شهرة المتنبي١

رُزق المتنبي من الشهرة واشتغال الناس بأمره حظًّا لم يرزقه أحد قبله ولا بعده من شعراء العرب، رزقه في حياته وبعد مماته، فأما في حياته فقد سار شعره كل مسير، ورويت قصائده في كل أرض فيها لافظ بالعربية، واشتد التعصب له والتعصب عليه بين المتأدبين وغيرهم حتى بلغ الأمر بالفريقين حد الهوس والجنون، قال بعض أصحاب ابن العميد: «دخلت عليه يومًا قبل أن يتصل به المتنبي فوجدته واجمًا وكانت قد ماتت أخته من قريب فظننته واجدًا لأجلها فقلت: لا يحزن الله الوزير فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمد ذكره! فقد ورد علي نيف وستون كتابًا في التعزية ما منها ألا قد صدر بقوله:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملًا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

فكيف السبيل إلى إخماد ذكره! فقلت له: القدر لا يُغالب! الرجل ذو حظ في إشاعة الذكر واشتهار الاسم، فالأولى أن لا تشغل فكرك بهذا الأمر.» وليلاحظ أن المتنبي نظم القصيدة التي منها البيتان في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وأنه اتصل بابن العميد في أوائل سنة أربع وخمسين، وكانت وفاة أخت ابن العميد قبل ذلك بأشهر، فكأن القصيدة جابت الأقطار العربية في نحو سنة واحدة أو أقل.

وكان رجل من بغداد كلما وصل إلى بلد سمع به ذكر المتنبي رحل عنه، حتى إذا وصل إلى أقصى بلاد الترك سأل عن المتنبي فلم يعرفوه فتوطنه، فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى الجامع فسمع الخطيب ينشد بعد ذكر أسماء الله الحسنى قول أبي الطيب في عضد الدولة:

أساميًا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها

فعاد إلى بغداد.

فأنت ترى أن شهرة هذا الرجل في عصره قد صارت كالهدر الذي لا يُغالب، ولا تنجع فيه حيلة غير التسليم على رغم الصبر على مضض؛ وقد انبسطت له دولة في الأدب لا يكون الذي يحاول الخروج منها إلا كمن يحاول الخروج من أرض ربه وسمائه! فلن يستجير الآبق منها بمعتصم، ولن يعيذه من النظر إليها عمًى ولا من سماع دويها صمم، وهو الذي قال:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم

وهو القائل:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا

ولعمري إنه لفتح في الأدب لم يسمع بمثله في فتوح شعرائنا العرب من أقدمين أو محدثين، وملك شمل رقعة العربية في عهد تنازع فيه هذه الرقعة عشرات الولاة والمالكين، أما بعد الممات فقد ذهب المختلف فيه وبقي الخلاف على أشده، أغرم الناس بديوان المتنبي، فتناولوه حفظًا ونقلًا وأمعنوا فيه تقريظًا ونقدًا، فمن شارح له ومن منقب عن سرقاته، ومن ملتمس له العذر، ومن مشدد عليه النكير، حتى صار للمتنبي وحده أدب خاص قائم بنفسه في ديوان آداب العرب، وكُتب عنه ما يوازي كل ما كُتب عن شعرائهم في عصر كامل من عصورهم، ولأمر ما لقي الرجل هذا الحظ من الشهرة الواسعة التي لا مثيل لها فما هو هذا الأمر؟ ألأنه شاعر عظيم؟! لا شك عندنا في عظمته الشعرية، ولكن كم من شاعر عظيم غيره عاش ومات ولم يشعر به أحد ولم يزل خامل الذكر مغمور الشعر حتى قيضت له الأيام من ينصفه وينبه الناس إلى مكانه، وكم من شويعر حقير ذاعت له شهرة لم يصبها معاصروه ممن هم أجود منه شعرًا وأرفع في الأدب مقامًا، ثم نسيها الناس فواراها الخمول ودفنها في قبر لا نشور منه؟ فالعظمة سبب من أسباب شهرة المتنبي وسيرورة كلامه بلا ريب، ولكنها ليست بالسبب الأول الأقوى، ولا هي مما ينيل الشهرة في كل حال، ولا بد من سبب آخر هو السبب الأقوى والمنبه الأكبر إلى جدارة تلك العظمة ورجاحة ذلك الشعر فما هو؟

هو الحسد الذي جنى على الرجل وأجناه؟

نعم هو الحسد ناشر كل فضيلة مطوية كما قال أبو تمام في بيتيه الصادقين البليغين اللذين سارا على كل لسان، هو ناشر فضيلة المتنبي ومفشي ما في قريحته من طيب بما أشعل فيها من نار، هو المحنة التي عرفها المتنبي فشكاها مر الشكوى والنعمة التي لم يعرفها ففاته أن يشكرها ويشد بفضلها، وحسبك أن تتصفح ديوانه فتعرف من تكرار ذكر الحسد فيه أي عارك عرك نفسه من حسد الحساد، وأي حيز شغله هذا الشاغل من تلك النفس المعذبة بمناهضة الزمن وخيبة الأمل، وأن تعيش بين أعداء لها ما من صداقتهم بد وأن يضن عليها الزمن حتى بالعدو المداجي بعد إذ قنعت من الصداقة بالابتسام، وشكت في كل من تصطفيه؛ لأنه بعض الأنام، فلا تكاد تخلو قصيدة للمتنبي من ذكر الحسد بلفظه أو بمعناه، ومن الإيماء تارةً إلى حساد ممدوحيه، وتارةً أخرى إلى حساده هو، حتى لقد رمى الماء بالحسد والمنافسة حين أحاط بدار سيف الدولة فقال حين مد نهر قويق فقطع الطريق إلى تلك الدار:

يا ماء هل حسدتنا معينه
أم اشتهيت أن ترى قرينه؟!

ورمى البلدان أيضًا بالحسد فقال:

تحاسدت البلدان حتى لو أنها
نفوس لسار الشرق والغرب نحوكا

وهذا لا يكون إلا من اشتغال الذهن بهذا المعنى وسرعة وروده على الخاطر وقرب مأتاه من الخيال، ولا حاجة بنا إلى استقصاء كلامه الذي ورد فيه الحسد؛ فإنه كثير متشابه، ولكننا نجتزئ منه ببيت واحد هو قوله:

ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باك منه محسود

ثم نجتزئ من تاريخ حياته بشيء واحد هو تسميته ابنه «محسدًا» وما هو من الأسماء المطروقة ولا المحبوبة، فيدلنا ذلك على ما لقيه الرجل من محنة الحسد ونكاية المنافسين، وأنه قد أصابه من هذا الأذى ما لم يصب أحدًا من الشعراء الذين كانوا أسعد حظًّا منه أو أسوأ حظًّا لا ندري.

وإنما مُني المتنبي بهذا الحسد الذي خُص به من بين كبار شعراء العرب؛ لأنه نشأ في عصر التنافس أو عصر الحسد، فلقد نشأ في عصر كان يتنازع فيه الملك والسمعة دول شتى وقادة كثيرون، كان في الأندلس بنو أمية، وفي المغرب من إفريقية العبيديون، وفي مصر والشام بنو الإخشيد، وفي حلب والجزيرة بنو حمدان، وفي العراق بنو بويه، وفي البحرين وعمان واليمامة القرامطة، وفي خراسان آل سامان، وفي كل مكان من فارس دويلات صغيرات لا تزال منذ قيامها إلى أن تتوارى وتندثر في خصام بينها ولجاج وحروب بالسيف واللسان، وربما نجم في الدولة الواحدة عدد من الأمراء يستأثر كل منهم بولاية أو شقة من ولاية متربصًا بجيرانه متطلعًا إليهم طامعًا في اغتصاب أرضهم محاذرًا أن يغصبوه أرضه، وما من هؤلاء الأمراء والقادة كبارًا كانوا أم صغارًا إلا من يتسامى للظهور بين أنداده ويستعد للعلو والتفوق على جيرانه، فكلهم ناظر إلى صاحبه كاره لظهوره ورفعته حريص على أن لا يسبقه غيره في قنية أو حلية أو عدة مما يتفاخر به الملوك ويتناظر فيه ذوو السلطان، وهم أحرص ما يكونون على اقتناء الوسائط التي يتم بها نشر الدعوة واستفاضة الذكر واكتساب الصيت والحمد، وبأي واسطة يتم ذلك إلا أن نكون لسان شاعر كبير ينظم القصيدة في مدح أمير منهم، فيسير بها الرواة في بلاد الأمراء كافة، ويصبح بها ذلك الأمير ممدوحًا في بلاد أعدائه، معظمًا على مسمع من حساده ونظرائه؟ فإذا ظهر في هذا المجال المزدحم بالمنافسات والمنابذات والدسائس والنكايات شاعر ذو شأن يُذكر كصاحبنا أبي الطيب، فلا غرابة في أن ينصب عليه كل ما في تلك المنافسات من خيرات وشرور، وأن يتجه إليه كل ما في نفوس أبناء العصر من آمال وأحقاد، وأن يشتهر ذكره بالمدح والقدح وتلتف به زوبعة من التشيع والمقت، ومن عرف شيئًا ولو يسيرًا من دسائس الحواشي والبلاطات فقد عرف كيف يجوز أن يستفيد المتنبي في ذلك العصر من حيث لا يحتسب، وكيف يجوز أن تأتيه العداوة من حيث لا يقدر، فربما كان في بلاد أحد الأمراء فئة من الشعراء والأدباء لا يعرفون المتنبي ولا يحبونه، ولكن يدعوهم حقد بعضهم على بعض إلى التنويه بقدره والترنم بشعره والتطوع لنشره والغض من شعر غيره، أو يكون بين الأمراء والرؤساء من يتوقع أن يترفع المتنبي عن مدحه ومساواته بأمثاله فيبدؤه بالعداوة ويتحامل عليه بالذم قبل أن يرى منه ما يستحق عداوته وذمه، وقد يسوء الأمراء أن لا يجدوا ضريبه في بلادهم فيبغضونه ويغرون به السفهاء أو يطمعونهم فيه، كما ساء معز الدولة ببغداد في رواية الحاتمي «أن يرد على حضرته رجل صدر عن حضرة عدوه، ولم يكن بمملكته أحد يماثله فيما هو فيه» فمثل هذا الشاعر لا يستطيع أن يقول قصيدة إلا أساء بها إلى كثيرين، وأحسن بها إلى كثيرين دون أن يقصد إلى الإساءة أو الإحسان، ومثل هذا الشاعر يشترك في رفع قدره أنصاره وأعداؤه، ويتبارى في حفظ شعره القريبون منه والبعيدون عنه، ومتى وجد التنافس فقد يتنافس الناس على الزهيد المهين الذي لا قيمة له عند واحد منهم، بل قد يتنافسون على لا شيء حبًّا في الغلب والاستئثار وتلذذًا بالتسابق والنظار، فما بالك بما تكون له قيمة كبيرة في ذاته، وبما لا يتم الجمال والرواء للأمير والدولة إلا به؟ لا جرم يكون هذا هدف الرجاء والبغض، وملتقى الوصاية والوشاية، ويحق له أن يقول:

أُعادَى على ما يوجب الحب للفتى
وأهدأ والأفكار فيَّ تجول

فمن ثم اعتز المتنبي بشعره فلم يبذله لكل من يطلبه، وتسابق الأمراء إلى طلب المدح منه لئلا يُقال: إنهم دون من قصدهم بمدحه، وكتبوا إليه من كل صوب يستقدمونه، فما جاء أحدًا إلا مدعوًّا مكرمًا، وبلغ من اهتمام كافور بزيارته أنه كان يسأل عن مسيره ومقامه ويكاتب واليه على دمشق في استزارته ويلح في ذلك، والمتنبي لا يُجيب، حتى إذا نبت دمشق بأبي الطيب فسار إلى الرملة، فحمل إليه أميرها الحسن بن طغج هدايا نفيسة وخلع عليه وحمله على فرس بموكب ثقيل وقلده سيفًا محلى، فكان كافور يقول لأصحابه: «أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا» وقد قبل سيف الدولة أن ينشده الشعر جالسًا خلافًا لعادة الشعراء في الإنشاد، واحتمل كافور منه أن يخاطبه خطاب الأنداد للأنداد.

وأكثر من ذلك أن طاهرًا العلوي «نزل للمتنبي عن سريره والتقاه مسلمًا عليه، ثم أخذ بيده فأجلسه في المرتبة التي كان فيها وجلس هو بين يديه، فتحدث معه طويلًا ثم أنشده أبو الطيب فخلع عليه للوقت خلعًا نفيسة، قال علي بن القاسم: كنت حاضرًا هذا المجلس، فما رأيت ولا سمعت أن شاعرًا جلس الممدوح بين يديه مستمعًا لمدحه غير أبي الطيب.»

وقد كانوا لا يكتفون بإحراز مدائحه حتى يستطلعوا رأيه فيهم ويستخبروه عما عنده من التبجيل لهم وما يكنه من التفضيل بينهم، فكان عضد الدولة يخلع عليه ويجزل له العطاء ويزيده على أعطية سيف الدولة ثم يبعث إليه بمن يسأله: أين عطاء سيف الدولة من هذا؟! وكان كافور يمتحنه ويدس إليه من يقول له: «لقد طال قيامك في مجلس كافور» يريد أن يعلم ما في نفسه، وما كانوا ليحفلوا برأيه فيهم هذا الحفل لولا التناظر والتناحر ورغبة كل منهم في أن يرى نفسه وأن يراه غيره خيرًا من كل حاكم وأمير في زمانه، ولا شك أن هذا الاحتفاء بالمتنبي مما يعظم خطره، ويكبر هيبته، ومما يزيد عدد حساده والمتتبعين لشعره، فكلما احتفل به الأمراء والرؤساء لغط الناس بأمره، وكلما لغط الناس بأمره احتفل به الأمراء والرؤساء، وجميع ذلك منتهٍ إلى نهاية واحدة هي نباهة الشأن وسيرورة الكلام.

إن دسائس البلاد كثيرًا ما خلقت شيئًا من لا شيء، وأرثت نيران الضغائن والمشاحنات في غير موجب للضغينة والشحناء، وإذا تناولت هذه الدسائس خلافًا على فكرة في الآداب أو الفنون، فغير بعيد أن تجمع فيه كل ما تشعب من الخلافات على شئون الملك والسياسة ومآرب الأفراد والأحزاب، وأن تحول إليه كل ما يتفرع من جداول الميول والمشارب في قرارات النفوس، حتى لينسى الناس أنهم مختلفون على شيء آخر غير هذه الفكرة الأدبية أو الفنية، أو يصبغوا كل ما اختلفوا عليه في الموضوعات الأخرى بلون هذه الفكرة، كما حدث في فرنسا بين الموسيقيين الكبيرين «جلوك» و«بتشيني» حين اشتعلت نار الغيرة بين حليلة الملك وخليلته.

فقد استدعت ماري أنطوانيت ملكة فرنسا «جلوك» الألماني واجتبته وأظلته برعايتها وإقبالها، فما لبثت مدام دوباري عشيقة الملك أن غارت من ضرتها الشرعية، فبحثت عن موسيقي آخر يستظل برعايتها، فهديت إلى بتشيني الإيطالي فجاء على جناح السرعة، جاء إلى باريس وأكب على العمل سرًّا ليفاجئ الناس بآية من آيات فنه فيكون وقع ظهوره أبلغ وأسطع، ولكن احتجابه لم يطل وشاع خبر قدومه فانقسمت العاصمة الظريفة إلى معسكرين نافرين متوثبين، ثم احتدم الخصام فتراشق الفريقان بالأهاجي والرسائل والنكات والمغامز، وسرى الخلاف إلى كل مكان فدخل فيه العلية والسفلة وتصايح الناس بالمفاضلة بين الموسيقيين الكبيرين فيما يفقهون من فنهما، ووصل النزاع إلى الفلاسفة وقادة الأفكار، فتشيع دالمبرت ولاهارب ومارمونتل إلى جانب بتشيني، وتشيع روسو وسوار دي روليه إلى جانب جلوك، ودام الحال على ذلك برهة ألهت الخاصة والعامة عما بينهم من المنازعات السياسية والترات الدينية، فكانوا لا يسألون عن المرء أمن هذا الحزب هو أم من ذاك، ومن المؤمنين هو أم من الملحدين، ولكنهم يسألون: أهو من شيعة جلوك، أم من شيعة بتشيني؟ قال فريس المؤرخ الموسيقي: فكان ربما ترتب على الجواب تطرق العداء إلى أبناء البيت الواحد، وتفرق الشمل بين أعز الرفاق وأقدم الأصدقاء، وفي أي عهد يحدث هذا؟ في العهد الذي تقبل فيه فرنسا على ثورتها الكبرى، وتهتز فيه أركان عرشها بزلازل الفوضى المقتربة وضربات الخسائر السياسية في الشرق والغرب! ولأي شيء يحدث هذا؟ لأجل التنافس بين حليلة وخليلة في بلاط واحد! فما ظنك بمنافسة العشرات من الأمراء حولهم المئات من الوزراء والرؤساء، وراءهم الألوف من الأشياع والتبعاء، بينهم من لا يُحصى لهم عدد من الشعراء والرواة والسامعين والقراء؟ أكثير على هذا الحريق المضطرم من الفتن والعداوات السياسية والأدبية وما يتخللها من الحفائظ الجنسية والدينية، أن يكشف للناس عن مكان شاعر واحد من أعلام القريض والبيان؟

فإلى ذلك يعود جانب كبير من شهرة المتنبي وعناية الناس به، وهذا ما استفاده اسمه من حالة عصره، أما ما استفاده من شعره وشخصه وهو جانب آخر غير يسير فسنكتب عنه في المقال التالي.

١  البلاغ في ١٩ ديسمبر سنة سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤