في الوقت المناسب

كان «الكارت» في نظر «تختخ» هو تذكرة دخولٍ إلى منزل «منصور علي»، وعندما وصل إلى الشارع وجد الأصدقاء قد انصرفوا، ويبدوا أنهم كانوا قد انتهوا من بيع كل الزجاجات … فأخذ يقفز السلالم قفزًا، ثم وقف يلتقط أنفاسه أمام الشقة … يُنصت إلى أية أصوات تصدر منها … ولكن لم تكن هناك أصوات على الإطلاق … فوضع يده على جرس الباب وضغط … وانتظر فترةً طويلةً دون أن يسمع صوتًا، ومرةً أخرى ضغط … وبعد فترة طويلة سمع صوت أقدام، ثم ظهر وجه «منصور» من الباب. قال «منصور» في خشونة: ماذا تُريد؟

تختخ: ألَا تتذكَّرني؟

منصور: لا.

تختخ: إنني الشخص الذي صدمتْه سيارتك في الأسبوع الماضي، وهذا هو «الكارت» الذي أعطيتَه لي.

أمسك «منصور» ﺑ «الكارت»، ونظر فيه بسرعة، ثم قال: وماذا تُريد؟ … كان الحديث كله يدور على الباب، فقال «تختخ» وهو يتكلَّف الابتسام: ألَا تدعوني للدخول؟

منصور: آسف، إنني مشغول الآن.

تختخ: إنني أُريد أن أتحدَّث معكَ حديثًا هامًّا.

كان «تختخ» … ينظر إلى الحلقات الحمراء التي حول عينَي «منصور»، وكان واضحًا أنها نتيجة ضغط شيء صلب عليها … صمت «منصور» لحظات، ثم قال: ادخل.

دخل «تختخ» إلى الشقة التي كانت مغلقة النوافذ، وسار «منصور» أمامه في الصالة حيث أشار له إلى كرسي ليجلس فيه، فجلس «تختخ» وأخذ ينظر حوله، وفجأةً خُيِّل إليه أنه سمع صوتًا مكتومًا يصدر من إحدى الغرف، ولاحظ «منصور» ذلك فقال بخشونة: والآن ماذا تُريد؟

لم يكن عند «تختخ» أي شيء هام يقوله، وكل ما كان يُريده أن يدخل الشقة ويتأكَّد إذا كان «منصور» يراقب «الفيلا» أو لا … فكَّر بسرعة، ثم قال: أُريد كوبًا من الماء إذا سمحت.

قام «منصور» في ضيقٍ متجهًا إلى المطبخ، ولم يكَد يغيب حتى أسرع «تختخ» إلى الغرفة التي تُطل على الشارع، وصحَّ ما توقَّعه الأصدقاء؛ فقد كان الشباك مفتوحًا فتحةً صغيرة، وعلى مائدة بجوار الشباك كانت هناك نظارة مكبِّرة!

أسرع «تختخ» عائدًا إلى الصالة، ولكن قبل أن يصل كان «منصور» قد خرج من المطبخ يحمل كوب الماء … ولم يكَد يرى «تختخ» حتى سقط كوب الماء من يده، وقبل أن يُدرك «تختخ» ما حدث كان الرجل قد انقضَّ عليه كالوحش وأطبق بأصابعه على رقبته … فقد أدرك أن «تختخ» عرف كل شيء!

دار صراع رهيب بين «منصور» و«تختخ» … وكان «منصور» مطبقًا على رقبة «تختخ» ليمنعه من الاستغاثة … وأخذا يتقلَّبان ويقفان ويقعان، ولكن مقاومة «تختخ» أخذت تضعف شيئًا فشيئًا؛ فقد كان «منصور» قويًّا وقاسيًا. وبعد دقائق قليلة أحسَّ «تختخ» برأسه يدور تدريجيًّا … ثم فَقَد الوعي.

عندما أفاق وجد نفسه مربوطًا ومكمَّمًا في مكانٍ مظلم، وعندما اعتادت عيناه الظلام، أدرك أنه في غرفة مغلقة والوقت نهار … فقد كان ضوء الشمس يتسلَّل من خلال فتحات النافذة المغلقة. ودار برأسه في الغرفة، وكم كانت دهشته عندما وجد عينين تنظران إليه! … وسرعان ما عرف أنهما عينا «أشرف» ابن الأستاذ «عبد القادر موسى»! كان كلاهما مكمَّمًا وموثقًا … فتحدَّثا بلغة العيون … وقد عكستْ عينا «أشرف» فرحته أن وجد «تختخ» بجواره.

أخذ «تختخ» … يُفكِّر أين هما، وأدرك أنه لم يُنقل بعيدًا، وفي غالب ظنه ما زال في الشقة … وكانت أصوات الشارع تصل إليه … وظلَّ يُنصت لحظاتٍ فسمع أقدامًا في الصالة … فأدرك أن «منصور» ما زال موجودًا … وأنه يقف أمام الشباك للمراقبة، ويدخل الصالة بين وقت وآخر. وحاول أن يُحرِّك يدَيه فلم يستطِع، وكذلك قدمَيه … ولكن ثقته بنفسه وبالأصدقاء كانت كاملة … فسوف يبحثون عنه سريعًا … ولا بد أنهم سيشكون في شقة «منصور» … ويحضرون سريعًا … ولكن الأصدقاء في تلك الأثناء كانوا مجتمعين في حديقة «عاطف»، وكانوا يتصوَّرون أن «تختخ» قد ذهب إلى القاهرة لمقابلة المفتش «سامي»، أو أنه في مكانٍ ما … خاصةً وأن غيبته لم تطُل.

وفي الوقت نفسه … كانت الحوادث تتحرَّك سريعًا … فقد ذهب «عبد القادر» لمقابلة المفتش في المكان المتفق عليه، وتسلَّم العشرة آلاف جنيه في انتظار مكالمة العصابة، على حين أعدَّ المفتش مجموعةً من الضبَّاط تتحرَّك بمجرَّد الاستماع إلى المكالمة التليفونية.

أمَّا «منصور» فقد وقف خلف النافذة يُسلِّط النظارة المكبِّرة إلى «الفيلا» يُراقب كلَّ حركة فيها … كان مضطربًا بعد حضور «تختخ» المفاجئ، وإدراكه أن مكانه السري قد اكتُشف. لقد كان يعتقد أنه ذكي، وخطف «أشرف» ووضعه على بُعد خطوات من «الفيلا»، حيث ظنَّ أنه لا يمكن لأحد أن يتصوَّر أنه في هذا المكان … وها هو هذا الولد يكتشف مخبأه! وظلَّ يُسائل نفسه هل أبلغ «عبد القادر» رجال الشرطة؟ وهل هناك كمين في انتظاره، أم أن الولد الذي قبض عليه كان يعمل بمفرده؟!

عندما وصل إلى هذا الحد من التفكير قرَّر أن يستدعي «تختخ» ويُناقشه، فأخرج مسدَّسًا من حزامه … وتأكَّد من وضع الرصاص فيه، ثم دخل الغرفة المظلمة وأضاء النور، وقال: سأفك فمكَ وأتحدَّث إليك … ولكن إذا حاولتَ أن تستغيث فستكون حياتك وحياة هذا الولد في خطر.

ثم تقدَّم وفكَّ الرباط الذي يربط فم «تختخ» وقال: ما هي صلتك بهذا الولد؟ وأشار إلى «أشرف».

فقال «تختخ» وقد قرَّر أن يُضلِّله: لا أعرفه …

منصور لماذا جئتَ إلى هنا؟ …

تختخ: لقد جئتُ لزيارتك …

منصور: إنك تكذب! … فقد رأيتُك تدخل منزل «عبد القادر موسى» بضع مرات، ولا بد أنك تعرفهم. أدركَ «تختخ» أن خطته لم تُفلح، وأن «منصور» يعرف تحرُّكاته.

فقال: إذا حدَّثتني بصراحة سأُحدِّثك بنفس الصراحة.

منصور: إنني أسألك وعليك أن تُجيب بصدق … وإلا … ثم هزَّ مسدَّسه في يده منذرًا …

تختخ: وماذا تُريد أن تعرف؟

منصور: هل يعلم رجال الشرطة بالخطف؟

تختخ: نعم …

منصور: وهل المنزل مراقب؟

تختخ: لا أدري.

منصور: وما هي علاقتك بهذا الولد؟

تختخ: إنه قريبي …

منصور: هل تعرف أن أباه مختلس، وقد اختلس ٢٠ ألف جنيه منذ عشرة أعوام واختفى؟

تختخ: أنت مخطئ … ﻓ «عبد القادر موسى» الذي تبحث عنه ليس هو «عبد القادر موسى» والد «أشرف». لقد وقعتَ في خطأ كبير!

منصور: هذا كلام فارغ!

تختخ: بل هذه هي الحقيقة … إن «عبد القادر موسى» المختلس، وشريك «علي الشرقاوي»، وصاحب «الفيلا»، شخص آخر تمامًا غير «عبد القادر موسى» الذي يسكن «الفيلا» الآن والذي اختطفت ابنه!

هبطت هذه المعلومات على «منصور» هبوط الصاعقة، ولكنه لم يستطِع أن يُصدِّقها، فعاد يتحدَّث في غضب: إنك ملفق! … وتُحاول خداعي!

تختخ: لك أن تُصدِّق أو لا تُصدِّق … ولكن «عبد القادر موسى» … والد «أشرف» قريبي أعرف كل شيء عنه … وقد شككتُ فيه عندما وقعتْ هذه الحوادث، ولكن أبي وأمي أكَّدا لي أنه رجل شريف، ولم يحدث مطلقًا أن اشترك في أي اختلاس … كما أنه لا يملك سوى مرتبه …

منصور: هذا غير صحيح.

تختخ: هذه هي الحقيقة … وكما قلتُ لكَ قد شككتُ في الموضوع كلِّه عندما طلبتَ الفدية، وقمنا ببحثٍ طويل، واتضح لنا أن «عبد القادر موسى» المختلس وشريك «علي الشرقاوي» قد وكَّل أحد المحامين في إدارة أملاكه، ثم اختفى ولا أحد يعرف مكانه، وقد ترك «الفيلا» خاليةً واشترط ألَّا يسكنها إلا شخص اسمه «عبد القادر موسى»؛ فقد كان يتوقَّع انتقام شريكه الذي دخل السجن … وكان يعرف أن «علي الشرقاوي» سوف يقول القصة لزملائه في السجن، وهؤلاء سيسعَون خلفه عندما يخرجون، وسوف يُحاولون الحصول على العشرين ألف جنيه.

منصور: لقد كنتُ نزيلًا في السجن مع «علي الشرقاوي»، وقال لي كل هذا قبل أن يموت، ورجاني أن أنتقم له، وأحصل من «عبد القادر موسى» على نصيبه في المبلغ المختلَس.

تختخ: ولكنكَ وقعتَ في خطأ كبير، واختطفتَ «أشرف» بناءً على هذا الخطأ، ومن الأفضل لكَ أن تستسلم للشرطة وتُوضِّح لهم المسألة، وأعتقد أن هذا يُساعدك في الحصول على عقوبة خفيفة.

أخذ «منصور» يُفكِّر في عمق … وهو يهز رأسه بين فترة وأخرى كأنما يطرد عن خاطره أفكارًا معيَّنة …

وعاد «تختخ» يقول: إنني أنصحك أن تفعل هذا فورًا؛ فأنتَ لن تنجو من قبضة رجال الشرطة.

منصور: لا أستطيع أن أستسلم للبوليس … لقد هربتُ من السجن قبل نهاية العقوبة … واختطفتُ هذا الولد … ففي انتظاري عقوبتان بدلًا من عقوبة واحدة!

تختخ: إنني أعرف المفتش «سامي» مدير المباحث الجنائية، وسوف أشرح له كل شيء … وأعتقد أنه قد يُساعدك.

ظلَّ «منصور» صامتًا برهة، ثم قال: لا … إن في إمكاني أن أحصل على الفدية وأهرب … لقد دبَّرت خطتي بدقة، ولن يستطيع رجال الشرطة أن يصلوا إليَّ … وقد أصبح في يدَي رهينتان بدلًا من واحدة.

ثم تقدَّم «منصور» وربط فم «تختخ» مرةً أخرى، وأغلق باب الغرفة عليه وعلى «أشرف» وانصرف … وسمع «تختخ» صوت أقدامه وهو يتحرَّك في الصالة … ثم سمعه يرفع سماعة التليفون ويطلب رقمًا … وحاول الاستماع إلى ما يقول ولكنه لم يستطِع … ووضع «منصور» السمَّاعة، وعاد الصمت من جديد، ولكن فجأةً سمع «تختخ» صوتًا في الشارع … صوتًا يعرفه جيدًا ويُحبه، وأحسَّ بقلبه يرقص من الفرح … فلا بد أن صاحب الصوت سوف يدل الأصدقاء على مكانه، وستحدث أشياء كثيرة في الساعات القادمة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤