الفصل الرابع

الأُطُر النظرية التي يستخدمها الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون

في هذا الفصل، سنَتناول الأفكار والمفاهيم النظرية التي تُعَد الأساس لتطبيق المهارات التي بينَّاها في الفصل الثالث. فجميع المُتخصِّصين يستندون إلى أطر نظرية (أي نماذج ونظريات) لفهم العملاء ومساعدتهم. ذلك أنَّ هذه الأطر توفر هيكلًا وتوجيهًا عمليًّا بشأن الخطوات التي ينبغي اتخاذها تاليًا. ويتلقَّى الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون التدريب على تطبيق عدد مِن الأُطُر النظرية النفسية المختلفة في عملهم، لتكون بمثابة خريطة يَسترشدون بها في أرض مجهولة. تُشير هذه الخرائط إلى حقيقة الوضع على الأرجح والسبب المحتمل في الصعوبات التي يُواجهها العميل، وتقدم كذلك الإرشادات بشأن ما يُمكن عمله للمساعدة.

ولا بد أولًا من الانتباه إلى أمر مهم. فعلى الرغم من أهمية الأطر النظرية للاختصاصيين النفسيين لأنها تقترح طرقًا لفَهم العملاء وتنظيم التدخلات العلاجية، فإن اختيار أي إطار نظري بعينه تحديدًا لا يُمثل فارقًا كبيرًا بالنسبة إلى العملاء طالَما أن هناك إطارًا مفاهيميًّا يؤمن به كلٌّ مِن المعالج والعميل. وتُظهِر الأبحاث بالفعل أنَّ أكثر ما يُهمُّ من منظور متلقِّي العلاج، هو الحصول على المساعدة من شخص لطيف، ومتفهِّم، ومتفائل، ويبدي الاحترام ويشارك في فهم المشكلة التي يُواجهها، إضافةً إلى وجود خطة واضحة لديه للتعامل مع المشكلة.

كما أظهر العديد من الدراسات أن وجود علاقة علاجية جيدة بين العميل والمعالج، واستعداد العميل لإحداث تغييرات من المؤشِّرات الجيدة على تحقيق نتائج، وهي أفضل في ذلك من استخدام أي إطار أو تقنية مُعيَّنة. يحدد الاختصاصي النفسي الإكلينيكي الإطار النظري الذي سيَستخدِمه حسب سياق تقديم الخدمة وتفضيلات العميل والأدلة البحثية والإرشادات الإكلينيكية وتقديره الشخصي. وسنعرض الآن عدَّة أمثلة على الأطر النظرية، مع توضيح الحالات التي قد تُفيد فيها.

الأطُر السلوكية

لقد بدأ الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون منذ الأيام الأولى لهذه المِهنة، يُطبقون مبادئ التعلم (مثل الاقتران وتعديل السلوك والمكافآت والتشكيل) لتعزيز الصحة النفسية لدى الأشخاص (نوقشت هذه المبادئ بتفصيل أكثر في المقدمة القصيرة جدًّا لعلم النفس التي كتبها باتلر وماكمانوس). على سبيل المثال، في الستينيات والسبعينيات، بدأ الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون يطبقون نوعًا من أنظمة المكافآت داخل المستشفيات النفسية القديمة، ممَّا أسس لقواعد جديدة وطرق مبتكرة لمكافأة من سبق أن كانوا نزلاء في هذه المؤسسات. تدربت طواقم العمل في هذه المؤسسات على منح المرضى الذين يُشاركون في الأنشطة الاجتماعية ويتعلَّمون مهارات جديدة نقاطًا من قبيل المكافأة (بحيث يُمكنهم مبادلتها بسلع أو امتيازات)، مما يشجعهم على التقدم تدريجيًّا نحو القدرة على العيش بدرجة أكبر من الاستقلالية. يستند هذا العمل إلى اثنين من مبادئ تعديل السلوك؛ وهما «التعزيز الانتقائي» و«التشكيل».

تُؤسِّس هذه المبادئ السلوكية لتقنيات وممارسات العلاج السلوكي، والذي كان ولا زال يستخدم في علاج مشكلاتٍ نفسية عديدة، منها الرهاب والقلق. إنَّ فهم الكيفية التي يتعلَّم بها الإنسان مختلف الأشياء (بما فيها الخوف) بيَّن للاختصاصيين النفسيِّين أن تجنُّب ما يُسبب للإنسان القلق قد يُشكِّل مكافأةً في حدِّ ذاته، فيشعر الشخص بالارتياح عندما يتجنَّب هذا الشيء. يُمكن لهذا أن يديم لدى الشخص شعور الخوف؛ وهذا يضرُّه بالطبع (انظر الأمثلة الإكلينيكية في مربع ١٥).

مربع ١٥: كل من باربرا وعبدول يتلقَّى المساعدة من اختصاصي نفسي إكلينيكي لعلاج الرهاب

لطالَما كانت باربرا تخشى الكلاب. لكن هذا الخوف قد تفاقم عندما انتقلت مُؤخرًا للعيش في أطراف المدينة؛ حيث كان عليها عبور حديقة يَتمشَّى فيها السكان مع كلابهم كي تصل إلى عملها. حاولت باربرا تجنُّب الكلاب بالذهاب إلى العمل في وقت مبكر جدًّا والعودة في وقتٍ مُتأخِّر جدًّا أو بأخذ طريق أطول بكثير إلى العمل. أعد الاختصاصي النفسي الإكلينيكي برنامجًا وافقَت باربرا وفقًا له على مشاهدة الاختصاصي النفسي أولًا وهو يَقترِب من كلب صغير ويُربِّت عليه؛ ثم الاقتراب من كلب صغير بنفسها؛ ثم مرافقة الاختصاصي النفسي بينما يقترب من كلاب أكبر؛ ثم التربيت على كلب صغير بنفسها. وفي نهاية المطاف، شعرت باربرا بسعادة غامرة (وهنَّأها الاختصاصي النفسي بحرارة) حين تمكَّنت من عبور الحديقة وتحية الكلاب التي تَقترِب منها مبتهجةً. وصحيحٌ أن باربرا ظلت «لا تحبُّ الكلاب جدًّا»، لكنَّها صارت تستطيع الذهاب إلى العمل والعودة منه دون أن يغمرها الشعور بالقلق.

شارك عبدول في أعمال قتالية عندما كان يخدم في الجيش، لكنه بعد أن أصبح مدنيًّا صار لا يُطيق الضجيج، ممَّا دفعه لاعتزال أغلب المواقف الاجتماعية والمكوث في المنزل مع أسرته. ساعد برنامج سلوكي بمشاركة عائلة عبدول في زيادة معدَّل خروجه إلى أماكن صاخبة؛ إذ أقدمت ابنة أخته التي يُحبها حبًّا جمًّا على قضاء وقتٍ أطول معه، كمُكافأة له عندما يخرج. ساعد ذلك عبدول في التعود على الضوضاء؛ حيث تعلم أن الضوضاء ليست ضارة فعلًا وأن تجنُّبها كان يفوِّت عليه متعة الخروج.

يُستخدَم العلاج السلوكي بالعديد من الطرق الأخرى أيضًا؛ فهو يُستخدَم مثلًا في تطوير السلوك الاجتماعي أو اللغة لدى الأطفال ذوي الإعاقات الذِّهنية، أو في تصميم برامج لمساعدة الأشخاص الذين تعرَّضوا لإصابات في الدماغ على إعادة تعلُّم سُلوكيات ككيفية ارتداء الملابس أو تغذية أنفسهم مرةً أخرى. ويقدم بعض الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيين خدمات التدريس أو الإشراف لمجموعات أخرى من الاختصاصيين بخصوص استخدام هذه التقنيات. فالكثير من المُمرضين المنزليِّين مثلًا باتوا الآن يستخدمون مبادئ العلاج والتعزيز السلوكي لمساعدة العائلات على تدريب الأطفال الصغار على استخدام المرحاض أو بِناء عادات غذائية صحية؛ بينما يقوم بعض موظَّفي المستشفيات عالية التأمين بتطبيق برامج سلوكية لمساعَدة المجرمين على تحسين تحكُّمهم في الغضب.

الأطر الإدراكية المعرفية

رغم نجاحات العلاج السلوكي، فسرعان ما تجلَّت محدوديته؛ وذلك تحديدًا لأنه كان يتجاهَل الجانب الإدراكي المعرفي. الإدراك هو العملية التي يُفسر بها الناس العالم من حولهم من خلال استقبال المعلومات والتفكير فيها وتخزينها وتطبيقها، ومن خلال استخدام اللغة، بما في ذلك كيفية استخدام الحواس وتذكر ما تعلَّمناه ونسيانه وتنظيمه وترتيبه. لذا بدأ الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون يتبنُّون أُطُرًا إدراكية تُتيح لهم فهم الناس ومساعدتهم بشكل أفضل.

بيَّنت الدراسات الأكاديمية أن حواسَّنا لا تقف محايدة تمرر الإشارات دخولًا وخُروجًا من دماغنا ببساطة فحسب، بل يحدث قدر هائل من المعالجة الداخلية يتأثَّر الكثير منها بحدود الذاكرة وقيودها والتجارب السابقة والتوقُّعات والمزاج والدوافع. واقترح الاختصاصيون النفسيون أننا نشبه الكمبيوتر من بعض النواحي، وأننا نعمل من خلال بِناء وتطوير وتطبيق مجموعة مُتنوعة من الأنساق لإدراك العالم تُعرف بالمخططات المعرفية (بمعنى أنها طرق لتفسير الأحداث). وعلى الرغم من أن إمكاناتنا للتعلُّم والفهم هائلة، فإن مخططاتنا المعرفية معيبة ومحدودة وغير حيادية. الحق أن مخططاتنا تعتمد على مقاربات وافتراضات مختزنة وبِنًى اجتماعية أو ثقافية مكتسبة. ومن ثَم فنحن لا نقوم في الواقع بمعالجة الأشياء مُعالجةً مُحايدة كما يفعل الحاسوب، بل نُفسرها بطريقة شبه تلقائية في معظم الأحيان، وإن كنا قادرين على التعلُّم بكفاءة كذلك وعلى التحكُّم في كثير مما يحدث، على الأقل على المستوى الواعي.

ما دُمنا نَنطلِق في تعاملنا من منطلقات «نفسية»، لا منطقية، فإننا نصبح عرضة لارتكاب عدد من أخطاء التفكير في بعض الأحيان. من هذه الأخطاء، القفز إلى النتائج، والتعميم الزائد، والتفكير الثنائي القطعي (الأبيض مقابل والأسود) والتفكير الكارثي (اتخاذ قرار بأنه لا أمل في أي شيء إلى الأبد بسبب حدوث شيء واحد سيئ). ومما يسترعي الانتباه أنَّ الأشخاص يختلفون في الكيفية المحدَّدة التي يُعالجون بها هذه العمليات. فالأبحاث تُشير إلى أن المخططات المعرفية لكل فرد تَعتمِد إلى حدٍّ ما على خبراته الحياتية وتاريخه الشخصي وسياقه الاجتماعي وطبيعته البيولوجية واستعداده الشخصي.

طُبِّقت هذه الأفكار المستوحاة من علم النفس المعرفي تدريجيًّا في علم النفس الإكلينيكي، مما أثمر عن العلاج المعرفي. وتتمثَّل الفكرة الأساسية لهذا العلاج في أن العديد من المخططات المعرفية التي يتبناها مَن يجدون مُعاناة نفسية تلعب دورًا رئيسيًّا في قدرٍ كبير من هذه المعاناة. فبعض الناس يكونون في ظروف ما أكثرَ عُرضةً لارتكاب أخطاء في الحكم، ومن ثَم قد يَميلون إلى رؤية الأحداث المحايدة على أنها سلبية أو عدائية إن كانت غامضة. يُدعِّم هذا تفكيرهم السلبي، مما يؤدي إلى تدهور حالتهم. تخيَّل مثلًا أنني أتوقَّع أن تتَّصل بي صديقتي لنتجاذَب أطراف الحديث وترفع معنوياتي بعدما أحبطت من مقابلة عمل. عندما لا تتَّصل صديقتي قد يكون لهذا عدد من التفسيرات الممكنة: إنها فقدت رقم هاتفي، أو إنها اضطرَّت للذهاب في زيارة عاجلة لقريب مريض، أو إنها نسيَت أن تتَّصل، أو إنها فقدت هاتفها المحمول، أو إنها لم تَعُد تُحبني. ولأنني محبط بالفعل، فالأرجح أنني سأقتنع أن كرهها لي هو السبب. ولا شك أنَّ احتمالية توصُّلي إلى هذا الاستنتاج ستَزيد إذا كانت لديَّ تجارب سابقة عديدة انتهت بي لتوقُّع رفض مُماثل من الآخرين. ومن المؤسف أنَّ تفكيري في هذا الاحتمال سيزيد من شعوري سوءًا.

ثمة فكرة مركزية هنا وهي أن أفكارنا عن أنفسنا تُحدِّد تجربتنا؛ ونجد لهذه الفكرة صدًى في مقولة إبكتيتوس الشهيرة التي يعود عمرها إلى أكثر من ٢٠٠٠ عام: «ليسَت الأشياء نفسها ما يهمُّ الرجال، وإنما ما يتَّخذونه حيالها من مواقف». معنى هذا أنَّ العلاقة وثيقة بين الأفكار والمشاعر، حيث يُمكن للأفكار السلبية أن تتسبَّب فعليًّا في المشاعر السلبية. ففكرة أن صديقتي لا تحبني هي ما تسبَّبَ في تعكير مزاجي.

استُخدِم العلاج المعرفي في البداية لمساعدة من يعانون من الاكتئاب، ولكنه بات الآن يُستخدَم في التعامل مع مشكلات كثيرة، منها القلق واضطراب كربِ ما بعدَ الصَّدمة واضطرابات الأكل والذهان. وفي جميع هذه الحالات، يولي الاختصاصي النفسي الإكلينيكي عنايةً كبيرةً لطريقة تفكير الشخص، والكيفية التي يُمكن لأفكاره ومعتقداته أن تتسبَّب بها في محنته النفسية أو تزيد من تفاقمها. يعمل الاختصاصي النفسي الإكلينيكي مع العميل لكشف الافتراضات التي تقوم عليها أفكاره والدلائل التي تُعزِّزها. ويتمثَّل ذلك في اثنَين من الإجراءات هما: «الاستجواب السقراطي» (السعي لجعل العميل يُجيب عن أسئلته بنفسه بجعله يفكر وانتزاع الإجابة منه، بدلًا من إخباره بالإجابة)، و«تحدِّي الفكرة» (تشجيع العميل على اختبار افتراضاته، وذلك على سبيل المثال بطرح سؤال من قبيل: «هل هناك أي تفسيرات أخرى مُمكنة تخطر على بالك؟»). وقد كان لتطوير نماذج معرفية محدَّدة لفهم أنواع معيَّنة من المعاناة أهمية كبيرة للغاية، كما شجَّع على البحث في أكثر الطرق فعالية لمساعَدة مجموعات كبيرة من العملاء.

يتأسَّس العلاج المعرفي السلوكي على إطارين نظريين، وهما الإطار المعرفي والإطار السلوكي؛ إذ يستخدم تقنيات معرفية مثل الاستجواب السقراطي وتحدِّي الفكرة، جنبًا إلى جنب مع تقنيات تطورت في العلاج السلوكي، مثل الاستخدام المنهجي للتعزيز والتشكيل (انظر مربع ١٦ للاطلاع على مثال إكلينيكي). ومِن التقنيات الأخرى استخدام التجارب التجريبية الموجهة، والتي تُعرف أحيانًا ﺑ «التجارب السلوكية». (يعرض الشكل ٤-١ مثالًا على تجربة سلوكية أُعدَّت لعميل يُعاني من خوف من التحدث إلى جمهور.) يركز العلاج السلوكي على تقليل الأعراض وغالبًا ما يشتمل على تمارين أو واجبات يقوم بها العميل بين الجلسات.

وبحماس دخل العلاج المعرفي السُّلوكي إلى مجال علم النفس الإكلينيكي، وقد أظهر فعالية في حالات عديدة مدعومًا بدراسات بحثية كثيرة جدًّا. وكثير من الأمثلة التي نأتي لذِكرها في مواضع أخرى في هذا الكتاب تُشير لاستخدام الاختصاصيين الإكلينيكيين للعلاج المعرفي السلوكي.

مربع ١٦: اختصاصي نفسي إكلينيكي يُساعد مُراهقًا يواجه صعوبات في المواقف الاجتماعية

بافل مراهق في سن المدرسة، يُعاني من القلق من مقابلة الآخرين، وغالبًا ما يتهرَّب من اللقاءات الاجتماعية خارج المدرسة. استخدم الاختصاصي النفسي الإكلينيكي الذي يعمل معه الاستجواب السقراطي (السعي لجعل العميل يُجيب عن أسئلته بنفسه بجعله يفكر وانتزاع الإجابة منه) ليكتشف ما يُفكِّر فيه بافل عندما يقترب منه أقرانه. ردَّ عليه بافل: «جميعهم واثقون من أنفسهم، ويُمكنهم أن يَروا كم أنا مُملٌّ ويُمكنهم أن يروا الخجل ظاهرًا على وجهي، وهم يُصدرون أحكامًا عليَّ ولا يُحبونَني». وقد وافَقَه الاختصاصي النفسي الإكلينيكي في أن قلقه مفهوم تمامًا إن كانت افتراضاته (أفكاره) صحيحة، لكنه طلب من بافل بعدها أن يتقصى ما إذا كانت هذه الافتراضات صحيحة فعلًا. طلب الاختصاصي النفسي الإكلينيكي من بافل أن يُجري اختبارات (أي تجارب سلوكية) كأن يجري استبيانًا في المدرسة لسؤال الآخرين عما يشعرون به في بداية الفعاليات الاجتماعية. ساعدت نتائج الاستطلاع بافل في تفهم أن الآخرين يكونُون قلقين هم أيضًا في الغالب، وأنهم لن يُركزوا على الخجل البادي على وجهه. أمدت هذه النتائج بافل بقدر أكبر من الثقة في أن يستجيب بإيجابية عندما يدنو منه الآخرون في المناسبات الاجتماعية.

fig3
شكل ٤-١: مثال على ورقة عمل لتجربة سلوكية.

الأطر النفسية الدينامية

طُوِّرَت النظريات النفسية الدينامية في الأساس على يد فرويد في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، وكان لها بالغ الأثر في العديد من المهن النفسية، بما في ذلك علم النفس الإكلينيكي. على الرغم من ذلك، تغيَّر العديد من الأفكار والممارسات بشكل كبير على مَرِّ السنين، ولهذا فإنَّ قلةً للغاية من الاختصاصيين النفسيين هم الذين لا يزالون حتى اليوم يستخدمون المفاهيم الفرويدية التقليدية (كأن يطلبوا من العملاء الاستلقاء على الأريكة، أو استخدام تفسيرات الأحلام). غير أنَّ الكثير من الأفكار النفسية الدينامية الأخرى لم تزل تحظى باحترام، كما أيَّدت الأبحاث فعالية العديد من التوجهات العلاجية المستندة على الأطر النفسية الدينامية، لا سيما العلاج النفسي المركز الوجيز الذي يهدف إلى مساعدة الناس على تحسين علاقاتهم البين الشخصية. يستخدم العديد من الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين العاملين في العيادات الخاصة علاجات تقوم على الأفكار النفسية الدينامية.

من المفاهيم الأساسية في الأطر النفسية الدينامية، أهمية العلاقات الشخصية الحميمية للنمو النفسي الصحي، وحاجتنا نحن البشر لأن نُحِب وأن نشعر أيضًا أننا محبوبون. ومُؤخرًا، بات هذا مفهومًا في سياق حاجتنا للتعلق بالآخرين، وهي عملية ضرورية بيولوجيًّا ونفسيًّا للبقاء على قيد الحياة. وقد أظهر الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون أنه إذا كانت هناك تشوهات في أنماط تعلقنا المبكرة (على سبيل المثال إذا لم يشعر الطفل بوجود والدَيه ورعايتهما له، بسبب مرض، أو بسبب أذيتِه، أو بسبب التخلِّي عنه)، فيمكن أن يؤدي ذلك إلى تشوهات كبيرة في نمو الشخصية ومشاكل نفسية لاحقة.

ثمة مفهوم آخر أساسي في الأطُر النفسية الدينامية، وهو مفهوم آليات الدفاع، التي نُحاول حماية أنفسنا بها من المشاعر المزعجة. فقد نكون على سبيل المثال، في غفلة تامة عن صفات ذميمة موجودة في أنفسنا، لكن سرعان ما نلصقها بالآخرين (الإسقاط). وقد نُخفي موقفَنا من شيء ما من خلال التأكيد على عكسه، مثل الناشط المعادي للإباحية الذي يتَّضح افتتانه للإباحية من خلال البحث عن موادَّ إباحية ليحتجَّ عليها (التشكل العكسي). وقد نُوجِّه مشاعرنا نحو الشخص الخطأ، مثل المرأة التي تشعر بالغضب بسبب رئيسها في العمل، لكنَّها عند عودَتِها للبيت تبدأ في الشجار مع زوجها أو تركل قطتها (الإحلال). أو يُمكن أن نَتنكَّر لمسئوليتنا عن سلوكنا بعَزوِه إلى ظُروف خارجة عن إرادتنا (التخريج). فإبداعنا لا حدَّ له في إيجاد طرق لنتجنب ما يغمنا أو يُهدِّدنا!

من ملاحظات فرويد الرئيسية الأخرى أن الأشخاص أثناء خُضوعهم للعلاج يميلون إلى تكرار بعض المسائل المؤثِّرة في علاقاتهم المبكرة مع المعالج. يعني ذلك أنهم قد يتعاملون مع المعالج في الحاضر (وهو شخص ذو سلطة محايدة)، بشكلٍ يُشبه علاقتهم بالأشخاص ذوي السلطة في الماضي (كالوالدين مثلًا). ويُعرف هذا باسم «التحويل». يهدف المعالجون في أثناء العلاج إلى تفسير التحويل وآليات الدفاع حتى يكون المريض قادرًا على فهمِها (أي اكتساب الوعي بها)؛ ومن ثَم تطوير أنماط علاقات صحية بدرجة أكبر في الحاضر. على سبيل المثال، يُمكن للمعالج أن يقول للمريض شيئًا من قبيل: «كان والدك يُهينك عندما تَلتمِس مساعدته. وبسبب تجربتك، لا عجب إذًا من أن تتوقَّع نفس المعاملة مني الآن».

الأطر المنظومية

لا أحد يَعيش بمفرده. أو كما يقول جون دون: «لا أحد كالجزيرة، له أن يعيش منعزلًا عن الجميع». فجميعنا إلى حدٍّ ما، جزءٌ من عائلات، ومجتمعات، ومدارس، ومنظمات، والمجتمع بصورته الأعم. وتقترح النظريات المنظومية بأن تجربتنا الشخصية مع المعاناة النفسية ذات ارتباط وثيق بكيفية تعاملنا مع الآخرين وكيفية تعاملهم معنا. ويمكن للقوى الاجتماعية الأعم أن تُؤدي دورًا كبيرًا أيضًا، ويتَّضح ذلك في وقع بعض التجارب، مثل الفقر والتنميط والتحامُل العِرقي، على الصحة النفسية لدى الأشخاص. وتُشير الأدلة إلى أنَّ الصحة النفسية تتدهوَر في أوقات التقشف الاقتصادي، ومن الجلي أيضًا أن عدم المساواة داخل المجتمع يزيد من مستويات المعاناة النفسية زيادة كبيرة.

تُركز النظريات المنظومية على تأثير الأشخاص والمنظَّمات المحيطة بنا في تشكيل تصوُّرنا عن هُويتنا وعلاقاتنا وسُلوكنا ومُعتقداتنا. فبدلًا من محاولة تشجيع التغيير في الفرد الذي يُعاني من مشكلة ما، تهدف العلاجات القائمة على النظرية المنظومية إلى تغيير الأنظمة؛ أي تغيير كيفية ارتباط الأشخاص بعضهم مع بعض. فمن الممكن في هذا الإطار فهم السلوك الصعب لدى أحد الأشخاص باعتباره عرَضًا أو علامة على وجود صعوبات في المجتمع أو العائلة، وليس مجرَّد مشكلة منفصلة. ونتيجةً لهذا، يقدم التدخل للعائلة، أو المدرسة، أو المجتمع، وليس للشخص مُنفردًا، بهدف تغيير الديناميكيات الأساسية.

على سبيل المثال، يُمكن تقديم العلاج الأُسري لعائلة من أفرادها امرأة مسنَّة صعبة المراس، ترفض الانتقال للإقامة في دار للرعاية على الرغم من رغبة عائلتها في ذلك. عند تبنِّي الإطار المنظومي في العمل، قد يُساعد الاختصاصي النفسي العائلة على رؤية الأمور من منظور المرأة المسنَّة، وأن غضبها ناجم جزئيًّا عن شُعورها بأن عائلتها تسيطر عليها. يُمكن استكشاف مخاوف العائلة كذلك، وقد يتبين أن لدَيهم عدَّة مشاكل أخرى كبيرة (مثل مشاكل مالية أو سكنية). قد يتطلَّب ذلك تدخلًا من خدمات الرعاية الاجتماعية، إلى جانب المساعدة من الفريق الذي يُقدم رعاية نفسية مباشرة للسيدة المسنَّة.

ثبت أيضًا أن العلاج الأسري يُساعد الأشخاص ذوي المشكلات النفسية الحرجة من خلال مساعدة أسرهم على التكيُّف بشكل أفضل مع مُتطلبات العيش مع شخص سلوكه قد يكون غير مُستقِر ولا متوقَّع. وقد لا يكون أفراد الأسرة واعين بأنهم مُتواطئون على تجنب مشاعر أو سلوكيات معينة أو على تعزيز سلوك غير مرغوب فيه (مثل أم تُساعد ابنها على التمسك بعادات تنظيفية معقدة، رغم أنها لا تشعر بالحاجة لأن تقوم بمثلها). وأخيرًا، قد يستخدم الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيُّون — الذين يعملون في مؤسسات كدور الرعاية أو أجنحة المستشفيات — الأطرَ المنظومية (بالإضافة إلى التقنيات السلوكية) لمحاولة تغيير البيئات التي تشجع عن غير قصدٍ على سلوك ذميم لدى المقيمين فيها أو عملائها، كالعدوانية أو الاعتمادية (انظر مثال رامون في الفصل الثاني).

الأطر التكاملية

نظرًا لأن الكثير من الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين تلقَّوا التدريب على عدة أُطُر، فإن الكثيرين منهم يَستخدمون في الممارسة العملية مزيجًا من التقنيات والأفكار النَّظرية بما يَتناسب مع العميل. يصف مربع ١٧ كيفية عمل ذلك من خلال تقديم الاختصاصي النفسي الإكلينيكي تدخُّلًا مُفصَّلًا بما يتناسب تحديدًا مع احتياجات عميل معين وعائلته.

مربع ١٧: اختصاصي نفسي إكلينيكي يساعد فتًى صغيرًا وأسرته البديلة

كان ريان وجودي يحتضنان توم البالغ من العمر ٥ سنوات في أسرتهما وقد مرَّت على ذلك عشرة أشهر لكنَّهما صارا قلقَين بشأن سلوكه. فرغم أنه كان محببًا ظريفًا وسهلًا في العناية به في البداية، تدهورَت سلوكياته في البيت بشكل كبير خلال الأشهر القليلة السابقة (صراخ وسِباب وفظاظة). غير أنه ظلَّ حسن التصرُّف في المدرسة، ومن الواضح أنه كان مُستمتعًا بها. لكن ريان وجودي كانا شديدي القلق حيال لغة توم العنيفة مع جودي وعصيانه لها؛ وكان هذا يَحدث مع ريان أقل بكثير. وقد ظنَّا أن الوضع قد يتحسَّن إذا قدمت الخدمة الأسرية لتوم علاجًا نفسيًّا بسبب الإهمال والتعديات التي تعرَّض لها في سنٍّ مبكِّرة قبل أن تَحتضنَه هذه الأسرة.

التقى الاختصاصي النفسي بريان وجودي، وتحدث أيضًا مع الاختصاصي الاجتماعي الذي يعمل مع توم بموافقة العائلة ليحصل على مزيد من المعلومات عن ماضيه. لكن بعد الاستماع بعناية لتخوُّفات الوالدَين المُحتضنِنَين، قال الاختصاصي النفسي إنه يتَّفق في أنَّ بعضًا من سلوك توم يُفهَم في سياق نشأته المبكرة، لكن الأكثر فائدة له أن يقوم الوالدان بإجراء بعض التغييرات في طريقة إدارتهما الحالية لسلوكياته المزعجة. على سبيل المثال، يُمكن لريان أن يمثل أسوة عملية لتوم في الطريقة الملائمة للتعامل مع جودي، وأن يتحدَّث معه عن ذلك.

أوصى الاختصاصي النفسي الإكلينيكي أيضًا بأن يحضرا معًا مجموعة للأهالي في الأسر المُحتضِنة تُناقش طرق بناء العلاقات، موضحًا أن جلب اختصاصي نفسي خارجي للعمل مباشرة مع توم في هذه المرحلة قد يُقوِّض من سلطة جودي، ويتضارب مع عملية بناء الاحترام والارتباط الصحيين بين جودي وتوم. وصحيحٌ أن ريان لم يتمكَّن من حضور مجموعة الدعم الموصى بها، لكن جودي استطاعت الحضور، ونجحت في إدخال بعض الاستراتيجيات الجديدة لتحسين العلاقات داخل العائلة، مثل تناول الطعام معًا. في جلسة المتابعة بعد بضعة أسابيع، أفاد كلا الوالدَين بوجود تحسن كبير في سُلوك توم وعلاقته مع جودي.

في السنوات الأخيرة، طُوِّرت عدة منهجيات علاجية تكامُلية تدمج بين عناصر أساسية من أطر وأفكار نظرية أخرى وتجمع بينها بطريقة منهجية. فعلى سبيل المثال، أدخل الاختصاصيون النفسيون بعض أفكار الفلسفة الشرقية إلى العلاج المعرفي، ممَّا أثمر عن العلاج المعرفي المبني على اليقظة، بما يشمله من ممارسة التأمل واليقَظة. يتمثَّل الهدف من العلاج المعرفي المبني على اليقظة في تقليل عملية التفكير الذي لا يَنقطِع، والتي رأى العلاج المعرفي المبني على اليقظة أنها تُشجِّع على القلق ويُمكنها أن تشعل عند الناس رغبات مستمرَّة لا تخبو ولا يُمكن تحقيقها. وهذا العلاج المعرفي المبني على اليقظة يُعلِّم العملاء أن أفكارهم (بما فيها من قلق وأحكام واجترار أفكار) هي محض أفكار، وليس لها سلطة إلا لأن الناس يختارون أن يُولوها اهتمامهم ويُحاولوا تغييرها. فالناس يُصبحون أسعد عندما يتعلمون تقبل أفكارهم وملاحظتها وتركها وشأنها ببساطة (أي إنهم لا يظلون مرهونين بأفكار عن الماضي أو المستقبل) ومن ثَم عيش الحاضر بصورة أكمل.

من الأمثلة التكامُلية الأخرى علاج التقبُّل والالتزام، وهو يجمع بين مبادئ التقبُّل واليقظة وبين استراتيجيات تغيير السلوك من أجل زيادة المرونة النفسية (انظر المثال الإكلينيكي المذكور في مربع ١٨). يقترح علاج التقبُّل والالتزام أنه بدلًا من مُحاولة تقليل المشاعر والأفكار الصعبة أو التحكُّم فيها (كما يحدث في العلاج المعرفي السلوكي)، فكل ما يجب علينا هو «الملاحظة» وأن نتعلَّم ألا نتصرَّف بِناءً عليها. وبدلًا من تجنُّب المواقف التي تَستثير فينا هذه الأفكار والمشاعر، علينا أن «نخطو سعيًا وراء» قيمنا (وهي الأمور الأهم بالنِّسبة إلى ذاتنا الحقيقية)، ونتعهَّد بالعمل نحوَها (أي تحديد أهدافنا حسبما تقتضيه قيمُنا).

آخر مثال سنُورده على الأطر التكاملية هو العلاج المعرفي التحليلي، والذي يحظى بشعبية في المملكة المتَّحدة. تجمع هذه المدرسة بين المنهجيات المعرفية/السلوكية، والتفكير النفسي الدينامي، والأفكار المنظومية. وتتمثَّل فكرتُه المركزية في أن أفضل سبيلٍ لفَهمِنا هو من خلال أنماطنا في العلاقات والسلوكيات المتبادلة، والتي تتشكَّل في مرحلة مُبكِّرة وغالبًا ما تتكرَّر في كثير من المواقف في الوقت الحاضر. في بعض الأحيان، تكون هذه الأنماط مُفيدة لنا (على سبيل المثال، أن أعاملك بلطف عندما تكون حزينًا، مثلما كانت والدتي تفعل معي، وأرفق بنفسي عندما أكون حزينًا كذلك)، لكنها تكون مُضرة في أوقات أخرى (على سبيل المثال، أن أسخر منك عندما تكون حزينًا مثلما تعرَّضت أنا للسخرية عندما كنتُ طفلًا، وأنا ألوم نفسي عندما أكون حزينًا كذلك).

مربع ١٨: مثال إكلينيكي على حالة عقم والفائدة التي قد تعود من استشارة اختصاصيٍّ نفسي إكلينيكي

تمكَّنت بيانكا من التعامل بدرجة مقبولة مع الضغوط الناتجة عن عدة محاولات فاشلة للحقن المِجهَري، وإن كان الوضع خلال العام السابق بالغ الصعوبة. فعلاوةً على الأعباء المالية للأمر، أنجبَت شقيقة زوجها مولودًا، فبدأت بيانكا تجد صعوبة مُتزايدة في زيارتها لشقيقة زوجها أو رؤيتها لأصدقائها الذين لديهم أطفال صغار. بدأ شعورها بالضغوط والغضب بسبب عدم القدرة على الإنجاب في التصاعد، ممَّا أثر على علاقة بيانكا بآرون. وقد وصف الزوجان ما يعيشانه بأنَّ مسألة العقم والحاجة إلى وضع حياتهما «قيد الانتظار» تُهيمِن على حياتهما. وقال آرون إن علاقتهما الجنسية بعد أن كانت تلقائية مُفعَمة بالحب حلَّ محلها الضغط والتوتُّر ومُمارسة العلاقة حسب جدول.

باستخدام مبادئ العلاج المعرفي التحليلي، ساعد الاختصاصي النفسي الزوجَين في تقبُّل مشاعر الإحباط والفشل والعجز تدريجيًّا. وقد تضمَّن ذلك مساعدتهما على تقليل الأحكام والتقييمات النَّقدية بخصوص عدم قدرتهما على الإنجاب من خلال أن تعلم ملاحظة الأفكار النقدية؛ ومن ثَم تقليل إمكانية تصديقها. في البداية، واجهت بيانكا صعوبة كبيرة مع مفهوم التقبل؛ لكنَّها تعلمت بمرور الوقت أن تقبل مُعاناتها لا يعني التخلي عن رحلتها نحو الأمومة، بل يُساعدها على التفكير والإحساس بمشاعرها دون تجنُّبها. بالإضافة إلى ذلك، بعد أن أصبحت رؤيتُهما لمعنى الأبوة والأمومة بالنسبة إليهما واضِحة، سمح هذا لهما باستكشاف الخيارات المتاحة أمامهما، بدءًا من استكمال العلاجات إلى التبنِّي أو الاستعانة بأمٍّ بديلة لحَملِ الجنين (استئجار رحم).

يقترح العلاج المعرفي التحليلي أنَّ المعاناة تنتج عن مُحاولاتنا الأولى للتعامل مع الصعوبات، وهي محاولات ربما نجحت في السابق لكنَّها باتَت الآن غير فعالة أو مُضرة. وعلى أي حال تُصبح هذه المحاولات أنماطًا اعتيادية يصعب جدًّا تغييرها. فيُحاول الاختصاصي النفسي الإكلينيكي والعميل التعاون في توصيف هذه الأنماط واستِكشاف الكيفية التي يُمكن بها للعميل أن يُطور أنماطًا بديلة صحية أكثر. في بعض الأحيان، يشمل هذا تجربة طُرُق جديدة لبناء علاقة مع المعالج داخل الإطار الآمن للعلاقة المهنية العلاجية (انظر المثال الإكلينيكي في مربع ١٩).

مربع ١٩: الاختصاصي النفسي الإكلينيكي يُساعد ليزي في الارتباط بالناس بطرق جديدة

أخبرت ليزي معالجها بأنها لطالَما شعرت بالدونية عندما كانت طفلة. كما تكلَّمت عن شعورها بالخوف وكذلك بالاستياء من والدتها التي كانت مُمثلة مفعمة بالحيوية لكنها غير مُستقرة عاطفيًّا، وكانت ليزي تشعُر بأنها لا بدَّ أن تسترضيها حتى تنالَ حبَّها. وقد لاحظ الاختصاصيُّ النفسي الذي يعمل مع ليزي أن حياتها العاطفية تشمل سلسلة من العلاقات الفاشلة التي كانت ليزي تضع احتياجاتها الشخصية فيها في المرتبة الثانية بعد شريكها، ممَّا ينتهي إلى عواصف مُتكرِّرة من الغضب المتفجر؛ حيث كانت تعبر عن عميق غضبها من أنَّ وجودها يؤخذ باعتبارها من المسلَّمات، ثم تتبع ذلك بالبكاء والاعتذارات ومحاولات لإصلاح الوضع مرةً أخرى من خلال التقليل من نفسها. إلى جانب ذلك، لاحظ الاختصاصي النفسي أن ليزي تُحاول أحيانًا أن تقول أو تفعل «ما هو صواب» خلال جلسات العلاج لكنَّها تعبر عن حنقها بعد ذلك، حتى إنها تُفوِّت حضور جلساتها في بعض الأحيان. شمل العلاج اكتشاف هذه الأنماط وتتبعها، ومُحاولة بناء طرائق جديدة للارتباط بالأشخاص سواء في علاقتِها مع الاختصاصي النفسي، وفي العالم الخارجي بعيدًا عن العلاج.

بهذا نكون قد عرضنا في هذا الفصل الأطر والمنهجيات العلاجية الأساسية التي يستخدمها الاختصاصيون النفسيُّون الإكلينيكيون في مُمارستهم العلاجية اليومية. وسنَنتقِل الآن إلى استِكشاف طبيعة عمل الاختصاصي النفسي الإكلينيكي، وما يُقابله بشكل مُتكرِّر في أثناء عمله من تحديات وانتصارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤