الفصل الثاني والأربعون

المناجاة

فلْنَدعِ الفضل في مساعيه، ولنعد إلى الرشيد، فقد تركناه في الإيوان وحده، فلما خلا بنفسه ساءه خروج إسماعيل على تلك الصورة مع رفعة مقامه، وجلال قدره، فأخذ يفكر فيما دار بينهما، ويردد ما قاله له، فلم يجد في إمكانه أن يفعل غير ما فعله، فجعل يخطر في الإيوان جيئة وذهابًا، وقد ذهب عنه الغضب وتراكمت عليه الهواجس، فتذكر حاله مع وزيره، وما بلغ إليه من نفوذ الكلمة عنده، حتى أصبح أكثر وجاهة ونفوذًا من أبناء عمه، ثم عاد إلى صوابه، فرأى أنه مضطر لذلك ببواعث كثيرة؛ لأن الوزير قابض على مصالح الدولة يدير شئونها، ويتصرف في أعمالها بحكمة ودراية، وقد أراحه من مشاغلها، وخفف عنه أثقالها، فضلًا عما بينهما من روابط الولاء والمحبة، وما لأبيه يحيى من الفضل عليه، وهو الذي أقامه على منصة الخلافة بحسن تدبيره. ثم اعترض حسن ظنه به ما يعلمه من ميله إلى الشيعة العلوية، وما يراه من كثرة الطاعنين عليه، ولكنه كان يحمل طعنهم عليه محمل الحسد منه.

وبينما هو يمشي في الغرفة ويفكر على هذه الصورة إذ لاحت منه التفاتة إلى السرير، فرأى القضيب الذي كان قد وضعه هناك، فتقدم ليتناوله ويتشاغل به في أثناء هواجسه، فوقع نظره على بطاقة وراء الوسادة فالتقطها وفضَّها وقرأها، فإذا فيها الأبيات التي قرأتها أم جعفر زوجته على ابنها محمد، وقد تقدم ذكرها. فلما بلَغ إلى قوله:

ونحن نخشى أنه وارث
ملكك إن غيَّبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد

توارد الدم إلى رأسه وحمي غضبه، فأعاد النظر إلى البطاقة فقرأها ثانية وهو يُعمل الفكرة، وقد نسي البحث عن سبب وضعها هناك لعظم ما كان من تأثيرها على ذهنه، فعاد إلى التفكير في جعفر، وما بلغ إليه من الثروة والاستبداد حتى يزوج بنات الخليفة، ويولي الأمصار لمن يشاء، ويهب الأموال بلا مشورة؛ لا يخشى بأسًا، ولا يخاف اعتراضًا، فقال في نفسه: «لقد آن لك يا هارون أن تستيقظ من نومك، وتنظر في أمر هذا المولَى وما بلغ من تطاوله، فإنه لا يلبث أن يمد يده إلى أعظم من ذلك، والعياذ بالله!» ثم وثب من موقفه والقضيب مشهر بيده كأنه يهاجم عدوًّا وهو يقول:

إن سهامنا إذا وقعت
بقدر ما تعلو بها رتبه
وإذا بدت للنمل أجنحة
حتى يطير فقد دنا عطبه١

ثم تراجع ونظر حوله، فرأى ما هو فيه من النعيم والأبهة، وتصور أنه إذا مات أفضى الأمر إلى جعفر؛ لأنه لا يجهل ضعف ابنه الأمين، ويعرف قوة المأمون؛ وهو ابنه أيضًا، ولكن يميل إلى الفرس؛ لأنه ربي في حجر جعفر، وشب على حب الشيعة، فإذا أفضى إليه الأمر وجعفر حي خرجت الخلافة من بني العباس، فندم على تسليم المأمون إلى جعفر، وإهمال الأمر الذي كان ينبغي أن ينظر فيه قبل كل شيء؛ وهو بقاء الدولة لبني العباس، ثم تذكر كيف حرَّضه جعفر على المبايعة للمأمون، ولم يكفَّ عنه حتى أطاعه، فتوهم أن ذلك إنما فعله لينقل الخلافة إلى الشيعة بعد ذهابها من يد الأمين، فصرَّ على أسنانه ندمًا، ثم عض أنملته وهز رأسه وقال:

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني
عدلت عن الأمر الذي كان أحزما
فكيف يرد الدر في الضرع بعدما
توزع حتى صار نهبًا مقسمَا؟
أخاف التواء الأمر بعد استوائه
وأن يُنقض الحبل الذي كان أُبرما

وعاد فرجع إلى رشده وأعمل فكرته في حقيقة الواقع، فغلب عليه الخوف من جعفر لما يعلمه من كثرة مريديه وأنصاره، وفيهم جماعة كبيرة من خيرة رجال الدولة، حتى بني هاشم ممن غمَرهم بعطاياه، وأسَرَهم بأفضاله، فكانت هذه الهواجس تتردد في مخيلته وهو يمشي في الإيوان، ويداه وراء ظهره. واتَّفق وهو في ذلك أن وقف أمام الستار، فقرأ عليه بيتين مطرزين بالقصب هذا نصهما:

وإياك والأمر الذي إن توسعت
موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه
وليس له من سائر الناس عاذر

فلما قرأهما أمسك نفسه وعاد إلى صوابه، ونظر إلى البطاقة التي في يده وقال: «لعل الذي كتب هذه الأبيات من حسَّاد جعفر، وهم كثيرون، وإني على أي حال صابر له أترقب الفرصة للاطِّلاع على الحقيقة.»

١  المسعودي، الجزء الثاني، ٢٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤