، ومد يده إلى كوفية غريب يريد نزعها، فأراد خادم غريب منعه فلم يستطع، وعندما وقعت الكوفية عن رأس غريب رنا بنظره إلى جبينه ولمسه عند أثر الضربة التي كان قد أصيب بها في الصحراء بمصر.

•••

فتذكر غريب تلك الأيام، وفطن إلى أن هذا الرجل هو الذي أنقذه من أيدي اللصوص، فنادى بأعلى صوته: «هل أنت الأمير سليمان؟» فلم يستطع الشيخ جوابًا، ولكنه أومأ إليه برأسه إثباتًا. فصرخ غريب قائلًا: «أهلًا وسهلًا بسيدي ومنقذي من الموت!» وطفق يقبِّل يديه، وأمر خادمه أن يحضر ماء، رشه به وأجلسه، وأخذ يحادثه ويخفف عنه حتى سكن روعه.

ثم قال له: «ما الذي جاء بك إلى هذه الأرض بعد هذا الزمن الطويل؟ وما الذي حدث لك؟»

فتأوه الرجل وبكى، ولم يبدِ جوابًا، ثم أخذ بأطراف الحديث، فقال: «أين والدك الأمير بشير؟» قال: «هو في عكا برفقة الجنود المصرية، وعما قليل يلحق بنا إلى بيت الدين.» فقال الشيخ: «هل هو بخير؟» قال: «نعم، ولا بد أنه سيسر كثيرًا بمشاهدتك، فإن لك علينا فضلًا كبيرًا، هيا بنا الآن إلى الخيام لنبيت هذه الليلة، وفي الغد نركب معًا إلى بيت الدين، ونبقى هناك ريثما يعود والدي فيسر بمشاهدتك.» فامتنع الرجل أولًا، فألح عليه غريب حتى رافقه إلى رأس العين، وهناك عرض عليه أن يغتسل ويغير ثيابه، فقال: «لا يا ولدي إن ثيابي لا أغيرها، وإنما لا بأس من الاغتسال.» واغتسل، ثم مد السماط فأكلوا، وكان غريب في غاية السرور لهذا الاتفاق؛ لأنه كان يشعر بثقل الجميل الذي كان عليه لذلك الرجل الذي أنقذه من مخالب الموت، وقد ترك ذلك الحادث أثرًا في جبينه.

•••

وبعد الطعام، جلسا لتناول القهوة، وبدأ غريب مفاتحة الشيخ ثانية في حكايته، فقال: «إن حكايتي لا أحكيها إلا لوالدك.» فلم يراجعه، ولكنه لم يعد يعرف كيف يكرمه، وخطرت بباله والدته، فقال: «إني مسرور جدًّا بلقياك يا سيدي، وإنما الفرح العظيم سيكون لوالدتي التي كثيرًا ما تذكر فضلك وتثني عليك، وبعد يومين ستشاهدك، ولا بد من أنها ستسر بك سرورًا عظيمًا.»

فقال الشيخ: «إن ذلك كله لحسن نيتكم، وأما أنا فلم أفعل شيئًا، وإنما الفضل الأكبر لسيدي والدكم، ولكن …» ثم خنقته العبرات، فتعجب غريب لتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعلم شيئًا من الأمر الذي دار بشأنه. وفي صباح اليوم التالي، ركب غريب بعد أن أركب الشيخ، وجعل في خدمته رجلين، وسار الركب حتى أمسى المساء، وفي الصباح التالي ساروا حتى إذا ما اقتربوا من بيت الدين سار المبشرون إلى السراي، يخبرون أهلها بقدوم الأمير غريب، فخرج الرجال لملاقاته، أما والدته فكانت في انتظاره عند باب الدار.

لقاء بهيج

وصل الموكب قبل الغروب بقليل، فدخل غريب ممسكًا بيد ذلك الشيخ حتى وصل إلى صحن السراي الداخلي، فإذا هو بوالدته في انتظاره عند باب دار الحريم، فلما بلغها قبَّلته، ولم تنتبه إلى الشيخ الذي أدخله معه إلى قاعة الاستقبال إلا بعد قليل فاضطرت هي ومن معها من نساء السراي أن يمتنعن عن الدخول معهما حتى نادى والدته قائلًا: «تعالي يا أماه وقبِّلي يد هذا الشيخ الذي أنقذ ابنك من الموت في صحراء بني سويف!» فدخلت جميلة القاعة وركبتاها ترتجفان، فلما شاهدت الرجل وتأملته صرخت قائلة: «أمين؟! أمين؟! هل أنت ما تزال على قيد الحياة؟» ووقعت مغشيًا عليها، فذهل غريب لذلك المنظر، وأمر بالماء وماء الزهر ليرشا على وجهها خوفًا عليها، وتقاطر سائر أهل السراي على مصدر الصوت، وكان ذلك الشيخ أكثر ذهولًا من الجميع، لكنه عندما سمع لفظ أمين صرخ: «سلمى؟! سلمى؟! هل أنت هنا؟» ووقع غائبًا عن الصواب، فبهت الحضور جميعًا، ولكنهم شغلوا برش ماء الزهر على المصابين. وبعد قليل أفاق الاثنان وأخذ كل منهما يتأمل وجه الآخر، كأنهما أصيبا بجنون ثم أعادا النداء، وضم أحدهما الآخر وتعانقا، فزاد ذهول الناس، ولم يكن أحد من الحاضرين يعرف الحقيقة إلا زوجة الأمير، فأمرت كل من في القاعة بالخروج منها إلا غريبًا ووالدته. أما غريب فكان كأنه في حلم؛ لأنه لم يكن يعرف أن ذلك الشيخ هو والده، ولا أن اسمه أمين بك، ولا أن له والدًا غير الأمير بشير، ولا أن والدته تدعى سلمى، فأخذ منه الاندهاش كل مأخذ، وكان يظن في أول الأمر أن والدته فعلت ذلك لشدة تأثرها من تذكر الخطر الذي كان قد أحدق به، وتقدير هذا الرجل الذي أنقذه منه، ولكن لما نادى كل منهما الآخر باسمٍ غريب عنه، ولم يعد يعرف كيف يؤوِّل ذلك المنظر، وخاف على والدته، أخذ يخفف عنها، أما هي فلم تستطع إمساك نفسها عن البكاء الممزوج بالضحك من شدة الفرح، ثم قالت لزوجها: «لماذا لا تقبِّل ولدك غريبًا؟» فتركها للحال واتجه إلى غريب صارخًا: «ولدي وفلذة كبدي غريب، هل أنت ولدي ولم أعلم بعد؟» وأخذ يقبِّله ويعانقه، وعيناه تذرفان الدموع، فبكى غريب مشاركةً لهما، وهو في حيرة من ذلك حتى ظن نفسه في حلم.

•••

فتقدمت إليه زوجة الأمير بشير قائلة: «لا تذهل يا ولدي ولا تعجب مما رأيت، فإن والدك ليس الأمير بشير، وإنما هو هذا الشيخ، فقبِّل يده واجلس لنقص عليك القصة، اجلسوا قبل كل شيء، وسكنوا روعكم جميعًا لنشكر الله الحي الأزلي الذي جمع شتاتكم، وهو قادر أن يحيي رميم عظامكم.»

•••

فجلس الجميع، وأخذت زوجة الأمير تقص على غريب حكاية والده باختصار، وهو صامت يكاد لا يصدق أنه في يقظة، فلما انتهت من حديثها نهض غريب ثانية وقبَّل يدي والده، وقد تعجَّب لما علم من حكايته.

ثم أراد أمين بك أن يسأل سلمى عن ولدهما سليم، فأشارت إليه أن يرجئ ذلك إلى وقت آخر؛ إخفاءً لأمره عن غريب، وبقي الجميع صامتين برهة، ثم جاء وقت العشاء، وبعد تناول الطعام ذهبت سلمى مع زوجها وولدها إلى حجرتها، وهناك سألت زوجها عن كيفية وصوله إليهم، وماذا مر به من ظروف؟ فقصَّ عليها الحكاية حتى انتهى إلى كيفية ذهابه إلى السودان طلبًا للموت ليأسه من الوقوف على مكان إقامتها، ثم حكى لها كيف قتل سعيدًا، إلى أن قال: بعد أن ضربته انتبهت وتأملته، فإذا هو لا حراك به، وتذكرت قوله إنك على قيد الحياة، فصارت روحي عزيزة علي، بعد أن كنت أعرضها للسيف والنار، فعمدت إلى الفرار من موضع الوقعة، حتى وصلت إلى مأمن، فجلست أحدث نفسي بما كان وكأنه حلم مر بي، فكنت تارة أكذِّب مخيلتي، وطورًا أعود فأشعر بحقيقة الوقعة، ولما ترجَّح لديَّ أن ما سمعته من سعيد كان في يقظة، تكدرت جدًّا لقتله بيدي وبكيت عليه بكاءً مرًّا.

فصاحت سلمى: «وا حسرتاه عليه، إنه كان خادمًا أمينًا بل صديقًا وفيًا!»

•••

ولم تستطع إمساك دموعها، ثم استأنف زوجها الحديث قائلًا: «ثم تذكرت ما قاله لي فلم أستنتج شيئًا صريحًا لأني لم أتأكد إلا من قوله، وأنا ملقٍ بنفسي إلى النار: «لا، لا تقتل نفسك، فإن سيدتي سلمى حية.»

وكان السيف مسلولًا بيدي، وكان عليه ثياب السودانيين والسيف بيده، فظننته آتيًا لقتلي فضربته ضربة أظنها كانت القاضية، ولم أسمع كلماته إلا بعد أن هويت بالسيف على رأسه، فلم يعد يمكنني إمساك يدي، فالتفت إليه فرأيته مضرجًا بدمائه، فإذا هو سعيد، وا لهفي عليه! فأسفت وندمت حيث لا ينفع الندم، وكان بودي أن أتحرى أمره، لعل فيه رمقًا فحال العدو بيننا. لقد ترجح لي أنك على قيد الحياة، ولكني لم أعلم أين مقرك، ولا كيف أصل إلى معرفته، وكنت قد تحققت أنك لست في مصر أو في سوريا، ولا فيما مررت به من بلاد السودان، فوقعت في حيرة، وأسفت لأني لم أمت قبل مجيء سعيد بذلك الخبر، إذ أصبحت بعده في اضطراب عظيم، فحدثتني نفسي أن أتجول في الدنيا كمن زهد فيها، لعل الله يجمعني بك، فسافرت إلى بلاد الحبش وبلاد العرب وكل من رآني يحسبني درويشًا، وقضيت في تلك السياحة تسع سنوات حتى سقم جسمي من الحزن والتعب، فأشفقت أن أموت قبل أن أراك فقلت في نفسي: لأذهبن قبل موتي إلى البلاد التي أخذتك منها لأشاهد الأماكن التي قضيت فيها أيامك الأولى.

فسرت على سواحل سوريا حتى التقيت بحبيبي غريب أمس الأول، بالقرب من صور على الحالة التي شاهدني عليها، ودار ما دار بيني وبينه، وجاء بي إلى هنا، ولا تعجبي لما يظهر عليَّ من دلائل العجز والشيخوخة المبكرة، فإن الأهوال التي قاسيتها قد أنهكت جسمي وشيَّبتني قبل الأوان.»

•••

كل ذلك وغريب في ذهول تام، حتى لم يكد يصدق أنه في يقظة، وتعجب لغرابة هذا الاتفاق، وكيف أن نجاته من الموت في صحراء بني سويف كانت على يد والده الحقيقي وهو لا يعلم.

التفت غريب إلى والدته قائلًا: «كيف استطعت أن تحجبي عني هذا الأمر كل هذه السنين؟» فقالت: «يا ولدي حجبته في أول الأمر لسببين؛ أولهما: أنني لم أرَ فائدة من إطلاعك على وفاة أبيك في مذبحة القلعة؛ لأننا كنا نظن أنه ذُبح في جملة من ذُبح هناك، وثانيهما: أني كنت أود كتمان أمري عن الناس كافة، حتى عن الأمير بشير، فهو لم يعلم ذلك إلا بعد عودته من مصر، وقد كان ذلك رغم إرادتي. أما الرجلان الوحيدان اللذان كانا يعلمان السر، فهما خادمنا المرحوم سعيد ورئيس الدير.

وأما بعد أن علمت بوجود والدك على قيد الحياة في مصر، فلم أخبرك خوفًا من ألا يسمح القدر بوصوله إلينا، فأكون قد سببت لك حزنًا بلا جدوى، فتركتك على اعتقادك بأنك من أولاد الأمير بشير، على أمل أننا إذا ظفرنا بوالدك أخبرناك بالحقيقة وإلا بقي الأمر مكتومًا عنك، فنشكر الله القادر على كل شيء لفضله وكرمه، فقد رد ضالتنا وجمعنا بسيدنا وملاذنا، وها أنا ذا قد شرحت لك حقيقة الحال.»

فتح عكا

ظلوا في مثل هذه الأحاديث، حتى انقضى شطر من الليل وهم لا يعلمون، ولا يشعرون بميل إلى النعاس؛ إذ كانوا مستدفئين في غرفتهم يسمعون عصف الرياح والزوابع وصوت الثلوج المتساقطة، والرعود القاصفة، إلى أن قالت سلمى: «أظن أنه من المستحسن أن نذهب إلى فراشنا؛ إذ قد مضى معظم الليل ولم نشعر بالنعاس، ولن نشعر به ولو مضى كله، ولكن أجسادنا تحتاج إلى النوم، وفي صباح الغد نجتمع ونُتِمُّ حديثنا إن شاء الله.» فوافقها على رأيها، وذهب كلٌّ منهما إلى فراشه مطمئنًا إلا أمين بك فإنه كان لا يزال مضطرب البال على ولده سليم، فبكَّر في الغد إلى حجرة زوجته وحده، وسألها عن حكاية ولدهما فروتها له، فأسف وبكى، فقالت له: «إني لا أزال أخفي ذلك عن غريب لئلا أحزنه بدون جدوى.» فقال لها: «حسنًا فعلت، بورك فيك من زوجة حكيمة فاضلة.»

ثم استيقظ غريب، وجاء إلى والديه، وقضوا ذلك النهار في الأحاديث، وبعثت سلمى إلى رئيس الدير ليشاركهم الفرح، فَسرَّ كثيرًا.

ومكث الجميع في فرح وسرور منتظرين رجوع الأمير بشير لعلمهم أنه يُسَرُّ كثيرًا بمشاهدة أمين بك والتقائه بزوجته وولده، فلما عاد إلى بيت الدين وعلم بالأمر تعجب لذلك الاتفاق وشاركهم الفرح، غير أنه كان مرتبك الأفكار بسبب الأحوال السياسية، وغضب الدولة العَليَّة عليه لمساعدته الجنود المصرية، حتى كتب والي حلب إلى اللبنانيين يهددهم ويأمرهم أن يختاروا واليًا عليهم غير الأمير بشير، فاتحد الدروز مع جنود الدولة، وقامت الحرب بينهم وبين نصارى لبنان سجالًا، فدارت عدة مواقع في دير القمر وزحلة والمتن، وعزمت الدروز على الاجتماع في حمانا ضد الأمير ليشغلوا إبراهيم باشا عن قتال عسكر الدولة في حمص.

وكانت عكا إلى ذلك الحين لم يتم فتحها لأنها امتنعت على الجنود المصرية أكثر من خمسة أشهر.

وفي ٢٧ مايو (أيار) سنة ١٨٣٢م أمر إبراهيم باشا جنوده أن يهجموا على عكا دفعة واحدة، وأن يواصلوا إطلاق النار عليها ففتحها عنوة، ودخلها بجيوشه، وأعطى الأمان لعبد الله باشا فسلَّم له، فلما أقبل عليه صافحه وطيَّب قلبه وطمأنه على دمه وعرضه، وسار به إلى قصر البهجة، ثم أرسله بحرًا إلى والده في الإسكندرية.

فلما وردت البشائر إلى بيت الدين بذلك، نهض الأمير إلى عكا لتهنئة إبراهيم باشا بالفتح، فطلب غريب مرافقته، فقال: «لا حاجة يا ولدي لذهابك إلى هناك، فالأولى أن تبقى مع والدك هنا، أو أن تخرج به للنزهة أو السياحة، بل الأفضل لكم البقاء هنا لأن البلاد ثائرة علينا، وقد أصبح أعداؤنا كثيرين فأخشى أن يصيبكم مكروه من جماعة الدروز، وهنا يمكنكم الخروج إلى الجهات القريبة للترويح عن النفس، ريثما أعود.»

•••

فلما رجع من عكا، أخذ يتأهب لملاقاة إبراهيم باشا في دمشق؛ لأنه كان قد سار لمحاربتها فأخذ معه ولديه خليلًا وأمينًا، وأراد غريب مرافقته فمنعه قائلًا له: «إن وجودك هنا أولى، فإننا على كل حال نحتاج إلى من يحافظ على بيتنا.» فاستصوب الرأي ولكنه ركب معه لوداعه مسيرة ساعتين، حتى قال له الأمير: «يكفي يا ولدي فارجع إلى والدتك ووالدك.» فرجع بجواده، ونفسه تحدثه بمرافقة الأمير للحرب. وكان غريب راكبًا جوادًا أزرق عليه سرج مفضض، وعلى رأسه الكوفية والعقال، وعلى كتفيه برنس أبيض يغطيه ويغطي ظهر جواده، وكان الجواد من جياد الخيل الأصيلة، يمشي به مشية العروس، مع وعورة المسالك في تلك الجبال الصخرية، وكان غريب قلما يعجب بنفسه، ولم يكن يهمه بعد ملاقاة أبيه إلا خدمته وراحته.

وفي أثناء عودته من توديع الأمير كان يفكر في وسيلة تمكنه من ذلك.

خطر جسيم

مرَّ غريب بقصر جميل كان قد شاهده مرارًا ولم يدخله، فأخذ يتأمله لانفراده عن القرية، ولما يحيط به من الأشجار التي معظمها من التين والزيتون والصنوبر والتي يتخللها حقول من الكرْم، فانشغل بتلك المناظر، وبينما هو غارق في هذه التأملات سمع صوتًا يناديه من جهة ذلك القصر: «ما بالك يا أمير غريب، احترس لنفسكَ!» فالتفت جهة الصوت فلم يرَ أحدًا، ولكنه سمع وقع حوافر جواد مسرع وراءه، فالتفت فإذا هو برجل ملثم منقضٍّ عليه برمح في يده يريد طعنه به، فاستلَّ غريب سيفه بأسرع من لمح البصر، وضرب ذلك الرمح فقطعه نصفين، وهجم على ذلك الفارس، وهو لا يعلم من هو، فصاح به: «من أنت يا خائن؟» فلم يجبه ولكنه أخرج من قربوسه شهبًا ناريًّا يريد إطلاقه عليه، فانقضَّ عليه غريب وأمسك ذلك المسدس بيده فخرج الطلق في الهواء، فتقاطر من وراء ذلك الفارس جماعة من الفرسان، جميعهم ملثمون، فصرخ فيهم غريب بقلب لا يهاب الموت: «ما غرضكم مني يا لئام؟ أتظنون أني أخشى عددكم؟» قال ذلك وهجم بسيفه فضرب أحدهم على رأسه فقضى عليه، وضرب الآخر فأصابه ما أصاب رفيقه، ولكنهم تكاثروا عليه حتى تعبت يده من الضرب، وأصيب بضربة في ذراعه اليسرى، واستمرَّت الوقعة نحو نصف ساعة حتى أصبح غريب في خطر، وكاد يعمد إلى الفرار ولكنه سمع صوتًا يقول له: «لعينيك يا أمير غريب لا تبالِ بهؤلاء الخائنين الغادرين!» وإذا هو بفارس ملثَّم خرج من تلك البساتين، وقد جرَّد السيف وهجم على هؤلاء الفرسان فقوي قلب غريب وتشجَّع، وهجم عليهم ففر هؤلاء بعد أن قتل منهم ثلاثة.

•••

عاد غريب وهو مذهول لمجيء ذلك الفارس الملثم، ودنا منه يريد أن يعرفه، فإذا هو قد أدار عنان جواده نحو ذلك القصر، بعد أن أومأ إلى غريب مودعًا، فناداه غريب: «بالله عليك يا أخي، قف لأكلمك!» فلم يُجبه، فتعجب غريب لذلك، واشتد ميله لمعرفة الفارس، وسار في أثره، فهمز ذاك جواده حتى دخل الحديقة فترجل بأسرع من لمح البصر، فتعقبه غريب إلى الحديقة، فأوقفه الخادم قائلين: «ماذا تريد؟» قال غريب: «أريد مقابلة صاحب المنزل.» قال أحدهم: «إنه ليس هنا.» فقال: «لا بأس فإني أريد مقابلة هذا الفارس، الذي دخل المنزل الآن.»

قال الحارس: «لم يدخل المنزل فرسان الآن، ويظهر أن الطرق تشابهت عليك.» فقال غريب: «لا شبهة عندي فيما أقول؛ لأني رأيت الفارس بعيني داخلًا هذه الحديقة بجواده.» فغالطه الرجل، وكان غريب قد نسي جرح ذراعه لشدة تأثره من هذا الأمر، ولكنه عاد فأحس به، فخشي إذا طال أمره ولم يغسله ويعالجه أن يضرَّ به، فقال للرجل: «هل تعلم أنك تخاطب ابن الأمير بشير؟» فبهت الرجل، وتقدم إلى غريب قائلًا: «العفو يا سيدي، إني لم أعلم ذلك.» ثم أمسك بركاب الجواد، وأنزله ودخل به إلى ذلك البيت، وأصعده إلى دور علوي، ومن هناك إلى قاعة مفروشة بأحسن ما يكون من الفرش الثمين، فقال غريب: «لا حاجة لي بكل ذلك، وإنما أريد منك قليلًا من الماء لأغسل به جرحي، وقطعة قماش لأربطه.»

فخرج الرجل ليأتي بما أمره به، وبقي غريب في تلك القاعة يتأمل ما بها، ويعجب من حكاية ذلك الفارس. وبينما هو يشرع في كشف ذراعه لغسل الدم عنه، وإذا هو بفتاة مقبلة على الغرفة كأنها حورية من حور الجنان، عليها ثوب بسيط لونه أبيض ناصع، وهي طويلة القامة، رشيقة الحركات، مع رزانة ووقار، عيناها سوداوان كبيرتان، ولونها قمحي وشعرها أسود حالك، قد ضفرته وأرسلته على ظهرها وكتفيها، وتتجلى في محياها ملامح البساطة والكمال، مع ما هي فيه من غضاضة الشباب.

فلما رآها أطرق خجلًا، وعلا وجهه الاحمرار لأنه كان مكشوف الذراع، فابتدرته قائلة: «لا تؤاخذني يا سيدي بمجيئي إليك من غير استئذان ولا سابق معرفة، خلافًا لتقاليدنا، وإنما أخبرني الخادم أنك مجروح الساعد، وقد ذهب ليأتيك بما يلزم لتضميده، وأنا الآن وحيدة في هذا البيت، فلم أرَ بدًّا من المجيء لأعينك على ذلك.» فرفع غريب نظره إليها وقد ذهل لحسنها ولطفها وشعر بخفقان قلبه، وكانت هذه أول مرة شعر فيها غريب بمثل ذلك الخفقان، فشكر فضلها قائلًا: «إني شاكر لفضلك أيتها السيدة اللطيفة، ولكني آسف لتحملك هذه المشقة بسببي، وما أطيب الظروف التي ساقتني إلى مشاهدتك ولقائك.» قال ذلك وقلبه يخفق وأعضاؤه ترتجف، ثم جاء الخادم بالماء فغسلت ذراعه ولفتها بالعصابة، وكان غريب في أثناء ذلك غارقًا في بحار الهواجس، وقد اشتد به الوجد كثيرًا حتى كان يشعر عندما تمس يدها يده وهي تضمد الجرح، كأن تيارًا كهربائيًّا جرى بينهما، وهي طوال تلك المدة لم ترفع نظرها إليه، ولا نطقت بكلمة واحدة، كان الاثنان صامتين، وقلباهما يتكلمان.

أول الحب نظرة

فلما انتهت من تضميد الجرح، جلست تجاه غريب، وأخذت ترحِّب بقدومه وتلاطفه بالكلام، أما هو فكان كالغائب عن الصواب، ثم استجمع عزيمته وحاول إخفاء ما به، ولكنه لم يكن يرفع نظره إلى الفتاة إلا عندما تخاطبه أو يخاطبها؛ لأن الحياء كان يمنعه من ذلك، كما كان يمنعها. ثم ابتدرها بالحديث قائلًا: «أرجو أن تخبريني عن صاحب هذا البيت.» فقالت الفتاة: «إنه يا سيدي غائب الآن، وقد سافر في هذا الصباح مع سيادة والدكم إلى دمشق.»

قال غريب: «أعرف ذلك، ولكن أرجو أن تخبريني عن اسمه.»

قالت: «اسمه الأمير سعيد.»

قال: «أليس هو من عشيرة بني شهاب؟»

قالت: «بلى يا سيدي.»

قال: «وهل أحد من أولاده الآن ها هنا؟»

قالت: «ليس هنا من أولاده أحد سوى الفتاة التي تحدثك؛ إذ ليس له أولاد غيري.»

قال: «ونعم الفتيات أنت، والآن أريد أن أسألك سؤالًا آخر وإنما أخشى أن أكون قد أكثرت من التطفل، على أني في حال من الانذهال تدفعني إلى كثرة السؤال، فهل تعذرينني على كثرة تطفلي؟»

قالت: «العفو، سل ما تشاء.»

قال: «كنت في ضيق حتى كدت أدنو من الخطر، فخرج من هذا القصر فارس أنقذني من الموت، وكان ملثمًا فلم أعرفه، ولما أردت سؤاله عن ذلك لم يجبني بشيء، فاقتفيت أثره حتى دخل هذا البستان، ثم رأيته يترجل ويدخل هذا القصر.»

فأطرقت الفتاة برأسها إلى الأرض، وعلا وجهها الاحمرار ولم تبدِ جوابًا، وأخذت تسلي نفسها بثني أطراف ثوبها بين أناملها، فارتاب غريب، وندم على ذلك السؤال بعد أن قالت له إنها وحيدة، وليس في البيت الآن أحد من الرجال.

واستأنف غريب الحديث قائلًا: «اعذريني، لأني سألت سؤالًا ربما لم يكن يليق بي أن أذكره، فأسألك الصفح والمعذرة.»

فرفعت رأسها، وأجابته قائلة: «عفوًا، فإنك لم تقل إلا كل ما هو لائق، وجدير بأن يقوله شاب مهذب مثلك.»

فخجل غريب من هذا المديح وأطرق.

فقالت الفتاة: «أما سؤالك عن الفارس الذي خرج من هذا البيت لمساعدتك، ثم عاد إليه، فسأجيبك عنه في فرصة أخرى إذا قدِّر لنا أن نتقابل مرة أخرى.»

قال غريب وقد هاجت عواطفه: «إذا كان لقاؤنا لا يتكرر ثانية إلا بمعركة مثل التي دعت إلى اجتماعنا هذه المرة، فحبذا المعارك.»

فسكتت الفتاة، ولم تبدِ جوابًا.

وبقي الاثنان صامتين مطرقين لا يبديان حراكًا، ثم تذكَّر غريب والديه بغتة وخشي أن يستبطئاه، والشمس قد مالت نحو الغروب، كما خطر له أيضًا أن وجوده مع هذه الفتاة في ذلك القصر منفردين ربما أدى إلى شبهة تضر بالفتاة، فنهض مستأذنًا ونهضت لتشييعه، فلمس يدها مودعًا، فدعت له بالسلامة، ثم قالت له: «ألا تخشى أن يعود هؤلاء الأشقياء ثانية؟» فقال لها: «لا بأس علي بإذن الله.» فخرج من البيت وكأنه قد نسي شيئًا عزيزًا عليه هناك، فوجد الخدم قد أعدوا له الجواد فركب وسار قاصدًا بيت الدين، وقبل أن يتوارى عن القصر نظر إليه فإذا هو بالفتاة تنظر إليه من إحدى نوافذه، فسار وهو مشغول الفكر بها، وتملَّكه إحساس لم يكن يحس به من ذي قبل، ورأى في نفسه ميلًا شديدًا إليها، وإلى المعيشة معها، ثم تذكر أن والدته ذكرت له فتاة كانت تريد أن تزوجه بها قبل سفره إلى عكا، وخشي ألا يميل قلبه إلى التي اختارتها والدته فيبقى مقيدًا هنا، وعند ذلك ربما تؤدي به عواطفه إلى مخالفة أمر والديه، في حين أنه يود أن يذعن لرغباتهما ويطيعهما في كل شيء. وسار وهو على هذه الحال من التردد تتقاذفه أمواج الفكر، حتى وصل إلى بيت الدين فوجد والديه ينتظرانه بفارغ الصبر، فلما لاقياه قبَّلاه ورأياه متغير الوجه، تبدو عليه مظاهر الارتباك.

مفاجأة

فسألته والدته عن سبب تأخيره، فحدثها عمَّن لاقاه في الطريق وعما حدث له معهم، وروى لها قصة الفارس الذي خرج لمساعدته من ذلك القصر، وكيف أنه عاد دون أن يعرف مقره، فشكرت والدته الله سبحانه وتعالى على نجاته.

ثم قال لها: «وفي هذا المساء أقص عليك بقية قصتي.» فقلقت لذلك، ولكنها صبرت حتى المساء حيث جلس إليها وقصَّ عليها ما دار بينه وبين الفتاة من الحديث إلى أن قال: «وأعترف لك يا والدتي أني قد تعلقت بهذه الفتاة، لما رأيت فيها من الكمال واللطف والرقة والجمال، وأظنها كانت سبب نجاتي من أيدي اللصوص، ولكنك حدثتني عن فتاة أخرى، فهل يمكن أن أعرفها يا ترى؟»

figure
وقبل أن يتوارى عن القصر التفت إليه، فإذا بالفتاة تنظر إليه من إحدى نوافذه، فسار وهو مشغول الفكر بها، وتملكه إحساس لم يكن يحس به من قبل.

فقالت سلمى: «اسمع يا ولدي، أنا لا أريد أن أُكرهك على ما لا تحب، وإنما أقول لك إن الزواج من أهم الأمور، ولا بد من التبصر قبل التصميم عليه، وأنا لا أعرف هذه الفتاة وربما تكون موافقة، وأما تلك فإني أعرفها جيدًا وهي من أسرة بني شهاب، ووالدها ليس له غيرها.»

فقال غريب: «وهذه قالت إنها وحيدة أيضًا، وهي من أسرة بني شهاب.»

قالت: «كونها وحيدة ليس من الفضائل المعدودة، أما تلك فابنة أمير من الأمراء المقربين لدى الأمير بشير، وقلما ينتقل في سفر مهم إلا ويستصحبه معه.»

فقال غريب: «وهذه كذلك، فما اسم والدها؟»

قالت: «الأمير سعيد.»

فصرخ غريب: «هذه هي بعينها.»

فقالت: «ولكن هذه لا يتيسر لك أن تتحدث معها وتشاهدها فإنها تتحجب عن الغرباء.»

قال: «هذا حق، ولكن قضت عليها الظروف أن تظهر أمامي، والضرورات تبيح المحظورات.»

فقالت: «أين ذلك القصر؟»

فأشار إليه، وحدد مكانه.

فقالت: «يظهر أنك على صواب فيما تقول، فإن الفتاة هي هي بعينها، ولكنك قلت إن فارسًا خرج من ذلك البيت وعاد إليه وليس في ذلك البيت رجال.»

فقال: «لا أعلم، وحين سألتها عن ذلك الفارس قالت: سأخبرك عنه في فرصة أخرى، ولم أفهم المقصود من ذلك، وأخشى أن تكون هي ذلك الفارس.»

قالت: «وأنا لم أفهم قصدها، وإنما يقرب من الواقع أنها هي التي نادتك وحذرتك أولًا، ثم خرجت بنفسها ملثمة لمساعدتك، فإني أعلم أنها تحسن ركوب الخيل، وشهامتها كشهامة الرجال.»

فَسُرَّ غريب لذلك لأنه استراح مما كان يتردد في نفسه، وانحلَّت المشكلة بأيسر سبيل.

عند ذلك استدعت سلمى زوجها، وجلس الثلاثة يتفاوضون في الأمر، فاستقر رأيهم أن يخطبوا الفتاة من أبيها حالما يعود من ذلك السفر.

•••

أما غريب فلم يعد يستطيع صبرًا على بُعدها، وصار يحس أنه مشتاق إلى رؤيتها، فإن تلك النظرة كانت كافية لارتباط القلبين، ولكنه كان يمسك نفسه محافظة على كرامة الفتاة، فلما عاد أبوها من ذلك السفر وعاد الأمير بشير أيضًا، تحدث أمين بك مع الأمير في شأن خطبة الفتاة من أبيها، وسأله رأيه، فتوقف الأمير بشير عن الجواب فارتاب أمين بك في ذلك، وطلب منه أن يجيبه صريحًا، فقال: «إن الفتاة تربت أحسن تربية، وهي كاملة الأوصاف غير أني لا أتدخل في أمر خطبتها، فإذا شئتم فاخطبوها أنتم من أبيها، أما أنا فلا أكلمه.»

قال أمين بك: «قد كنت أعلم أن سيادتك تحب ذلك الرجل بنوع خاص، وهذا مما قوَّى رغبتنا في طلب ابنته.»

قال الأمير: «كنت كذلك، وأما الآن فقد بلغني عنه ما أوقع النفور بيني وبينه، فلا يمكنني مخاطبته في شأن خطبة أو زواج.»

فقال أمين بك: «إذا كانت الحال كذلك، فنحن في غنًى عن تلك الفتاة، ولا سيما أن غريبًا لا يعرفها ولم يرها إلا مرة واحدة بحكم الاتفاق.»

ولم يكن أمين بك يعلم مقدار ما كمن في قلب ولده من المحبة للفتاة، فقال ما قاله.

فلما رجع بالخبر إلى زوجته وولده، تكدرا جدًّا لأن والدة غريب كانت تحب الفتاة محبة عظيمة، وكذلك غريب كما علمت، ولكن لا يمكنها أن تراجع الأمير بشير، ولا سيما بعد أن جاراه أمين بك في ذلك.

أما غريب فأظلم النور في عينيه، ووقع في ارتباك عظيم، ولم يعد يعلم كيف يدبر الأمر، فإن كلا الأمرين صعب، ولكنه تجلَّد وقال في نفسه: «ما لا تقدر على قضائه، فالزمن يقضيه.» وأخذ يصبر نفسه منتظرًا بابًا للفرج، فلاح له أن أفضل وسيلة إنما هي مصالحة الأمير ووالد الفتاة، فأخذ يسعى سرًّا في ذلك، وهو في خوف من أن تُخطب الفتاة لغيره.

ويل أعظم

بقي ذلك الأمر مكتومًا حتى جاء إبراهيم باشا إلى بيت الدين لجمع سلاح طائفة الدروز سنة ١٨٣٢م، وقد كتب الأمير إلى جميع أعيان الدروز في ذلك، وأن يطيعوا الأوامر ويسلموا سلاحهم، وخيم إبراهيم باشا خارج دير القمر، فكان غريب يحاول المرة بعد الأخرى مشاهدة الفتاة، وقلما كان يستطيع ذلك، وإنما ظل يسعى لمصالحة أبيها مع الأمير بشير.

واتفق أنه التقى يومًا بأبيها وكان يعرفه، وكان الرجل يحب غريبًا لكثرة ما سمع عنه، وكان التقاؤهما عصر يوم في البساتين، فأخذا بأطراف الحديث حتى كشف الأمير سعيد عن سبب النفور الذي بينه وبين الأمير بشير.

فقال غريب: «يا سيدي لديَّ سر أريد أن أفضي به إليك.»

قال: «قل ما بدا لك.»

قال غريب: «كنت قد اتفقت مع والدتي أن تخطب لي ابنتك؛ إذ رغبت في أن تكون رفيقة حياتي، ولما استشرنا الأمير بشيرًا في ذلك ظهر لنا منه أنه لا يعارض في خطبة الابنة ولكنه يرى ألا يقوم هو بذلك. وأنا لا يليق بي أن آتي عملًا لا يرضاه الأمير، ولما كنت قد أحببت ابنتكم حبًّا شديدًا، ورأيتها أهلًا لي، وأحبَّتها والدتي كذلك، فقد رأينا أن السبيل الوحيد لتحقيق أمنيتنا أن يتم الصلح بينك وبين الأمير.»

فتأوه الأمير سعيد وصمت هنيهة، ثم قال: «اسمع يا ولدي لو سبقت وخاطبتني في هذا الأمر منذ يومين لهان كل صعب، فإن الاختلاف الذي بيني وبين الأمير بشير اختلاف هيِّن ولا يصعب زواله، وإنما هناك مشكل أصعب من ذلك.»

فاختلج قلب غريب وقال: «وما ذلك المشكل؟»

فقال: «إن إبراهيم باشا بعث إليَّ مساء أمس، وطلب بلسان وكيله حنا بك البحري أن أوافق على خطبة ابنتي لأحد كبراء ضباطه المقربين منه كثيرًا، فلم يسعني إلا الاستجابة لهذه الرغبة على أن أشاهد الرجل، فوعدني أنه سيأتيني به في بيتي هذه الليلة، وهذا سر أرجوك كتمانه.»

فاضطرب غريب وكاد يتميز من الغيظ، وثارت في صدره ثائرة الانتقام، وكان يشعر أنه كلما تعقدت مسألة زواجه بتلك الفتاة زاد حبه لها، فقال للأمير سعيد: «والآن ما السبيل لتحقيق الأمنية؟» قال: «يا ولدي ليس لدي حيلة، أنا أكثر ارتباكًا منك؛ إذ لا يمكنني رفض أمر إبراهيم باشا، ولا أجد من يخبرني عن أصل هذا الرجل وفصله، والبنت عزيزة عندي لأنها وحيدتي.»

فحار غريب في أمره وأطرق هنيهة، ثم قال للأمير سعيد: «متى سيأتي هذا الرجل إليك؟» قال: «هذه الليلة بعد الغروب بقليل.» قال: «حسنًا.» وخرج يحدث نفسه بما يجب أن يفعل لحل هذا المشكل، وبعد التردد مدة ساعتين، صورت له الغيرة والمحبة أن يعترض طريق الرجل في تلك الليلة ويحذره أن يستمر في مقصده، فلعله يخاف فيرجع، وكانت نفسه تحدثه أنه إذا رفض الرجوع عن قصده فكر في أن يقتله، لكن الشهامة كانت تردعه عن قتل نفس بريئة. وخلاصة الأمر أنه كان يتنازعه عاملان مختلفان، عواطفه من جهة، وعقله من جهة أخرى، ثم قرَّ رأيه على أن يجيب داعي عواطفه، ويلقى الرجل ويهدده في الطريق، ويرى ماذا يكون منه.

إزاحة اللثام

فلما كانت الساعة الأولى بعد الغروب، لبس غريب ثيابه وأراد الخروج من البيت، فسألته والدته عن جهة مسيره، فقال: «إنني ذاهب لزيارة أحد أصدقائي في معسكر إبراهيم باشا.» فقالت: «ولكنا رأينا يا ولدي ما حل بك أمس وأنت وحدك.»

قال: «نعم، ولكن لكل زمان دولة ورجال، ألا تعلمين أن وجود إبراهيم باشا في هذا الجوار، كافٍ لمنع مثل هذه الحوادث؟» قالت: «سر في حراسة الله.»

فسار وقد أخفى سلاحه تحت ثيابه، ولما خرج من بيت الدين تنكَّر، ووقف في الطريق المؤدية إلى بيت الأمير سعيد قرب البيت، ليعترض الرجل نفسه قبل دخوله خوفًا من أن يخطئ فيعترض رجلًا غيره، فلما كانت الساعة الثانية بعد الغروب رأى شخصًا مارًّا وحده، يريد أن يعرج على بيت الأمير فتأمله فأبصر عليه لباس الضباط المصريين: السراويل المعقودة تحت الركبتين، والزنار الأحمر العريض، والطربوش التونسي، فلما رآه غريب خفق قلبه وارتعدت فرائصه من شدة التأثر، وتقدم إليه مسلِّمًا فردَّ عليه السلام.

فقال غريب، وقد تقدم نحوه: «هل تسمح بأن تشعل لي هذا الغليون؟» فقال الضابط: «مرحبًا بك، وأخرج زنادًا وصوفانًا أشعل بهما نارًا، وقدمها لغريب ليشعل غليونه، فاغتنم غريب تلك الفرصة وتفرس في وجه الرجل في ضوء الصوفان المشتعل، فإذا هو وجه رجل يعرفه قبل ذلك الوقت، ولكنه لم يستطع أن يميزه.»

فقال غريب: «إلى أين أنت ذاهب في هذا الليل؟»

فأجاب: «ما لك ولهذا السؤال، وهل جرت العادة هنا أن تعترضوا الناس في مسيرهم؟»

فقال غريب: «سألتك ذلك لغرض لي سأطلعك عليه، بعد أن تجيبني على سؤالي.»

قال الرجل: «ولكني لا أرى مسوغًا لهذا السؤال، واعلم قبل كل شيء أنك تخاطب ضابطًا من ضباط إبراهيم باشا.» فاشتبه غريب في صوت الرجل وكأنه يعرفه. فقال: «أنا أعلم ذلك، وإذا كنت لا تريد أن تجيبني على هذا السؤال فأخبرني عن اسمك.»

قال: «اسمي سالم أغا.»

فقال غريب: «سالم أغا! سالم، أهلًا وسهلًا بأخي وحبيبي أأنت الذاهب في هذا الطريق؟»

قال: «نعم وهل أنت الأمير غريب؟»

قال: «نعم.»

قال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟ وما غرضك من التعرض لي؟»

قال غريب: «كان ذلك خطأً مني لأني أنتظر بعض الناس، وقد اشتبهت فيك، فإلى أين أنت ذاهب؟»

قال: «إلى بيت الأمير سعيد شهاب، أليس هذا بيته؟»

قال: «هذا هو، أتريد أن أوصلك إليه؟»

قال سالم: «كما تشاء.»

ولما علم غريب أن الضابط المقصود هو سالم أغا صديقه، سكن جأشه وخمدت فيه عاطفة الانتقام، وصمم على أن يتنازل عن طلبه ويساعد سالمًا على خطبة الفتاة.

فسار الاثنان حتى وصلا إلى الباب فطرقاه، فجاء الأمير سعيد لاستقبالهما، فلما رأى الاثنين معًا عجب غاية العجب، وخشي أن يترتب على ذلك أمر ذو بال، ولكنه أخفى أثر تلك الأفكار، وأدخلهما غرفة الاستقبال، فجلسا، فأمر لهما بالقهوة فأحضرت. وكان الاثنان مشتغلين كل الوقت بالسلام والحديث فيما جرى لهما أثناء بُعْدِ أحدهما عن الآخر، كلُّ ذلك والأمير سعيد مذهول، لا يستطيع أن يفهم سبب ذلك الاجتماع.

الصداقة الحقيقية

وبعد أن تحدثوا جميعًا فترة من الوقت، بادر غريب الأمير سعيدًا قائلًا: «يا سيدي الأمير، إننا جئناك في هذه الليلة لأمر ذي بال، وأملنا أنك لا تردنا خائبين.»

قال: «تفضَّلا فإن أمركما على الرأس والعين.»

قال غريب: «إني قد جئت ألتمس منك أن تسمح بابنتك سعدى لأخي سالم أغا البطل الصنديد والشهم الغيور، وإذا كنت لا تعرفه فإني أخبرك أنه ممن خصهم الله بالشهامة والنخوة، ولعل إبراهيم باشا يكون قد أخبرك عنه بما فيه الكفاية، وما قصدنا بهذا الطلب إلا التشرف بالقرب من سيادتكم، فإن ابنتكم سعدى جوهرة ثمينة لا مثيل لها، ونحن نعلم أنها تعز على كثيرين غيرنا، ولكن ثقتنا في لطفكم ومراعاتكم لخاطرنا، تؤكد لنا أنكم لا تضنون بهذه المكرمة.»

فذهل سالم أغا لما قاله غريب، لعلمه أن مسألة خطبته لم يتحدث بها أحد غير إبراهيم باشا، ولم يعلم بها إلا الأمير سعيد وحده، ولم يكن الأمير سعيد أقل ذهولًا؛ لعلمه أن غريبًا كان ناقمًا على سالم أغا من أجل تلك الخطبة، فوقع الاثنان في حيرة. وشعر غريب بذلك فابتدرهما بالكلام قائلًا: «لا تعجبا من توسطي في هذا الأمر، فإن الأخ يجب أن يساعد أخاه في مثل هذه المهمة. وأنا أعتبر نفسي سعيدًا إذا تم هذا الأمر على يدي.»

ثم خشي غريب أن يتنازل له سالم عن الفتاة، إذا عرف الحقيقة فطلب الانفراد بالأمير سعيد، فلما خلا به قال له: اعلم يا جناب الأمير أني كنت عازمًا على الاقتران بكريمتكم سعدى، وكنت أنتظر تلك السعادة بفروغ صبر، حتى إني حينما علمت أن غيري يريدها، تملكتني الغيرة وروح الانتقام، وفكرت في التخلص منه بأية وسيلة، ولكنني حينما عرفت أن المتقدم لخطبتها هو سالم أغا، أخي الذي أنقذني من الموت وأظهر من الشهامة ما لا أنساه مدى العمر، وطالما كنت أتمنى أن أكافئه على جميله، نعم، حين عرفت أنه هو الذي يرغب في الاقتران بكريمتكم تغلبت على عواطفي، وجئت برفقته لأساعده فيما يريد وهو لا يعلم بما جرى، فهل لك أن توافقني على خطبتها إليه، وإن يكن ذلك مخالفًا لتقاليد الأمراء من حفظ الزواج في أسرهم لأبنائها؟

فتعجب الأمير سعيد من هذا الحديث، وقال لغريب: «الحق أني لم أشاهد مثل هذه الشهامة قط، هكذا تكون الرجال، وإني طوع أوامرك، لكنني كنت حدثت ابنتي بهذا الأمر الآن، فرأيتها تميل إليك بكل عواطفها، وقد قصَّت عليَّ ما جرى لها معك، يوم أحاط بك أولئك الفرسان ونجوت منهم، وأتيت إلى هذا البيت فرأت منك لطفًا وفضلًا زادا إعجابها بك، وأخشى أنها لا توافق على غيرك عن رضًا.»

فقال غريب: «إني شاكر لها محبتها لي، وأؤكد لك أن عندي أضعاف ما عندها من التعلق بي، ولذلك كنت قد صممت على طلبها منك، وقد صبرت على ما في قلبي مدة طويلة كما علمت، ولكن الأقدار لم تشأ أن تحقق أمنيتي؛ ولذلك فأنا من هذه الساعة أعتبرها شقيقة لي، وأحبها محبة الأخ لأخته، وأرجو أن تلح عليها في قبول سالم أغا، فإنه من الرجال الذين يعز مثالهم، وأؤكد لك أيضًا أن أختي سعدى ستسر به، وتكون سعيدة بالعيش معه، زِد على ذلك أنك تقول إن إبراهيم باشا طلب إليك تحقيق هذا الأمر، فبقبولك تكون قد عملت بأمره، واتقيت غائلة غضبه، فإنه رجل غضوب سريع الانتقام، وألتمس منك على كل حال ألا تدع سالمًا يعلم بسابق قصدي.»

فتقدم الأمير سعيد إلى غريب، وقبَّله قائلًا: «لله درك أيها الشهم، فإني لم أشاهد طوال عمري مثل هذه الشهامة، وسأفعل كل ما تأمر به.»

فقال غريب: «أشكرك يا سيدي وأرجو أن تجيبني عن مسألة قد أشكلت علي، وكانت سعدى قد وعدتني بالإجابة عنها، ولعلك كنت تعلم بها فتجيبني عنها، وهي أني حين أردت أن أعرف من هو الفارس الذي خرج لمعاونتي على أولئك الفرسان، سألت سعدى، فقالت إنها ستجيبني على ذلك في فرصة أخرى.»

فتبسم الأمير سعيد، قائلًا: «لا أخفي عليك أنها هي التي نادتك وحذرتك، ولما كنت أنت في تلك المعركة كانت هي تنظر إليك من إحدى النوافذ، فلما رأت ما أحدق بك من الخطر، ولما لم يكن في البيت من الرجال مَن تبعثه لإنقاذك، تزيت هي بزي الرجال، ونزلت بنفسها لتشجيعك، ولم ترد أن تقول لك ذلك حياءً منها.»

فتعجب غريب لهذه الفتاة ولهذه الخصال النبيلة التي تتصف بها، وكيف أنها جمعت لطف النساء، وشجاعة الرجال وشهامتهم، وحدثته نفسه بالعودة إلى عزمه الأول من الاقتران بها، ثم تذكر صداقة سالم أغا وفضله عليه، فاستسهل كل صعب في سبيل مكافأته، وقال للأمير سعيد: «إنني شاكر لها، وقد رأيت أنها بذلك تليق أن تكون زوجة لصديقي سالم أغا.»

وكان سالم أغا قد ارتاب في أمر استدعاء غريب للأمير سعيد، وانفراده به مدة طويلة. وفيما هو مشغول الفكر بذلك دخل عليه الخادم بالقهوة فتناولها، وكان في أثناء ذلك ينظر إلى فرش تلك القاعة وأثاثها، غير أن فكره ظل مشتغلًا بأمر غريب والأمير، ومن جملة ما تكهَّن به أن الأمير سعيدًا من أقرباء غريب المقربين وقد اختليا يتباحثان في هذا الأمر جريًا على تقاليدهما، فلما أتمَّ شرب القهوة، أعاد الفنجان إلى الخادم، وسأله قائلًا: هل الأمير غريب من أقارب سيادة الأمير؟

فقال الخادم: «نعم يا سيدي فإن كليهما من أسرة بني شهاب، ولعل القرابة بعيدة ولكنها ستصير قريبة.»

فارتاب سالم بهذا الجواب، وراجعه قائلًا: «وماذا تعني بذلك؟»

قال الخادم: «إن …» وتوقف عن الكلام، ونظر إلى باب الغرفة لئلا يكون أحد قادمًا، فلم يرَ أحدًا فقال: «إن مراده أن يخطب ابنة الأمير سعيد له.»

فتعجب سالم أغا لذلك، وكادت تغلب عليه عواطفه، ثم تجلد وأعاد السؤال قائلًا: «هل أنت متأكد من ذلك؟» فقال الخادم بصوت منخفض: «نعم إني سمعت والدها يكلمها في هذا الشأن اليوم قبل الغروب بقليل.»

فدهش سالم أغا وداخَله شكٌّ في مرافقة غريب، وما أبداه من الحديث أمامه، وقال في نفسه: «يظهر أنهما اختليا للمحادثة في ذلك، فيجب علي أن أتنازل عن الابنة لغريب لأنه أحق مني بها؛ إذ هي من أقاربه وأمثاله.»

وفيما هو في ذلك، دخل الأمير سعيد وغريب وكان يلوح على وجهيهما علامات السرور والابتهاج، فوجدا سالمًا مرتبك الأفكار، فلما جلسا قال الأمير سعيد لسالم أغا: «في الحق إني مسرور جدًّا لما سمعته عن «جنابك» من الأمير غريب، ولذلك أعد نفسي سعيدًا إذا أتيح لابنتي أن تكون خادمة في بيتك، فأنا من الآن أدعوك صهري.»

فأجاب سالم أغا قائلًا: «إني مدين لجنابك بواجب الثناء على هذه المنة أيها الأمير الكريم، وكذلك لصديقي الأمير غريب، ولكنني في غاية الخجل منك الآن لأمر تذكرته، ولم يكن في الحسبان.» فقال الأمير: «خير إن شاء الله.» فقال سالم: «لا أعلم إذا كان خيرًا أو شرًّا، وإنما خطر لي الآن أني مسافر من هذه الديار في أقرب وقت إلى حرب، ولا أعلم إن كنت سأعود منها حيًّا أو لا أعود. وأرى الأوفق أن نؤجل أمر هذا الزواج حتى أعود، إن قدِّر لي ذلك إن شاء الله.»

فقال غريب: «وما هذا السفر الآن؟»

فقال سالم أغا: «أنت تعلم أن الدولة لا تزال تسعى في إخراج إبراهيم باشا من هذه الديار، وإن تكن في ظاهر الأمر ولَّته إيَّاها فقد لا تلبث أن تبعث له جندًا لإخراجه؛ لأن الدول الأجنبية غير راضية عن بقائه هنا.»

فقال غريب: «هبْ أن ذلك صحيح، فإني أسعى بما في وسعي لإخراجك من جند إبراهيم باشا وحروبه، وتبقى معنا هنا نعيش معًا ونستريح من الحروب، على أني لا أظن إبراهيم باشا قد طلب زواجك دون أن يكون قد صمم على إعفائك من الأسفار.»

فلما أُفحم سالم أغا تحير فيما يدفع به عن نفسه، وكان قصده بتأجيل الزواج التنازل عن الفتاة لغريب، فطلب الانفراد بغريب فانفردا، فقال له: «إني في غاية العجب مما ظهر لي منك هذه الليلة، فلست أدري من أخبرك بعزمي على الاقتران بابنة الأمير، وقد زاد عجبي حين علمت أنك طلبت الابنة لنفسك، فلماذا لم تقترن بها؟»

فقال غريب: «إن السبب أن الأمير بشير لم يرد ذلك لنفور بينه وبين والدها.»

فقال سالم أغا: «أنا أسعى في إزالة هذا النفور، وذلك أمر سهل.»

قال غريب: «ذلك النفور لا يمكن إزالته، ولم يعد ممكنًا لي الاقتران بها، فهي نصيبك، وأرجو ألا تراجعني في هذا الأمر؛ لأن اقتراني بها أصبح مستحيلًا، فالأولى أن تأخذها أنت فإنها تليق بك.»

إبراهيم باشا

رأى سالم أن لا فائدة من إقناع غريب بهذا الأمر، فوعده أنه سوف يُجري الأمر كما يشاء، وإن غدًا لناظره قريب، وتواعدا على أن يعودا لتقديم هدايا الخطبة، وقد أضمر سالم أن يتخلى عن الفتاة لغريب بطريقة لا يبقى معها مجال للجدال.

فلما كان الغد، جاء غريب إلى مكان اللقاء ليذهبا معًا لتقديم الهدايا، وانتظر سالمًا ساعات فلم يأتِ فانشغل باله عليه كثيرًا، ولما كان المساء ذهب إلى البيت وهو في شغل شاغل بأمر سالم وتغيبه.

وفي المساء التالي، إذ كان غريب في فناء السراي يفكر في أمر سالم، رآه وهو قادم يبتسم، فسأله غريب عن أمره، فقال: «لم أستطع المجيء أمس لأني كنت منهمكًا في حفل الزفاف.» فقال: «أي حفل تعني؟» قال: «قد عقدت على إحدى الفتيات أمس فأنا الآن متزوج.»

فعجب غريب لذلك، واعترضه قائلًا: «ماذا تعني، وقد ظللت في انتظارك سحابة أمس لكي نذهب لتقديم هدايا الخطبة فلم تأتِ؟»

فقال سالم: «نقدم هدايا من يستطيع الزواج، أما أنا فقد تم أمر زواجي ولا أحب الضرائر.»

فأدرك غريب أن سالم أغا تزوج حتى لا يبقى مجال للكلام في زفاف سعدى إلى غريب، فقال له: «أيليق ذلك بك؟» قال: «لا يليق بي إلا هذا، وهذه سعدى عروسك، بارك الله لك فيها، وإن فرحي وسروري لعظيمان باقترانك بها، وأنا أعلم أنها لو خيِّرت بيننا ما اختارت سواك، فلا يليق بي أن أمنعها ممن تحبه، وقد قضي الأمر فهيا بنا نؤكد عقد الخطبة لك.»

فقال: «تعالَ نقضِ هذه السهرة معًا الليلة لأعرفك بوالدي، ونرى ماذا يكون عليه الأمر، وإني لمعجب بشهامتك ومروءتك.» فَسُرَّ سالم به وقبَّله، وقال: «والله لا أراني إلا مقتبسًا من بحرك، ولم أسمع أن شابًّا تخلَّى عن حبيبته لأحد سواك.»

•••

كان والدا غريب في حديث ولدهما، وحكاية الخطبة وما يتعلق بها، فسمعا فجأة وقع أقدام عند الباب، وإذا هما بغريب قد دخل ومعه رفيقه فنادت سلمى: «غريب؟» فقال: «نعم يا أماه.» فتقدمت نحوه فرأت سالمًا معه، فأرادت الرجوع فناداها قائلًا: «لا حاجة إلى التحجب فإن الذي ترينه معي من أعز أصدقائي، بل هو أخي في عهد الله.» ثم تقدَّم وعرَّفه بها وبأبيه وقصَّ عليهما ما كان من أمره وأمر زواجه، وما في عمله هذا من الشهامة والنخوة فأعجبا به وازدادا محبةً له، وفرحا في سريرة نفسهما لأنهما كانا يحبَّان الفتاة، فَحَمِدا الله على ذلك. ثم أخذ الجميع يسمرون وهم يتنقلون في فناء البيت في تلك الليلة المقمرة الصافية الجو، وقد طار نومهم.

فقال غريب: «يظهر أن هذه الليلة مباركة يحلو فيها السهر!» فأمر أحد الخدم فجاءهم بالوسائد ليجلسوا في ضوء القمر فجلسوا، وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث بعد أن ملأ أمين بك غليونه، وملأ غليونًا لكلٍّ من سالم أغا والأمير غريب، وأمر بإحضار القهوة.

فقال سالم أغا: «كنت أظن أن الأمير بشيرًا والد أخي غريب.»

فقال غريب: «نعم هو والدي بحكم تربيته لي، وأما والدي الحقيقي فهو هذا الشيخ.»

ثم استأنف الحديث قائلًا لوالده: «هذا هو الرجل الذي أنقذني من سجن عكا كما أخبرتكم منذ بضع سنين.»

فقال أمين بك: «يظهر لي من ملابس جنابه أنه من ضباط إبراهيم باشا، نِعم الرجل هو! إننا في الحق قد أصبحنا غريقي بحار معروفه، فنطلب من الله أن يمكننا من مكافأته.» ثم قال: «هل الجنود المصرية ستقيم طويلًا في لبنان؟»

فقال سالم أغا: «لا أظن أن ثمة فائدة من إقامتها هنا بعد أن تُجمع أسلحة الدروز، وقد علمت أنهم سيجمعون أسلحة النصارى أيضًا توطيدًا للأمن.»

فقال أمين بك: «وهل تظن أن إبراهيم باشا يخشى خروج هذه الديار من يده؟»

قال: «لا شك أنه يخشى ذلك؛ لأن الحكومة العثمانية، وإن تكن قد ولَّته هذه البلاد بأوامر شاهانية حسب إقرار مؤتمر كوتاهية الذي عقد في ١٤ مايو سنة ١٨٣٣م، إلا أني أرى أن ذلك الحكم لن يدوم له لأسباب كثيرة، منها أن الباب العالي لم يوافق على ذلك إلا لتحقيق إيقاف إبراهيم باشا عن التقدم إلى بر الأناضول والتعدي على أملاك الدولة هناك، والذي أراه من مطامع هذا البطل أعظم من ذلك كثيرًا، فتراه على كثرة ما يقاسيه من القلاقل بسبب ثورات أهالي سوريا المتواصلة لا ينفك ناظرًا إلى ما وراء ذلك، ويخشى ألَّا يفوز في بر الأناضول كما فاز هنا إذ ليس له هناك عضد مثل سيادة الأمير بشير.»

فقال أمين بك: «يا للعجب لهذا الرجل الباسل؛ فإني أراه أشجع من أبيه!»

قال سالم أغا: «قد سمعت الناس يتحدثون بشجاعة أبيه أيضًا، وإنما الفرق بينهما على ما يظهر أن والده أرق جانبًا وأحسن سياسة منه، أما هو فأقرب إلى رجال الحرب من أبيه، فمحبة الناس لأبيه مقرونة بالاحترام، أما محبتهم له فمقرونة بالخوف، وقد شهدته في عدة مواقع ببلاد اليونان وعجبت لبسالته، ولولا الحملتان البحريتان الإنجليزية والفرنسية اللتان تغلبتا على حملته في نافارين لكان فوزه هناك تامًّا، بالرغم مما أظهره اليونان من الهمة والنشاط والغيرة الوطنية.»

نكبة الإنكشارية

فقال غريب: «ولكن ما السبب الحقيقي لثورة اليونان؟ هل تعرف عنه شيئًا؟»

فقال سالم أغا: «نعم، لأني أُخذت إلى تلك الديار ورُبيت فيها، فقد كانت بلاد اليونان ولاية من ولايات الدولة العَليَّة، غير أن الشعب اليوناني شعب توَّاق للحرية، وكانوا لا يكفُّون عن ذكر دولتهم القديمة، وما كان من رفيع مجدها وعظيم سطوتها. واتفق في ذلك العهد أن ولاية الصرب التي كانت من ولايات الدولة استقلَّت بأحكامها استقلالًا محدودًا، بمساعدة الدولة الروسية لارتباطها معها بجامعة الدين والجنس.

فلما رأى اليونان ذلك ثارت في نفوسهم محبة الاستقلال، فأخذوا يتكاتبون في سائر أنحاء العالم؛ لأن الشعب اليوناني كثير الأسفار كما تعلمون، وألَّفوا جمعية سرية في روسيا والنمسا وبلاد اليونان وغيرها، وكانوا يضمُّون إليها كل الشبان اليونانيين، وأطلقوا عليها اسم «جمعية الأصدقاء».

وقد كنت أنا في أثينا خادمًا في أحد بيوت الأعيان، وسنِّي نحو الخامسة عشرة، فدعيت يومًا مع سيدي، ولا تعجبوا لقولي إني كنت خادمًا؛ لأن ذلك لم يكن باختياري — كما سأخبركم — فلما وصلنا إلى مكان الدعوة، دخلنا قاعة منفردة قد اجتمع فيها عدد غفير من الرجال اليونانيين، وفي صدرها رجل جالس، أمامه مائدة فوقها كتاب أظنه التوراة، فدعانا كل واحد بمفرده، فلما دنوت منه قال لي: ضع يدك فوق هذا الكتاب، ففعلت. ثم أخذ يلقنني قسمًا أذكر منه ما يأتي:

أقسم بالإله الواحد قسمًا ثابتًا، أني سأواظب على الأمانة والإخلاص لجمعية الأصدقاء في كل الأمور، وأني لا أبوح بشيء من أعمالها أو أقوالها، ولا أدع أحدًا من أصدقائي أو أقربائي يعلم أني عالم بوجودها، وأقسم أني سأنمي الكراهية التي في قلبي للمستبدين بوطني وأتباعهم وأنصارهم، وأني سأتخذ كل وسيلة لإبادتهم. وأخيرًا، أقسم بك يا وطني المقدس العزيز، وبما قاسيته من المشاق والعذاب، وبما سكبه أولادك من الدموع السخينة خلال عدة قرون، وأقسم بما أنتظره من الحرية المستقبلة لك، أن أقف نفسي لأجلك، وأن أجعلك من الآن فصاعدًا محور أفكاري ومقاصدي، وأجعل اسمك نبراسي في جميع أعمالي، وأكتفي بسعادتك جزاء لمتاعبي.

وأقسم هذا القسمَ عينه جميعُ من حضر، وقد علمت أن منشأ هذه الجمعية كان في أودسا تحت رئاسة رجل يقال له: نقولا سكوفاس أحد تجارها، ويظهر بذلك أن الثورة كانت بدسيسة روسية.

وبقيت الأمور على ما هي عليه حتى مارس سنة ١٨٢١م، ثم ابتدأت الثورة في ولايات الدانوب، بدأ بها ضابط يوناني في خدمة الجنود الروسية، حتى آل الأمر إلى نشر راية العصيان في جهات الدردنيل. وكانت الآستانة إذ ذاك في اضطراب عظيم لانقسام أربابها بعضهم على بعض، حتى إن بعضهم سعى في حرقها، فلما علم أهلها بما فعله اليونانيون احتدمت في قلوبهم شعلة التعصب التركي، حتى بَلَغَنا ذات يوم أن بطريرك القسطنطينية غريغوريوس ذُبح عند باب الكنيسة في عيد الفصح، وأن جثته أعطيت لليهود يَجرُّونها في الأسواق، ثم علمنا بمقتل غيره من الأكليريكيين.

فاشتعل اليونانيون غيظًا، وجاهروا بالعصيان والانتقام من الدولة، فلاح لجلالة السلطان محمود إذ ذاك أن يتخذ جندًا نظاميًّا يعتمد عليه في الحروب، على مثال ما فعل عزيز مصر فاعترضته جنود الإنكشارية، وأنتم تعلمون أنهم الجند الذي أنشأه السلطان أورخان منذ خمسمائة سنة من أولاد الأسرى النصارى المفصولين عن والديهم قبل سن الحلم، وكانوا يعلمونهم ويثقفونهم بالديانة الإسلامية وعلومها. وقد باركهم حاجي بكطاش مؤسس دراويش الطريقة البكطاشية فنموا وتكاثروا، وكانوا عونًا كبيرًا للدولة في سائر حروبها وفتوحاتها، لكنهم أصبحوا حملًا ثقيلًا على عاتقها لفساد أمرهم وتمردهم.

فلما أراد السلطان محمود اتباع النظم الحديثة في جنده، اعترضه هؤلاء الإنكشارية، فلاح له أن يسعى في التخلص من شرهم، فجمعهم مرة في ساحة الميدان، فلما اجتمعوا طلب رءوس زعمائهم فاعترض جميعهم على ذلك الطلب. وكان السلطان قد صمَّم على اتخاذ الوسائل الفعالة، فإما أن يبيدهم وإما أن يذعن لهم، فلما رأى منهم ذلك العصيان أمر بنشر السنجق الشريف؛ وهو العَلم النبوي، فانحاز إليه جميع المسلمين إلا العصاة، فنقل السنجق إلى جامع أحمد بقرب أتميدان وبرفقته السلطان وحاشيته وقضاة العاصمة وجميع المنحازين إلى العَلم، وهناك أخرج السلطان فتوى بقتل الإنكشارية فقتلوا في ثلاث ساعات، وتخلصت الدولة من شرهم.»

فقال أمين بك: «قد سمعنا بمقتل الإنكشارية كما سمعنا بمقتل الأمراء المماليك بمصر منذ خمس وعشرين سنة، فكأن السلطان محمودًا قد فعل ذلك اقتداءً بوزيره محمد علي عزيز مصر، ومثل ذلك تدريبه الجند على النظام الجديد.» فلما ذُكر المماليك، تأوه سالم أغا تأوهًا خفيفًا، وقال: «بقي اليونان ست سنوات يحاربون الدولة العلية بمساعدة سرية من الدول الأوروبية، وفي آخر الأمر جاهرت تلك الدول بالتوسط، وهي: روسيا وإنجلترا وفرنسا، وعقدوا مؤتمرًا في لندرا في ٦ يوليو سنة ١٨٢٧م قرروا فيه أن يتحرَّر اليونان، وأيدوا هذا القرار بأساطيلهم لتنفيذ ذلك بالقوة الجبرية. فتنحت الروسية وتقدمت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية نحو نافارين، حيث كانت الحملة العثمانية تحت قيادة إبراهيم باشا، فدارت موقعة في ٢١ أكتوبر سنة ١٨٢٧م، انكسرت فيها حملة إبراهيم باشا، وتم الاستقلال. أما أنا فقد كنت في نافارين قبل مجيء الحملتين، فنزلت إلى إبراهيم باشا وسلَّمت له خاضعًا.»

ما وراء الأكمة

قال أمين بك: «الحق أنك أفدتنا إفادة عظيمة عن استقلال المورة أو اليونان، ولكن اسمح لي أن أسألك سؤالًا ربما كان تطفلًا مني، وإنما الأخوة التي بينك وبين ولدي غريب تجرِّئني عليه!» قال سالم أغا: «تفضل.»

قال أمين بك: «إن تركك اليونان في حال فوزهم وانحيازك إلى إبراهيم باشا لم أَرَه ينطبق على حكم العقل، أما كان الأفضل لك البقاء هناك مستقلًّا؟»

عند ذلك تنفس سالم أغا الصعداء وقال: «قد تركت تلك البلاد إذ ليس لي فيها أرب، وليست هي وطني، وليس لي فيها أهل، وإنما توجهت إليها بحكم الاتفاق طوعًا لمطامع القرصان، وقد باعني بعضهم فيها بيع الأرقَّاء، وكنت مدة إقامتي فيها أغتنم فرصة أتمكن بها من العودة إلى بلادي، لعلِّي أشاهد أحدًا من أهلي، فلم أستطع ذلك إلا عند مجيء إبراهيم باشا إلى اليونان كما قلت لجنابكم.»

فقال غريب: «يظهر أنك خرجت من بلادك صغيرًا وعدت إليها كبيرًا، فهل عرفك أهلك عندما شاهدوك؟»

فتنهد الرجل وتأوَّه وخنقته العبرات، فتعجَّب الجميع من حاله، ولم يفهموا سبب بلباله.

واستأنف غريب الحديث قائلًا: «لقد أقلقتنا بتأوهك، فهل لك أن تخبرنا عن سبب اضطرابك، لعلنا نستطيع معاونتك؟»

فقال: «إني أتأوه لأني رجعت بعد المشقة والتعب، فلم أقف لوالدتي المسكينة على أثر.»

فقالت سلمى: «وا حسرتاه على الأمهات وشقائهن! فهل تعلم والدتك الآن أنك على قيد الحياة؟»

قال سالم أغا: «لا يا سيدتي لا أظنها تعلم، على أني لا أعلم إذا كانت ما تزال على قيد الحياة، بعد أن غبت عنها نحوًا من خمس وعشرين سنة أم أنها فارقت الدنيا؟»

قالت سلمى: «لا شك أنها لو كانت على قيد الحياة، فإنها تكون قد يئست من وجودك. ولكني أراك تذكر والدتك، ولا تذكر والدك.»

فقال: «لأني تأكدت أن والدي قد مات.»

فقال غريب: «ويحك يا أخي، هل فتشت عن والدتك؟ وأين تركتها؟»

قال: «تركتها في مدينة عكا منذ خمس وعشرين سنة، وقد فتشت عنها طويلًا فلم أقف لها على أثر.»

فلما سمعت سلمى كلمة عكا خفق قلبها؛ لأنها تذكرت ما أصابها في تلك المدينة التي فقدت فيها ولدها سليمًا، ونظرت إلى زوجها نظرة خفية كأنها تذكره بتلك المصيبة دون أن يفطن غريب، فرأته يتنهد تنهدًا عميقًا، وهو ينظر إليها بطرف عينه.

فقال غريب: «هل أنتم في الأصل من أهل الشام؟» قال: «لا، وإنما نحن يا أخي من سلالة قوم أفاضل من مصر، قُتل والدي هناك وحملتني والدتي، وكنت في السابعة من العمر، حتى أتت بي إلى عكا، وهناك نزلت في قارب وحدي للنزهة، فقذفتني الأمواج إلى البحر، فمر بي مركب يوناني أخذني، وباعني قبطانه بيع الأرقَّاء إلى أحد التجار في نافارين، فربِّيت فيها حتى كبرت وتم لي ما قدمت لك.»

فازداد خفقان قلب سلمى، حين تبيَّنت الشبه الشديد بين هذه الحكاية وحكايتها، وأرادت أن تتكلم فلم تستطع، فبقيت مذهولة مادة عنقها، إصغاءً لنهاية الحديث، وكذلك زوجها.

فقال غريب: «يا للعجب! ونحن أيضًا من بر مصر، وقد أصابنا تقريبًا مثل ما أصابك، فما اسم والدك لعلَّ والدي يعرفه؟»

فقال سالم: «اسمه أمين، ووالدتي الأميرة سلمى.»

فصرخت سلمى: «ولدي سليم، حبيبي، مهجة كبدي!» ورمت نفسها عليه، وجعلت تقبِّله حتى أغمي عليها، وكذلك زوجها. فبُهت سالم لذلك، ولكن تحركت فيه العواطف، وتذكر صورتيهما بعد مضي هذه المدة من الزمان، وترامى على يديهما وجعل يقبلهما، والدموع تتساقط من أعين الجميع من شدة الفرح.

فبهت غريب لذلك؛ لأنه لم يكن يعلم أن له أخًا يدعى سليمًا، ولكنه اهتم برش الماء على أبيه وأمه، فلما نهضا كررا القول: «ولدي سليم، حبيبي!» فقال غريب: «ما هذا؟ من أين نبت لنا هذا الأخ؟ ما بال الدهر يأتينا كل يوم بنبأ جديد؟»

ونهض غريب إلى الغرفة، حيث كان المصباح مشتعلًا. وجعل يتأمل أخاه سليمًا، ولما علم أنه أخوه حقيقة، أخذ يقبِّله ويعانقه.

ولا تسل عن قلب الوالدة في تلك الحال، لقد كان الجميع يحسبون أنهم في حلم.

وكان سليم أقل ذهولًا من والدته؛ لأنه كان قد يئس من أن يلتقي بها، وكذلك بأبيه، فقضوا تلك الليلة في الأحاديث عما جرى لهم، إذ ظل كل منهم يقصُّ حكايته، فلم يناموا طرفة عين. فلما أصبح الصباح سار أمين بك لإعلام الأمير بشير بالقصة، وطلب أن يسأل إبراهيم باشا إعفاء سليم من العسكرية وإبقاءه في بيت الدين.

ثم عاد وأخبرهم بسرور الأمير البالغ باجتماع شمل تلك الأسرة المشتتة، وبعث الأمير إلى سليم (سالم أغا) فهنأه بلقاء أهله، وقبَّل سليم يد الأمير قائلًا: «إن لسيادتكم الفضل الأكبر في جمع شتات هذه الأسرة فنحن غرس نعمتكم.»

ودار الحديث مدةً، ثم استأذن سليم في الانصراف؛ لأن الأمير كان في انشغال بالأحوال السياسية وثورات الدروز على الحكومة المصرية.

زفاف سعيد

أما ما كان من أمر سعيد، فإنه بعد انصراف غريب وسالم من عنده، اختلى بابنته وأطلعها على ما تم، وجعل يرغِّبها في خطيبها، فلم تُحِرْ جوابًا: لا سلبًا ولا إيجابًا، ولم يلحَّ عليها بالجواب بل تركها. وفي الصباح عاد فسألها عن رأيها في ذلك فترددت برهة، ثم قالت إنها لو لم تكن قد أحبت غريبًا، ما عرَّضت نفسها للموت من أجله، ثم أردفت: «ومن يعرف ذلك الرجل وما أصله وفصله؟»

فقال الأمير سعيد: «ولكن يا ابنتي ما العمل في أمر إبراهيم باشا، هل يمكننا مراجعته؟» فبكت الفتاة رغم إرادتها فوقع والدها في حيرة، ولم يدرِ هل يجبر ابنته الوحيدة على الاقتران بمن لا تعرفه ولا تميل إليه، أو يخالف أوامر إبراهيم باشا.

ولما حان وقت الغداء، لم تذق طعامًا لشدة حزنها، كل ذلك ووالدها يفكر في وسيلة لإنقاذها، وإنقاذ نفسه من تلك الورطة.

وفيما هو في ذلك دخل الخادم يقول: «إن فارسين بالباب.» فخرج لاستقبالهما، فإذا هما غريب وسليم، فرحب بهما كثيرًا لكنهما لاحظا على وجهه سورة الغضب، فلما استقر بهم المقام، قال سليم: «قد جئناك بخبر سيكون في غاية الغرابة عندك، وأظنه يَسُرُّك، وقد يكون موجبًا لذهاب غضبك.»

فقال الأمير سعيد: «وماذا عسى أن يكون ذلك؟» قال سليم: «إن سعدى من نصيب أخي غريب، ويسرني أن أخبرك أنه أخي من أمي وأبي.»

•••

فتعجب الأمير سعيد ولم يفهم المقصود، فقص عليه قصة والديه من أولها إلى آخرها، فعلم الأمير سعيد إذ ذاك أن قرابة غريب لبني شهاب، إنما هي من قبيل الأم، وأن الاثنين أخوان.

ولا تسل عن قلب سعدى حين علمت بما تم لها من عودة حبيبها إليها.

وقضوا بقية ذلك اليوم معًا إلى المساء، يتفاوضون في أمر الزواج، فقال غريب: «الأولى أن يأتي والدنا، ويدبر ذلك مع سيادتكم كما هي عادة هذه البلاد.» وبعد العشاء والسهر انصرفا إلى البيت معًا.

وبعد مدة سار أمين بك بعد أن استأذن الأمير بشيرًا، وسارت معه سلمى إلى بيت الأمير سعيد، واتفقا على موعد الزفاف.

وفي أواخر سنة ١٨٣٦م، تم الزفاف باحتفال عظيم دارت فيه ألعاب السيف والعصا وركوب الخيل ولعب الجريد، فقد اجتمع سائر أهل القرى المجاورة بألعابهم وموسيقاهم ومشاهير رجالهم، وفيهم المهرة بلعب السيف الذين يقطعون عصا الحديد الملفوفة باللباد، وفيهم من يقطع الثور الكبير نصفين بضربة، وفيهم مَن تفنن بالسيف حتى إنه كان يرمي منديلًا من الحرير الرفيع في الهواء ثم يضربه بالسيف فيقطعه شطرين، إلى غير ذلك من ألعاب السيوف، وكان في جملة اللاعبين أشهر الخيالة ولاعبي الجريد، وغير ذلك من الألعاب التي برع فيها اللبنانيون.

•••

وعلى الجملة، فإن عرس غريب كان باحتفال عظيم جدًّا، دام عشرة أيام كانت بيت الدين في أثنائها كأنها شعلة نار لكثرة الأنوار، وأما الموائد فلم ترفع لا ليلًا ولا نهارًا، وكل ذلك على نفقة الأمير بشير لأنه كان يجب أن يجبر قلب ابنة عمه الأميرة سلمى بزوجها وأولادها، فإن فرح هؤلاء لم يكن يقدَّر بعد ما قاسوه من التعب والمشقة والأخطار.

سعيد

ولكن فرحهم لم يكن تامًّا، لأن أمين بك وزوجته وغريب، ما انفكوا يفكرون في سعيد خادمهم الأمين، وما كان من أمره، وكيف ذهب ضحية شهامته ومروءته. وكان الفرح الشديد قد أثار ذكرى أيام الشقاء، فانقبضت نفس أمين بك حين تذكر الساعة التي ضرب فيها سعيدًا، وشعر بندم شديد لأنه لم يرجع على أثر الضربة كي يبحث عن جثته لعل فيها رمقًا، فكان الاحتفال قائمًا، والناس في هرج ومرج بين ضاربي الآلات، ولاعبي الألعاب الحربية، والمغنين، وأمين بك ساكت لا يكلم أحدًا إلا بما يضطر إليه؛ جوابًا لمهنئ أو ردًّا على سؤال.

وفيما هو في ذلك جاءه رئيس الدير المعهود، وعلى وجهه أمارات البشر وسلَّم عليه، فهمَّ أمين بك بتقبيل يده وتأمله فقال له: «أراك يا سيادة البك في ارتباك وكدر، فما هو سبب ذلك؟ ألا تقول لي؟» قال: «لست في ارتباك ولا في كدر لأني بحمد الله قد ظفرت بما كنت أتمناه من جمع الشمل، ولكن فرحي لم يتم.»

فقال الرئيس: «وماذا ينقصه؟»

قال أمين بك: «ينقصه ما لا سبيل إليه، وأنا الجاني فيه.»

قال الرئيس: «عسى الله أن يفتح باب الفرج فإنه على كل شيء قدير.»

قال أمين بك: «لا شك أنه قادر سبحانه وتعالى، وإلا فمن كان يظن أننا سنلتقي معًا، وقد تبعثر شتاتنا في أنحاء الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؟! ولكن ما أرجوه يا جناب الرئيس بعيد المنال لأن الرجل الذي أود اللقاء به أظنه قد مات، وا أسفي عليه! بل يا لشقائي لأني قتلته بيدي!» قال ذلك، وتساقطت عبراته.

•••

فتبسم الرئيس وضم أمين بك إلى صدره، وقال: «أظنك تعني سعيدًا، إنه لم يمت، بل هو حي يرزق.»

فبهت أمين بك، ولكنه عاد فظن أن الرئيس يقول ذلك على سبيل المجاملة لتخفيف حزنه، فقال: «لا أظنه إلا ميتًا لأن الضربة كانت قاضية.»

فقال الرئيس: «بل هو حي يا ولدي، وإذا لم تصدق أريتك إياه رأي العين؟»

فظنه أمين بك يمازحه تخفيفًا لكربه فقال: «بالله دعنا من إثارة الأشجان فإني لا أرجو رؤية سعيد ولا في المنام، ولكن شخصه نصب عيني سحابة النهار وبعض الليل.»

فقال الرئيس: «بل أقول لك الواقع، إن سعيدًا الآن في الدير عندي، وقد جئت لأبشرك بقدومه.»

•••

فلما سمع أمين بك كلامه خفق قلبه، وانتصب على قدميه مذعورًا، وقال: «أين هو؟ أرني إياه، هلم بنا إليه؟» قال: «لا حاجة إلى ذهابك فإني ذاهب.» قال ذلك وخرج، فهرول أمين بك إلى سلمى وغريب وسائر أهل بيته وأنبأهم بالخبر، فكادت قلوبهم تطير من الفرح، ولم يصدقوا الخبر لِبُعده عن المنتظر، أما أمين بك فأوعز إلى منظمي الاحتفال أن يسيروا بالموسيقى ولاعبي السيف والخيالة جميعًا بموكب واحد لملاقاة سعيد وهو قادم من الدير، وسارت أسرة أمين بك بأكملها وراء الجميع عدا النساء، وقد أحالوا احتفال الزفاف إلى الاحتفال بملاقاة سعيد، وكان «العريس» في جملة المحتفلين، وسار الموكب من بيت الدين وأصوات العازفين والضاربين والخيالة تكاد تبلغ عَنان السماء.

•••

فلما كانوا في منتصف الطريق، قيل لأمين بك: «إن الرئيس وسعيدًا قد قدما.» فتقدَّم هو وولداه حتى التقوا بسعيد، فإذا هو قد ترجَّل واندفع إلى ركاب أمين بك فقبَّله، والتفت يمنة ويسرة لعله يرى غريبًا فرآه ولم يعرفه؛ لأنه فارقه صبيًّا وقد صار شابًّا، فأقبل غريب بنفسه وسلَّم عليه، فعانقه سعيد، وعيناه تذرفان دموع الفرح، وقال لأمين بك: «أشكر الله على هذه المنة، فإني طالما كنت أتمنى هذا اللقاء، وها قد رأيته بعيني، فأحمد الله. ولكني أراكم قد بالغتم في إكرامي، وما أنا إلا عبدكم ولست أهلًا لهذا الاهتمام!» فتقدم إليه أمين بك وقبَّله قائلًا: «ما أنت والله ألا أخ وأعز من الأخ؛ لأنك سعيت سعيًا لا نستطيع مكافأتك عليه، فقد كنت سببًا لبقائنا كلنا، ولولاك ما بقي أحد منا حيًّا.»

فسكت سعيد احترامًا لكلام سيده، وبعد أن وقفوا هنيهة في مثل هذه الأحاديث، عادوا على الأقدام، والموكب يسير بهم نحو بيت الدين، ولكن سعيدًا كان في مشيه عرج وقد ظهرت على وجهه ملامح الشيخوخة والكبر. فقال له أمين بك: «كم أحب أن أعرف ماذا أنقذك من الموت، وما سبب تأخرك عنا إلى هذا اليوم حتى يئسنا من حياتك.»

فتنهد سعيد وقال: «سأقص عليك الخبر قريبًا، أما الآن فدعوني أرتوي من مشاهدة سيدي غريب، وقد علمت أنكم تحتفلون بعرسه، فما أسعدَ هذا الاحتفالَ!» ثم نظر إلى سليم وقد استغربه وقال: «ولكني لم أعرف هذا الشاب؟» فقال أمين بك: «ألا تعرفه؟» قال: «نعم، لا أظنني رأيته قبل الآن أو لعلِّي رأيته ولا أذكر.»

فقال أمين بك: «هذا هو ولدنا سليم الذي أضعتموه في عكا.» فاتجه سعيد إليه، وقبَّله وقال: «حبيبي، هل أنت سليم؟ سبحان الخالق العظيم، ها أنا ذا قد نلت من دنياي فوق ما كنت أرجو؛ لأني لم أرجُ قط أن أرى سليمًا حيًّا، فهذا فوق ما كنت أنتظر، الحمد لله.» ثم سأل عن سيدته، فقيل له: «هي بخير تنتظر وصوله مع سائر أهل السراي في بيت الدين.» وما أتموا حديثهم حتى وصل الموكب إلى السراي، وخرج مَن فيها لملاقاتهم، ودخل أمين بك وسعيد إلى دار الحريم، فإذا السيدة سلمى في انتظارهم، فأخذ بيدها وقبَّلها، فسلَّمت عليه ورحَّبت به، وقالت: «إن فرحي بعودتك أكثر كثيرًا من فرحي بزواج ولدي غريب لأنك الصديق الغيور.» فشكر فضلها وقال: «العفو يا سيدتي، بل أنا عبدك وخادمك.» ثم جلسوا جميعًا وقد عاد الموكب إلى الاحتفال بحفل الزفاف وتضاعف الفرح والسرور.

•••

أما أمين بك، فظل منشغل الخاطر بطريقة نجاة سعيد وسبب تأخره إلى ذلك الوقت، فلما استقر بهم الجلوس، قال أمين بك لسعيد: «بالله ألا أنبأتنا بكيفية نجاتك، وكيف كانت نتيجة تلك الضربة!»

فقال سعيد: «لم أَفُق يا سيدي إلا وأنا مغلول اليدين في مكان كالسجن، وحولي جماعة السودانيين من أهل شندي يتمتمون، وقد فهمت من مجمل كلامهم أنهم علموا بأني لست من إخوانهم، واستدلوا على ذلك من خطابي لك، وأنت شاهر السيف وقادم إلى السودان. وكنت أسمع رطانتهم وأنا بين اليقظة والغيبوبة، ثم رأيتهم جاءوني بلبن ودقيق ضمدوا بهما جراحي، ولكنهم ما لبثوا أن جاءهم الخبر بقدوم الجنود المصرية للانتقام منهم، فحملوني معهم مقيدًا يريدون الانتقام مني فتضرعت إليهم أن يتركوني وشأني أو يقتلوني، فأبوا تركي مخافة أن أخبر المصريين بمخبآتهم، ولم يريدوا قتلي لأنهم كانوا يتوقعون أن يستفيدوا مني في الاطلاع على بعض الأخبار.

وكنت قد تحسنت قليلًا، فلما هموا بالمسير غافلتهم ذات ليلة وفككت قيودي وفررت من معسكرهم، وكنت أظنهم لم يشعروا بي، فإذا جماعة منهم قد لحقوا بي فأسرعت في العدْو، وأنا لا أزال ضعيفًا فأدركوني، وقد أنهكني التعب والجهد، فأعادوا الأغلال إلى رجلي ويدي، فعاودني المرض لشدة ما شعرت به من صغر النفس وضيق الصدر. وما زلت على هذه الحال أيامًا، وهم تارة يقيمون، وطورًا يرحلون في أواسط الصحراء بين العطش والتعب والجوع، وذات يوم تركوني في مكان كنا نزلنا فيه وساروا ولكنهم فكُّوا أغلالي قبل مسيرهم، وأشفق عليَّ واحد منهم، فترك عندي شيئًا من الذرة وقليلًا من الماء.

فبقيت في تلك الصحراء ضعيفًا نحيلًا لا أستطيع المسير، ولا أقوى على النهوض، فتحققت من دنو الأجل فتذكرتكم جميعًا، ولا سيما حبيبي غريب لأنه رُبِّيَ على ذراعي، وهاجت الذكرى أشجاني فأخذت في البكاء والعويل ليلًا ونهارًا، ولكن تعزيتي الوحيدة في تلك الأحزان كانت أني تحققت من بقاء سيدي البك حيًّا ورجوت أن يلتقي يومًا بأهل بيته، على أنني تأسفت كثيرًا لأني لم أستطع أن أخبره بمحل إقامتهم.

•••

فقضيت أيامًا على تلك الحال، لا آكل ولا أشرب إلا قليلًا جدًّا، فضلًا عن خوفي واضطرابي مما كنت أسمعه من أصوات الذئاب والوحوش في أثناء الليل، فلما خارت قواي وتحققت من قرب الوفاة، خشيت أن أموت في تلك الصحراء، وتذهب جثتي طعامًا للوحوش، فدببت على رجلي ويدي إلى حفرة بالقرب مني، وعولت أن أجعلها مرقدي عند موتي فتوسدتها، وقد هزل جسمي وجف دمعي من كثرة البكاء.»

فلما وصل بحديثه إلى هذه العبارة، ترقرقت الدموع في عيون السامعين، ولا سيما سلمى وأمين.

•••

ثم عاد إلى إتمام الحديث فقال: «ولكن الله نظر إلى حالي وضعفي ففتح على بابًا لم أكن أنتظره؛ وذلك أنني بينما كنت في تلك الحال شاهدت غبارًا متصاعدًا عن بُعْد، ولم يمضِ غير قليل حتى رأيت أعلامًا وفرسانًا، فعلمت أنها شرذمة من الجنود المصرية سائرة في أثر الهاربين، فأومأت إليهم فشاهدني أحدهم فهرول إليَّ، وتبعه آخرون فسألوني عن حالي فأشرت إليهم أني من أنصارهم ولكني ضعيف، فحملوني إلى معسكرهم وعالجوني بما وصلت إليه أيديهم فأراد الله شفائي، فلما أكلت واسترجعت صوابي سألوني فأنبأتهم أني كنت من رجال إسماعيل باشا، وأُخذت أسيرًا جريحًا، ونصحت لهم أن يرجعوا عن تعقب أولئك الفارين لأنهم لن ينالوا منهم وطرًا، فأذعنوا لمشورتي وعادوا جميعًا إلى جهات شندي وأنا معهم. وكنت قد عوَّلت على أني حالما أستطيع المسير أسرع في المجيء إلى سيدتي لأرى ماذا تم من أمر سيدي، فأقمنا في شندي مدة وأنا لا أزال ضعيفًا لا أستطيع تحمُّل مشقة الأسفار، وقد لازمتني الحمى واستعصت فمضى على سنتان في مثل هذه الأحوال، وأنا لا أكاشف أحدًا بمقاصدي.

ثم انتقل معسكرنا إلى مدينة الخرطوم، ولزيادة شقائي سقطت، وأنا أركب النقر (نوع من المراكب السودانية) فكُسرت رجلي من عند الفخذ، فلبثت في الخرطوم أعوامًا وفخذي لا يُجبر كسرها، أولًا لأني لست شابًّا، وثانيًا لأني لم أستطع مداواتها كما يجب. والأدهى من ذلك أنها بعد أن كادت تشفى عادت فانكسرت، وسبب كسرها أنه جاء إلى الخرطوم والٍ واسمه خورشيد باشا من قِبل محمد علي باشا عزيز مصر، وأهل السودان كما لا يخفى على سيدي يسقفون بيوتهم بالجلود والقش، فلما جاء هذا الوالي أخذ يطالب أهل الخرطوم بأن يبنوها بالآجر (القرميد) فصاروا يصنعون من الآجر كميات كبيرة، فكثر البناء، وشعرت يومًا أن ساقي شفيت تمامًا، فجئت أشتغل في سقف حجرتي، فسقَّفت جانبًا منه، ولكني لم أحسن تسنيده جيدًا فسقط القرميد عليَّ فانكسرت ساقي ثانية، فعُدت إلى المتاعب والبلايا، وقد قطعت الأمل من الشفاء لأن الكسر إذا تكرر عسر شفاؤه، ولا سيما لمن كان مثلي.

•••

وأراني قد أطلت الحديث عليكم، وما نحن في مقام أقاصيص مكدرة، فأقول بإيجاز إني لبثت أعوامًا أخرى وأنا أطبِّب الكسر، ولا همَّ لي إلا أن أراكم، حتى منَّ الله عليَّ بالشفاء فقمت من الخرطوم السنة الماضية. وما زلت بين راكبٍ وماشٍ أقطع الصحاري والسهول وأركب الأنهار والبحار، حتى وصلت مساء أمس إلى الدير المعهود، فأنبأني رئيسه بما انشرح له صدري، وها أنا ذا لقيتكم بخير، والحمد لله.» فحمدوا الله على عودته سليمًا، وقال أمين بك: «إن سروري الآن قد تمَّ، فلنُتِمَّ الأفراح»، فأتموها وزادوها، وأنبئوا الأمير بشيرًا بمجيء سعيد، فَسُرَّ، ثم سار سعيد لمشاهدته، فمدح الأمير هِمَّته، وأثنى على شهامته، وكان للاحتفال بقران غريب رنة في سائر أنحاء لبنان وأُنفقت فيه الأموال الطائلة.

انسحاب الجنود المصرية

فلما كانت سنة ١٨٤٠م، اتَّحدت دول أوروبا مع الدولة العثمانية على إخراج إبراهيم باشا والجنود المصرية من سوريا. ولما كان الأمير بشير قد جاهر بالاتحاد مع الجنود المصرية فقد استولى عليه القلق والارتباك، وجرت في تلك السنة حروب هائلة انتهت على غير المرام؛ لأن الجنود المصرية اضطرت بعد دفاع عدة أشهر أن تنسحب من الديار السورية. وكان الأمير بشير محافظًا على اتحاده مع الدولة المصرية اعتمادًا على وعود دولة فرنسا بمساعدته، فلما يئس من مساعدتها عزم على أن يسلِّم للدولة العثمانية، وعلم أن تسليمه يستلزم الابتعاد عن لبنان، فجمع ما لديه من المجوهرات والنفائس في بيت الدين، وجمع أولاده وحفدته وسائر أهل داره وأتباعه، وفي جملتهم المعلم بطرس كرامة، وهَمَّ بالمسير نحو صيدا.

فلما علم أمين بك وزوجته بذلك، تفاوضوا فيما يفعلون، فقرَّ رأيهم على مرافقة الأمير إلى حيث يتوجَّه، فرافقوه جميعًا.

وفي شهر تشرين أول (أكتوبر) سنة ١٨٤٠م وصل الأمير بشير وجماعته إلى صيدا، فاستقبله حاكمها خالد باشا بالإكرام وأمره أن يتوجَّه بحرًا إلى بيروت، فتوجَّه إليها ومعه جميع حاشيته وأولاده وأسرة أمين بك.

فلما وصلت الباخرة إلى ميناء بيروت، بعث السر عسكر يسأل الأمير أن يختار له مكانًا يقيم فيه غير سوريا ومصر وفرنسا، فاختار مالطة، فصدرت بذلك الأوامر، فأقلعت الباخرة بهم إلى مالطة. ولا تَسَلْ عن عواطف أهل تلك الباخرة عندما تحققوا من أمر إبعادهم عن ذلك الجبل الجيد الهواء، فظلوا وهم في البحر يتأملون رُبا لبنان الشاهقة وما يكسوها من البساتين والغياض، وما عند سفحه من المباني حتى توارت عن أبصارهم.

وبقي الأمير بشير في مالطة أحد عشر شهرًا، ثم سار إلى الآستانة، فلما وصل إليها نزل بإكرام جزيل. وفي اليوم الثاني من دخوله دعاه الصدر الأعظم رءوف باشا للمقابلة، ونظرًا لما سبق له من النفور منه لاتحاده مع الجيوش المصرية، أمر أرباب مجلسه أنه إذا دخل الأمير بشير لا يقفون له تحقيرًا لمقامه، فقالوا: «سمعًا وطاعة.» أما بشير فاستعد لمقابلة الصدر الأعظم، وقد علمت ما هو عليه من الهيبة، فوق هيبة كبر السن واتساع لحيته واسترسال شعرها على صدره، وتدلي حاجبيه فوق عينيه.

فلما دخل قاعة الصدارة وقف الصدر الأعظم أولًا، ثم وقف سائر الوزراء، وبعد أن قضى برهة يتحادث في شئون مختلفة انصرف. فقال الوزراء للصدر الأعظم: «أمرتنا ألا نقف لهذا الرجل، ورأيناك أول الواقفين!» فقال: «والله لا أعلم ما الذي أوقفني بالرغم من إرادتي، حالما شاهدت وجه هذا الرجل، ولم أكن أظن أن على وجه الأرض رجلًا بهذه الهيبة.»

وأمرت الدولة للأمير بدار في قرية أرناءوط كوي على خليج المدينة. وأما غريب، فكان مشتغلًا عن كل شيء بمناظر الآستانة ومبانيها لأنه لم يكن شاهد مثل هذه العاصمة قط. وبالإجمال فإن أمين بك وسلمى وسليمًا وغريبًا عدُّوا أنفسهم من أسعد البشر بعد اجتماع شملهم، وقد تزوَّج الولدان وصاروا كلهم يشكرون الله على كل حال.

وفي السنة الثانية توفي الأمير ودُفن في الآستانة، ولم نعد نسمع شيئًا عن عائلة أمين بك من ذلك الحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤