الفصل الثاني

مناهج الدراسة في الجغرافيا السياسية

إن دراسة المحيط السياسي من الناحية الجغرافية تعتمد على المسح والتحليل داخل الإطار الكارتوجرافي، وهناك وسائل ومداخل متعددة للقيام بهذه المهمة، وقد رأى رتشارد هارتسهورن R. Hartshorn١ أربعة مداخل أو مناهج منفصلة بوضوح عن بعضها في ميدان الجغرافيا السياسية:
  • (١)

    تحليل القوى الخاصة بالدولة.

  • (٢)

    الدراسة التاريخية.

  • (٣)

    الدراسة المورفولوجية.

  • (٤)

    الدراسة الوظيفية.

وتشير فكرة دراسة تحليل القوى الخاصة بالدولة إلى تحليل وحدات القوى السياسية وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر، وهذه الوحدات السياسية تتحدد في المكان بمساحات معينة وتتأثر أشكالها الداخلية بواقع وجودها في مكان معين، كما تتحدد علاقاتها بالوحدات السياسية الأخرى أيضًا بواقع مكانها الجغرافي، أما الجغرافيا السياسية التاريخية فإن اهتماماتها تنصب أساسًا على الأقاليم السياسية في الماضي، في حين يفحص المنهج المورفولوجي المساحات السياسية تبعًا للشكل والهيئة، وأخيرًا فإن المدخل الوظيفي يهتم بالوظائف والأعمال التي تدور في المساحات السياسية.

(١) المنهج التحليلي

إن تحليل القوى السياسية هو منهج يستخدمه الجغرافيون وغير الجغرافيين من دارسي الموضوع السياسي، بل إن بعضهم يعتبر الجغرافيا أحد مصادر القوى في العلاقات الدولية، ومثل هذا المنهج — على سبيل المثال — يقسِّم القوى داخل الدولة إلى خمسة مكونات هي: الجغرافيا والاقتصاد والسياسة والمجتمع والجيش، ويحدد أصحاب هذا التقسيم المكون الجغرافي بأنه يشتمل على: (١) الموقع (٢) الحجم (٣) الشكل الذي تتخذه مساحة الدولة (٤) مدى ما تقدمه المشتملات الثلاثة السابقة من بعد أو قرب من عزلة أو اتصال بالمجتمع العالمي (٥) درجة خصب التربة ونسبة الصالح منها للزراعة والإنتاج الزراعي (٦) تأثير المناخ على الإنتاج الزراعي العام وعلى صلابة وطاقة الناس (٧) وأخيرًا احتياطي الموارد الطبيعية في الدولة.

لكن هذا يمثل بدون شك وجهة نظر ضيقة للجغرافيا؛ لأن الجغرافيين عادة لا ينظرون إلى العامل الجغرافي كعنصر محدد لقوة الدولة، فالمنهج الجغرافي المتكامل في الجغرافيا السياسية يقيم العناصر الجغرافية بالارتباط بالظاهرات السياسية البارزة، وفيما يلي قائمة من العناصر الجغرافية المتكاملة:
  • البيئة الطبيعية: وتدخل فيها عدة عناصر جغرافية متكاملة مع بعضها، على رأسها أشكال السطح، المناخ، التربة، النبات الطبيعي، المجاري المائية والبحيرات … إلخ.
  • الحركة والانتقال: ويدخل فيها اتجاه حركة النقل للبضائع والأشخاص والتيارات الفكرية.
  • المواد الخام والسلع المصنعة ونصف المصنعة: وتشتمل على المواد والسلع المنتجة فعلًا بالإضافة إلى تلك المرتقب حدوثها في المستقبل — الكشوف عن المعادن، الأبحاث الزراعية والصناعية، التوسع والتخطيط الاقتصادي عامة.
  • السكان: دراسة ديموجرافية شاملة بالإضافة إلى مميزات الشعب النوعية والأيديولوجية.
  • التركيب السياسي: ويشتمل على دراسة نظم وأشكال الإدارة وأهداف الحكم ومُثُله الفعلية، وليست مجرد الأشياء النظرية والعلاقات السياسية الداخلية والخارجية.

والأمثلة كثيرة لتطبيق هذه القائمة من العناصر الجغرافية المتكاملة والمتداخلة، وفيما يلي بعض نماذج لهذه الأمثلة.

فيما يتعلق بالبيئة الطبيعية دراسة أطوال السواحل في النرويج وتناسب ذلك مع (أ) مناطق السماكة الغنية. (ب) فقر اليابس النرويجي، وارتباط هذه المجموعة من العناصر لتفسير تأثيرها على توجيه النرويج نحو دولة معتمدة على السماكة وحياة البحر، ومن ثم التجارة والنقل البحري.

ولقياس بعض أشكال الحركة والانتقال يمكن أن تتعرف على مدى إرسال راديو القاهرة الموجه لأفريقيا وتأثيره على الحركات الوطنية الحديثة في تلك القارة، أو حرب الإرسال التليفزيوني بين ألمانيا الشرقية والغربية وتأثيرها المباشر على سكان مناطق الحدود.

وفيما يختص بالخامات والسلع يمكن مثلًا قياس موارد الفحم والحديد في أوروبا الغربية على ضوء أفضل استخدام لها في دول أوروبا الغربية كوحدات سياسية منفصلة، فالمصلحة القومية تحتم على ألمانيا استغلال موارد السار الفحمية من أجل صناعات الرور، بينما الاستغلال الأمثل هو تشغيل فحم السار لصناعات اللورين الفرنسية نتيجة للقرب المكاني بين هاتين المنطقتين، فهنا إذن نجد تعارضًا بين التركيبات السياسية والاقتصادية، لكن لعل ما تسعى إليه أوروبا الغربية من ائتلاف أو اتحاد في صورة من الصور يعكس القوة التي أصبحت التركيبات الاقتصادية تمارسها فوق قوى القومية، ولكننا في النهاية يجب أن نُرجع مصدر القوة المتزايدة للتركيب الاقتصادي إلى قوى خارجية اقتصادية سياسية تتمثل في النمو الكبير لكلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وإلى نمو القومية والتنمية الاقتصادية في كثير من دول العالم الثالث.

ويتضح من هذا التداخل الشديد بين التراكيب الاقتصادية السياسية والعوامل التاريخية في توجيه العناصر المختلفة داخل الوحدات السياسية.

والأمثلة كثيرة على دور السكان في القوى السياسية، وخاصة في مناطق الحدود، ففي الدول الأفريقية الكثير من التداخل السكاني اللغوي والحضاري مما قد يؤدي إلى ظهور مشكلات عديدة في حدود الدول الأفريقية في المستقبل، وبالمثل نجد أن غالبية سكان إقليم خوزستان الإيراني من العرب؛ مما يؤدي باستمرار إلى علاقات مشدودة بين إيران والعراق.

وكذلك فإن الكثافة السكانية العالية في البيئات الفقيرة تؤدي إلى مشكلات عديدة اقتصادية وسياسية داخل الدولة، مثال ذلك الفقر مع التزاحم السكاني في جنوب إيطاليا الذي يؤدي إلى الكثير من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية داخل إيطاليا، ومثال آخر احتياج جنوب أفريقيا إلى الأيدي العاملة من دولتي ليسوتو وسوازي ومستعمرة موزمبيق، ويترتب على ذلك الكثير من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية في جنوب أفريقيا، ويؤدي إلى اعتماد متبادل بينها وبين جيرانها، ونتيجة لسيطرة الأقلية الأوروبية على الحكم سيطرة غاشمة فإن ميزان القوى السياسية في هذا الجزء من أفريقيا قد يتعرض لهزات عنيفة في حالة تغير أشكال الحكم في الدول الأفريقية المجاورة لجنوب أفريقيا.

وأخيرًا فإن التركيب السياسي والتنظيم الإداري يكون عنصرًا هامًّا في تحليل الأوضاع السياسية الداخلية، من الأمثلة على ذلك أن تنظيم الدوائر الانتخابية في بريطانيا يؤدي إلى إعطاء أهمية سياسية للمناطق الريفية القليلة السكان أكبر من وزنها الحقيقي، وقد أدى هذا التنظيم إلى بقاء السكان في هذه الدوائر الفقيرة المراعي لأنهم يكسبون كسبًا مضاعفًا: تخفيف الضرائب عليهم لفقر الموارد، وجذب السياح والمصطافين والمتنزهين في العطلات الأسبوعية مما يعطيهم دخولًا إضافية مقابل بعض الخدمات، وأخيرًا الأهمية السياسية التي تعلقها عليهم الأحزاب السياسية، ولولا ذلك لكان السكان قد هجروا هذه المناطق؛ لأنها غير مجزية اقتصاديًّا.٢

وإلى جانب هذه العناصر الجغرافية، فإن الجغرافيين يخصون بالدراسة موضوع المكان كعنصر سادس بارز، وهم يدرسون داخل عنصر المكان علاقات الموقع وشكل الدولة وحدودها، ويدرسون أيضًا تأثير المكان على العلاقات الداخلية والخارجية للدولة.

وخلاصة القول في المنهج التحليلي الجغرافي أنه ليس من الصعب جمع العناصر الجغرافية فكلها موجودة وفي متناول الباحثين، لكن الصعب هو نوعية هذه العناصر ووزنها بالنسبة للعلاقات السياسية الداخلية والخارجية للدولة. والمشكلة التي نجدها شائعة في كثير من الكتابات أن الموضوع السياسي يتيه ويختفي وسط خضم الدراسة التحليلية لكافة العناصر الجغرافية الطبيعية والبشرية بغض النظر عن الأهمية النسبية لهذه العناصر، والحقيقة إذن أنه يجب أن نبحث عن العناصر التي يمكن تطبيقها بنجاح حتى لا تتحول الجغرافيا السياسية إلى شيء شبيه بالجغرافيا الإقليمية، وفي ذلك يقول فريمان T. W. Freeman: «لم يعد هناك صراع بين الجغرافيا السياسية والإقليمية، فكلاهما أصبح مساعدًا للآخر، وذلك نتيجة للأبحاث السياسية للدول الجديدة في أوروبا — بعد الحرب العالمية الأولى.»٣ وتأثير الدراسات الجيدة لبومان L. I. Bowman الأمريكي، وإيمانويل ديمارتون L. de Martonne الفرنسي، وماكندر H. J. Mackinder الإنجليزي، وسفييتش J. Cvijic اليوجسلافي.

ومن الأمثلة على صعوبة التمييز في ثقل وزن العناصر الجغرافية ودورها في المنهج التحليلي الجغرافي في السياسية؛ أننا أصبحنا اليوم شديدي الاهتمام بالأرقام والمساحات للتدليل على القوى النسبية للدول والأحلاف والتكتلات السياسية، فهناك مساحات الدول ومساحات الأراضي القابلة للزراعة والاستغلال وأرقام السكان والإنتاج الفعلي والمرتقب واحتياطي الموارد والسكان والطاقة العسكرية … إلخ، وعلى هذا تظهر الصين والهند على مسرح القوى العالمية إذا نظرنا إلى الموضوع السياسي من زاوية الوزن السكاني العددي.

صحيح أنه يجب علينا أن نهتم بالمساحات والأرقام، ولكن ليس كما يفعل الإحصائيون، فالواجب على الجغرافي أن يبحث عن العلاقات ذات المغزى، فالأعداد الرقمية تُترجم إلى الكثافة السكانية، وهذا يعني ربط الرقم السكاني بالمساحة الزراعية التي تعكس لنا صورة أشكال سطح الأرض وعلاقاتها بالمناخ والجريان النهري والنبات الطبيعي؛ أي تعكس لنا خلفية الإيكولوجيا الطبيعية للمنطقة أو الإقليم أو الدولة وقيمتها في إنتاج الغذاء.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إننا نترجم أعداد السكان مرة أخرى إلى كثافة السكن المديني، وهو الذي نراه يعكس لنا صورة عامة للتقدم التكنولوجي وإنتاج الصناعة والخدمات، وبالتالي يعطينا صورة عامة عن توزيع مصادر الدخل القومي عامة: زراعة محضة، أو زراعة وصناعة وخدمات، أو صناعة وخدمات حسب كثافة المدن ومصادر الثروة، وبعبارة أخرى يدخل في التحليل الرقمي عنصر المواد الخام وإنتاج السلع.

والمنهج التحليلي هو منهج دراسة مقارنة عام، وقد طُبِّق بنجاح على دراسة الدولة الواحدة، ويمكن أن يُطبق أيضًا على مستوى أعلى من الدولة؛ أي على مستوى إقليمي لدراسة الدينامية في منطقة واسعة، ولكن يستحسن في الدراسة المقارنة أن تحول الأرقام المجردة إلى أرقام سياسية أو نسبية Index، ويوضح الجدول رقم (٢-١) هذا النوع من الدراسة، على أن نأخذ في الاعتبار أن النسب في كل عمود تتخذ أصغر رقم كرقم أساس، مثلًا مساحة أوروبا البحرية أو الهند تصبح رقمًا واحدًا صحيحًا وتنسب المساحات الأخرى إلى هذا الأساس، فتصبح مساحة الولايات المتحدة ثلاث مرات قدر مساحة أوروبا البحرية، وينطبق هذا على كل الأعمدة عدا عمود الكثافة السكانية بالنسبة لمساحة الأرض الزراعية، فهنا تصبح أعلى كثافة هي الأساس «الصين»، ويعني ذلك أن كثافة السكان في الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي يمكن أن تزيد أكثر من ثماني مرات لتصبح قدر الكثافة السكانية في الصين، وبعبارة أخرى؛ بإمكان سكان أمريكا أو روسيا أن يتزايدوا دون أن نصل إلى مشكلة تضخم السكان في الصين مما يعطينا أيضًا معلومات عن إمكان الزيادة بصورة كبيرة في كندا، بينما لا تحتمل أوروبا البحرية زيادات كبيرة.
ملاحظة: الأرقام التي توجد بين القوسين في النسب تعني أن هذا هو رقم الأساس في العمود، وقد يتعدد رقم الأساس لتقارب الأرقام الفعلية، كل الأرقام لسنة ١٩٦٠ فيما عدا أرقام الصلب التي تعود لعام ١٩٥٩.
جدول ٢-١: قائمة بالعناصر الجغرافية الأساسية في تحليل القوى الدولية.
الدولة المساحة الكلية (مليون ميل مربع) عدد السكان (بالمليون) مساحة الأرض الزراعية (بآلاف الأميال) كثافة السكان إلى الأرض الزراعية عدد سكان المدن (بالمليون) ٪ سكان المدن إلى كل السكان إنتاج الصلب (مليون طن)
الولايات المتحدة ٣٫٦٥ ١٨٠ ٧٠٠ ٢٤٠ ١٢٥ ٧٠ ٩٣
أوروبا البحرية ١٫٢٢ ٣٠٠ ٢٨٥ ١٠٥٠ ١٨٠ ٦٠ ٩٨
الاتحاد السوفيتي ٨٫٦٥ ٢١٢ ٩٠٠ ٢٣٥ ١٠٢ ٤٨ ٦٦
الصين ٣٫٧٦ ٧٠٠ ٣٣٠ ٢١٠٠ ١٠٠ ١٤ ١٥
الهند ١٫٢٦ ٤٤٠ ٥٢٠ ٨٤٥ ٧٥ ١٧ ٣
كندا ٣٫٨٥ ١٨ ١٤٥ ١٢٥ ١٢ ٦٧ ٦
البرازيل ٣٫٢٨ ١٥ ٢١٠ ٣١٠ ٢٥ ٣٧ ٢
نفس المعلومات مترجمة إلى أرقام قياسية Index
الولايات المتحدة ٣ ١٠ ٤٫٩ ٨٫٨ ١٠ ٥ ٤٦
أوروبا البحرية (١) ١٦٫٧ ٢ ٢ ١٥ ٤٫٣ ٤٩
الاتحاد السوفيتي ٧٫٢ ١١٫٧ ٦٫٢ ٨٫٩ ٨٫٣ ٣٫٤ ٣٣
الصين ٣٫١ ٣٨٫٨ ٢٫٣ (١) ٨٫٣ (١) ٧٫٥
الهند (١) ٢٤٫٤ ٣٫٦ ٢٫٥ ٦٫٢ ١٫٢ ١٫٥
كندا ٣٫٢ (١) (١) ١٦٫٧ (١) ٤٫٨ ٣
البرازيل ٢٫٨ ٣٫٦ ١٫٤ ٦٫٨ ٢ ٢٫٦ (١)
وقد تغيرت صورة إنتاج الصلب كثيرًا؛ ففي عام ١٩٦٧ كان إنتاج الصلب هو: الولايات المتحدة ١١٥ مليون طن، أوروبا البحرية جمدت أرقامها عند حدود مائة مليون طن، الاتحاد السوفيتي ارتفع إنتاجه إلى ١٠٢ مليون، والهند ارتفع ٦٫٣ ملايين، وكندا ارتفع أيضًا إلى ٨٫٦ ملايين (الكتاب السنوي الإحصائي للأمم المتحدة ١٩٦٨).٤

لكن مثل هذا التحليل لا يعطينا معلومات شاملة، ويختفي منه تقدير لكثير من العناصر غير المادية مثل القوى الأيديولوجية والدوافع والأهداف السياسية لكل وحدة سياسية، لكن قيمته الأساسية في أنه يعطينا الإطار الفعلي الذي ندرس داخله تلك العناصر الأخرى.

لكن علينا ألا نغالي كثيرًا في تقدير قيمة الدراسة الرقمية، فمثلًا يمكن أن تُتَّخذ أرقام فعلية أو أرقام قياسية للصلب أو الألمونيوم أو البترول أو كلها معًا لتحليل قوى الدولة، لكن أي أرقام تلك التي يقع عليها اختيارنا، هل هي أرقام الإنتاج أم أرقام طاقة الإنتاج الممكنة؟ إن هناك إمكانات للطاقة الإنتاجية مثلًا لمصنع صلب أو ألمونيوم أو معمل تكرير بترولي، لكن المصنع لا يشغل إلى طاقته العليا لأسباب متعددة سياسية أو اقتصادية أو عمالية.

فإذا اخترنا أرقام الطاقة الممكنة — وهي أحسن مؤشر لقياس الإمكانات الفعلية، كما أنه يمكن أن ينظر إليها على أنها موارد مخزونة — إذا اخترنا هذه الأرقام، فهل هناك أساس موحد بين الدول لقياس هذه الإمكانية؟ بطبيعة الحال لا توجد مثل هذه المقاييس، ومن ثم تصبح الدراسة النسبية خاضعة لعدم الموضوعية بين الدول.

وإذا أخذنا أرقام الإنتاج الفعلي فإن ذلك يعطينا القوة الفعلية للدول في فترة زمنية محدودة جدًّا، وهي لا تكفي لقياس القوى الدولية؛ لأنها تتغير من وقت لآخر، وبسرعة كبيرة إذا أريد لها ذلك، ففي الإمكان زيادة إنتاج معين بسرعة نتيجة الظروف السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية الموجودة، ولهذا يختل تقديرنا في قياس القوى المرغوبة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أيضًا أن هناك قدرًا من عدم الموضوعية في نشر أرقام الإنتاج لعدد من السلع الاستراتيجية كالصلب أو البترول … إلخ بدوافع سياسية أو دعائية إعلامية نتيجة الصراعات الحارة والباردة بين التكتلات السياسية المختلفة.

ومع ذلك فإن الأرقام الموجودة فعلًا، سواء في مجال الإنتاج الفعلي أو الإمكانية الإنتاجية، هي في مجموعها أساس لا بأس به لدراسة القوى الدولية، وتعطينا مؤشرات طيبة عامة مع بعض التحفظات، فليس أمامنا غيرها.

وما ذكرنا من تحفظ على أرقام الإنتاج والإمكانية الإنتاجية ينسحب بصورة مختلفة على المقاييس الأخرى مثل مقياس درجة السكن المديني، وكما سبق أن ذكرنا فإن المدينة عادة تعكس عددًا من الظروف الخاصة بالدولة:
  • (١)

    مساهمة الصناعة والخدمات في الدخل القومي بدرجة تزيد في الدول التي تزيد فيها نسبة السكن المديني.

  • (٢)

    درجة التكامل والترابط القومي؛ وذلك لأن سكان المدينة يحتلون مساحة محدودة بينما يتبعثر سكان الريف على مسطحات واسعة، ومن ثم يسهل: (أ) الحكم الإداري المركزي. (ب) التعليم. (ﺟ) الخدمات الصحية والاجتماعية. (د) وفوق كل هذا يسهل تكوين الرأي العام وتشكيله بصورة أسرع مما يمكن عند السكان الريفيين، ليس فقط لأن سكان المدينة تجمع سكاني مزدحم في مساحة صغيرة سهلة الاتصال — بواسطة شبكة الطرق والمواصلات الكثيفة في أجزاء المدينة — ولكن هناك أيضًا التكوين الدينامي لشخصية سكان المدن بالقياس إلى سكان الريف الذين يتسمون ببطء الحركة في التغير السياسي نتيجة روح المحافظة التقليدية، ولا شك أن هذه الدينامية عند سكان المدن راجعة في كثير من أصولها إلى تنوع الإنتاج والأعمال وزيادة الكفاءة الإنتاجية نتيجة التغير التكنولوجي والتعليم المهني، بينما لا يوجد ذلك في الريف برغم استخدام الآلات والمكائن الحديثة.

  • (٣)
    وفي الواقع نجد تفسيرات متعددة لدور المدينة والريف في الاستقرار السياسي أو الثورات السياسية الداخلية، ففي رأي مدرسة سياسية يُعطَى للمدينة — بما فيما من دينامية وحركة في الرأي، وثقل في القوى العمالية وغير الصناعية — دور فعال في الحركات السياسية التي تؤدي إلى تغير أساليب الحكم وأنواعه، وفي آراء مدرسة أخرى أن الدول التي تتمتع بنسبة عالية من السكن المديني تتمتع باستقرار سياسي.٥

إن كلًّا من التفسيرين له وجاهته، لكن علينا أن نعرف أن انطباق هذا التفسير أو الآخر، أو محاولة تطبيقه، مرتبط بالظروف التاريخية والزمنية والاقتصادية في أجزاء العالم المختلفة، فلا شك أن المدينة كان لها دور حاسم في التغير السياسي من الإقطاع إلى الرأسمالية في أوروبا الغربية، ولا شك أن الماركسية في أوائل هذا القرن كانت تنظر إلى القوى الدينامية للعمال وأصحاب الأجور على أنها العامل الحاسم في قيادة التغير السياسي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ولا يزال هذا منعكسًا في التركيب الحزبي في أوروبا والمناطق الأوروبية الأصل من العالم الجديد، فالأحزاب الراديكالية وذات المسحة الاشتراكية — بأي صورة من الصور — تجد مراكز قوتها الأساسية في المدن وبين تكتلات العمالة الكثيفة مثل المناجم ومدن المناجم، بينما تجد الأحزاب المحافظة مراكز قواتها بين الريفيين. وأصحاب الأيديولوجيات البورجوازية عامة في المدن هم أصلًا وفي مجموعهم هجرات حديثة من الريف، أو لا تزال تربطهم بالريف انتماءات اقتصادية اجتماعية وثيقة.

ويظهر الثقل السياسي في الوقت الحاضر لسكان المدن بصفة عامة في كثير من مناطق ودول العالم الثالث.

ولكن استراتيجيات الثورات قد تغيرت كثيرًا منذ ظهور حرب العصابات وحركات المقاومة في أوروبا والاتحاد السوفيتي خلال الحكم النازي القصير، فلقد برز الفلاحون وسكان الريف كعنصر سياسي هام في التركيب السياسي إلى جانب القوى العمالية، ولهذا نجد الكثير من ثورات العالم المتخلف الراهنة تعتمد على سكان الريف كجزء مكمل لقوى التغيير والثورة في المدن، مثال ذلك الثورة اليسارية في كوبا وحركة الفيتكونج الثورية في فيتنام والفوران الثوري في ريف أمريكا اللاتينية.

ويجب أن نضيف هنا أن من أهم أسباب التغير في أيديولوجية سكان الريف سرعة الاتصال، ونقل الأخبار بالإذاعة والصحف والتليفزيون مما ساعد على سرعة تكوين الرأي العام الثوري، وكذلك فإن الأوضاع الاقتصادية المتردية بالنسبة للمنتجات الزراعية وانخفاض أسعارها في السوق جنبًا إلى جنب مع ارتفاع السلع المصنعة والفوائد الاقتصادية الاجتماعية لنقابات العمال؛ كلها عوامل أدت إلى ضعف دخول الريفيين مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وهذا يجعل منه قوة قابلة للقيام بأعمال إيجابية من أجل التغير السياسي: الثورة.

وهكذا فإن سكان المدن عامة — نتيجة لما يتمتعون به من استقرار ورخاء نسبي جاءهم نتيجة كفاحهم المستمر — قد أصبحوا أقل ثورية مما كان في النصف الأول من هذا القرن، لكن هذه الثورية ما زالت قائمة طالما بقيت العوامل الاقتصادية المسببة لها كالبطالة وكساد الإنتاج.

ومع ذلك فإن الرأي الأصوب، والذي لا تختلف حوله الآراء كثيرًا، هو أنه ما زال للمدينة دورها القيادي في التشكيل السياسي والتغيرات السياسية المختلفة، فسكان الريف عامة ما زالوا أميل إلى روح المحافظة والجمود على فكر معين متى استوعبوه، وسكان المدينة نراهم دائبي الحركة بحكم المساحة الصغيرة والتجمع العددي الكبير والتواجد داخل مصدر الفكر والدعوة.

وكذلك فإن المناطق المدينية الكبيرة أقل استقرارًا في مجموعها من المناطق الريفية، ويكفي أن نقارن بين عدم الاستقرار المستمر في المدن الكبرى كنيويورك ولندن وباريس وبين الاستقرار النسبي في المدن الزراعية الصغيرة، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى عاملين جوهريين يؤديان إلى نتيجة واحدة:
  • (١)

    عدم الاستقرار في السوق الدولية نتيجة المنافسة الصناعية العالمية يؤدي إلى ذبذبات كثيرة في سوق العمالة، ومن ثم تحدث البطالة أو انخفاض الأجور.

  • (٢)

    أن المدن الكبيرة — بما فيها من قوى الجذب السكاني — كثيرًا ما تفيض سكانًا عن قاعدتها الإنتاجية، ومن ثم تحدث البطالة أيضًا ويدفع ذلك بالحكومات إلى محاولة إنشاء مشروعات لاستيعاب العمالة الزائدة، ولكن ذلك دون جدوى؛ إذ سرعان ما يفيض السكان مرة أخرى على قاعدة الموارد الإنتاجية، ولا شك أن للتخطيط أهميته في هذا المجال، ولهذا فإن تخطيط تحديد الهجرة إلى المدن — كما يحدث في بعض الدول الاشتراكية — يؤدي إلى نتائج أفضل نسبيًّا.

وعلى هذا النحو فإن تحليل القوى على ضوء العناصر السالفة الذكر ليس أمرًا سهلًا، فهناك أولًا مشكلة صحة الأرقام والنسب المبنية عليها في محاولات تحليل القوى، وهناك ثانيًا الدراسة النوعية التي لا تظهر من وراء النسب والأرقام، وهي — كما رأينا — على جانب كبير من التعقيد، ولهذا كله نعود إلى تأكيد أن المنهج التحليلي يعطينا فقط إطارًا عامًّا وأساسًا طيبًا لا غنى عنه في دراسة الموضوع السياسي.

(٢) المنهج التاريخي

يركز هذا المنهج اهتمامًا كبيرًا حول الجغرافيا السياسية التاريخية من أجل فهم أعمق لمشكلات الماضي، وتكوين خلفية تحليلية لمشكلات الحاضر.

ومثل هذه الدراسة تتناول بالبحث نمو الدولة من القلب إلى الأطراف، والأساليب التي اعتمدت عليها في جذب أو ضم الأقاليم المختلفة حتى حدودها الراهنة، وتحدث هذه الدراسة على ضوء الظروف الطبيعية والحضارية في المنطقة، إلى جانب الكثير من علاقات الأرض بالدولة النامية مثل دور بعض العوائق الطبيعية (الجبال – المستنقعات – الأنهار والبحيرات – الحافات والانحدارات … إلخ) في حماية الدولة النامية كحدود طبيعية يتوقف عندها النمو أم يتخطاها إلى حدود أخرى، ومن العلاقات الأخرى بين الأرض والدولة مدى سهولة الاتصال من القلب إلى الأطراف، وبعبارة أخرى؛ تأثير مركز أو عاصمة الدولة بالنسبة لبقية أراضي الدولة.

وهذا المنهج التاريخي وإن كان يلقي ضوءًا على سير التاريخ السياسي للدولة، إلا أن قيمة معظم الدراسات في الجغرافيا السياسية التاريخية مرتبطة بتفسير أحداث الماضي بما صادفها من ظروف طبيعية وتكنولوجية وعلاقات الدول وشخصيات الحكام والقادة في إطار زمني معين؛ ولهذا فإنه لا يمكن أن نتخذ من مثل هذه الدراسات مؤشرًا لما يحدث اليوم، أو أن نسقط نتائج هذه الدراسات على نشاطات الدول المعاصرة، فالتاريخ لا يُعيد نفسه إلا في بعض الشكل الخارجي فقط، بينما يمتلئ بالمفارقات والملابسات لتعقد العلاقات الإنسانية والأرضية الناجمة عن التغيرات التكنولوجية من ناحية والأيديولوجية من الناحية الأخرى.

وعلى هذا فإنه ليس ضروريًّا أن نعرف تاريخ اليهود والدول اليهودية في الشرق القديم لكي نفهم جذور المشكلة الفلسطينية الحالية وأوضاعها واتجاهاتها، فدراسة الدولة اليهودية القديمة أمر حسن في حد ذاته، لكنه غير مفيد كمؤشر لما هو حادث اليوم، ويكفي أن هناك أكثر من ألفي سنة تفرق بين الماضي والحاضر في رقعة فلسطين الجغرافية، والفارق الزمني له اعتباره الكبير في الدراسات الإنسانية؛ لأن الإنسان ليس نمطيًّا في بنائه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ أي أنه ليس كممالك النمل والنحل التي لم تتغير في تركيبها لملايين السنين.

والعامل الزمني له تأثيره المهيمن على المكان، وليس ذلك بمعنى أن المكان يتغير، ولكن علاقات المكان هي التي ينتابها التغيير، فرقعة المعمور قد اختلفت كثيرًا عما كان معروفًا منذ ألفي سنة، والدول التي كانت موجودة في الماضي قد اختفت تمامًا وحلت محلها قوى عالمية جديدة، والاتصالات العالمية والمعارف التكنولوجية مختلفة عما كان في الماضي. وخلاصة القول أن انقطاعًا تاريخيًّا جغرافيًّا سلاليًّا حضاريًّا اقتصاديًّا يفصل ويفرق تمامًا بين ما كان وما هو حادث في أرض فلسطين الحالية، ولهذا فإن الجغرافيا السياسية لمشكلة فلسطين الحالية يجب أن تركز تمامًا على وقائع اليوم وعلاقات الناس والدول داخل الشرق الأوسط وخارجه، وارتباط ذلك بالتأثيرات الاقتصادية لكلٍّ من العرب واليهود على المستوى العالمي الاقتصادي، ومدى استقطاب الرأي العام العالمي وانحيازه في كل دولة على حدة إلى أحد أطراف الصراع العربي الإسرائيلي من بين عوامل أخرى كثيرة.

والحقيقة أن بعض مؤيدي المنهج التاريخي ينتهون من دراساتهم إلى وضع قواعد ومبادئ عامة يُخضعون لها الدول في نموها وتوسعها، لكن مثل هذه القواعد والمبادئ تُشكِّل أخطر منزلق تنتهي إليه الجغرافيا السياسية؛ ذلك لأنها «تحدد» و«تحتم» الاتجاهات والميول ومحاور النمو والتوسع التي لا تحيد عنها الدولة في نموها، وفوق هذا فإن هذه المبادئ تنمط الدولة بمراحل لا تحيد عنها كما لو أن العلاقات المكانية والمواقع الجغرافية هي ثابتة وجامدة.

وهذا غير صحيح بالمرة؛ إذ إن كل شيء يتغير على مر الزمن نتيجة تغير الطاقات البشرية وما يترتب عليه من تغير حقيقي في قيمة المكان وأهمية الموقع الجغرافي.

ومن ثم فإن إسقاط هذه القواعد والمبادئ المستمدة من أحداث الماضي على حاضر الأمور يؤدي بالحكام والزعماء الذين يلتزمون بها إلى ارتكابهم أخطاء جمة ضد حياتهم وحياة شعوبهم.

فكون أنه كان لليهود دولة ما في الماضي في مكان معين لا يعني بالضرورة عودة هذه الدولة إليهم؛ لأنها ماتت من زمن بعيد، وليس من الحتم أن تعود إلى الحياة مرة أخرى — على الأقل في المكان القديم نفسه — لأن كل العلاقات والموازين الطبيعية والبشرية والتقنية قد تغيرت تمامًا.

وهذا هو أول أخطاء الدعوة الصهيونية كدعوة سياسية، فالمكان الذي طالبت به غير خالٍ من السكان، والعالم المحيط بها معادٍ لها؛ ولهذا فإن قيام إسرائيل وبقاءها سيظل معتمدًا على القوة لفترة طويلة، وهذا — كما نعرف — لا يكوِّن دولة ذات استقرار حقيقي.

وقد استغلت الدعوة الصهيونية التشابه التاريخي الشكلي بين الاضطهاد الذي وقع على اليهود قديمًا وفي العصر الحديث لتبرير إقامة الدولة اليهودية من أجل التخلص من أسباب الاضطهاد، لكن هذه الدعوة قد فشلت للأسباب التالية:
  • (١)

    أن الاضطهاد الذي وقع على اليهود في الماضي يختلف كمًّا ونوعًا عن ذلك الذي وقع لهم في العصر الحديث؛ ففي الماضي لم يكن التمييز الذي وقع ضحيته العبرانيون سوى تمييز حضاري بحت، فالعبرانيون — كغيرهم من البدو الساميين — كانوا قبل ظهور الديانة الجديدة مجرد رعاة متجولين على هامش مصر الصحراوي ويخضعون للحملات التأديبية إذا ما قاموا بعمليات غزو أو سلب أو إخلال بالأمن، ومع تقبل بعضهم للديانة الجديدة — إذ إننا نعتقد أن عددًا من المصريين قد قبلوا أيضًا الدين الجديد — فإن الاضطهاد قد تحول إلى مرحلة جديدة دخل فيها عنصر حضاري جعل العبرانيين نقيضًا حضاريًّا للمصريين، ومن ثم كانت بداية الهجرة خارج حدود مصر، وقد ضمت هذه الهجرة أعدادًا أخرى من البدو في سيناء وجنوب الأردن الحالية — وهي معروفة باسم صحراء البطراء.

    وبذلك تحولت الهجرة العبرانية من مصر إلى شكل معتاد كثير الحدوث في المناطق الصحراوية، فهي في جذورها لم تكن سوى واحدة من حركات البدو الساميين في هذه المنطقة، ارتبطت نواتها في البداية بتعاليم الديانة الجديدة، ولكنَّ بني إسرائيل سرعان ما نفضوا عنهم جوانب جوهرية من تعاليم الديانة ومؤسسها ما زال بعدُ على قيد الحياة؛ أي في مرحلة مبكرة جدًّا من بداية الهجرة. وحينما دخلوا فلسطين أبقوا على الإطار الديني، وأضافوا تدريجيًّا من تاريخهم وسيرهم الكثير مما سطر في أسفارهم.

    ولم تكن الهجرة نحو فلسطين متعمدة بدليل اختلاف خط الهجرة وتذبذبه من مكان لآخر في صحراء البطراء، ولكنها كأي هجرة سامية كان هدفها السيطرة على مصادر غنية بالغذاء بدلًا من المصادر الهامشية التي تقدمها أعشاب أقاليم الانتقال الصحراوية، ولما كانت صحراء البطراء وسيناء تقع بين منطقتي جدب وغنية في مصر وفلسطين، ولما كان المصريون يطاردون هذا المجتمع الجديد، فإنه لم يبق أمام التجوال العبراني سوى فلسطين التي كانت مُقسَّمة إلى إمارات وشعوب مختلفة متناحرة؛ مما أعطى الهجرة الجديدة الفرصة للدخول والسيطرة.

  • (٢)

    أما الهجرة الحديثة لليهود إلى فلسطين فتختلف جذريًّا في أسبابها وتوجيهها عن الهجرة القديمة، فاليهود منذ فترة طويلة موزَّعُون على دول كثيرة في الشرق والغرب، ولا يكوِّنون تجمعًا حضاريًّا في مكان واحد، والاضطهاد الذي عاشوه في أوروبا لم يكن يرجع إلى أسباب حضارية، بل إلى حرب اقتصادية بينهم وبين الشعوب الأوروبية التي عاشوا فيها؛ مما أدى إلى استفحال اضطهادهم.

    وفضلًا عن ذلك فإن الهجرة الحديثة لم تكن عشوائية كما كان في الماضي، بل مخططة وموجهة عمدًا نحو فلسطين كموقع أرضي له علاقاته المركزية في عالم أوائل القرن الحالي. إذن فالهدف السياسي هو جذور الدعوة الصهيونية العالمية: محاولة إيجاد مركز أرضي لهم على مشارف طريق الشرق والغرب التاريخي في أوائل هذا القرن — قناة السويس — وبذلك يضيف اليهود لأنفسهم قوة اقتصادية سياسية جديدة إلى جانب سيطرتهم على كثير من حياة رأس المال الموجود في العالم العربي.

  • (٣)

    وبمجرد الصدفة البحتة فإن هذا المكان الاستراتيجي الذي هدفت إليه الصهيونية كان مرتبطًا بتاريخ اليهود القديم، ولا شك أن ذلك كله قد أدى إلى قوة في الدعوة الصهيونية، فهي تبدو مدعمة بحجج تاريخية، فلو كانت الدولة العبرانية القديمة قد نشأت في أوغندا مثلًا — وهي التي كانت من بين المناطق التي اقترحها الإنجليز على زعماء الصهيونية لإقامة الوطن القومي اليهودي — فإننا نعتقد أن الصهيونية ما كانت تتوقع تأييدًا مماثلًا لذلك الذي حدث بين الساسة اليهود، بل أعتقد أن الصهيونية كانت سوف تجد صدى دينيًّا فقط بين اليهود، وهكذا فإن عدة ملابسات جغرافية وتاريخية واقتصادية قد ساهمت في قوة الدعوة الصهيونية.

  • (٤)
    وليس من شك أن الدعوة الصهيونية قد ارتبطت في أذهان اليهود العاديين وعند الرأي العام الغربي بأن فلسطين سوف تكون مأوى ليهود العالم أجمع، ولكن ليس من شك أيضًا في أن زعماء الصهيونية لا يتصورون فعلًا أنه بإمكان فلسطين أن تأوي كل يهود العالم الذين يبلغ عددهم قرابة ١٣٫٥ مليونًا من الأشخاص،٦ فهي الآن تستوعب حوالي المليونين من اليهود، ولحل هذا التناقض بين الأهداف العامة للسياسة الصهيونية وبين واقع الأمر نجد أحد الاحتمالين:
    • (أ)

      أن الخطط الصهيونية تستهدف التوسع الأرضي إلى أبعد مدى ممكن داخل المنطقة العربية، ولكن ذلك سوف يتم تدريجيًّا، وعلى هذا الضوء يمكن أن نُفسر التوسع المستمر خلال ربع القرن الماضي في فلسطين وجيرانها من الدول العربية.

    • (ب)

      أن المخطط الصهيوني لا ينوي بالفعل نقل كل يهود العالم إلى فلسطين؛ إذ لا يُعقل أن تضحي الصهيونية بالمراكز القوية في عالم المال والاقتصاد والسياسة والعلم والتكنولوجيا التي يحتلها اليهود في الدول الغربية بصفة عامة وأوروبا الغربية والولايات المتحدة بصفة خاصة.

    ويبدو أن الاحتمالين مكمِّلان لبعضهما، وأن السياسة الصهيونية عامة تنفذ المخطَّطَين معًا، خاصة وأن بقاء اليهود في العالم الغربي يضمن لإسرائيل قوة مالية ودعائية واقتصادية واضحة، ويكون جسرًا دائمًا بين إسرائيل والعالم الغربي بما لهؤلاء اليهود من نفوذ مؤثر في شتى مجالات الحياة العامة في العالم الغربي، وهم بذلك احتياطي عددي ومعنوي ومادي لإسرائيل، وبعبارة أخرى؛ هم إسرائيل عبر البحر.

ولسنا هنا بصدد مناقشة موضوع إسرائيل ككل، لكننا بصدد أن نوضح أن إسرائيل اليوم ليست ولا تمت بصلة سلالية أو حضارية إلى الدولة العبرانية القديمة، وأن التشابه بينهما سطحي وراجع فقط إلى رابطة الدين والمكان، ويكفي أن نعرف أن إسرائيل الحالية لا تعيش على مواردها المكانية المحلية، بل لا بد من أن تمتد موازناتها إلى المساعدات والمعونات الخارجية، بينما كانت الدولة اليهودية القديمة تعيش على مصادر الثروة المحلية فقط، وعلى هذا فإن التفسير التاريخي لأحداث السياسة يلقي بعض الضوء على الماضي ويختلف جذريًّا عن الحاضر بعلاقاته المختلفة.

إن الحتم التاريخي يمتد بمبادئه في أحيان كثيرة لكي يستخلص قواعد جغرافية وبيئية تفسر نمو الأمم والدول إلى حدود لا تستطيع أن تمتد بعدها، ومن الأمثلة على ذلك أنه يحلو للبعض أن يُفسر توقف الدولة الإسلامية العربية عند معركة تور-بواتيه في فرنسا بأن العرب والإسلام غير متكيف مع بيئات غير البيئة الطبيعية للنطاق الصحراوي وهوامشه، وبذلك فإنه توقف وانسحب حينما خرج خارج حدود تلك البيئة إلى غرب أوروبا، ولكن مثل هذه الدعوى الحتمية تحتاج إلى تعليلات أخرى إذا أُريد تطبيقها على انتشار الإسلام في بيئات أخرى غير البيئة الصحراوية واستقراره فيها مثل المناطق الاستوائية في أفريقيا وجنوب شرق آسيا، والبيئة الموسمية في الهند، وبيئات أخرى في القوقاز والبلقان وإسبانيا.

إن التعنت الحتمي التاريخي الجغرافي لا يحسب حسابًا للكثير من العناصر البشرية والحضارية والتكنولوجية، بل يحسب حسابًا للمصادفات التاريخية أيضًا، وفي حالة توقف الإسلام عند معركة تور-بواتيه يجب علينا أن نطرح عددًا من الأسئلة: هل كان التوغل العربي حربًا حقيقية أم مجرد مغامرة عسكرية؟ ما هي القوة العددية للعرب في تلك المعركة؟ هل بدا لهم ضرورة مواصلة القتال بعد هزيمتهم أم وجدوا ما يثبِّط هممهم؟

وعلى ضوء أن العرب دخلوا إسبانيا عام ٧١١م، وأن هزيمتهم في فرنسا كانت عام ٧٣٢م، فإن ذلك يعطينا صورة خلفية واضحة لمعركة تور-بواتيه، ففيما بين التاريخين عشرون سنة فقط، هل كانت حاسمة في تدعيم سلطات العرب في إسبانيا بحيث تصبح قاعدة أمامية لمزيد من التوسع في فرنسا؟

لو كان هناك تصميم مسبق على التوسع إلى فرنسا فإن هزيمة العرب في تلك المعركة لم تكن كافية لوقف التيار العربي، ففي الحروب تحدث انتصارات وهزائم متعددة قبل أن يتحدد مصير الحرب لصالح واحد من الفريقين المتصارعين، ومجرد هزيمة واحدة لا تنهي حربًا حقيقية؛ ولهذا يجب أن نقول إن تور-بواتيه لم تكن سوى مواجهة هامشية بين العرب والفرنجة، مجرد احتكاك عسكري بعيد عن صورة المواجهة الحقيقية، وقد كان في الإمكان أن تصبح حملة طارق بن زياد على إسبانيا مماثلة لمواجهة تور-بواتيه، لكن تصادُف النجاح أو الفشل في مثل هذه المواجهات الهامشية يؤدي إلى تغير جذري في النتائج بصورة لا تتناسب إطلاقًا مع حجم المواجهة، فضلًا عن غياب تصميم مسبق في مثل هذه المواجهات إلا في أضيق حدود الاستراتيجية، وكثير من المعارك الحاسمة كسبها أو خسرها موقف مغامر من أحد الضباط لا يرضى عنه القائد العام كتكتيك عسكري أصولي.

إن الأديان لا تعرف حدودًا بيئية، والإنسان في مجموعه أيضًا لا يعرف حدودًا بيئية لانتشاره، بل هو دائم التكيف مع الإيكولوجيات الطبيعية المختلفة، وربط الإسلام بالعرب نظرة ضيقة جدًّا، فالدولة العربية الإسلامية خارج الجزيرة العربية لم تنطوِ على طرد أو إبادة السكان الأصليين وحلول العرب محلهم، بل إن هناك رواد العرب المسلمين الذين استقروا هنا وهناك بين منغوليا والأندلس وبقية الدولة الإسلامية التي تكونت من تحوُّل السكان الأصليين إلى الإسلام، وكذلك كان يمكن أن يكون الحال في فرنسا وبقية أوروبا: رواد من مسلمي العرب وسكان فرنسيين أو غيرهم يتحولون إلى الدين الجديد، وهكذا تسقط حجة الحتميين التاريخيين والجغرافيين بأن للإسلام حدودًا بيئية لا يتعداها!

(٣) المنهج المورفولوجي

يدرس هذا المنهج مشكلات الدولة السياسية من حيث الشكل بحيث تنطوي الدراسة على مجموعة من العناصر الجغرافية تنتظم تحت عنوانين رئيسيين هما النمط والقالب، والتركيب أو البناء.

وتشير الدراسة النمطية إلى الترتيبات والتنظيمات التي يكوِّنها الارتباط السياسي للوحدات والأقاليم التي تكوِّن الدولة، وإلى الارتباطات السياسية للدولة ككل في التكتلات السياسية الإقليمية من ناحية، والاتجاهات والتحالفات العالمية من ناحية ثانية.

أما التركيب أو البناء فإنه يُشير إلى المظاهر المكانية التي تشترك فيها الوحدات السياسية مثل مراكز الثقل السكانية والاقتصادية داخل الدولة والعاصمة، ومكونات الدولة والحدود السياسية ومشكلات خاصة بالدولة كخطط التنمية ومشكلات السكان والاقتصاد والأقليات، وتدرس هذه العناصر أيضًا على مستوى الدراسة المقارنة بين الدول المختلفة.

ومن الأمثلة على الدراسة السياسية على ضوء المنهج المورفولوجي نمط الدولة الإيطالية، فموقع إيطاليا يمكن أن يُدرس داخل تنظيم إقليمي أوسع هو الاتحاد الأوروبي الاقتصادي، فلقد كسبت إيطاليا كثيرًا نتيجة عضويتها للسوق الأوروبية المشتركة، مثلًا صناعة الصلب في شمال إيطاليا ربحت مميزات كثيرة من بينها تخفيض أسعار النقل للحديد الخردة على السكك الحديدية من فرنسا إلى تورينو.

وموقع إيطاليا كشبه جزيرة طويلة تمتد داخل البحر المتوسط قد جعلها تنتمي إلى حلف الأطلنطي كوسيلة من وسائل الدفاع المشترك، وترتب على ذلك بروز مهمة وأهمية إيطاليا عندما اعتُبِرت كقاعدة وركيزة لأساطيل الحلف في البحر المتوسط، وقد كان لانسحاب فرنسا من القيادة العسكرية لهذا الحلف ضعف في القوى البحرية في هذا البحر، وزاد من أعباء إيطاليا البحرية، وفي مقابل ذلك أصبح الأسطول الإيطالي يحظى بنصيب كبير من الدعم والعتاد والتدريب داخل الحلف.

هذا فيما يختص بالدراسة النمطية لإيطاليا، ومن بين مظاهر البناء والتركيب الجيوبوليتيكي في إيطاليا نجد المشكلات التالية …

(٣-١) مناطق التركيز السكاني والاقتصادي

يتركز في حوض نهر البو في شمال إيطاليا: (أ) الصناعة. (ب) معظم مناطق الإنتاج الزراعي. (ﺟ) نسبة لا بأس بها من السكان مع كثافة سكانية عالية. ولقد كان لوقوع هذا الحوض على أطراف الألب أثره في حصول الإقليم ككل على مصدر اقتصادي للطاقة المولدة من المساقط المائية والسدود، وفي هذا يجب أن نأخذ في الاعتبار فقر إيطاليا الطبيعي في مصادر الفحم الحجري بأنواعه، وإلى جانب ذلك نجد أن حوض البو يرتبط بواسطة مجموعة من الممرات الطبيعية والأنفاق الاصطناعية بقلب أوروبا وشمالها عبر جبال الألب، ومن ثم كان لهذا أثره الواضح في سهولة الاتصال والتجارة مع شمال وغرب أوروبا، وعلى هذا فإن مجموعة من الظروف الطبيعية المرتبطة بالموقع وعلاقات المكان والمناخ الملائم والتربة الفيضية والمساقط المائية قد أدت إلى أن يصبح شمال إيطاليا عامة مركز الثقل الإنتاجي الزراعي والصناعي والتجاري والسكاني والحضاري، وذلك على عكس بقية إيطاليا التي تتكون من عدة أحواض نهرية صغيرة تمثل جيوبًا تمتد في وسط وحول سلسلة جبال الأبنين فضلًا عن المناخ غير المنتظم وقلة المياه لمدة طويلة خلال الصيف.

وبطبيعة الحال تزداد الحالة سوءًا كلما توغلنا جنوبًا في شبه الجزيرة الإيطالية حتى نصل إلى أسوأ الظروف — بالنسبة لإيطاليا — في أقصى الجنوب وصقلية.

(٣-٢) العاصمة

روما مدينة كبيرة ذات تاريخ طويل، لكنها اليوم تقع بعيدة عن القلب الاقتصادي والسكاني لإيطاليا، وفضلًا عن ذلك فإنه لا يوجد في إقليم روما المحيط بها أي مصدر من مصادر العمالة الصناعية؛ ولهذا فإن الحياة الاقتصادية في روما تقوم على العمالة الحكومية والإدارية والسياحة وصناعة السينما، وعدد من الصناعات الاستهلاكية كالملابس والأزياء والأغذية.

وقد ترتب على عدم وجود العمالة الصناعية ضعف بارز في الانتماءات السياسية اليسارية عامة في منطقة روما، هذا إلى جانب وجود دولة الفاتيكان التي تؤثر — بطريقة أو أخرى — على تدعيم الأجنحة السياسية المعادية لليسار الإيطالي، وترتب على هذا أيضًا أن منطقة روما أهدأ كثيرًا من مناطق الشمال الصناعية اليسارية، ومن مناطق الجنوب الكثيرة القلاقل بسبب الفقر الذي يؤدي بالسكان إلى التطرف الأيديولوجي بين أقصى اليسار وأقصى اليمين.

(٣-٣) الحدود الإيطالية

لقد ظلت حدود إيطاليا الشمالية مصدرًا من مصادر عدم الاستقرار السياسي المستمر؛ مما كان يؤدي إلى تذبذب خط الحدود، وبعد الحرب العالمية الثانية كان أكبر تعديل في حدود إيطاليا هو ذلك الذي انتاب المنطقة الشمالية الشرقية حينما أعطيت يوجسلافيا شبه جزيرة إستريا وميناء أحرا في تريستا منذ عام ١٩٥٣، وفي منطقة الحدود الفرنسية الإيطالية عدلت الحدود في مساحات ضيقة لصالح فرنسا، وكانت المناطق التي انتابها التعديل هي: ممر سان برنار الصغير الذي يشرف على طريق بريانسون-مودانا، هضبة مون كنيس التي تشرف على تورينو وتمدها بالطاقة المائية، ومنطقة تند بريجا التي تمد محطاتها المائية السكك الحديدية الإيطالية بالطاقة الكهربائية في منطقة ليجوريا والبيدمونت الجنوبية.

وكل هذه المناطق في الواقع كانت المراكز التي هاجمت منها القوات الفاشية الإيطالية جنوب فرنسا خلال بدايات الحرب الثانية، ومن ثم فإن استيلاء فرنسا عليها كان وسيلة من وسائل تأمين حدودها استراتيجيًّا.

وأخيرًا فإن مشكلة التيرول الإيطالي — وخاصة ألت أديجو — لا تزال تشكل مصدرًا من مصادر القلق السياسي بين النمسا وإيطاليا نتيجة وجود عدد كبير من النمساويين في التيرول الذي ضُم لإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى.

(٣-٤) مشكلات جنوب إيطاليا

سبق أن ذكرنا أن جنوب إيطاليا يمثل منطقة ضعف اقتصادي وتخلف اجتماعي بالنسبة لشمال إيطاليا، وذلك بالرغم من وجود بعض المشروعات الصناعية التي تقيمها الحكومة في الجنوب لتحسين أحواله الاقتصادية — وهي مشروعات غير مربحة كثيرًا إذا نظرنا إليها من ناحية الأماكن الصناعية المثلى — إلا أن أهم مورد اقتصادي للجنوب يتمثل في تصدير الأيدي العاملة إلى شمال إيطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وينظر كثير من زعماء الجنوب بعين السخط على شمال إيطاليا الذي يحظى بالنصيب الأوفر من الاستثمارات الصناعية والتجارية.

وعلى هذا النحو كان لشكل الدولة وبنائها المرتبط بعلاقات المكان والظروف الطبيعية المختلفة أثره في هذا التركيب غير المتكافئ بين الشمال والجنوب.

(٤) المنهج الوظيفي

يهتم هذا المنهج بدراسة وظيفة منطقة ما أو إقليم ما كوحدة سياسية، وكل منطقة أو وحدة سياسية تتكون من عدة وحدات سياسية أصغر وخاضعة لسلطان الوحدة الكبرى، ولا بد أن تكون الأقسام السياسية الصغرى مرتبطة ارتباطًا قويًّا بالدولة أكثر من ارتباطاتها ببعضها البعض أو بدولة خارجية، فلكي تقوم الدولة بوظائفها على الوجه الأكمل، فإنه يلزمها أن تكون الوحدة السياسية لكل أقسام الدولة واضحة وقوية ومتناسقة في كل نواحي الحياة الاقتصادية والاستراتيجية، وفي علاقة الدولة ككل بالدول الخارجية.

وعلى هذا فالمنهج الوظيفي يركز على دراسة القوى المركزية للدولة، أو مراكز تقوية الدولة، أو تلك التي تؤدي إلى ضعف معين فيما يختص بالمساحة والمكان.

إن وظيفة الدولة في مجال التجارة الخارجية هي الإبقاء على ميزان تجاري لصالح الدولة وصالح المنتجات الوطنية، ولهذا تفرض كل دولة قوانينها الخاصة على التجارة الخارجية، وتشتمل هذه القوانين على القواعد الجمركية، والمساعدات التي تُقدَّم من أجل تشجيع صادرات معينة، والتشريعات التي تمنع دخول أو خروج سلع معينة، وهذه القوانين عامة ترمز إلى وظيفة الدولة في مجال التجارة الخارجية.

فمثلًا تقود رغبة بريطانيا في تسويق سلعها — وخاصة السيارات والكيميائيات إلى أوروبا الغربية — إلى دخول السوق الأوروبية المشتركة، برغم أن ذلك يؤدي إلى إضعاف علاقات بريطانيا التجارية مع الولايات المتحدة، ويجعلها خاضعة لقوانين الائتلاف الأوروبي الاقتصادي أكثر من خضوعها لمصالحها الخاصة، ولكن يبدو أن العلاقات التجارية مع أوروبا الغربية — بحكم القرب المكاني والكثافة السكانية — أحسن لبريطانيا من مجرد محافظتها على تجارتها الأمريكية.

وعلى وجه العموم فإن القوانين الخاصة بالتجارة لا تُرضي كل فئات المنتجين داخل الدولة الواحدة المتعددة الإنتاج، فمثلًا رفعت الولايات المتحدة الجمارك على وارداتها من القمصان الرجالية اليابانية لكي تحمي إنتاج القميص الأمريكي المركز في منطقة الساحل الشرقي الأمريكي، ويؤدي ارتفاع سعر القميص الأمريكي إلى التوسع بالنسبة لسوق العمل الأمريكي في شرق الولايات المتحدة — نظرًا لرواج الصناعة وتزايد إنتاجها بعد اختفاء المنافس الياباني — ولكن هذه النتيجة الجيدة في القسم الشرقي ليس لها نظير في منطقة الساحل الشمالي الغربي الأمريكي حيث لا تُوجد صناعة كبيرة للقميص؛ ولهذا فإن سكان المنطقة الغربية عامة سوف يقاسون من ارتفاع سعر القميص بدون أن يكون هناك تعويض مماثل لما حدث في الشرق.

ومثال آخر هو عكس هذه الحالة تمامًا، فسكان الساحل الشمالي الغربي الأمريكي يطلبون من الحكومة إصدار تشريعات تحمي حرفة ومنتجات السماكة الأمريكية في هذه المنطقة من منافسة التونة والسلمون الياباني، وعلى هذا فإن إرضاء منطقة ما أو صناعة ما لا يؤدي إلى إرضاء سكان كل مناطق الدولة أو كل صناعاتها، فالمنطقة الوسطى من الولايات المتحدة غير راضية على الحد من منافسة الإنتاج الياباني في مجال القمصان والأسماك على حد سواء، وهي في الوقت نفسه تشجع المساعدات الأمريكية لليابان؛ لأن ذلك يشجع ويرفع واردات اليابان من الأدوات الميكانيكية من أمريكا — وهي الصناعة التي تظهر بوضوح في المنطقة الوسطى من أمريكا — وبعبارة أخرى فإن هذه المساعدات الأمريكية سوف تعود بالنفع على سكان المناطق الوسطى، وتزيد من طاقتهم الإنتاجية في الوقت الذي ينظر فيه سكان شرق وغرب الولايات المتحدة إلى المساعدات الأمريكية لليابان بنظرة غير راضية؛ لأن هذه المساعدات ترفع من قدرة اليابان على منافسة إنتاجهم.

(٥) المكان عنصر جغرافي متغير

بالرغم من أن المناهج الأربعة تختلف اختلافًا كبيرًا فيما بينها إلا أنها تلتقي في عنصر واحد هو «المكان»، ولا شك أن المكان يلعب دورًا هامًّا أو حاسمًا في كثير من الظاهرات الجغرافية والسياسية، ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن المكان برغم أنه عنصر ثابت في حقيقته المجردة، إلا أنه عنصر متحرك ومتغير بصفة مستمرة في ارتباطاته بالإنسان؛ لأن الإنسان في جوهره عنصر متحرك.

لهذا يجب أن نكيف «المكان» بعلاقاته، وبذلك فإن «علاقات المكان» هي أهم ما يجب أن يدور حوله البحث في العلوم الجغرافية عامة والبشرية والسياسية بصفة خاصة؛ لأنها تعبر عن «المكان» المتحرك والمتغير أبدًا.

وقد أكد هالفورد ماكيندر H. Mackinder دور التغير بالنسبة للمكان في دراساته الجيوبوليتيكية حينما عدَّل مرتين نظريته الخاصة بقلب العالم، فقد تكلم عن عنصر الإنسان المتحرك man-Travelling element ليعبر عن الحركة المستمرة للإنسان والأفكار والمنتجات، وكذلك تكلم جان جوتمان Gottmann٧ عن عامل الحركة Circulation movement Factor على أنه يساعدنا على فهم الدوافع والملزمات المؤدية إلى خطط وسياسات معينة، ولكن الحركة تسمح بالمرونة والتغيير في الخطط والقرارات.

وقد أكد جوتمان أن الحركة والأفكار القومية هما القوة الرئيسية في الجغرافيا السياسية، ويفهم جوتمان الحركة على أنها تشمل المواصلات والنقل بكافة أشكالهما، والتجارة الدولية، ويقول إنه بدون حركة لا توجد علاقات دولية على الإطلاق.

وتشتمل دراسة الحركة على ثلاثة أوجه هي: الطريق الذي تتخذه الحركة، وميدان الحركة (يشمل كل منطقة طريق الحركة من البداية إلى النهاية)، وأخيرًا وسيلة الحركة (البر والبحر والجو). وتحديد الحركة على هذا النحو يعطينا على الفور انطباعًا صحيحًا عن أن الحركة في دقائقها ومشتملاتها هي عنصر أو عامل شديد التغير، وأنه يجلب معه تغيرات جذرية على «المكان»، فيحيله من عنصر ثابت إلى عنصر نشط متحرك ومتغير.

وخلاصة ما يتفق عليه المتخصصون في الجغرافيا السياسية أن موضوعات هذا العلم الأساسية هي …

(٥-١) دراسة علاقات المكان داخل الدولة

  • أقاليم القلب والأطراف.

  • علاقة المدن الرئيسية بأقاليمها.

  • علاقة المدن الرئيسية بعضها بالبعض الآخر.

  • التنظيم الإقليمي الداخلي، «المحافظات» وحدودها.

  • مراكز الثقل السياسية في الدولة.

  • التركيب السكاني والسكني والاقتصادي والمواصلات.

  • العلاقة بين الدولة والأقليات (سلالية – لغوية – دينية – اجتماعية).

(٥-٢) دراسة علاقات المكان بين الدول

  • الحدود السياسية الأرضية والمائية والجوية.

  • نوع الحدود الأرضية (طبيعية – بشرية).

  • مشكلات الحدود والعلاقات الدولية.

(٥-٣) دراسة أنماط الدول

  • من حيث المساحة (الدول العملاقة – الدول الصغيرة – الدول القزمية).

  • الموقع والتوجيه (دول الجيوب ودول المدينة القديمة – دول الجبال والممرات – دول الأنهار والسهول – دول الجزر – دول البحر الواحد والدول المطلة على أكثر من بحر – الدول الداخلية – الدول الحاجزة – الدول العالمية).

  • التكتلات الدولية (الأحلاف الكبرى – التجمعات الاقتصادية للإمبراطوريات القديمة – التجمعات الاقتصادية السياسية الحديثة).

هوامش

(١) R. Hartshorn “Political Geography” in “American Geography Inventory and Prospect” ed. Preston Jamcs & Clarence Jones, Syracuse univ. Press 1954.
(٢) L. D. stamp “Applied Geography” (Penguin) 1960. pp. 151–160.
(٣) T. W. Freeman, “A Hundred Years of Geography” Methuen, London, 1965, pp. 205-206.
(٤) S. B. Cohen “Geography and politics in a divided world” Methuen, London, 1964.
(٥) H. Weigert et al, “Principles of Plitical Geography” New York. Appleton. 1957. P. 307.
(٦)
جدول ٢-٢: توزيع اليهود العددي على قارات العالم (١٩٦٩).
المجموع ١٣٥٣٧٠٠٠
أمريكا الشمالي ٦٠٣٥٠٠٠
أوروبا ٤٠٢٥٠٠٠
آسيا ٢٤٦٠٠٠٠
أمريكا الجنوبية ٧٠٥٠٠٠
أفريقيا ٢٣٨٠٠٠
أستراليا ٧٤٠٠٠
مع الأخذ في الاعتبار بأن معظم يهود آسيا هم مركَّزُون في فلسطين.
Britannica Book 1969.
(٧) Gottmann, J. “La Politique des états et leur géographie” Paris, colin, 1952.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤