الأميرُ الحادِيَ وَالخَمْسُونَ

(١) تَمْهِيدُ القِصَّةِ

هذه قِصَّةٌ أكثَرُ ما فِيها عَجِيبٌ، وَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى نَقْلِ ما أَمْكَنَ نَقْلُهُ مِنْها، لِما فِيها مِنْ طَرائِفَ نادِرَةٍ. وَلَمْ يُقَلِّلْ مِنْ قِيمَتِها ما ضاعَ مِنْها عَلَى مَرِّ الأَجْيالِ. فَقَدْ كانَ لِحُسْنِ الحَظِّ قَلِيلَ الأَثَرِ، لا يُقَدِّمُ فِي حَوادِثِها وَلا يُؤَخِّرُ.

وَإلَيْكَ ما أَبْقَاهُ الزَّمَنُ مِنْ حَوادِثِها وَصُوَرِها، وَخَلَّفَهُ لَنا مِنْ عِظاتِها وَعِبَرِها.

(٢) «هِبَةُ اللهِ» وَ«حَنْظَلَةُ»

كانَ «هِبَةُ اللهِ» وَحِيدَ أُمِّهِ «فَيْرُوزَةَ»، وَآخِرَ أَبْناءِ أَبِيهِ السُّلْطانِ «قابُوسَ». وَكانَ السُّلْطانُ «قابُوسُ» قَدْ تَزَوَّجَ «فَيْرُوزَةَ» بَعْدَ أَنْ بَلَغَ عَدَدُ أَوْلادِهِ خَمسِينَ. وَلَم يُحَدِّثْنا رُواةُ القِصَّةِ: كَيْفَ أَنْجَبَ هذا الْعَدَدَ الضَّخْمَ مِنَ الأَبْناءِ، كَمَا نَسُوا أَنْ يَذْكُرُوا أَسْماءَهُمْ وَأَسْماءَ أُمَّهاتِهِمْ. وحَسَنًا فَعَلُوا. فَما بِكَ حاجَةٌ إِلَى أَمْثالِ هذِهِ التَّفاصِيلِ.

وَما يَنْفَعُكَ أَنْ تَعْرِفَ أَسْماءَ جَماعَةٍ، أَكْثَرُهُمْ مِنَ الضِّعافِ الْكُسالَى، الَّذِينَ قَضَوْا أَعْمارَهُمُ الطَّوِيلَةَ دُونَ أن يَتْرُكُوا أَثَرًا باقِيًا؟ حَسْبُكَ أَنْ تَعْرِفَ مِنْ بَيْنهِمُ اسْمَيْنِ: أحَدُهُما لا يُذْكَرُ بِغَيْرِ الثناءِ والإكْبارِ، والآخَرُ لا يُذْكَرُ بِغَيْرِ اللَّعْنَةِ والاحْتِقارِ. وَبِضِدِّها تتَمَيَّزُ الأَشْياءُ. أَمَّا أَوَّلُهُما فَهُوَ بَطَلُ قِصَّتِنا الأمِيرُ الحَادِيَ والخَمْسُونَ، وَاسْمُهُ «هِبَةُ اللهِ». وَكانَ يَتَجَلَّى فِيهِ الْخَيْرُ، وَتَعْتَزُّ بِهِ المُرُوءَةُ، وَيَرْضَى عَنْهُ اللهُ.

وَأَمَّا الثانِي فَهُوَ الأَمِيرُ الثَّامِنَ عَشَرَ، وَاسْمُهُ «حَنْظَلَةُ». وَكانَ — عَلَى العَكْسِ مِنْهُ — يَتَجَلَّى فِيهِ الشَّرُّ، وَيَعْتَزُّ بِهِ الشَّيْطانُ، وَيَلْعَنُهُ اللهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِما مَزِيَّةٌ، إِلَّا قابَلَها فِي الْآخَرِ نَقِيصَةٌ؛ وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ.

وَقَد سُمِّيَ أَبُوهُما «قابُوسَ»، فَكانَ اسْمًا عَلَى مُسَمًّى، أَعْنِي أَنَّ اسْمَهُ كانَ مُطابِقًا لِوَصْفِهِ؛ فَقَدْ كانَ رائِعَ السَّمْتِ (الهَيئَةِ)، بَهِيَّ الطَّلْعَةِ، جَمِيلَ الصُّورَةِ.

وَقَدْ غَضِبَ السُّلْطانُ «قابُوسُ» عَلَى زَوْجَتِهِ الوَفِيَّةِ المُخْلِصَةِ «فَيْرُوزَةَ» — وَلَمْ يُحَدِّثْنا الرُّواةُ ماذا أغْضَبَهُ مِنْها — فطَرَدَها مِنْ قَصْرِهِ، وَهِيَ حامِلٌ، وَأَعادَها إلَى عَمِّها السُّلْطانِ «بَهْرامَ».

لَمْ يُحَدِّثْنا أَحَدٌ: لِماذا أَبْغَضَها السُّلْطانُ، وَصَبَّ عَلَيْها نِقْمَتَهُ؟ وَإْن كانَ أَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّ لِلأَمِيرِ الثَّامِنَ عَشَرَ يَدًا فِي تِلْكَ المُؤَامَرَةِ، الَّتِي انْتَهَتْ بِتَحْوِيلِ قَلْبَيْهِما، وَتَنْغِيصِ عَيْشِهِما. وَلا زالَ الأَشْرارُ — فِي كُلِّ زَمَنٍ — مُولَعِينَ بالإِساءَةِ إِلَى الْأَخْيارِ، بِكُلِّ ما وَسِعَتْهُ نُفُوسُهُمُ الوَضِيعَةُ، مِنْ دَسائِسَ وَأَذِيَّاتٍ، وَمَكايِدَ وَإِساءاتٍ. وَقَدِيمًا قالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: «لا تَزالُ الأُسْرَةُ بِخَيْرٍ، ما لَمْ يُوجَدْ بَيْنَها مُفْسِدٌ.»

(٣) نَشْأَةُ الْبَطَلِ

وَكَأَنَّما شاءَتْ إِرادَةُ اللهِ أَنْ تَنْطَوِيَ هذِهِ النِّقْمَةُ، عَلَى نِعْمَةٍ أَيِّ نِعْمَةٍ. فانْصَرَفَ السُّلْطانُ «بَهْرامُ» إلَى العِنايَةِ بِتَنْشِئَةِ ابْنِ أَخِيهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ وُسْعًا فِي تَزْوِيدِهِ بِفُنُونِ المَعْرِفَةِ. وَوَكَلَ ذلِكَ إلَى أَقْدَرِ المُدَرِّسِينَ، وأَبْرَعِ الفُرْسانِ. فاكْتَسَبَ الْفَتَى — فِي قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ — ما لا يَكْتَسِبُهُ غَيْرُهُ فِي أعْوامٍ طِوالٍ؛ مِنْ ثَقافَةٍ شَامِلَةٍ، وَخِبْرَةٍ كامِلَةٍ. وَجَمَعَ بَيْنَ شَجاعَةِ القَلْبِ، وَالخِبْرَةِ بِأُصُولِ الحَرْبِ، والتَّمَرُّسِ بِفُنُونِ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ.

فَلَمَّا بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجالِ، دَوَّى اسْمُهُ فِي جَمِيعِ الآفاقِ. وَما زالَ شَأْنُهُ يَكْبُرُ حَتَّى أَصْبَحَ فارِسَ زَمانِهِ بِلا مُنازِعٍ، وَتَهَيَّبَهُ أَثْبَتُ الشُّجْعانِ قَلْبًا. وَاشْتَدَّ فَزَعُ أَعْدائِهِ مِنْهُ؛ حَتَّى أَصْبَحَ اسْمُهُ وَحْدَهُ كافِيًا — في آخِرِ أَيَّامِهِ — لِتَمْزِيقِ جُيُوشِهِمْ، وتَشْتِيتِ جُمُوعِهِمْ. فَكان يَكْفِي لِهَزِيمَتِهِم، وتَفرِيقِ جُمُوعِهِمْ، أَن يُقالَ: «جاءَ هِبَةُ اللهِ.»

وَكانَ يُكْثِرُ مِنَ التَّجْوالِ، وَالسَّيْرِ فِي مَناكِبِ الأَرْضِ، بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ — عَلَى عادَةِ الأُمَراءِ فِي عَصْرِهِ — طَلَبًا لِلْمَجْدِ — وَحُسْنِ الأُحْدُوثَةِ، فذاعَ صِيتُهُ فِي كُلِّ مَكانٍ.

(٤) واجبُ الأُبوَّة

وَانْتَهَى إلَى سَمْعِ الأَمِيرِ — ذاتَ يَوْمٍ — أَنَّ جَماعَةً مِنَ الأَشْرارِ قَدْ أَجمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى انْتِهازِ فَصْلِ الشِّتاءِ، لِمُهاجَمَةِ أَبِيهِ وَغَزْوِ مَدِينَتِهِ، وَاغْتِصابِ مَمْلَكَتِهِ. فَلَمْ يُطِقِ الْبَقاءَ لَحْظَةً واحِدَةً، وَأَسْرَعَ إِلَى أُمِّهِ يَسْتَأذِنُها فِي المُبادَرَةِ إِلى نُصْرَةِ أَبِيهِ. وَلَمْ تُصَدِّقْ أُمُّهُ أَنَّ أَحَدًا يَجْرُؤُ عَلَى مُهَاجَمَةِ السُّلْطانِ «قابُوسَ». وَدفَعَتْها مَحَبَّتُها لِوَلَدِها إلَى تَثْبِيطِ عَزْمِهِ، وَتَفْتِيرِ هِمَّتِهِ عَنِ السَّفَرِ. وَدارَ بَيْنَهُما حِوارٌ طَوِيلٌ، خَتَمَتْهُ «فَيرُوزَةُ» قائِلَةً: «ما أَظُنُّ أَباكَ يُفَكِّرُ فِيكَ، مُنْذُ طَرَدَ أُمَّكَ مِنْ بِلادِهِ، دُونَ ذَنْبٍ جَنَتْهُ، وَأَنْتَ جَنِينٌ لَمْ تَظْهَرْ لِلْوُجُودِ. وَلا تَنْسَ أَنَّ لِأَبِيكَ مِنَ الأَوْلادِ خَمْسِينَ، يَكْبُرُونَكَ سِنًّا وَتَجْرِبَةً، فَلَنْ تَزِيدَهُمْ إلَّا واحِدًا. وَلَوْ فَكَّرَ فِيكَ لاسْتَدْعاكَ إِلَيْهِ.» فَلَمْ يَثْنِ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ «هِبَةِ اللهِ»، وَأَجابَها، في غَيْرِ تَرَدُّدٍ: «سِيَّانِ عِنْدِي — يا أُمَّاهُ — أَنْ يُفَكِّرَ أَبِي فِي أَمْرِي، أَوْ لا يُفَكِّرَ؛ فَإِنَّ واجِبَ الأُبُوَّةِ يَقْتَضِينِي أَنْ أُحارِبَ أَعْداءَهُ، وَلَو تَنَكَّرَ لِي وَطَرَدَنِي. وَهَيْهاتَ أَنْ أَنْسَى أُبُوَّتَهُ لِي. وَمُحالٌ أَنْ أُسْلِمَهُ إِلَى الْخِذلانِ، وَأَرْضَى لَهُ الهَوانَ.»

فَلَمْ تَتَمالَكْ «فَيْرُوزَةُ» أَنْ تُظْهِرَ لِوَلَدِها الشُّجاعِ إِعْجابَها بِهِ. وَقَدْ بَهَرَها ما رَأَتْ مِنْ كَرِيمِ شَمائِلِهِ. وَلَمْ تَتَرَدَّدْ فِي الإذْنِ لَهُ بالسَّفَرِ، وَالدُّعاءِ لَهُ بالنَّجاحِ.

وَسُرْعانَ ما وَدَّعَها، شاكِرًا لَها دَعَواتِها، وَهُوَ شَدِيدُ الْفَرَحِ بِقُرْبِ لِقاءِ أَبِيهِ.

(٥) نَصْرٌ حاسِمٌ

وَما زالَ «هِبَةُ اللهِ» يُجِدُّ السَّيْرَ، حَتَّى بَلَغَ مَمْلَكَةَ أَبِيهِ، قَبْلَ حُلولِ فَصْلِ الشِّتاءِ. وَلَمْ يَكَدْ يَمْثُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ بِما جاءَ لأَجْلِهِ، بَعْدَ أَنْ أَخْفَى عَنْهُ أَنَّهُ وَلَدُهُ الَّذِي أَنْجَبَهُ مِنْ «فَيْرُوزَةَ». ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ ما أَعَدَّهُ لِمُفاجَأَةِ أَعْدائِهِ، مِنْ خُطَّةٍ حَرْبِيَّةٍ بارِعَةٍ، كَفِيلَةٍ بِتَمْزِيقِ شَمْلِهِمْ، وإِحْباطِ كَيْدِهِمْ. فأُعْجِبَ السُّلْطانُ «قابُوسُ» بالْقائِدِ الْفَتَى، وَعَظُمَ شَأْنُهُ فِي عَيْنَيْهِ؛ بَعْدَ أَنْ رَأَى ما مَيَّزَهُ اللهُ بِهِ مِنْ نَفاذِ بَصِيرَةٍ، وَصِدْقِ سَرِيرَةٍ، وَأَصالَةِ تَفْكِيرٍ، وَإِحْكامِ تَدْبِيرٍ، سَجايا لا يَظْفَرُ بِمِثْلِها إِلا بارِعٌ مَوْهُوبٌ، مُتَمَرِّسٌ بِالْخُطُوبِ، خَبِيرٌ بِاكْتِسابِ الْحُرُوبِ. وَلَمْ يَتَرَدَّدِ السُّلْطانُ في إجابَتِهِ إلى طِلْبَتهِ؛ بَعْدَ أنْ أخَلَدَ إِلَيْهِ بِكُلِّ ثِقَتِهِ، فَأَمَّرَهُ على رَأْسِ فَيْلَقٍ كَبِيرٍ، مِنْ خِيرَةِ جُنْدِهِ المُدرَّبِينَ. ونجَحَت خُطَّتُهُ أَوْفَى نَجاحٍ، وانتَصَرَ عَلى أَعْدائِهِ نَصْرًا حاسِمًا؛ بَعْدَ أَنْ كَمَنَ في مُنْتَصَفِ طَرِيقِهِمْ إلى حاضِرَةِ أَبِيهِ، وَفاجَأَهُمْ — مِنْ حَيْثُ لا يَتَوَقَّعُونَ — مفاجَأَةً صاعِقَةً، قَذَفَتِ الرُّعْبَ في قُلُوبِهِم، وأَوْقَعَتِ الخَلَلَ بَيْنَ صُفُوفِهِم. فلَمْ يَجِدُوا للنَّجاةِ وَسِيلَةً غَيرَ الفِرارِ، تارِكِينَ لَهُ كُلَّ ما أَعَدُّوهُ مِنْ أَسْلابٍ وَعَتادٍ.

وهكذَا عادَ بَطَلُ قِصَّتِنا إلَى أَبِيهِ، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ النَّصْرُ، واكْتَسَبَ مَحَبَّةَ الجُنْدِ.

وَلا تَسَلْ عَنْ إعْجابِ السُّلْطانِ «قابُوسَ» بِالفارِسِ الشَّابِّ الَّذِي ساقَهُ إلَيْهِ حَظُّهُ السَّعِيدُ؛ لإعْزازِهِ وَنَصْرِهِ، وصَوْنِ مُلْكِهِ وَشَدِّ أَزْرِهِ. وَلَمْ يَجِدْ ما يُكافِئُهُ بِهِ إلَّا أَنْ يُؤَمِّرَهُ عَلَى الجَيْشِ كُلِّهِ، بما يَحْوِيهِ مِنْ أُمَراءَ وقادَةٍ وَجُنْدٍ. وأَصْبَحَ الأُمَراءُ الخَمْسُونَ — مُنْذُ ذلِكَ اليَوْمِ — تَحْتَ لِواءِ الفَتَى الشُّجاع، الَّذِي حَفِظَ مُلْكَ أَبِيهِمْ مِنَ الضَّياعِ.

(٦) كَيْدُ الْحاسِدِ

وَفَرِحَ الإِخْوَةُ بِإِمارَةِ «هِبَةِ اللهِ» عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكْتُمُوا سُرُورَهُمْ وَإعْجابَهُمْ، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْهُمْ إلا «حَنْظَلَةُ»، ذلِكَ الشَّيْطانُ الغادِرُ الَّذِي حَدَّثْتُكَ عَنْهُ. فَقَدِ امْتَلأ صَدْرُهُ حِقْدًا عَلَيْهِ، وَبُغْضًا لَهُ. وَلَمْ يُطِقْ ما أَحْرَزَهُ مِنْ فَوْزٍ باهِرٍ؛ فَراحَ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ إخوَتِهِ كَما يُوَسْوِسُ الشَّيْطانُ اللَّعِينُ، في صُدُورِ الآمِنِينَ الوادِعِينَ؛ فيُضْعِفُها وَيُخَبِّلها، ويُعْمِيها عَنِ الحَقِّ وَيُضَلِّلُها. ومَا زالَ «حَنْظَلَةُ» بِهِمْ حَتَّى أَوْغَرَ صُدُورَهُمْ (مَلأها غَيْظًا)؛ فانْقادُوا لرَأْيِهِ الخَاطِئِ، وَسَأَلُوهُ أنْ يُخْبِرَهُمْ بما أَعَدَّهُ منْ حِيلَةٍ لِقَتْلِهِ. فقالَ: «لَيْسَ مِنَ الحَزْمِ أن نَقْتُلَ الفَتَى، فما نَأْمَنُ أَنْ تَنْكَشِفَ جَرِيمَتُنا، بعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ أَوْ كَثِيرٍ. وَهَيْهاتَ أَنْ نفْلِتَ — إذا افْتَضَحَ السِّرُّ — مِنْ عِقابِ السُّلْطانِ، وَنِقْمَةِ الجُنْدِ، وسُخْطِ الشَّعْبِ.» فقالُوا لَهُ: «فَماذا أَعْدَدْتَ من خُطَّةٍ لِلانْتِقامِ مِنْهُ؟» فَأَجابَهُمْ باسِمًا: «الرَأْيُ عِنْدِي أَنْ نَتَحايَلَ عَلَيْهِ غَدًا، لِيَصْحَبَنا لِلصَّيْدِ، ثُمَّ نَتَحَيَّنَ فُرْصَةً للهَرَبِ مِنْهُ، وَنَغِيبَ عَنِ المَمْلَكةِ شَهْرًا كاملاً، فَلاَ نَعُودَ إلاَّ وَقَدِ ارْتَحْنا مِنْهُ إلَى الأَبَدِ.»

وَسَأَلَهُ إخْوَتُهُ مُتَعَجِّبِينَ: «فماذا يَضِيرُ «هِبَةَ اللهِ» أَنْ نغِيبَ عَنِ المدِينَةِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ؟» فأجابَهُمْ مُتَخابِثًا: «إنَّ السُّلْطانَ — مَتَى رَآهُ يَخْرُجُ مَعَنا ثُمَّ يَعُودُ إلَى المَدِينَةِ وَحْدَهُ — ساوَرَهُ الشَّكُّ في أَمْرِهِ، وَظَنَّ بِهِ الظنُونَ. وَلَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الطَّرْدِ، أَو القَتْلِ. وسنرْتاحُ مِنْهُ عَلَى كِلْتا الحَالَتَيْنِ.» فلَمْ يَتَمالَكِ الأُمَراءُ أَنِ انْقادُوا لاقتِراحِ الخَبِيثِ، وَإقْرارِهِ علَى ما بَيَّتَهُ مِنْ شَرٍّ.

(٧) نَجاحُ المُؤَامَرَةِ

وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلائِلَ، خَرَجَ المُؤْتَمِرُونَ، وَمَعَهُمُ الأمِيرُ الحادِي والخَمْسُونَ. وَما كادُوا يَبْلغُونَ الغابَةَ حَتَّى أَغْرَى «حَنْظَلَةُ» أَخاهُ «هِبَةَ اللهِ» بمتابَعَةِ غَزالٍ شارِدٍ، وَرَجاهُ أَنْ يقتَنِصَهُ لَهُ، دُونَ أَنْ يَمَسهُ بِسُوءٍ. فَلَمْ يُخَيِّبْ «هِبَةُ اللهِ» رَجاءَ «حَنْظَلَةَ»، وَأَسْرَعَ إلى الغَزَالِ يُطارِدُهُ؛ حَتَّى غابَ عنْ عُيُونِ إخْوَتِهِ. وَانْتَهَزَ الغادِرُ فُرْصَةَ ابْتعادِهِ، فانزَوَى بِإِخْوَتِهِ في مَخْبَإٍ مِنَ الغَابَةِ أَمِينٍ. فَلَمَّا عادَ «هِبَةُ اللهِ» بِالغَزالِ، لَمْ يَعْثُرْ لَهُمْ على أَثَرٍ. فَواصَلَ بَحْثَهُ عَنْهُمْ، فَلمْ يَهْتَدِ إِلَى مَقَرِّهِمْ.

وَكانَ السُّلْطانُ «قابُوسُ» يَنْتَظِرُ عَوْدَةَ أَوْلادِهِ بِفارِغِ الصَّبْرِ؛ فَلَمْ يَكَدْ يَرَى «هِبَةَ اللهِ» يَعُودُ وَحْدَهُ، حَتَّى خامَرَهُ الشَّكُّ في أَمْرِهِ، وَاشْتَدَّ بِهِ القَلَقُ عَلَى أَوْلادِهِ.

وَحاوَلَ «هِبَةُ اللهِ» أَنْ يَتَكَلَّمَ؛ فَلَمْ يَجِدْ لِكَلامِهِ سَمِيعًا. وقَدْ خَيَّرَهُ السُّلْطانُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ يَعُودَ بِهِمْ إلَيْهِ كَمَا ذَهَبَ مَعَهُمْ، أَوْ يُفارِقَهُ فِراقَ الأَبَدِ. فَإِذا أَبَى إلا البَقاءَ، فالقَتْلُ لَهُ جَزاءٌ. فَخَرَجَ الأَمِيرُ «هِبَةُ اللهِ» مِنْ مَدِينَةِ أبِيهِ حَيْرانَ؛ لا يَدْرِي أَيْنَ يَقْصِدُ، وَلا إلَى أَيِّ مكانٍ يَتَّجِهُ؟

(٨) سَجِينَةُ الْجَبَّارِ

وَانْقَضَتْ أَيَّامٌ ثَلاثَةَ عَشَرَ، دُونَ أَنْ يَعْثُرَ لإخْوَتِهِ عَلَى أَثَرٍ. ثُمَّ لاحَ لَهُ فِي اليَوْمِ التَّالِي، قَصْرٌ شاهِقٌ، فَمَشَى فِي طَرِيقِهِ إلَيْهِ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْهُ. فَرَأَى فَتاةً حَسناءَ تُطِلُّ مِنْ نافِذَتِهِ، وَهِيَ تَبْكِي حَظَّها التَّاعِسَ. فَسَأَلَها عَنْ سَبَبِ بُكائِها. فتَوَسَّلَتْ إلَيْهِ، رَاجِيَةً ألاَّ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِأَمْرِها، وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْرِعَ بالفِرارِ؛ قَبْلَ أَنْ يَدْهَمَهُ الزَّنْجِيُّ الجَبَّارُ. وَحاوَلَ أَنْ يُهَدِّئَ مِنْ خَوْفِها وَفَزَعِها. فَصاحَتْ بِهِ مُرْتَجِفَةً: «عَجِّلْ بِالفِرارِ أَيُّها الفَتَى، وَإلاَّ أَوْقَعَكَ سُوءُ حَظِّكَ فِي قَبْضَةِ صاحِبِ القَصْرِ كَما أَوْقَعَنِي.» فَلَمَّا رَأَتْهُ ثابِتَ القَلْبِ، باسِمَ الثَّغْرِ، صَرَخَتْ قائِلَةً: «بِرَبِّكَ إلَّا ما عَجَّلْتَ بالفِرارِ؛ فَلَنْ يَرْحَمَكَ الجَبَّارُ، إذا رَآكَ، وَلَنْ يُشْفِقَ عَلَى شَبابِكَ الغَضِّ. ما بالُكَ لا تُصْغِي إلَى نَصِيحَتِي؟ عَجِيبٌ ما أَراهُ مِنْ جُرْأَتِكَ! واحْتِقارِكَ لِلْخَطَرِ واسْتِهانَتكَ.. اُنْجُ بِنَفْسِكَ؛ فَقَدْ أَلِفَ الجَبَّارُ أَنْ يَأْكُلَ أَسْرَاهُ، وَيَبْطِشَ بِكُلِّ مَنْ يَلْقاهُ، أَوْ تَقَعُ عَلَيْهِ عَيْناهُ.»

(٩) دَهْشَةُ الجَبَّارِ

فَأَجابَها «هِبَةُ اللهِ» إجابَةَ الواثِقِ بِنَفْسِهِ: «إذا كانَ جَبَّارُ القَصْرِ كَما وَصَفْتِ، فَكَيْفَ أَتْرُكُ فَتاةً كَرِيمَةً مِثْلَكِ تَتَعَرَّضُ لِقَسْوَتِهِ وَبَطْشِهِ؟ إنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَكْرَمُ مِنَ التَّخَلِّي عَنِ الواجِبِ. وَسَتَرَيْنَ كَيْفَ أُنْقِذُكِ مِنْ ظُلْمِهِ، بَعْدَ أَنْ أَصْرَعَهُ وأَصْبِغَ الأرْضَ بِدَمِهِ.»

وَما كَادَ يُتِمُّ قَولَتَهُ، حَتَّى رَأَى الزَّنْجِيَّ الشَّرِسَ مُيَمِّمًا نَحْوَهُ عَلَى ظَهْرِ حِصانِهِ، وَهُوَ يُهَزْهِزُ سَيْفَهُ؛ مُلَوِّحًا بِهِ مُتَهَدِّدًا، مُنْذِرًا مُتَوَعِّدًا، وَقَدِ انْبَعَثَتْ مِنْهُ صَرَخاتٌ مُجَلْجِلَةٌ فِي الْفَضاءِ، كَفِيلَةٌ بِتَفْزِيعِ أَقْوَى الأَقْوِياءِ. وَلا تَسَل عَنْ دَهْشَةِ الجَبَّارِ حِينَ رَأَى «هِبَةَ اللهِ» ثابِتًا فِي مكانِهِ، لَمْ يَتَفَرَّغْ مِنْ لِقائِهِ، وَلَمْ يَهَبْ، وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي الفِرارِ وَالهَرَبِ.

(١٠) مَصْرَعُ الغُولِ

وكانَ قَدْ أَلِفَ مِنْ كُلِّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ الفُرْسانِ، أَنْ يُسْرِعَ أَشْجَعُهُمْ بالهَرَبِ مِنْهُ؛ إذا اسْتَطاعَ إلَى الهَرَبِ سَبِيلاً، فإِذا ضَيَّقَ عَلَيْهِ الخِناقَ، تَفَكَّكَتْ أَوْصَالُهُ، وَأُغْمِي عَلَيْهِ مِنْ فَرْطِ الرُّعْبِ. وَلَمْ يُصَدِّقِ الجَبَّارُ أَنَّ أَحَدًا يَجْرُؤُ عَلَى مَواجَهَتِهِ، فَضْلًا عَنْ تَحَدِّيهِ وَمُجابَهَتِهِ.

وَحَسِبَهُ الجَبَّارُ مَخْبُولًا أَوْ مَعْتُوهًا، ساقَهُ أَجَلُهُ إلَيْهِ، ودَفَعَهُ سُوءُ حَظِّهِ لِيَلْقَى مَصْرَعَهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَابْتَدَرَهُ الزَّنْجِيُّ. بِضَرْبَةٍ هائِلَةٍ مِنْ سَيْفِهِ، كانَ الظَّنُّ أنْ تقْضِيَ عَلَيْهِ، لَوْلا ما مَيزَهُ اللهُ بِهِ مِنْ بَراعَةٍ وَمَرانةٍ عَلَى أَساليبِ الحَرْبِ، وخِبْرَةٍ بأُصُولِ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ. وَلَمْ يَكَدْ «هِبَةُ اللهِ» يَتَلافَى الضَّرْبَةَ؛ حَتَّى وَثَبَ عَلَى عَدُوِّهِ فِي رَشاقَةٍ نادِرَةٍ، وَهَوَى بِسَيْفِهِ عَلَى رُكْبَةِ الجَبَّارِ بِضَرْبَةٍ كادَتْ تُذْهِلُهُ لِشِدَّةِ الأَلَمِ. وَحاوَلَ الجَبَّارُ أَنْ يَتَجَلَّدَ ويَسْتَمْسِكَ؛ وَقَدْ ضاعَفَ الأَلَمُ مِنْ غَيْظِهِ. وَرَآهُ «هِبَةُ اللهِ»، وَهُوَ يَتَحَفَّزُ للانْتِقامِ، فعَاجَلَهُ بِضَرْبَةٍ ثانِيَةٍ، بَتَرَتْ (قَطَعَتْ) يُمْناهُ، فَهَوَتْ إلَى الأرْضِ، وَفي قَبْضَتِها سَيْفُهُ. وبَرَّحَ بِهِ الأَلَمُ، فَهَوى إلى الأرْضِ خائِرَ العَزْمِ، واهِنَ القُوَى. فَهَوَى صاحِبُنا عَلَى رَقَبَتِهِ بِضَرْبَةٍ ثالِثَةٍ، أَطاحَ بِها رأْسَهُ عَنْ جَسَدِهِ.

(١١) سِرْدابُ الأَسْرَى

وَما كادَتِ الفَتاةُ تَشْهَدُ مَصْرَعَ الغُولِ الآدَمِيِّ الأَسْوَدِ، حَتَّى انْبَعَثَتْ مِنْها صَيْحاتُ الإعْجابِ بِشجاعَةِ الأَمِيرِ الفَتَى، وانْدَفَعَتْ إلَيْهِ تَغْمُرُهُ بِعبارات الثَّناءِ والشُّكْرِ، عَلَى ما هَيَّأَهُ لَها مِنْ فُرْصَةٍ لِلنَّجاةِ مِنْ شَرِّهِ. فأقبَلَ عليْها «هِبَةُ اللهِ» يُطمْئِنُها، وَيَسْأَلُها: ما قِصَّتُها؟ وماذا أوْقَعَها في قَبضَةِ الأَسْوَدِ؟ وَكانَ لِتِلْكَ الفَتاةِ — عَلَى الحَقِيقَةِ — مَأْساةٌ فَرِيدَةٌ؛ جَمَعَتْ فُنُونًا مِنَ البُؤْسِ، وأَلْوانًا مِنَ الشَّقاءِ، واشْتَرَكَ فِي تَأْلِيفها عَجائِبُ مِنْ سُوءِ الحَظِّ، وَمُفارَقاتٌ مِنْ نَكَدِ الطَّالِعِ. ثُمَّ خُتِمَتْ باسْتِيلاء الْجَبَّارِ عَلَيْها أَسِيرَةً، قَبْلَ أَنْ يُهَيِّئَ اللهُ لَها فُرْصَةَ النَّجاةِ مِنْ شَرِّهِ، علَى يَدِ «هِبَةِ اللهِ».

وكانَ أَوَّلَ ما بَدَأَتْهُ بِهِ؛ أَن أَفْضَتْ إلَيْهِ بِما يَفِيضُ بِهِ قَصْرُ الزَّنْجِيِّ مِنَ الأَسْرارِ، وأَطْلَعَتْهُ عَلَى كُنُوزِهِ الطَّائِلَةِ؛ كَما أَطْلَعَتْهُ عَلَى سِرْدابِهِ الكَبِيرِ، الَّذِي كَانَ يَسْجُنُ فِيهِ كُلَّ مَنْ يُوقِعُهُ سُوءُ حَظِّهِ فِي قَبْضَتِهِ؛ لِيَتَّخِذَ مِنْ لُحُومِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ فَطُورَهُ وَغَداءَهُ وعَشاءَهُ. وَسُرْعانَ ما صَحِبَ الفَتاةَ إلَى السِّرْدابِ؛ بَعْدَ أَنِ انْتَزَعَ مَفاتِيحَ أَبْوابِهِ المُعَلَّقَةَ بِحِزامِهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَهْبِطُ دَرَكاتٍ مِنَ السُّلَّمِ حَتَّى أَدْهَشَهُ ما رَآهُ عَلَى وُجُوهِ الأَسْرَى مِنْ أَماراتِ الرُّعْبِ والفَزَعِ؛ حِينَ سَمِعُوا صَرِيرَ البابِ وَهُوَ يُفْتَحُ. وَكانُوا يَحْسَبُونَ الوَحْشَ الآدَمِيَّ قادِمًا عَلَيْهِمْ لِيَخْتارَ مِنْهُمْ مَنْ يَشْوِيهِ لِيَأْكُلَهُ — عَلَى عادَتِهِ — كُلَّ يَوْمٍ. فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الجَبَّارَ قَدْ لَقِيَ مَصْرَعَهُ عَلَى يَدِ الأَمِيرِ الفَتَى؛ تَبَدَّلَ خَوْفُهُمْ أَمْنًا، وَيَأْسُهُمْ رَجاءً، والتَفُّوا حَوْلَ الأَمِيرِ الشُّجاعِ، يَمْزُجُونَ لَهُ صادِقَ الشُّكْرِ بِخالِصِ الدُّعاءِ.

(١٢) الإِخْوَةُ الخَمْسُونَ

وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الأَمِيرِ «هِبَةِ اللهِ»، حِينَ رَأَى إخْوَتَهُ الخَمْسِينَ، يَخْرُجُونَ مِنْ بَيْنِ الأَسْرَى، وَيتَهافَتُونَ عَلَيْهِ فَرْحانِينَ بِما وُفِّقَ إلَيْهِ مِنْ نَجاحٍ في قَتْلِ الزَّنْجِيِّ. وَكانَ فَرَحُ الأَمِيرِ بِلِقاءِ إخْوَتِهِ، لا يَقِلُّ عَنْ فَرَحِهِمْ بِالنَّجاةِ مِنْ قَبْضَةِ الوَحْشِ الَّذِي كانَ آكِلَهُمْ لا مَحالَةَ، كَما أكَلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الأَسْرَى التَّاعِسِينَ.

فَرِحَ أُولئِكَ الأَسْرَى، ما عَدا الأَمِيرَ الثَّامِنَ عَشَرَ. فَقَدْ كانَ — لِفَرْطِ حِقْدِهِ — يُؤْثِرُ أَنْ يَأْكُلَهُ الجَبَّارُ؛ عَلَى أَنْ يَظْفَرَ مُنافِسُهُ بِهذا الانْتِصارِ. وَرَأَى «هِبَةُ اللهِ» فِي قَصْرِ الجَبَّارِ كُنُوزًا لا تُحْصَى، مِمَّا جَمَعَهُ فِي حَياتِهِ الظَّالِمَةِ. فَقَسَمَها بَيْنَ الأَسْرَى بِالسَّواءِ. وَانْصَرَفَ المَسْجُونُونَ، عائِدِينَ إلَى بِلادِهِمْ شاكِرِينَ.

(١٣) حَدِيثُ المائِدَةِ

وَلَم يَبْقَ فِي قَصْرِ الجَبَّارِ غَيْرُ الفَتاةِ والأُمَراءِ الخَمْسِينَ. وَأَعَدَّتْ لَهُمُ الفَتاةُ عَشاءً فاخِرًا. فَجَلَسُوا عَلَى المائِدَةِ يَتَحَدَّثُونَ، وَقَضَوْا لَيْلَةً هادِئَةً سَعِيدَةً. وَما زالوُا يَسْمُرُونَ، حَتَّى حانَ مَوْعِدُ النَّوْمِ؛ فَانْصَرَفُوا إلَى مَضاجِعِهِمْ وادِعِينَ. وَكانَ أَعْجَبَ ما دارَ عَلَى المائِدَةِ مِنْ أحادِيثَ، قِصَّةُ الفَتاةِ التَّاعِسَةِ، الَّتِي سَجَنَها الجَبَّارُ فِي قَصْرِهِ. وَلا رَيْبَ أَنَّ شَوْقَكَ إلَى سَماعِها قَدْ بَلَغَ أَقْصاهُ. وَهأَنذَا أَقُصُّها عَلَيْكَ، كَما تَحَدَّثَ بِأَنْبائِها الرُّواةُ.

(١٤) مَأْساةُ الفَتاةِ

قالَتِ الفَتاةُ: «اسْمِي «ناهِدُ»، واسْمُ أبِي السُّلْطانُ «رُسْتَمُ». وَقَدْ تُوُفِّيَتْ أُمِّي — وَأَنا صَغِيرَةٌ — وَلَمْ يُنْجِبْ أَبَوايَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ سِوايَ. وَكانَ والِدِي عَلَى شَجاعَتِهِ وَعَدْلِهِ، مُولَعًا بِالصَّيْدِ، إلَى حَدٍّ كادَ يَشْغلُهُ عَمَّا تَتَطَلَّبُهُ شُئُونُ رَعِيَّتِهِ مِن عِنايَةٍ وَتَدْبِيرٍ. وَلَوْلا حَزْم وَزِيرِهِ «راشِدٍ» — الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الإخْلاصِ لأَبِي، وَالتَّفانِي فِي إقامَةِ العَدالَةِ — لَضاعَ المُلْكُ مِنْ بَيْتِنا، مُنْذُ وَلِيَهُ أَبِي. وَذاتَ يَوْمٍ خَرَجَ أَبِي لِلصَّيْدِ، فِي صَفْوَةٍ مِنْ حاشِيَتِهِ، إلَى الغابَةِ، وَجَمَعَ كَثِيرًا مِمَّا اصْطادَهُ. وَلَمَّا هَمَّ بالعَوْدَةِ، رَأَى فِي طَرِيقِهِ عَيْرًا (حِمارًا وَحْشِيًّا)، فأسْرَعَ إلَيْهِ يُطارِدُهُ حتَّى ظَفِرَ بِهِ. وَكانَ اللَّيْلُ قَدْ خَيَّمَ ظَلامُهُ؛ فَآثَرَ البَقَاءَ بِحَيْثُ هُوَ، وَبَعَثَ إلَى أصْحابِهِ يُخْبِرُهُمْ بِمَكانِهِ. وَلَمْ يَكَدْ أَبِي يَسْتَقِرُّ فِي الغَابَةِ؛ حَتَّى لاحَ لَهُ وَمِيضُ نُورٍ عَلَى مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَحَسِبَهُ مُنْبَعِثًا مِنْ بَعْضِ القُرَى. وَما كادَ يَقْتَرِبُ مِنْهُ حَتَّى رَأَى زَنْجِيًّا مُفَزَّعَ الخِلْقَةِ، جالِسًا فِي الكُوخِ، يَشْوِي عَلَى النَّارِ ثَوْرًا هائِلًا اصْطادَهُ مُنْذُ قَلِيلٍ، وَإلَى جانِبِهِ باطِيَةٌ (إِناءٌ مَمْلُوءٌ بِالشَّرابِ).

وَكانَ يَعُبُّ ما فِي الباطِيَةِ (يَشْرَبُهُ بِلا تَنَفُّسٍ)، وَيَلْتَهِمُ الثَّوْرَ الْحَنِيذَ (المَشْوِيَّ) فِي شَرَهٍ عَجَيبٍ. وَحانَتْ مِنْ والِدِي التِفاتَةٌ، فَرَأَى عَلى أَرْضِ الكُوخِ سَيِّدَةً مُقَيَّدَةً، يَكادُ الحُزْنُ يَفْتَرِسُها، وَتَحْتَ قَدَمَيْها وَلِيدٌ، لا يَتَجاوَزُ الثالِثَةَ مِنْ عُمُرِهِ. وَكَأنَّما شَعَرَ الصَّغِيرُ بِما تُعانِيهِ أُمُّهُ مِنْ آلامٍ، فَراحَ يَشُقُّ الفَضاءَ بِصُراخِهِ، وَيَبْكِي بِلا انْقِطاعٍ. وَلَمْ يُطِقْ أَبِي صَبْرًا علَى البقاءِ دُونَ مُهاجَمَةِ العِمْلاقِ؛ بِرَغْمِ ما جَهَدَ أَبِي مِنَ الصَّيْدِ. وَلَمْ يَكُنْ في قُدْرَتِهِ أَنْ يُهاجِمَهُ عَلانِيَةً، فَلَجَأَ إلى الاحْتِيالِ.

وَكانَ الزَّنْجِيُّ حِينئِذٍ قَد جَرَعَ الباطِيَةَ كُلَّها، والتَهَمَ مِنَ الثَّوْرِ الحَنِيذِ (المَشْوِيِّ) نِصْفَ لَحْمِهِ. وَسَمِعَهُ أَبِي وَهُوَ يُعاتِبُ أَسِيرَتَهُ، قائِلاً: «ما بالُكِ تَلْجَئِينَ إلى العِنادِ أيَّتُها الحَسْناءُ، وَتَدْفَعِينَنِي إلَى إيذائكِ؟ ما بالُكِ تَرْفضِينَ الزَّواجَ بِي على ما تَرَيْنَ مِنْ وَداعَتِي مَعَكِ، وَتَلطُّفِي بِكِ؟ ولماذا تُؤْثِرِينَ الشَّقاءَ عَلَى الهَناءِ، وَتُفَضِّلِينَ الهَلاكَ عَلَى البَقاءِ؟» ثُمَّ سَمِعَ الفَتاةَ وَهِيَ تُجِيبُهُ، فِي تَحَدٍّ وَازْدِراءِ: «إنَّ المَوْتَ أَهوَنُ عَلَيَّ مِنْ رُؤْيَتِكَ، أَيُّها الوَحْشُ الآدَمِيُّ الغادِرُ!» وَرَأى الزنجِيَّ يَتَحفَّزُ لِلْفَتْكِ بِأَسِيرَتِهِ، بَعْدَ ما سَمِعَهُ مِنْ تَمادِيها فِي تَحْقِيرِهِ وَإهانَتِهِ، وَإِذا هُوَ يُسْرِعُ إلَى شَعْرِها، فيَجْذِبُهُ بِيُسْراهُ جَذْبَةً عَنِيفَةً، فَيُصْبِحُ جِسْمُها مُعَلَّقًا في الفَضاءِ، وَيُهَزْهِزُ السَّيْفَ بِيُمناهُ، لِيَهوِيَ بِهِ عَلَى رَأْسِها. وقَدْ كادَ يَتِمُّ له مُرادُهُ، لَوْ لَمْ يُسْرِعْ أَبِي إلى قَوْسِهِ، وَيُصَوِّبْ سَهْمَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ، إلَى قَلْبِهِ وَرَأسِهِ، فَيَقْتُلَهُ مِنْ فَوْرِهِ، وَيُرِيحَ النَّاسَ مِنْ عَسْفِهِ وَجَوْرِهِ.

وَأَسْرَعَ أَبِي إلَى الأَسِيرَةِ، فأطلَقَ سَراحَها، فارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ شاكِرَةً. فَنَحَّاها مُتَلَطِّفًا. وَأَدْرَكَ — مِنْ قِصَّتِها — أَنَّ الزَّنْجِيَّ قَدِ اغتَصَبَها، وَهَرَبَ بِها إلى الغابَةِ، لِيسْتأْثِرَ بِها وَحْدَهُ، بَعْدَ أَنْ قَتَلَ زَوْجَها، وَيَتَّمَ طِفْلَها. وَقَدْ لَقِيَتِ السَّيِّدَةُ وَوَلَدُها مِنْ كَرِمِ أَبِي ما بَدَّل تعاسَتَهُما سَعادَةً، وشقَاءَ عَيْشِهِما رَغادَةً، وَعُنِيَ أَبِي بِتَرْبِيَةِ وَلَدِها عِنايَةَ الوالِدِ بِوَلَدِهِ. حَتَّى إذا كَبِرَ، انْتَهَزَ فُرْصَةَ خُرُوجِ أَبِي إلَى الصَّيْدِ، وَزَيَّنَ لَهُ شَيْطانُ الغَدْرِ أَنْ يَأْتَمِرَ بِأَبِي — مَعَ بَعْضِ المُواَلِين لَهُ مِنَ الأَشْرارِ — لِيَقْتُلُوهُ. وَنَجَحَتْ هذِهِ المُؤامَرَةُ، وَتَمَّ للأَشْقِياء ما أَرادُوا. وَكان الشِّرِّيرُ يَعْتَزِمُ الزَّواجَ بِي. فَدَبَّرَ لِيَ الوَزِيرُ «راشِدٌ» وَسِيلَةَ الهَرَبِ، وَأَعَدَّ لِذلِكَ مَرْكَبًا كَبِيرًا رَكِبْناهُ خُلْسَةً فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ مَعَ بَعْضِ خُلَصائِنا الأوْفِياءِ، وَصَفا لَنا الجَوُّ أَيَّامًا، ثُمَّ هَبَّتْ عَلَيْنا عاصِفَةٌ هَوْجاءُ، انْتَهَتْ بِتَحْطِيمِ المَرْكَبِ وَغَرَقِ راكِبِيهِ. وَتَعلَّقَتْ يَدايَ بِلَوْحٍ مِنَ الخَشَبِ، ثُمَّ هَدَأَتِ العاصِفَةُ بَعْدَ قَلِيلٍ. وَقَذَفَ بِيَ الْمَوْجُ إلَى شاطِئِ الْبَحْرِ، فارْتَمَيْتُ عَلَى السَّاحِلِ، مَجْهُودَةَ القُوَى، وَاسْتَيْقَظْتُ عَلَى أَصْواتِ جَماعَةٍ يَتَحَدَّثُونَ.

وَأَقْبَلَ عَلَيَّ أَمِيرُ المَدِينَةِ، وَسَأَلَنِي عَنْ قِصَّتِي، فَأَفْضَيْتُ بِها إلَيْهِ. فَبَدا — عَلَى سِيمَاهُ — الحُزْنُ، ولكِنَّهُ غالَبَهُ جُهْدَهُ، وأَقْبَلَ علَيَّ مُؤَسِّيًا (مُصَبِّرًا)، باذِلاً كُلَّ ما في وُسْعِهِ، لِتَهوِينِ مُصابِي عَلَيَّ، وَحَسِبْتُ أَنَّ زَمَنَ الشَّقاءِ والنَّحْسِ قَدْ وَلَّى، وَلَمْ أَدْرِ ما يَخْبَؤُهُ لِيَ القَدَرُ مِنْ مصائِبَ وَأَحْداثٍ. وَلا تَسَلْ عَنْ خَيْبَةِ أَمَلِي حِينَ فاجَأَنا — في مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ — رَسُولٌ يُنْذِرُهُ بالوَيْلِ، ويُخْبِرُهُ أَنَّ عَدُوَّهُ اللَّدُودَ، الأَمِيرَ «طَلْحَةَ» قَدْ أَغارَ عَلَى بِلادِهِ — مُنْذُ أَيَّامٍ — وَهَزَمَ جَيْشَهُ واسْتَولَى على مُلْكِهِ. وَلَمْ يُذْهِلُهُ النَّبَأُ الصَّاعِقُ عَنِ العِنايَةِ بِي، والتَّفْكِيرِ في أَمْرِي، فَأَعَدَّ لِي زَوْرَقًا حَمَلنِي فِيهِ، لِيُودِعَنِي مَمْلَكَةَ عَمِّهِ، ثُمَّ يُعِدَّ جَيْشًا كَبيرًا لِمُحارَبَةِ غاصِبِ مُلْكِهِ. وَما زالَ يَجْدِفُ بِي، حَتَّى إذا عاوَدَنَا الأَمْنُ — بَعْدَ أنِ اجْتَزْنا نِصْفَ الطَّرِيقِ — دَهِمَتْنا عِصابَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ، فانْبَرَى لَهُمُ الأَميرُ الفَتَى، وَصَرَعَ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ؛ ثُمَّ تَكاثَرَ عَلَيْهِ الباقُونَ فَقَتَلُوهُ، وَرَمَوْا بِجُثَّتِهِ فِي البَحْرِ.

وَحاوَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ أن يَسْتَأْثِرَ بِي لِنَفْسِهِ، فنازَعَهُ رِفاقُهُ. وَدَبَّ الخِلافُ بينَهُم، مُحاورَةً ومُكالَمَةً، ثُمَّ تَدَرَّجَ مُلاحاةً وَمُشاتَمَةً، ثُمَّ انْتَهَى عِراكًا وَمُهاجَمَةً. فَهَلَكُوا جَمِيعًا، وَلَم يَنْجُ مِنَ القَتْلِ غَيْرُ شَيْخٍ كَبِيرِ السِّنِّ، يَجْمَعُ بَيْنَ الفَظاظَةِ والجَهامَةِ، والعَرَجِ والدَّمامَةِ. وكانَ يَبْدُو عَلَيْهِ الابتهاجُ بِمَقْتَلِ رِفاقِهِ. وَلا تَسَلْ عَنْ فَزَعِي حِينَ رَأَيْتُهُ يَتَطَلَّعُ إلَى الزَّواجِ بِي، وَلَمْ أَكَدْ أُعْلِنُ لَهُ الرَّفْضَ حَتَى تَمَلَّكَهُ الغَيظُ، وابْتَدَرَنِي بِلَكْمَةٍ قاسِيَةٍ، سَقَطْتُ مِنْها على الأثَرِ. وَما كِدْتُ أُفِيقُ مِنْ غشْيَتِي، حَتَّى اسْتقَرَّ بِنا المَرْكَبُ عَلَى شاطِئِ البَحْرِ. وَمَرَّتْ بِنا — بَعْدَ ساعاتٍ — إحْدَى القَوافِلِ الذَّاهِبَةِ إلى «دمشقَ»، فَصَحِبْناها. وَلَمْ تَكَدْ تَطْلُعُ شَمْسُ اليَوْمِ التَّالِي، حَتَّى دَهِمَتْنا عِصابَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ؛ فَقَتَلُوا الأَعْرَجَ الدَّمِيمَ، فِيمَنْ قَتَلُوهُ مِنْ رِجالِ القافِلَةِ، واسْتَوْلَوْا علَى أَسْلابِهِمْ وَمَتاعِهِمْ وَلَمْ يَنْجُ منَ القَتْلِ سِوايَ، فَحَمَلُونِي مَعَهُمْ أَسِيرَةً.

ولَمْ يَنْقَضِ عَلَى هذا الحادِثِ يَوْمانِ، حَتَّى رَأَيْتُ اللُّصُوصَ يُسارِعُونَ إلَى الهَرَبِ، تارِكِينَ ما غَنِمُوهُ مِنْ أَسْلابٍ. وَدُرْتُ بِبَصَرِي مُتَلَفِّتَةً فِي كُلِّ مَكانٍ، لأَتَعَرَّفَ مَصْدَرَ فَزَعِهِمْ، فَرَأَيْتُ الجَبَّارَ — الَّذِي تَمَّ مَصْرَعُهُ عَلَى يَدَيْكَ — قادِمًا عَلَى رَأْسِ هَضْبَةٍ عالِيَةٍ بَعِيدَةٍ. فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ لاذُوا بِالفِرارِ قَبْلَ أَنْ يَفْطُنَ إلَيْهِمْ، وعادَ الجَبَّارُ إلَى قَصْرِهِ، وهُوَ يَحْمِلُنِي عَلَى كَتِفَيْهِ. ثُمَّ شَغَلَهُ اللهُ عَنِّي بِجَمْعِ ما غَنِمَهُ مِنَ الأَسْلابِ. وقَدْ كادَ يَفْتِكُ بِي، لَولاَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ لإنْقاذِي. فَشُكْرًا لَكَ أَيُّها الفارِسُ النَّبِيلُ.»

(١٥) حَفْلَةُ الْعُرْسِ

فَلَمَّا سَمِعَ الأَمِيرُ «هِبَةُ اللهِ» قِصِّةَ الأَمِيرَةِ الْفتاةِ، أَقْبَلَ عَلَيْها مُتَلَطِّفًا، ولَمْ يَدَّخِرْ جُهْدَهُ في مُؤاساتِها، وتَهْوِينِ ما لاقَتْهُ مِنْ مَصائِبِها وَآلامِها. ثُمَّ خَتَمَ حَدِيثَهُ يَسْأَلُها: أَتَرضَى بِهِ زَوْجًا؟

فَأَجابَتْهُ: «إِنَّكَ مِثالُ الْمُروءَةِ والشَّهامَةِ وَكَمالِ الْخُلُقِ، وَلَيْسَ أَسْعَدَ لِنَفْسِي مِنْ تَحْقِيقِ ما طَلَبْتَ.»

وَتَمَّ زَواجُهُما في اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ. وَاحْتَفَى الأُمَراءُ الْخَمْسُونَ بِهِما في قَصْرِ الْجَبَّارِ، وَأَقامُوا في الْقَصْرِ أَيَّامًا، حَيْثُ جَمَعُوا — مِنْ نَفَائِسِهِ — كُلَّ ما يَسْتَطِيعُونَ حَمْلَهُ.

(١٦) غَدْرُ «حنْظَلَةَ»

وَلَمْ يَكْتُمِ الأَمِيرُ «هِبَةُ اللهِ» عَنْ إِخوتِهِ ما كانَ يُخْفِيهِ عَنْهُمْ مِنْ قِصَّتِهِ. فكانَ فَرَحُهُمْ بذلِكَ لا يعْدِلُهُ إِلَّا حُزْنُ «حَنْظَلَةَ» الْحاسِدِ.

وَقَدْ بَذَلَ الْخَبِيثُ كُلَّ جُهْدِهِ في مُداراةِ حِقْدِهِ، وَراحَ يُوَسْوِسُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْ إِخْوَتِهِ — عَلَى انْفِرادٍ — أَنَّ أَباهُمْ سَيَخْتَصُّهُ بِكُلِّ حُبِّهِ، مَتَى عَلِمَ بِما ظَفِرَ بِهِ مِنْ تَوْفِيقٍ بَعِيدِ المَدَى.

وَما زالَ «حَنْظَلَةُ» بِإِخْوَتِهِ، يُغْرِيهِمْ بالْكَيْدِ لِأَخيهِمْ — واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ — حَتَّى أَوْغَرَ صُدُورَهُمْ عَلَيْهِ، وَبَيَّتُوا مَعَهُ الْغَدْرَ للْأمِيرِ «هِبَةِ اللهِ».

•••

وَكانَتْ خُطَّةُ الْخَبيثِ «حَنْظَلَةَ» أَنْ يَنْتَهِزُوا فُرْصَةَ نَوْمِهِ، فَيَتَعاوَرُوهُ بِخَناجِرِهِمْ، ثُمَّ يَتَسَلَّلُوا بِما مَعَهُمْ إِلَى مَدِينَةِ أَبِيهِمْ هارِبِينَ.

•••

وَقَدْ أَنْفَذُوا جَرِيمَتَهُمُ الشَّنْعاءَ في مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ. وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَزَّعَتِ الْأمِيرَةُ لِمَصْرَعِ زَوْجِها؛ وَحاوَلَتْ أَنْ تَسْتَنْجِدَ بِإِخْوَتِهِ، فَلَمْ تَجِدْ لَهُمْ أَثَرًا؛ فَأَدْرَكَتْ أَنَّهُمُ الْجانُونَ.

وَأَسْرَعَتْ إلَى قَرْيَةٍ تَتَلَمَّسُ لِزَوْجِها طَبِيبًا يَشْفِيهِ مِنْ جِراحِهِ. فَلَمَّا عادَتْ وَمَعَهَا الطَّبِيبُ، لَمْ تَجِدْ لِجُثَّةِ زَوْجِها أَثَرًا؛ فَحَسِبَتْ أَنَّ بَعْضَ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ الْتَهَمَتْها؛ فَأُغْمِيَ عَلَيْها مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ.

وبَذَلَ لَها طَبِيبُ الْقَرْيَةِ كُلَّ عِنايَتِهِ. وَما زالَ يَتَعَهَّدُها — أَيَّامًا ولَيالِيَ — حَتَّى شَفاها مِنْ مَرَضِها.

•••

وَحَزِنَ الطَّبيبُ لِقِصَّتِها، فَعَزَمَ عَلَى اصْطِحابِها إلَى بِلادِ السُّلْطانِ «قابُوسَ» لِيُفْضِيا إِليْهِ بِما صَنَعَهُ الْحَقَدَةُ الْغادِرُونَ.

(١٧) أَحْداثٌ جِسامٌ

وَكانَتِ الْأَمِيرَةُ «فَيْرُوزَةُ» قَدْ رَحَلَتْ إلَى مَدِينَةِ «قابُوسَ» بَعْدَ أَنْ طالتْ غَيْبَةُ وَلَدِها الأَمِيرِ «هِبَةِ اللهِ».

فَلَمَّا سَأَلَتِ السُّلْطانَ عَنْهُ، أَدْرَكَ مِنْ حِوارِها أَنَّ الْفَتَى الَّذي أَنْقَذَ مُلْكَهُ مِنَ الْعُدْوانِ، هُوَ وَلَدُهُ. وَنَدِمَ «قابُوسُ» عَلَى قَسْوَتِهِ أَشَدَّ النَّدَمِ.

•••

وَذاعَت أَنْباءُ الْقِصَّةِ في كُلِّ مَكانٍ؛ فَتَناقَلَها الْخاصَّةُ والْعامَّةُ، واشْتَرَكَ الْجَمِيعُ في الْحُزْنِ عَلَى أَمِيرهِمُ الْغائِبِ.

فَلمَّا وَصَلَتِ الْأَمِيرَةُ «ناهِدُ» وطَبِيبُها إِلَى مَدينَةِ «قابُوسَ»، وَجَدُوا الْجَمِيعَ ولَيْسَ لَهُمْ مِنْ حَدِيثٍ إِلَّا قُدُومُ «فَيْروزَةَ» باحِثَةً عَنْ وَلَدِها، واحْتِفاءُ السُّلْطانِ بِها، فَأَسْرَعا إلَيْها، وَقَصَّا عَلَيْها ما صَنَعَهُ الغادِرونَ بِوَلَدِها.

فَأُغْمِيَ عَلَى «فَيْرُوزَةَ» مِنْ فَرْطِ الأَلَمِ. وَنَما الخَبَرُ إلى السُّلْطانِ فاشْتَدَّ بِهِ الحُزْنُ وَعَزَمَ عَلَى التَّنْكِيلِ بِالغادِرِينَ، جَزاءَ خِيانَتِهِمْ وَعُقُوقِهِمْ.

وَأَمَرَ السُّلْطانُ بِحَبْسِ أَوْلادِهِ، رَيْثَما يُنْفِذُ فِيهِمْ قَضاءَهُ. وَما كادَتْ شَمْسُ اليَوْمِ التَّالِي تُشْرِقُ، حَتَّى تَعالَتْ أَصْواتُ الفَزَعِ مِنْ كُلِّ مَكانٍ. فأَطَلَّ السُّلْطانُ من قَصْرِهِ، فَرَأَى الجُنْدَ يَفِرُّونَ أَمامَ جَيْشِ الغُزاةِ الَّذِي دَهِمَهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ. واسْتَوْلَتِ الحَيْرَةُ علَى السُّلْطانِ «قابُوسَ» وَأَهْلِهِ وَحاشِيَتِهِ، وَلَمْ يَدْرُوا كَيْفَ يَصْنَعُونَ. وَلَمْ يَلْبَثُوا أن عاوَدَهُمْ الرَّجاءَ حِينَ رَأَوْا فارِسًا يَقْتَحِمُ صُفُوفَ أَعْدائِهِمْ؛ ضارِبًا في أَقْفِيَتِهِمْ ضَرَباتٍ مُحْكَمات لا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِها، وَهُوَ يَصِيحُ: «اخْسَئُوا أَيُّها الغادِرُونَ؛ فَقَدْ جاءَكُمْ «هِبَةُ اللهِ».» وكانَ لاسْمِهِ فِعْلُ السِّحْرِ فِي نُفُوسِ الفَرِيقَيْنِ، فَقَوِيَتْ قُلُوبُ أَوْلِيائِهِ، بِمِقْدارِ ما تَخاذَلَت عَزائِمُ أَعْدائِهِ. وَهكذَا ثَبَتَ المُوالُونَ، وَهَرَبَ المُعادُونَ. وتَمَّ لِلأَمِيرِ «هِبَةِ اللهِ» النَّصْرُ.

•••

أَراكَ تَسْأَلُنِي: كَيْفَ سَلِمَ الأَمِيرُ الشُّجاعُ مِنْ جِراحِهِ، بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ؟ وَهَلْ ضاعَ ذلِكَ فِيما ضاعَ مِنْ تَفْصِيلِ القِصَّةِ؟ وَقَدْ أَجابَ الرُّواةُ عَنْ سُؤالكَ — لِحُسْن الحَظِّ — وَحَدَّثُونا: أَنَّ زارِعًا سَمِعَ أَنِينَهُ وَهُوَ سائِرٌ فِي طَرِيقِهِ، فَعَطَفَ عَلَيْهِ وَدَخَلَ خَيْمَتَهُ، وَنَقَلَهُ مُتَرَفِّقًا، عَلَى حِمارِهِ، حَتَّى وَصَلَ بِهِ إلَى دارِهِ. ثُمَّ اسْتَدْعَى طَبِيبَ القَرْيَةِ لِمُعالَجَةِ ضَيْفِهِ الجَرِيحِ، وَكانَتْ طَعَناتُ الجُبَناءِ الغادِرينَ — لِحُسْنِ الحَظِّ — غَير قاتِلَةٍ! فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ شَفاهُ الطَّبِيبُ. وَلَمْ يَنْسَ لَهُما «هِبَةُ اللهِ» حُسْنَ صَنِيعِهِما؛ فَمَنَح كُلًّا مِنْهُما بَدْرَةً مِنَ الدَّنانِير. وَبَيْنَما هُوَ عائِدٌ إِلَى مَمْلَكَةِ أَبِيهِ، إِذْ رَأَى جَماعَةً مِن فُلُولِ جَيْشِهِ، وَما كادَ يُعَرِّفُهُمْ بِنَفْسِهِ؛ حَتَّى دَبَّ فِي نُفُوسِهِمُ الأَمَلُ بَعْدَ اليَأْسِ، واجْتَمَع مِنْ شَمْلِهِمْ ما تَفَرَّقَ. وَكانَتِ المَعْرَكَةُ قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى نِهايَتِها؛ فَأَسْرَعَ إلَى الأَعْداءِ ضَرْبًا فِي أَقْفِيَتِهِمْ، وَطَعْنًا فِي صُدُورِهِمْ، وَهُوَ يُنادِي بِاسْمِهِ. فَدَبَّ فِي صُفُوفِهِمْ الرُّعْبُ وَارْتَدُّوا عَلَى أَعْقابِهِمْ خاسِرِينَ.

(١٨) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَانْتَهَزَ الأَمِيرُ فُرْصَةَ البَهْجَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي اسْتَوْلَتْ عَلَى الجَمِيعِ؛ فَالْتَمَسَ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يُطْلِقَ إِخْوَتَهُ مِنْ سُجُونِهِمْ، ويَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ. وَما زالَ يَسْتَعْطِفُهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى ظَفِرَ بِما أَرادَ.

وَكانَ دَرْسًا عَظِيمًا فِي المُرُوءَةِ وَالشَّهامَةِ، وَالنُّبْلِ وَالكَرامَةِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الانْتِقامِ، وَمُقابَلَةِ الإساءَةِ بِالإحْسانِ. وَكادَتْ تَنْتَهِي القِصَّةُ عِنْدَ هذا الحَدِّ؛ لَوْلا أَنَّ الغَضَبَ الإلهِيَّ لَمْ يُفْلِتْ رَأْسَ الشَّرِّ مِنَ العِقابِ، فَلَمْ يَكَدْ «حَنْظَلَةُ» يَدْخُلُ السِّجْنَ بَعْدَ انْكِشافِ سِرِّهِ، حَتَّى خَشِيَ انْتِقامَ أَبِيهِ، فَأَعْمَلَ حِيلَتَهُ فِي الخَلاصِ، وَصَبَرَ إِلَى اللَّيْلِ، وَحاوَلَ أَنْ يَتَسَلَّلِ مِنْ سِجْنِهِ، فِي غَفْلَةٍ مِنْ حُرَّاسِهِ؛ مُتَسَلِّقًا جِدارَهُ العالِي. فَزَلَّتْ قَدَمُهُ، وَهَوَى عَلَى صَخْرَةٍ جاسِيَةٍ؛ فَدُقَّتْ عُنُقُهُ، وَلَقِيَ جَزاءَ لُؤْمِهِ.

•••

وَلا تَسَلْ عَن فَرَحِ «قابُوسَ» وَ«فَيْرُوزَةَ» و«ناهِدَ» بِعَوْدَةِ «هِبَةِ اللهِ»؛ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْكَمَ يَأْسُهُمْ مِنْ لِقائِهِ. وَلَمْ تَكُنْ حَفاوَةُ الشّعْبِ بِأَقَلَّ مِنْ حَفاوَتِهمْ بِهِ؛ فانْطَلَقَ يَهْتِفُ بِاسْمِهِ فِي كُلِّ مَكانٍ.

وَخلَصتِ الأُسْرَةَ مِنْ «حَنْظَلَةَ» المُفْسِدِ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ بَيْنَهُمْ شَيْطانٌ مُنْذَ ذلِكَ اليَوْمِ. وَعاشَ الإِخْوَةُ جَمِيعًا مُتَحابِّينَ مُتعاطِفِينَ. وَلَمْ يَنْسَ الأُمَراءُ التِّسْعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَنَّهُمْ بِحَياتِهِمْ — لأَخِيهِمْ — مَدِينُونَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤