الفصل السابع

توسيع نطاق علم النفس الإكلينيكي

بوصولنا إلى هذه المرحلة، لا بدَّ أنه قد صارَت لدَيك فكرة جيدة عمَّا يستطيع الاختصاصيُّون النفسيُّون الإكلينيكيُّون القيام به ومساهمتهم الحالية في الرعاية الصحية. ولكن الأدوار تتطوَّر، وميدان علم النفس الإكلينيكي يتوسَّع عابرًا للحدود. فالأولويات الاجتماعية تتطوَّر والمِهنة تتغيَّر استجابةً لهذا التطور. ومهارات الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيِّين تتطوَّر كذلك، مُرتبطة بما يحدث من تقدم في الطب والاتصالات والتكنولوجيا والعلوم. يتناول هذا الفصل الأخير المنظُور الأوسع للمِهنة والاتجاهات المستقبلية المُمكنة لها.

مساهمات المهنة على الصعيد الدولي

لا يَقتصر ميدان علم النفس الإكلينيكي على حدود الوطن؛ فالاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون يعملون بشكل رئيسي في الدول الغربية مثل أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، لكنَّهم يعملون كذلك بأعداد آخِذة في الازدياد في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. تُوجد اختلافات كثيرة في طريقة عمل الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين حول العالم، ممَّا يعكس بطبيعة الحال مختلف الثقافات والتقاليد المحلية. وصحيحٌ أنَّ نتائج البحوث تُعلَن في المؤتَمرات الدولية وتُنشَر في المجلات الأكاديمية المتاحة عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم، لكنَّها تُفسَّر وتُطبق وفقًا للظروف والاحتياجات المحلية.

لقد شكَّل الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون فارقًا كبيرًا في حياة الأشخاص في دول وثقافات شتى. ففي اليابان على سبيل المثال، عمل الاختصاصيُّون النفسيُّون الإكلينيكيون عن قرب مع الأطفال والعائلات التي نجَت من الزلزال الهائل عام ٢٠١١، ممَّا شجع الناجين على إعادة بناء حيواتهم. كما وفَّر الاختصاصيون النفسيون في رواندا التي مزَّقتها الحرب أطرًا لتُبنى عليها جهود التصالح، بالإضافة إلى توفير علاجات للأطفال والعائلات الذين ترك فيهم العنف آثارًا بالغة. وفي الكونغو، ركَّزوا على تمكين وتدريب زملائهم المحليِّين للتعامل مع حالات الصراع، في حين ساهم الاختصاصيُّون النفسيُّون الإكلينيكيون البريطانيون في إقامة دورات تدريبية في أوغندا وترينداد وتوباجو وبنجلاديش.

يعمل بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين عبر جميع أنحاء العالم في منظمات دولية مثل اليونيسيف والصليب الأحمر ومنظَّمة الصحة العالَمية. ويساهم البعض في البرامج العسكرية المقامة بليبيا والعراق وأفغانستان واليمن من أجل الجنود الذين يُؤدُّون خدمتهم خارج البلاد، ويُصبحون بعد ذلك من قدامى المُحاربين عند عودتهم لبلدانهم الأم. ومن الأمثلة الدولية الأخرى التي يعمل بها الاختصاصيون النفسيُّون، برامج للحد من العنف الأسري في سيراليون، بالإضافة إلى تقديم خدمات نفسية في عدد من دول غرب أفريقيا لدعم الأشخاص الذين يُعانون من فيروس نقص المناعة البشرية/مرض الإيدز.

ثمة مثال إضافي على برنامج دولي واسع التأثير نُفِّذ على يد اختصاصيِّين نفسيين إكلينيكيين، وهو برنامج استبدال الإبر لمُتعاطي العقاقير. نشأ البرنامج ابتداءً في هولندا في الثمانينيات عقب انتشار التهاب الكبد الوبائي B، إلا أنَّ تفشِّي جائحة الإيدز شجَّع على سرعة اعتماد هذه المبادرات في جميع أنحاء العالم. يعمل هذا البرنامج على الحد من الضرر؛ وذلك عن طريق الاعتراف بأن تعاطي العقاقير واقع في المجتمع، والسعي إلى تقليل الضرر المصاحب لتعاطي العقاقير وتقليل العوامل المُنذِرة بالإصابة بأمراض كفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز والتهاب الكبد الوبائي B. تسمح برامج استبدال الإبر لمن يتعاطون العقاقير بالمحاقن بالحصول على إبر نظيفة وأدوات أخرى مرتبطة بالحقن مثل المسحات الكحولية والماء المعقم؛ وذلك بتَكلفة بسيطة أو بدون مقابل. كما تقدم العديد من هذه البرامج أيضًا تثقيفًا صحيًّا واستشارات نفسية مجانًا.

رغم أن الصبغة العالَمية لا تفتأ تزداد في مجتمعاتنا، وتتشارك هذه المجتمعات في استخدام لقب «اختصاصي نفسي إكلينيكي»، فربما من غير المفاجئ أن البلدان المختلفة تتبنى صورًا شديدة التفاوت من التعليم والتدريب. لذا يعدُّ الاتِّفاق على تأهيلٍ معياريٍّ موحَّد دوليًّا لتدريب الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيِّين أمرًا بعيد المنال. ونتيجةً لهذا، غالبًا ما تكون مُمارسة الاختصاصي النفسي للعمل الإكلينيكي خارج البلاد محدودة بسبب مُتطلبات الترخيص والامتحانات والقيود القانونية المحلية. وتَرتبِط هذه بالفروق بين الدول في أنظمة الصحة، والأنظمة التعليمية، والثقافة، وتركيز الحكومات، والعقبات اللغوية، بالإضافة إلى طريقة الدفع للاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين (أي ما إذا كانوا يعملون لصالح الخدمات العامة، أم مُؤسَّسات خاصة كبيرة أو صغيرة، أم يعملون بشكل أساسي مع الفرادى من العملاء والعائلات).

توجد تفاوتات كبيرة على الصعيد الدولي كذلك فيما يراه الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون هدفهم ومناط تركيزهم الرئيسي. يتراوَح هذا بين تطوير الذات والعناية بها ووقايتها من جهة، حتى التشخيص والعلاج والشفاء من أمراض وعلل نفسية خطيرة من الجهة الأخرى. فمثلما أشَرنا سابقًا على سبيل المثال، يحمل الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون في الأرجنتين إرثًا طويلًا من تقديم العلاج النفسي لأشخاص يُريدون أن يفهموا أنفسهم فهمًا أفضل أو يحسِّنوا من جودة حياتهم؛ حيث يسعون وراء إحداث تغييرات إيجابية تُعزِّز من إحساسهم بالنمو والإنجاز. ورغم أن البعض يَطلُبون المساعدة في البداية من أجل مرورهم بصُعوبات قد تتَّفق مع شروطٍ تشخيصية لمرضٍ أو اضطراب معيَّن (كاضطراب القلق واضطراب التأقلم وفقًا لتعريفات أدلة الإرشادات التشخيصية: «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية – ٥» و«التصنيف الدَّولي للأمراض والاضطرابات النفسية – ١٠»)، لكنهم عادة ما يُتابعون العلاج حتى بعد تعافيهم من أعراضهم تعافيًا تامًّا؛ لأن نظرتهم للعلاج النفسي لا تقتصر على مفهوم «التعافي».

في المُقابل، أغلب العملاء في دول كالمَملكة المتَّحدة والولايات المتحدة وكندا يأتون للعلاج عندما تكون لديهم مشكلات قد تُسمَّى مرضًا أو اضطرابًا، وعادةً ما تنتهي تجربتهم العلاجية عندما تُحَل هذه المشكلات. فالعملاء الذين يأتون سعيًا وراء النمو الشخصي ليسوا أهلًا للحصول على خدمة مموَّلة في بلدان كثيرة بلا شك؛ لأنَّ درجة معاناتهم الإكلينيكية لا تَفي بجميع المعايير التشخيصية.

تبديل الأدوار

إلى جانب التطورات على صعيد دولي، يتغيَّر كذلك دور مهنة علم النفس السريري والمساحات التي تتخذها داخل مُعظَم الأنظمة الوطنية. فهناك تغييرات شاملة وواسعة التأثير تحدث في كثير من البلدان في مسألة مِقدار التَّمويل المُتوفِّر للرعاية الصحية النفسية، وتزايُد الحاجة إلى المُساواة في سهولة الوصول للخدمات مع الحفاظ على التكاليف. لذا فرغمَ تشجيع المزيد من الناس على طلب الدعم النفسي (والذي قد يُفيدهم)، ثمة نقص حقيقي في مُعظَم الأماكن في أعداد الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيين الحاصلين على تأهيل في مستوى الدكتوراه، مع تقليصٍ هائلٍ للتأمينات أو الصناديق العامة المتاحة لتعويض تكاليف خدمات الصحة النفسية.

أدَّت هذه المجموعة من الظروف إلى زيادة أعداد الخدمات الأخرى التي تُقدِّم أشكالًا بديلة (أرخص) من الرعاية الصحية المستمَدة من علم النفس. تتراوَح هذه الخدمات من علاجات يُقدمها مُتخصِّصون مؤهَّلون؛ كالممرضين والمرشدين الذين يعملون تحت إشراف الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين، وحتى مجموعات من المُعالِجين البدلاء أو غير المؤهَّلين الذين لا يتحلون بالطبع بنفس المهارات والإمكانات التي يَمتلكها الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون. وعلى الرغم من أننا لسنا شديدي التشاؤم ناحية الوضع، فثمة توجه بالتأكيد (داخل الرعاية الصحية بصورتها الأعم) لإسناد العمل لأشخاص من ذوي المؤهِّلات الرسمية الأقل. فالعديد من المهام التي كان الأطباء يُكلَّفون بها على سبيل المثال صار المُمرضون الممارسون هم مَن يقومون بها الآن. والكثير من الخدمات التي كان المُمرضون يقومون بها صار مساعدو التمريض هم مَن يتولونها.

يبدو من المحتمل إذن أن يشهد توازُن العمل الذي يقوم به الاختصاصيون النفس الإكلينيكيُّون تغيرًا في المستقبل. وعلى الرغم من أن العلاج النفسي لن يختفيَ من وصف الوظيفة على الأرجح، فإن سيادتنا لهذا الميدان قد بلغَت ذروتها ولن تعود لما كانت عليه. فنحن نعتقد أن ممارسين بدرجة الماجستير يحملون ألقابًا مُتنوعة (مثل مرشد متخصِّص مرخص، أو مرشد نفسي، أو معالج أسري وزواجي)، ومعهم مُتطوِّعون ذوو تدريب محدود، قد يُصبحون مُقدِّمي العلاج النفسي الرئيسيين في المستقبل. وفي العديد من نماذج الرعاية ذات التمويل العام، قد تُدَّخر مهارات الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين لحلِّ المشكلات المعقَّدة التي لا تستجيب للتدخلات الأبسط.

ستكون هذه التغييرات إيجابية من نواحٍ عديدة، إن كانت ستُسهل توافُر العلاج النفسي وتجعله أكثر فعالية مُقارنة بالتكلفة، وفي حالة وجودِ عددٍ كافٍ من الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين للعمل مع الحالات الأكثر تعقيدًا. لكن إذا كان المُتخصِّصون بدرجة الماجستير (أو أي شخص آخر في قطاع الرعاية الصحية فعليًّا) هم مَن سيتولون قيادة عملية تقديم العلاج النفسي لمُعظَم الحالات، فما الذي سيفعله الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون في المستقبل؟

كما بيَّنا سابقًا في هذا الكتاب (كما نأمُل)، ليس من المفترض أن تُمثل هذه مشكلة. فالاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون ليسوا مُعالجين نفسيِّين فحسب، بل يعملون أيضًا مشرفين واستشاريين ومُدربين ومُقيِّمين وقادة للفِرَق أو المؤسسات البحثية أو الإكلينيكية. وثمة طرق عديدة مُمكنة للعمل على تحسين الرفاه النفسي للأشخاص، وسنُوضِّح فيما تبقَّى مِن هذا الفصل عددًا من الاتجاهات المُستقبلية الواعدة.

العمل في المؤسسات والقيادة

بات عدد مُتزايد من الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين الآن يعملون في مؤسسات الرعاية الصحية، لا مع العملاء فحسب، بل مع الموظَّفين أيضًا، سواء لتعزيز السلامة النفسية لطاقم العمل أو لبناء طرق أفضل لعمل الموظفين معًا. فبعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين الآن يقدمون لزملائهم المُجهدين جلسات مُصمَّمة لمساعدتهم على متابعة تقديم الرعاية الصحية رغم العبء النفسي. ويعمل آخَرُون مع الفِرَق لإنشاء بيئات عمل أعلى فعالية (انظر الأمثلة الموضحة في مربع ٢٤).

يعمل اختصاصيون نفسيون إكلينيكيون آخرون قادةً للفِرَق أو مُديرين للخدمات؛ إذ يرون أنَّ دورهم هو تعزيز عمل الآخَرين. قد يعمل بعضهم بصفة أساسية في قيادة عملية الممارسة الإكلينيكية من خلال مُساعدة زملائهم على التفكُّر وتحسين تدخُّلاتهم الإكلينيكية مع المرضى، في حين قد يَعمل آخَرُون في قيادة المؤسسات بحيث يعتنُون بالاستراتيجيات والتطوير المؤسَّسي وتوزيع الموارد.

مربع ٢٤: تقديم الدعم للزملاء وتقديم الدعم لفِرَق العمل

كانت وظيفة ديفيد هي تقديم العون لزُملائه الذي يعملون في وحدة للمرضى بإصابات دماغية، والذين قد يتَّسمون أحيانًا بالعنف والتعدِّي على المرضى والموظفين الذين يعتنُون بهم. طوَّر أغلب الموظَّفين أساليبَ للتكيُّف مع هذا التحدي، لكن باولا — وهي مُمرضة متدربة جديدة — قد انزعجت للغاية من حادثة ضرَب فيها شابٌّ مُقيم عجوزًا، وطلبَت النقل من هذه الوحدة فورًا، رغم ما قد يكون لهذا من أثر سيئ على تدريبها. أتاح ديفيد لباولا بعضًا من وقته، فبينت أن ذاك الرجل المُسن يُشبه جدها الذي تُوفي من قريبٍ، وكانت ترى أن بقية أسرتها عاملته بلا عدل. لكن بمساعدة ديفيد، قرَّرت باولا أن تستمرَّ في العمل في وحدة الإصابات الدماغية، كما أقنع ديفيد الإدارة بعقد اجتماعات إشراف لفريق العمل بأكمله بشكلٍ أكثرَ انتظامًا.

كانت سارة قد بدأت لتوِّها العمل في فريق صغير من الاختصاصيين الاجتماعيين والمُتخصصين في الرعاية الصحية يتمثَّل دوره في رعاية الأطفال الضعفاء إذا ما كانت هناك شُبهة تعرُّضهم للأذى والتعدي. كان الفريق يعمل تحت وطأة مُستويات عالية من الضغط ويتعرَّض للهجوم أحيانًا من وسائل الإعلام المحلية بسبب طريقة تعامُلِه مع بعض الحالات الصعبة. كانت مُستويات المرض داخل الفريق مرتفعة وكانت العلاقة بين الزملاء ضعيفة. وبسبب تشكُّك أعضاء الفريق بعضِهم في بعض، توقفوا عن حضور الاجتماعات، وانقسموا على أنفسهم، وتدهور التواصُل بينهم. وكما هو مُتوقَّع ضعفت الخدمات المقدمة للأطفال تبعًا لذلك. لذا قدمت سارة سلسلة من الاجتماعات للفريق ليُركزوا على كيفية عمل الفريق نفسه، مما كشف عن درجة كبيرة من التخبُّط حول أهداف الفريق وأولوياته وهيكله. وبالاستفادة من الأبحاث التي تتناول كيفية بناء فريق كفء، وجَّهت سارة أعضاء الفريق لتحسين أساليبهم في العمل من خلال الاتِّفاق على مجموعة من المقاصد والأهداف والبنى وقواعد تسيير العمل، وبذلك ساعدت بشكلٍ غير مُباشر في تحسين الخدمة المقدمة للأطفال وعائلاتهم.

تولي مسئوليات إضافية: وصف الأدوية

في مُعظم المجتمعات، ورغم ما نعرفه عن أهمية العلاجات النفسية، ما يزال وصف الأدوية أكثر العلاجات النفسية انتشارًا للصعوبات النفسية على مستوى العالم. فالكثير من العملاء الذين يَستشيرُون اختصاصيِّين نفسيِّين إكلينيكيين يتناولون أيضًا الأدوية للمساعدة في تقليل مستوى الضغوط النفسية لديهم. الدواء مُفيد بلا شك للكثير من العملاء الذين يُعانون من صعوبات نفسية، من خلال تخفيف شدة الأزمات وتقليل حدة المشاعر الصعبة، مما يُمكن الأشخاص من الاستمرار في أداء أدوارهم اليومية. ورغم أن العملاء كثيرًا ما يُواجهون آثارًا جانبية من الدواء (ومنها خدر المشاعر، الذي قد يجعل العلاج أصعب)، يُمكن للدواء أحيانًا مساعدة العملاء في الانتفاع من العلاج النفسي بشكل أفضل. لهذه الأسباب، يعتقد العديد من الاختصاصيين النفسيين أن دمج العلاجات الطبية والنفسية يُمكن أن يكون خيارًا مفيدًا للكثير من العملاء.

هذا التوجُّه الهجين سهَّل التنفيذ في غالب الأحيان، لكن التنسيق بين مُقدِّمي الخدمة يكون ضعيفًا أحيانًا. فهذا قد يتطلَّب من العملاء حضور مواعيد مُتعدِّدة، مما يترتب عليه نفقات إضافية واستهلاك المزيد من الوقت. كما أن جداول الكثير من الأطباء النفسيِّين المزدحمة تعني أنه قد يتعين عليهم اتخاذ قرارات بعد تعامل قصير مع العملاء يكون مركَّزًا في الغالب على تقييم الأعراض. كما أن اشتراك العديد من المتخصِّصين في العلاج قد يكون أمرًا مربكًا للعميل؛ إذ ربما يتلقَّى توجيهات مُتناقضة.

هذه النقاط كلها هي ما أدَّت إلى المناشدة لامتلاك الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين «صلاحيات وصف الأدوية»، وفي الولايات المتحدة، ثمة واحدة من مبادرات الصحة العامة (حركة صلاحيات وصف الأدوية للاختصاصيِّين النفسيين) تمنحَ صلاحياتِ وصفِ الأدوية لاختصاصيين نفسيين تلقوا تدريبًا خاصًّا. وعلى الصعيد نفسه، طُبِّقت في بعض ولايات الولايات المتحدة (مثل نيو مكسيكو في عام ٢٠٠٢، ولويزيانا في عام ٢٠٠٤، وإلينوي في عام ٢٠١٤) قوانينُ تسمَح للاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين الذين حضَرُوا عدة سنوات إضافية من التدريب والإشراف الإضافي بوصف أدوية لعلاج الاضطرابات النفسية والعقلية. في هذه الولايات، يحمل الاختصاصيُّون النفسيون الإكلينيكيون بعض مسئوليات أطباء الأمراض النفسية.

لهذا التطور مزايا وسلبيات. يَعتقِد بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين أن مثل هذه الصلاحيات ستُؤثر سلبًا على مُمارسة علم النفس الإكلينيكي وربما العملاء أيضًا، في حين يَعتقِد آخرون أن خياراتهم في الممارسة ستتنوَّع بشكلٍ مُفيد مع توفر خيار وصف الأدوية. الجدل بشأن هذه المسألة مُعقَّد. فمن ناحية ما، الأطباء النفسيون هم الأقدر بلا شك على وصف الأدوية، حيث خضعوا لتدريب مطوَّل حول كيفية عمل الدماغ والجسم، وهم على دراية بالفوائد والآثار الجانبية المحتملة لمجموعة مُتنوِّعة من الأدوية النفسية. قد يكون العلماء النفسيون أقل وعيًا بهذه الجوانب. أيضًا، إذا كان بإمكان الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين وصف الأدوية، فقد يُغيِّر ذلك طبيعة العلاقة بين الاختصاصي النفسي الإكلينيكي والعميل أو يُوحي للعملاء بأن مشاعرهم خاطئة أو سيئة، أو أنها تحتاج إلى الإزالة بدلًا من الفهم.

ومن ناحية أخرى، قد يكون الاختصاصي النفسي الإكلينيكي هو أكثر مُتخصِّص يعرف العميل وظروفه، ويُمكنه تقدير الظرف الذي ستساعد فيه الأدوية والظرف الذي ستتوقَّف فيه بدقة أكبر. وفي المناطق الأقل تحضرًا على وجه التحديد والتي تعاني نقصًا في الموارد؛ حيث يُواجه العملاء نقصًا أو انعدامًا في الأطباء النفسيين المتاحين، قد يكون الاختصاصي النفسي الإكلينيكي الشخص الوحيد الذي يتواصَل معه العميل بانتظام. ففي بعض الأماكن، يُصبح تولي صلاحيات الأطباء والأطباء النفسيِّين في وصف الأدوية وسيلة مهمَّة لمساعدة الأشخاص الذين لا يُتاح أمامهم علاج نفسي إلا بذلك. الوقت وحده سيكون الحكم على ما إذا كان هذا التطور سيكون تطوُّرًا مُستدامًا وناجحًا داخل علم النفس الإكلينيكي أم لا.

توسع علم النفس الإكلينيكي في مجال الصحة

ثمة مجال آخذٌ في التنامي داخل مهنتنا وهو علم النفس الإكلينيكي في مجال الصحة (أي تطبيق مبادئ ومُمارسات علم النفس الإكلينيكي في حيز رعاية الصحة الجسدية). يبدو أن فُرَص هذا المجال لا حدَّ لها تقريبًا إذا ما أخذنا في الاعتبار نسبة الناتج المحلي الإجمالي في مُعظم البلدان المتقدمة التي تُنفق سنويًّا على الرعاية الصحية. وفي حقيقة الأمر، نجد أنَّ عدد الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيين المُعيَّنين في المستشفيات العامة أو العيادات التي تقدم الرعاية الصحية للمَشاكل الجسَدية أو كليهما آخذٌ في الازدياد في العقد الأخير. كما زادت فُرَص العمل في كليات الطب ومراكز الرعاية الصحية الأكاديمية؛ حيث أصبح الناس أكثر إدراكًا لأهمية العوامل النفسية في جميع جوانب الصحة الجسَدية والعقلية.

من المُمكن أيضًا أن يُؤدِّي تحويل العلوم المعرفية إلى تدخلات نفسية أن يفتح الباب أمام علاجات متنوعة جديدة لمن يُعانون من حالات صحية، مثل برامج التأهيل المحوسبة لذوي الإعاقات أو الإصابات الدماغية. كما تعني التطورات في الإجراءات الجراحية والطبية جنبًا إلى جنبٍ مع إيلاء تقدير أكبر لعلم النفس أن تعني أنَّ الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين قد يلعبون دورًا أكبر في العمل الجراحي؛ في تقييم وعلاج المرضى الذين يخضعُون لعمليات زرع الأعضاء على سبيل المثال. من ضمن هذه الأسئلة: هل هذا المريض مُستعد نفسيًّا لهذه العملية؟ هل يُمكنه التعامل مع العبء النفسي لاستقبال عضو من مُتبرِّع؟ هل سيمكنه الالتزام بمتطلبات العلاج؟

من الفرص المستجدة الأخرى للاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيِّين العاملين في مجال الصحة، المشاركة مع فرق الجراحة عندما لا يكون المريض قادرًا على تحمل التخدير، ومساعدة المرضى وعائلاتهم في اتخاذ قرارات بشأن الاختبارات الجينية، وتطوير وسائل تعزيز الذاكرة لمرضى السكتة الدماغية. ومنها أيضًا تعزيز الخدمات المقدَّمة للآباء والأمهات والأطفال فيما قبل الولادة (على سبيل المثال التعامل مع مشاكل الخصوبة والإجهاض العَمدي والإجهاض التلقائي والحمل واكتئاب ما بعد الولادة)، وهي من الأمور البارزة التي يُرجَّح أن تشهد توسعًا (انظر المثال الإكلينيكي في مربع ٢٥).

مربع ٢٥: الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيُّون في خدمات ما قبل الولادة

مارية وإدوين والدان فقَدا ابنهما جوزيف البالغ من العمر أربعة أشهر بسبب متلازمة وفاة الرضع المفاجئة. في البداية، لم تكن مارية قادرة على مُتابعة أداء أدوارها اليومية. فقد كانت تبكي بقلب مفطور، وبالكاد تتعامل مع أي شخص كان، بما في ذلك طفلاها التوأمان ابنا العامين، كيم وجينيفر. في حين كان إدوين، نظرًا للضغوط الاجتماعية التي يتعرَّض لها كرجل حتى يظل قويًّا، يَدفع ألم حزنه وينحِّيه جانبًا، ويركز على توفير احتياجات أُسرتِه، وأخيرًا يُشجِّع زوجته على النهوض من الفراش والعودة إلى حياة الأسرة.

بفضل الدعم الذي قدَّمه لها اختصاصي نفسي إكلينيكي يزُورها في منزلها، بدأت مارية ببطء تتصوَّر الحياة بدون جوزيف. تحدَّثت مارية عمَّا تحمله ولادة ابنٍ لها في الأسرة من أهمية، وإحساس العقوبة الذي كان يصلُها من دينها. وعلى الرغم من وفاة جوزيف، استمرَّت في التعلق بذكراه وأرادته أن يظل جزءًا من عائلتها. وعلى مدى عدة أشهر، تحدَّث الاختصاصي النفسي مع مارية بمفردها، وكذلك برفقة إدوين والتوأمين. وأثناء النظر في صور العائلة بعد مرور عام على هذا الفقد، شرَحَت مارية وإدوين للتوائم، بطريقة تفهمها أطفال في الثلاث السنوات، سبب وفاة أخيهما. وفي الذِّكرى السنوية للوفاة، أخذ الوالدان كيم وجينيفر لزيارة المقبَرَة وشجعاهما على طرح أسئلة عن جوزيف.

أصبحت مارية أكثر استعدادًا للبحث عن المعلومات والدعم لمساعدتها وعائلتها في التعامل مع الفقد. وللاستفادة من المَوارد المتاحة للأهالي الذين فقَدُوا أطفالهم، انضمُّوا إلى مجموعة دعم لعائلات ضحايا متلازمة وفاة الرضع المفاجئة وصارُوا أقل وحدة في شُعورهم بالحزن. لا تزال مارية تجد صعوبة في بعض الأيام، وتشعر أحيانًا بالقلق لأنَّ الحياة لا يُمكن توقعها. رغم ذلك، صارت الآن تلتمس المساعدة من الناس عندما تحتاج إليها، وتركز على تعزيز علاقتها مع أهم الأشخاص في حياتها.

الوقاية والصحة العامة

لا يعمل جميع الاختصاصيين النفسيِّين الإكلينيكيين في مكاتب أو مستشفيات مع عملاء فرديِّين. فمن المستحدثات الأخيرة التي يقودُها الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون إنشاء برامج يمتدُّ إلى أثرها مجتمعات بأكملها، مثل المخططات المصمَّمة للحد من التنمر في المدارس أو حالات العنف الزواجي؛ وإنشاء بروتوكولات أكثر فعالية لعلاج الإدمان؛ وتطوير استراتيجيات تنفيذية أفضل لبرامج العلاج الحالية، وتأسيس خدماتٍ للعلاج عبر الإنترنت. فكما تناوَلنا في الفصل السادس، يعتقد البعض أن الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين يمكن أن يُفيدوا العملاء بشكلٍ كبير من خلال بذل مثل هذه الجهود على المدى الطويل لتحسين العلاجات والمؤسسات الاجتماعية بالتساوي مع تقديم العلاج النفسي الفردي. ونظرًا للتدريبات التي يحصل عليها الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون والأدوار التي يشغلونها في خدمات الصحة النفسية، فإنَّ هذه المهنة قد تكون في المكان المناسب لإحداث تأثير كبير في المجتمع، والعمل على حمايته من خلال إجراء تغييرات هيكلية في توفير الرعاية الاجتماعية ورفاه المجتمع.

يتأثر علم النفس الإكلينيكي في المجتمع تأثرًا كبيرًا (وسيظلُّ يتأثَّر) بالأمور السياسية في هذا الزمن واقتصاديات المعاناة النفسية. فرغم أن السياق الاجتماعي يعدُّ، مِن بعض الجوانب، خارج نطاق تأثير الاختصاصي كفرد، يَعترف التخصص في مجمله بالرابطة الواضحة بين الظروف الاجتماعية/الاقتصادية والضغوط النفسية. وتظلُّ الأسئلة مطروحة بشأن الطبيعة الدقيقة للمعاناة التي تُسبِّبها إجراءات التقشف أو فقدان الوظائف أو رداءة السكن. غير أن السياسيين والاقتصاديين في الآونة الأخيرة صاروا أكثر استعدادًا بكثير للتحدُّث عن الرفاه النفسي باعتباره هدفًا للسياسات. يُمكن أن تسهم التدخلات التي تركز على تنمية الاعتناء بالذات، والتماس الدعم، وبناء المرونة، في مساعدة الفرد على التعامل مع بيئات اجتماعية قد يغلب عليها العدائية. ولا شكَّ أن هذا سيكون مسارًا مهمًّا في مستقبل هذه المهنة.

توسيع نطاق التركيز البحثي

جميع مُقدِّمي خدمات الرعاية الصحية يحتاجون إلى معرفة ما إذا كانت الخدمات التي يقدمونها فعالة وكيف يُحسنون رعايتهم لعملائهم بأفضل طريقة. وهذا صحيح تمامًا؛ فأيًّا كان الحال، إذا كنَّا أنا أو أنت سنتلقَّى علاجًا من أي نوع — وخُصوصًا إذا كانت المرة الأولى — فمِن المتوقَّع أن نودَّ معرفة أنه سيكون ناجحًا إلى حدٍّ ما على الأغلب، وأن شخصًا ما أجرى بعض الأبحاث حول فُرَص نجاحه مع أشخاص مثلنا. وقد كان لعلم النفس الإكلينيكي دور محوري على مرِّ العُقود في تقييم فعالية وكفاءة العلاجات النفسية من خلال إجراء دراسات بحثية عالية الجودة. لقد ساهمت هذه الدراسات في تحسين الخدمات، وتوفير الأموال، وساهمت في تطوير بروتوكولات العلاج، ممَّا يَضمن حصول المزيد من الأشخاص على العلاجات التي تمَّت تجربتها وثبتَت فعاليتها.

من المرجح جدًّا أن تزداد أهمية هذا الدور البحثي في العقود القادمة حيث يَتزايد طلب من يمولون هذه الخدمات (على سبيل المثال، الرعاية الموجهة في الولايات المتحدة والخدمة الوطنية للصحة في المملكة المتحدة) لأدلَّة تُؤكِّد أن هذه الخدمات مجدية من حيث التَّكلفة. ومن المحتمل أيضًا أن يزداد استخدام الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين للعديد من مناهج البحث الأكثر تطورًا، كالتصوير بتقنية الإطار تلو الإطار التي تُمكِّن الباحثين من دراسة ما يحدث عندما يُحاول مريضٌ يُعاني من إصابة في الدماغ التواصُل، أو استخدام المسح الدماغي لقياس تأثير أنواع مختلفة من التدخلات العلاجية على سبيل المثال.

من المؤكد أيضًا أن البحث النفسي سيتضمَّن بشكلٍ مُتزايد التبادل المشترك لأفكار ونتائج من مجالات أخرى ذات صِلة. ومن المحتمل جدًّا أن نشهد تطورًا في مساحة التلاقي بين بحوث العلاج النفسي وعلم الأعصاب، بينما تترسَّخ معارفنا بشأن آليات عمل وظيفة الدماغ وتتطور. ستلعب الجينات أيضًا دورًا مركزيًّا مُتزايد الأهمية. بالإضافة إلى ذلك، ستفتح الأبحاث التفصيلية عن العمليات النفسية الأساسية الكامنة وراء المشكلات النفسية، وعن كيفية تفاعُل الأشخاص وبناء العلاقات، أمامنا إمكانات جديدة من خلال الاستفادة مما هو فعال من الوسائل المدعومة حاسوبيًّا.

ونعتقد أن البحث الإكلينيكي سيُصبِح أكثر تخصُّصًا بشكل مُتزايد؛ وذلك بالاستفادة من الأعمال الحالية بشأن مسألة التوافُق بين العميل والعلاج بما يُراعي سمات العميل والاختصاصي النفسي، وما قد يتعلق بها من نتائج إيجابية في العلاج. نتوقَّع أنه يُمكن للأبحاث المستقبلية أن تمكننا من معرفة المزيد حول المتغيرات الفردية المؤثرة في نجاح تدخُّلات بعينها بدرجة أكبر أو أقل حسب العملاء بمختلف أنواعهم.

استخدام التكنولوجيا

تتسرَّب التكنولوجيا إلى مجال علم النفس الإكلينيكي، تمامًا مثلما يحدث في كل مجال آخر. وسمحت التطوُّرات التكنولوجية بظُهور أشكال وصور جديدة من التقييمات والتدخُّلات، منها تسجيل المُشاركين في الأغراض البحثية عبر الإنترنت، وكذلك إجراء الاختبارات وتلقي العلاج والإشراف عبر الإنترنت. من الأمثلة الأُخرى على المبتكَرات الحديثة تطوير ألعاب فيديو تعتمد على السرد القصصي لتوفُّر تجربة محفِّزة آسرة لمَن يجدون صعوبة من الأطفال المُصنَّفين على طيف التوحُّد. يُمكن لمثل هذه الألعاب تطوير مهارات الأطفال الاجتماعية؛ ومن ثَم تحسين تعامُلاتهم اليومية.

ومن الأمثلة الأخرى تقديم سيناريوهات الواقع الافتراضي لعلاج الأشخاص الذين يُعانون من الرهاب الاجتماعي. يمكن تصميم هذه السيناريوهات خصوصًا لتعريض الأشخاص للمواقف الاجتماعية المعينة التي تستثير عندهم القلق (على سبيل المثال، إلقاء كلمة أو التسوق). فيمكن للأشخاص أن يدخلوا في حوار حرٍّ مع شخصيات افتراضية بينما يُراقبهم اختصاصي نفسي إكلينيكي، ويُمكنه بعد ذلك تعديل استجابة الشخصية الافتراضية بما يُلائم العميل من خلال التحكم في اتجاه نظر الشخصية أو أسلوبها في الحوار، وكذلك فيما يحدث لهذه الشخصية في أثناء التفاعُل أو التجربة.

ويُمكن لتقنية الواقع الافتراضي أن تُتيح المرور بمواقف من الصعب (أو المكلِّف) الوصول إليها بشكل طبيعي، مثل ركوب الطائرة. فبدلًا من الصعود إلى طائرة حقيقية لمُواجهة رهاب الطيران، يمكن للشخص ببساطة ارتداء نظارة وسماعات رأس تُحاكي التجربة. يمكن بذلك زيادة عدد الأشخاص الذين يتلقون العلاج مع خفض التكاليف.

fig6
شكل ٧-١: استخدام التكنولوجيا في التواصُل.

ربما تكون أكثر التطبيقات التكنولوجية في علم النفس الإكلينيكي انتشارًا هي طريقة تقديم العلاج. فقد كان المعتاد في الفترات الفرويدية تلَقِّي التحليل عدة أيام في الأسبوع على الأريكة في غرفة استشارات المحلل النفسي، بينما يُتاح للأشخاص الآن تلقِّي العلاج من خلال «سكايب»، أو من خلال تطبيقات الصحة النفسية، أو البرامج النفسية المهيئة حسب الفرد على الإنترنت. بعض الاختصاصيين النفسيين يُقابلون عملاءَهم وجهًا لوجهٍ أغلب الوقت، لكنَّهم قد يستخدمون سكايب أو يُجرون جلسات عبر الهاتف في حالات الطوارئ (انظر مربع ٢٦)، في حين لا يَملك مُعالجون آخرون مكتبًا فعليًّا من الأساس، ويُقابلون جميع عملائهم عبر الإنترنت. وقد شرح أحد زملائنا وجهة نظره في اتِّباع هذا الأسلوب قائلًا:

«لقد أعددتُ عيادتي بهذه الطريقة حتى أسهل على الأشخاص ذوي الإعاقات الجسَدية أن يُقابلوني. فمن خلال سكايب، يُمكن لعملائي أن يظلُّوا مُرتاحين في بيوتهم، دون أن يشغلوا بالَهم بالسفر أو أي مشكلة تتعلَّق بالحضور لمكتبي بشخصهم.»

من التطورات التكنولوجية الأخرى وجود مجموعة مُتنوعة من تطبيقات الصحة النفسية على الهواتف المحمولة؛ كتطبيقات «جويابل» و«سليبيو» و«هابيفاي» و«سوبر بيتر» و«بي تي إس دي كوتش» و«كود بلو» و«توك سبيس» و«بيرسونال زِن». والحق أنَّ بعض الاختصاصيِّين النفسيِّين الإكلينيكيين يُرحبون بهذه المنجزات الجديدة أشد الترحيب، نظرًا لانخفاض تكلفتها وسهولة إتاحتها واعتبارها فُرصة لتقليص الوصمة المُرتبطة بالعلاج النفسي، وإمكانية توفيرها للخدمات لعدد أكبر من الأشخاص. يمكن لهذه التطبيقات أن تكون بالغة النَّفع للمُراهقين والشباب الذين يُعانون من ظروف نفسية صعبة وقد يجدُون راحةً أكبر في استخدام التكنولوجيا وسيلةً للتواصُل، لكنَّهم غير راغبين في حضور الجلسات وجهًا لوجه أو غير قادِرين على ذلك. يُمكن لهذه التطبيقات أيضًا أن توفر الدعم في الفترات التي تفصل بين الجلسات، والأرجح أنها ستُؤدِّي أفضل نتيجة منها عند دمجها مع الجلسات وجهًا لوجه، (والأدوية إن كان ذلك ملائمًا) لكن أناسًا آخَرين يتشكَّكون في جدوى ما يرونه «علاجًا زائفًا» (انظر شكل ٧-١) ويُزعجهم ما يعتبرونه منهجية مُضلِّلة ومُتسرعة في حل المشكلات النفسية؛ حيث يَعِدون الناس بتحسن سريع لكن هذا لا تدعمه أدلة كافية.

مربع ٢٦: مايا تتلقَّى العلاج من خلال سكايب

لجأت مايا لهذه الوسيلة لضرورة جغرافية. فعندما انتقلَ سيمون، الاختصاصي النفسي الذي تابعت معه لمدة طويلة، إلى مدينة جديدة، كانت مايا قلقة من مسألة المتابعة مع اختصاصيٍّ نفسي آخر في بلدتها الصغيرة؛ إذ سيكون على معرفة بحبيبها السابق المعروف فيها. لذا عرض سيمون على مايا أن يُجري معها جلسات على سكايب من محلِّ إقامته الجديد الذي يبعد عدة أميال. وافقت مايا على أن تُجرِّب هذه الطريقة.

بالإضافة إلى التساؤلات المتعلقة بالفعالية، تطرح الخدمات المتاحة عبر الإنترنت أسئلة بشأن العلاقة العلاجية والمسائل الأخلاقية والسرية والحصول على التراخيص. وأيًّا ما كان رأيك، فإن تقديم العلاج عبر الإنترنت والهاتف سيتزايَد مع تحسن التكنولوجيا على الأرجح.

استخدام وسائل التواصُل الاجتماعي

قد يكون الاختصاصيون النفسيون الإكلينيكيون مُدرَّبون جيدًا على إجراء الأبحاث ومُراجعتها، لكنَّهم لا يتلقُّون ما يكفي من التدريب لتوصيل النتائج التي يتوصَّلون إليها إلى غيرهم من الاختصاصيِّين أو للعملاء وأفراد عائلاتهم والجمهور الأعم. ونجد أيضًا أنَّ مُعظم الاختصاصيين النفسيين الإكلينيكيين أقل ارتياحًا للعمل مع الإعلام أو الكتابة في المدونات، على عكس ما هم عليه عند الاستماع للعملاء فرادى والتجاوُب معهم. لكن مع ظهور وسائل التواصُل الاجتماعي كواحدة من أفضل الطرق لمشاركة البحوث النفسية والترويج للخدمات الإكلينيكية للجُمهور، بدأ بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين يُصبحون أقل انغلاقًا. الشرط الرئيسي لمن يودُّون أن يعملوا بكفاءة عبر الإنترنت هو تعلم كيفية التواصُل الجيد: الكتابة بوضوح، بطريقة مُوجَزة خالية من الاصطلاحات المتخصِّصة؛ سواء كان ذلك في تغريدة أو تحديث حالة أو فيديو على يوتيوب، أو أيِّ تكنولوجيا مُذهلة تجدُّ فيما بعد.

على سبيل المثال، استخدمت الدكتورة كولمز (وهي اختصاصية نفسية إكلينيكية في الولايات المتَّحدة) حسابها الاحترافي على تويتر بشكلٍ مُبتكَر. فقد قامت أولًا بإنشاء مدوَّنة عن أخلاقيات وسائل التواصُل الاجتماعي وبدأت في مشاركة منشوراتها وأخبار أخرى عن الصحة النفسية. وبعد ذلك، نشرت سياسة لاستخدام وسائل التواصُل الاجتماعي كانت قد وضعتها في بادئ الأمر لتوجيه ممارستها العلاجية عبر الإنترنت، ونشرتها على تويتر كذلك. سرعان ما استرعى هذا انتباه اختصاصيي الصحة النفسية حول العالم، حيث كانوا يَبحثُون عن إرشادات في هذا الصدد. وفي غُضون سنتَين فقط، صارت كولمز خبيرةً ومتحدثةً تُطلَب مَشورتها في مجال أخلاقيات وسائل التواصُل الاجتماعي، وزاد عدد مُتابعيها في حسابها @drkkolmes على تويتر إلى ٨٦٥٠٠ متابع. وقد نشرت مقالًا في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» حول التحديات المتعلِّقة بمواقع آراء العملاء في المعالجين النفسيين وصارت مرجعًا يُعتدُّ به وسائل الإعلام.
إنَّ استخدام وسائل التواصُل الاجتماعي يُتيح للاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين الوصول إلى جمهور من العملاء المُحتملين الذين كان يصعب الوصول لهم فيما سبق لا تَقتصِر على فئة الشباب فحسب، بل تضمُّ الفئات الأكبر سنًّا والأشخاص أقل اهتمامًا بالجانب النفسي. يُمكن لوسائل التواصُل الاجتماعي أن تساعد في التخلص تدريجيًّا من الوصمة المُرتبطة بالصحة النفسية وعلاجاتها، وتنبيه الناس بالفوائد التي قد يحملها التماس المساعدة النفسية. إحدى زميلاتنا في الولايات المتحدة تَهدف إلى تفنيد أفكار التحليل النفسي عبر مدوَّنتها التي تحمل الاسم المميز: analysisissexy (أي التحليل النفسي جذاب)، ومن خلال نَشرِها على مواقع شهيرة مثل psychedinsanfrancisco.

ومن الأمثلة الأخرى على الباحثين النفسيِّين الشهيرين الذين يستفيدون من الإنترنت استفادةً قُصوى، برينيه براون. فقد كانت تقوم بالأبحاث حول خبرات نفسية كالهشاشة والخزي والشجاعة والأصالة وتُوصِّل النتائج التي توصَّلت إليها بطريقة مُبتكرة وميسرة من خلال عدة لقاءات «تيد توك» متاحة على اليوتيوب. فقد شُوهد لقاؤها في «تيدكس هيوستن» عن الهشاشة النفسية أكثر من ٦ ملايين مرة. من الجدير بالذكر أنه في الصباح الذي يلي هذا اللقاء أغلقت برينيه باب منزلها عليها لثلاثة أيام لشُعورها ﺑ «آثار الهشاشة»، وقد تحدَّثت عن هذا في لقاءٍ لاحقٍ عن الشعور بالخزي. وفي هذا درس لنا؛ مثل هذه الأشياء قد تحدُث لأيٍّ منا!

تطور مستمر

لقد قطع علم النفس الإكلينيكي شوطًا طويلًا في وقتٍ قصير. نأمل أن يكون هذا الكتاب الصغير قد مكَّنك مِن فهم الكيفية التي تطوَّر بها هذا العلم، وتقييم مساهمته الحالية في الأفراد والمجتمع بشكل عام، والنظر في إمكانياته المستقبلية. إحدى نقاط القوة التقليدية لدى الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين هي استخدامهم للتفكير النَّقدي وتطبيقهم للتقنيات المرنة لحلِّ المُشكلات ومجموعة من المهارات البحثية المنهجية. تأتي هذه المرونة مدعومة بالأدلة من خلال الأماكن العديدة التي يعمل فيها الاختصاصيُّون النفسيون السريريون. إذ يتمُّ توظيفهم في أي مجال تقريبًا قد يخطر على بالك (صحة، ترفيه، تعليم، استكشاف الفضاء، عمل الشرطة، الاتصالات)، وهم يتولون مجموعة متنوعة من المناصب التي لم يكن أحد يَعتقِد أنها مُمكنة قبل سبعين عامًا.

لعلم النفس الإكلينيكي في جوهره طبيعة تطوُّرية؛ لأنه يستخدم البحث والمنهج العلمي باستمرار لتطوير فهمٍ أفضل للظواهر والمشكلات النفسية وأساليب معالجتها. يتجلى هذا التطور المستمر في علاقته بالمعايير التكنولوجية العالية للطب الحديث وعلم الأعصاب، الذي يستمرُّ في التوصل إلى اكتشافات جديدة عن الدماغ البشري وارتباطه بالفِكر والسلوك. ومن المؤكَّد أنَّ مستقبل علم النفس الإكلينيكي سيَشمل إجاباتٍ أكثر تدقيقًا حول العلاقة بين العقل والجسم، ومِن المرجَّح أن يستمر في دمج أساليب ومعرفة من تخصُّصات مثل الطب وعلم الوراثة وعلم الاجتماع وعلم الوبائيات.

قد يخشى بعض الاختصاصيِّين النفسيين الإكلينيكيين من احتمالية أن يتولى بعض الاختصاصيين الآخرين جزءًا ممَّا هو دورهم في الأساس، ومن حاجتهم الدائمة للتأقلُم مع المستجدات البحثية والفرص كالتي تطرحها وسائل التواصُل الاجتماعي والتقنيات الجديدة. لكن إنْ جمَّعنا قائمة من المشكلات الرئيسية التي تُواجه العالم اليوم، فلا مفرَّ من أن نتوصَّل إلى استنتاج معيَّن: جزء كبير من مُعاناة الناس تَنطوي على عامل نفسي.

في بداية القرن العشرين، كانت الأمراض الفيروسية والبكتيرية (كالالتهاب الرئوي والسلِّ والإنفلونزا) هي الأسباب الأبرز للوفاة، ولكن اليوم حلَّ السرطان وأمراض القلب والاكتئاب والسكتة الدماغية محلها في العديد من أنحاء العالم. جميع هذه الأمراض تتأثَّر بشدة بالعوامل السلوكية أو النفسية، مثل التدخين والعادات الغذائية السيئة ونقص النشاط البدني والضغوط النفسية. وبالمثل، تتأثَّر بعض المشكلات الاجتماعية البالغة الأهمية التي تُواجه العالم اليوم بشكل كبير بالنفسية؛ كعدم المساواة، والصراعات الأسرية أو الصراعات بين الأفراد، وسوء رعاية الأهل، والطلاق، والإدمان، واضطرابات التعلم، والجرائم، والعنصرية، والسمنة، والإجهاد الناتج عن الوظيفة وعدم الرضا عنها، والوحدة، والتعرض للأذى، والتلوث، والإسراف في استخدام الموارد البيئية.

يمكن للشِّقَّين العلمي والعملي من علم النفس، وعلم النفس الإكلينيكي خصوصًا، أن يَلعبا دَورًا رئيسيًّا في تطوير وتطبيق حلول لبعض هذه المشكلات. فعلم النفس الإكلينيكي يتمتَّع بسمات مُميزة تجعله في الموضع المثالي للمُساهمة في تطوير حلول لبعض التحديات المُنتشرة المُلحَّة التي تُواجه المجتمع حاليًّا، إلى جانب اهتمامه بالخبرات الفردية بالغة الحميمية والتفرُّد للأشخاص. والاختصاصي النفسي الإكلينيكي الذي تَدرَّب ليكون عالِمًا مُمارسًا مُتفكرًا لا بد أنه لن يجد صعوبة في العثور على أمور ذات قيمة وأهمية يتولى القيام بها في المستقبل. نأمُل أيضًا أن يَستفيد عالمنا المتغيِّر مما يتَّسم به الاختصاصي النفسي الإكلينيكي من انتباه وتفكُّر والتزام وعمل بدأب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤