الفصل السادس

إيسوكراتيس

١

حياته
وُلد إيسوكراتيس عام ٤٣٦ق.م. وعاش متمتعًا بكامل قواه العقلية حتى بلغ السابعة والتسعين من العمر، وقد قضى سني طفولته وشبابه بين أهوال الحرب البلوبونيزية Peloponnesian، وعندما فشلت الحرب الصقلية كان في شرخ الصبا؛ فرجحت الكفة ضد أثينا. وفي ريعان شبابه أبصر بعيني رأسه خراب مدينته وتسليمها إلى لوساندر Lysander، وعاش إبان السيادة الإسبرطية، وشاهد أساس الحلف الأثيني الجديد سنة ۳۷۸ق.م. وقيام وانهيار سلطة طيبة. وكان في سن الشيخوخة تقريبًا عندما اعتلى فيليب عرش مقدونيا، وقد أخطأه قانون الفناء فترة من الزمن فوضع أهم أعماله بعد الثمانين من عمره. ولا يظهر في خطبته فيلبوس Philippus التي كتبها في سن التسعين أي نقص في قواه، وكتب مؤلِّفًا من أطول مؤلَّفاته «الباناثينايكوس Panathenaicus» في العام السابع والتسعين من عمره، وعاش ليهنِّئ فيليب على انتصاره في خايرونيا Chaeronea سنة ۳۳۸ق.م.
ومن المتوقع في حياة طويلة كهذه، وتنوُّع عظيم في الخبرة، أن نجد تغييرات عدة في المظهر، وتعديلًا في الأسلوب بين آونة وأخرى، بَيدَ أن إيسوكراتيس كان رجلًا ذا آراء فريدة ثابتة. وكانت له آراء عن التعليم، صاغها في خطبته ضد السفسطائيين (سنة ۳۹۱ق.م.) آراء تكاد تكون مطابقة لما سبق أن عبَّر عنه بعد أربعين سنة في الأنتيدوسيس Antidosis، وهي آراء يحتفظ بها في آخر عمل له «الباناثينايكوس» (۳۳۹ق.م.) أما بخصوص آرائه في السياسة الإغريقية، فقد ظل محتفظًا حتى نهاية حياته بالآراء الموجودة في «البانيجيوريكوس Panegyricus» لعام ۳۸۰ق.م. فلم تتغيَّر أهدافه ولو أنه بدافع الضرورة قد عدَّل السُّبل التي كان يأمل بوساطتها أن يخرجها إلى حيِّز التنفيذ.
ومعلوماتنا عن أول حياة هذا الخطيب ضئيلة، ويخبرنا هو نفسه أن الحرب البلوبونيزية١ قد بددت ميراثه حتى اضطر إلى أن يتخذ له حرفة يكسب منها عيشه.
ولا يؤيد القصة التي جاءت في «حياته» من أنه حاول إنقاذ ثيرامينيس Theramenes عندما أدانته حكومة الثلاثين، نقول لا يؤيد تلك القصة غير بلوتارخوس الكاذب، ويبدو مما كتبه أفلاطون في «محاورة فايدروس»٢ أنه كان من أعز أصدقاء سقراط، وأنه كان لسقراط آراء سامية فيه؛ فذكر أن ذلك الشاب سوف يجعل لنفسه مكانة بارزة في عالم الخطابة أو الفلسفة، ويذكر لنا العرف، أن من بين معلِّميه الأوائل من السفسطائيين بروديكوس وبروتاجوراس وجورجياس، ومن المعروف أنه زار جورجياس في تساليا.
ويؤكد بلوتارخوس أن إيسوكراتيس في وقتٍ ما افتتح مدرسة للبلاغة في خيوس Chios كان بها تسعة تلاميذ، وأنه تدخَّل في الشئون السياسية بينما كان هناك، وساعد على إقامة الديمقراطية،٣ ويمكن تصديق هذه القصة بتحفظ؛ فإن إيسوكراتيس نفسه لا يشير إليها أبدًا، وفي خطبته السادسة فصل ۲ «إلى أطفال جاسون Jason» يعتذر عن عدم زيارته تساليا، بحجة أن الناس قد يتقوَّلون على من عاش طوال حياته عيشة هادئة، لو أنه بدأ يتجوَّل في شيخوخته.٤ ويظن جِب أنه مكث مدة قصيرة في خيوس سنة ٤٠٤-٤٠٣ق.م.

وقد ألَّف إيسوكراتيس فيما بين عام ٤٠٣ وعام ٣٩٣ق.م. عددًا معينًا من الخطب للمحاكم، بَيدَ أنه لم يترافع فيها شخصيًّا بسبب مزاجه العصبي وافتقاره إلى صوت يساعده على الاسترسال في الكلام بصوت مرتفع، وقد أشار هو إلى هذَين العيبَين الطبيعيَّين في شيء من الحسرة.

وحوالي عام ۳۹۲ق.م. أنشأ مدرسة في أثينا، وفي عام ۳۹۱ق.م. نشر آراءه عن التعليم في خطبته ضد السفسطائيين. وكان جلُّ تلاميذه من الأثينيين الذين أصبح عددٌ غير قليل منهم فيما بعد رجالًا بارزين.٥
ويحتمل قيام إيسوكراتيس فيما بين ۳۷۸–۳٧٦ق.م. بعدة رحلات بحرية مع تيموثيوس بن كونون Conon’s Son, Timotheus، الذي كان مشغولًا بتنظيم الحلف البحري الجديد. ومنذ ذلك الوقت حتى سنة ٣٥١ق.م. تتلمذ عليه جملة تلاميذ مختارين من أقطار بعيدة — من صقلية وبونطوس Pontus ومن جميع نواحي بلاد الإغريق — وهذا كما يقول هو تنافس معقول إن لم يكن ثروة عظيمة.
وعندما عقدت أرتيميسيا Artimesia أرملة ماوسولوس الكاري Mausolus of Caria مباراة في الفصاحة سنة ٣٥١ق.م. تكريمًا لذكرى زوجها، يقال إن جميع الفائزين كانوا تلاميذ إيسوكراتيس.

وقد ظل إيسوكراتيس يعلِّم في الفترة الأخيرة من حياته، ٣٥١–٣٣٨ق.م. كما شغل نفسه بالكتابة والتأليف؛ فنشر خطبته فيلبوس إحدى مؤلفاته الهامة وواحدة من بين المؤلفات التي كان لها أهمية تاريخية عظيمة سنة ٣٤٦ق.م وأنشأ يؤلِّف مطوَّلته الباناثينايكوس سنة ۳٤۲ق.م. ولما أتمَّ نصفها انتابه مرض عضال أخَّر إتمامها مدة ثلاث سنوات، فانتهت في عام ۳۳٩ق.م.

وفي العام التالي تُوفي إيسوكراتيس، بعد معركة خايرونيا Chaeronea بأيام قلائل. وقد شاع في ذلك الوقت أنه انتحر بامتناعه عن الطعام عقِب انهيار الحرية الإغريقية، وهذه قصة لا يقبلها العقل، لا سيما إذا علمنا أن نتيجة تلك المعركة جعلت من المحتمل تحقيق الآمال التي كان يصبو إليها إيسوكراتيس مدة نصف حياته، والهدف الذي كان يعمل من أجله أكثر من أربعين عامًا، وهو تركيز السلطة كلها في يد رجل واحد يستطيع إنقاذ بلاد الإغريق بأن يعمل على اتحادها وجمع كلمتها، ويقودها في فتح بلاد الشرق.

حقًّا، إن آخر رسالة له كتبها بعد معركة خايرونيا، يهنِّئ بها فيليب على انتصاراته، وحتى لو سلَّمنا جدلًا بأن تلك الرسالة زائفة؛ فإنه يمكن الحكم من لهجته في مؤلفاته السابقة، بأنه كان يرحِّب بالنجاح المقدوني كانتصار لآرائه في الإمبراطورية.

٢

الأسلوب

على الرغم من أن إيسوكراتيس قد ألَّف في شبابه قليلًا من الخطَب القضائية؛ فلا يجدر بنا أن نُصدر حكمنا عليه بمثل هذه المؤلفات؛ فقد استخدم هو نفسه لهجة اعتذارية في سني حياته المتأخرة، عندما كان يتكلم عن مؤلفاته المبكرة. وقد اكتسب شهرة عظيمة كمعلِّم للبلاغة، وكما افتخر هو، كان من بين تلاميذه بعض الملوك، وكانت له سيطرة تامة على جميع مصطلحات الفن البلاغي.

وكان إيسوكراتيس كذلك إمامًا في الأسلوب. له نظريات في التأليف مثل بها عمليًّا بمهارة فائقة جعلت من الواجب أن يحتل المكانة الأولى في أية رسالة عن تطوُّر النثر الإغريقي.

وأسمى تقدير له جدير بالاعتبار، هو كمفكر سياسي، فقد عبَّر عن نظرياته الجريئة في السياسة الإغريقية بأسلوب نثري كامل بليغ العبارات، أضفى عليه صورة فنية كحلية إضافية فحسب. وإذا كان قد كتب بأسلوب في منتهى الجرأة، فلا بد وأنه قد كوَّن اسمًا بمقالاته في العلوم السياسية وبآرائه عن الروح الهيلينية التي لا يدانيه فيها أي أثيني قبله أو بعده من حيث اتساعها وحريتها، وبذا أصبح ذلك الشخص الذي ربما لم يُلقِ خطبة عامة قط، أعظم الخطباء أهمية. ورغم أنه لم يكن سياسيًّا بالمعنى الضيِّق؛ فإنه أظهر نفوذًا أوسع من نفوذ أي خطيب كرَّس حياته للنشاط السياسي، حتى ديموسثينيس؛ فقد أوجد إيسوكراتيس ونشر آراءً غيَّرت مجرى الحضارة الإغريقية تغييرًا تامًّا، وربما كان هو أول من حثَّ فيليب على محاولة غزو آسيا، كما حثَّ ديونوسيوس وآخرين على القيام بتلك المحاولة؛ كل هذا من أجل وحدة الولايات الإغريقية وانتشار الروح الهيلينية. ولا مراء في أنه قد شجَّع الملك المقدوني على مشروعه، وربما يعود إليه الفضل في تيسير الطريق أمام الإسكندر عند موت فيليب.

لم يكن إيسوكراتيس ليتنبَّأ بنتائج فتوحات الإسكندر؛ فإن الإسكندر نفسه كان يعدِّل ويوسِّع أطماعه كلما تقدَّم، بَيدَ أنه مما لا جدال فيه، أن إيسوكراتيس هو الذي أثار الرغبة العامة في تلك الحملة، ووضع إلى حدٍّ ما، الخطط الواضحة التي يجب أن تسير عليها. وإن القضايا الصغيرة التي شغلت لوسياس وأندوكيديس لتبدو تافهة عديمة الأهمية، وحتى خطب ديموسثينيس في الحماسة الوطنية ثانوية القيمة، لو قورنت بخطب إيسوكراتيس الأدبية في قضايا كان خصومها، المدنية والبربرية، الوحدة والشقاق، بينما كانت المحكمة هي العالم.

ويعتبر إيسوكراتيس في نظر ديونوسيوس، مثال الأسلوب السهل أو المسترسل للتأليف، الذي يشبه تمامًا المنسوجات الرفيعة الدقيقة الصنع، أو الصور التي يتداخل الضوء في ظلِّها بطريقة غير محسوسة.٦

ومن الجليِّ أنك إن قصدت الحصول على مثل هذه النتائج؛ فلا بد لك من أن تسمو بالتعبير إلى أرقى درجات السمو، مجازفًا بفقد الوضوح والتوكيد. ونستطيع جمع آراء إيسوكراتيس عن التركيب النثري، تارة من تقاريره هو نفسه، وتارة أخرى من نقد ديونوسيوس، وطورًا من دراسة مؤلفاته. وقد درس بلاس هذا الموضوع دراسة وافية متقنة، ولا يمكننا في هذا المجال سوى سرد ملخص موجز لأهم النتائج.

وأهم ظاهرة في أسلوبه هي عنايته باجتناب المد في الحروف، وأخص من لاحظ هذا ديونوسيوس الذي يقول بعد أن ذكر فقرة طويلة أعجبته كثيرًا من الأريوباجيتيكوس Areopagiticus:
«لا يمكنك العثور على تعقيد لفظي في حروف العلة، في الفقرة التي ذكرتها أو في أي فقرة من الخطبة كلها على ما أظن، إلا ما يكون قد فاتني من الأمثلة.»٧
وللحصول على مثل تلك النتيجة، كان لا بد له من أن يحيد مرارًا عن الصور الطبيعية للتعبير، بإدخال ألفاظ غير ضرورية، ويحتمل أن يكون إيسوكراتيس قد لجأ إلى مثل هاتَين الوسيلتَين. ولكن هذه هي المهارة التي يتناول بها موضوعاته، حتى إنه يصبح من الضروري قراءتها بإمعان للكشف عن تلك الحيل والالتواءات.٨

وكذلك، يلاحظ ديونوسيوس ندرة التعقيد اللفظي والتقاء الحروف الساكنة في مواضع الثقل، وهنا يظهر أن إيسوكراتيس قد ضاق ذرعًا باتباع قواعد تناسق النغمات الصوتية التي يفرضها عليه فنه.

ويخبر قرَّاءه في شذرة حافظ عليها هيرموجينيس Hermogenes، أن يتحاشَوا تكرار نفس المقطع في الكلمات المتوالية مثل، ἔνϑα Θαλής, ηλικὰ καλά.٩ وقد اكتشف بلاس بعبقريته فقرات غيَّرت فيها الطريقة العادية لاجتناب تجاور مثل تلك المقاطع المتشابهة.١٠ كذلك يثقل النطق ببعض مجموعات من الحروف الساكنة؛ ولذا يجب اجتنابها. وفي الحقيقة، لقد كان ديونوسيوس عادلًا في ملاحظته أنه يلزم عند قراءة إيسوكراتيس، أن ننظر إلى الجمل كاملة لا إلى الألفاظ منفردة.

وثالثة مميِّزات أسلوب إيسوكراتيس، هي عنايته بالوزن.

وقد حال إسراف جورجياس دون تقدُّم اللغة، بإدخاله في النثر أوزان ولغة الشعر. ولقد درس ثراسوماخوس، كما نعلم من كتاب البلاغة لأرسطو، أثر الوزن في بداية ونهاية فقرات السجع، وفي الوقت الذي يأسف فيه إيسوكراتيس لاستخدامه الأوزان الشعرية في أي معنًى ظلف، نجده في حالة النثر الخطابي يؤكد ضرورة استخدام أوزان خاصة به، ومجموعات متآلفة من التروخي والإيامبوس الذين يفضِّلهما.١١ وفي هذا نراه يخالف سقراط الذي لا يستسيغ الوزن الإيامبي لشدة مشابهته لطريقة الكلام العادي، ولا التروخي لأنه خفيف جدًّا وكثير الزلل بالنسبة إلى الوزن السداسي Hexameter الذي يعتبره مناسبًا جدًّا للغة التخاطب.١٢

يشتهر سجع إيسوكراتيس بروعته، وتظهر تحليلات بلاس، تعقيدًا في تركيب بعض الجمل الطويلة التي يمكن مقارنتها إلى حدٍّ ما بأسلوب قصيدة بندار الغنائية، وربما لا يكون هناك كاتب قط، استعمل مثل ذلك التركيب الرائع للجمل المركَّبة في تأليف عباراته. ولكن إيسوكراتيس كان طوع فضائل نفسه؛ فعبارات سجعه طويلة وكاملة، ومنتظمة فنيًّا، لدرجة أنها تظل على وتيرة واحدة باستمرار. أما لوسياس الذي يقل عنه في كمال الشكل، فأكثر تنوُّعًا. وديموسثينيس الذي استطاع تكوين عبارات سجع طويلة، لم يقتصر عليها، بل أعطى لأسلوبه روحًا بعبارات متناقضة.

يدين تركيب السجع بطبيعة الحال إلى صور التعبير الخاصة بالطباق والمقابلة؛ فقد لاحظنا في أنتيفون كثرة أنواع الطباق اللفظية المتنوعة، فهناك δέ, μὲν, ἔϱγῳ, λόγῳ وغيرها. ولمَّا كان أمام إيسوكراتيس نماذج أسلافه، وحكم رجال البلاغة، ونظرياته الخاصة بتركيب الجمل؛ فقد كوَّن طريقة كاملة للموازنة بين اللفظ والإحساس والصوت.
وعلى ذلك تتركب عبارات السجع كما رأينا من κώλα أو أعضاء، تطابق كل منها الأخرى في الطول، وأزواج اﻟ κώλα المتقابلة تحوي أزواجًا من الكلمات المتقابلة في المعنى أو الشكل أو الصوت، وبذا تصبح عبارة السجع كلها مرتبطة ببعضها البعض تمامًا.

المفردات والصيغ

تحاشى إيسوكراتيس الإفراط في المفردات، وإنه تبعًا لحكم ديونوسيوس أنقى الخطباء الآتيكيين باستثناء لوسياس، ولو قارنَّا بين إيسوكراتيس ولوسياس؛ لوجدنا أن إيسوكراتيس أكثر ميلًا إلى الكتابة الرائعة؛ إذ استطاع باستخدام الألفاظ العادية أن يُنتج آثارًا ملحوظة، فضلًا عن أنه كان يسعى دائمًا وراء عظمة خاصة في القول. ونلمس هذا كثيرًا في الكتابات الاستعراضية مثل «هيلين» و«بوسيريس Busiris»؛ حيث تكثُر الألفاظ الفصيحة ويشيع استعمال المجازات والاستعارات أكثر مما في المواضيع الحقيقية.
ومما كان يغرم به ويحاكيه فيه كل من جاء بعده من الخطباء تقريبًا، عدم الحشو بالمترادفات للتعبير عن فكرة واحدة.١٣ وفي بعض حالات نعثر على مترادفات تتضارب ظاهريًّا في مختلف أجزاء العبارة، ومثل هذا التضارب لفظي فحسب، ويقصد به وزن العبارة في وقعها على الأذن. وفي كلا الحالَين نلاحظ أن هذا الخطيب كان يخرج عن البساطة ليجعل عباراته ترتاح لسماعها الأذن، غير أنه لا يخرج كثيرًا عن المعنى.١٤
ومن مستلزماته الأخرى استعمال جمع المصدر بنفس معنى مفرده.١٥ فكل هذه التفاصيل — من الميل إلى المركَّبات، وتكديس المترادفات، واستعمال الجمع بدل المفرد — يمكن جمعها تحت اسم «المبالغة في التعبير»، وقد سجِّلت كمميزات للأسلوب البلاغي.

وعلى العموم فإن لهجته رفيعة، ويميل إلى الظهور بالروعة عند مقارنته بلوسياس. أما إذا أخذنا جورجياس كنموذج ومستوًى؛ فإننا نرى إيسوكراتيس الذي كان يقلِّد الأسلوب الصقلي، يفوق هذا النموذج من ناحية تهذيب الأسلوب.

٣

التعليم

لما كان إيسوكراتيس محرومًا من إظهار مواهبه أمام الجمهور بسبب عجزه الطبعي، ولما كان مضطرًّا إلى كسب رزقه؛ حيث إن الحرب البيلوبونيزية قد استنفدت كل ثروته؛ فقد احترف مهنة كان يصلح لها كل الصلاحية، ألا وهي مهنة التعليم؛ فكان لعدة سنوات، كجورجياس، معلِّمًا للبلاغة، ويمكن اعتباره كجورجياس، سفسطائيًّا. وهذا الاسم مضلل، فلا يقصد به في حد ذاته أكثر من معلم أو مدرِّس للحكمة، ويستعمله قدامى الكتَّاب في معنًى تقريظي، ويستخدمه هيرودوت في حالة الحكماء السبعة. وفي القرن الرابع كان الشعراء الهزليون ينظرون إلى اسم السفسطائيين نظرة ازدراء، وهي عادة كانت شائعة في ذلك الوقت لاحتقار كل ما لا يفهمه العامة، ولكن أفلاطون كان يزدري هذا الاسم على أساس معقول؛ فعلى الرغم من أنه كان يعترف بأن بعض السفسطائيين أمثال بروتاجوراس كانوا رجالًا جديرين بكل احترام وإجلال، إلا أنه كان ينتهز فرصًا عدة ليستخفَّ بالسفسطائية كفِئة، وبالسفسطة كمهنة.

وما من شك في أنه كان جد مخلص، إذ كان يجد صعوبة جمَّة في التفرقة بين المعلمين وبين مدرِّسه سقراط الذي أشار إليه أريستوفانيس كأحد العامة.١٦

ويبدو لنا أنه لا يمكن الاحتفاظ بذلك الفارق الملموس، فبصرف النظر عن شذوذ سقراط في رفضه أخذ أتعاب من تلاميذه؛ فهو يتميَّز فقط بخلق أرفع من خلق باقي السفسطائيين. وكان مثلهم دائم الشك في الآراء الفلسفية، وكان مثلهم معلِّمًا.

على أية حال، لقد قبلنا هذا اللفظ، بقيمته التي قدَّرها له أفلاطون، بَيدَ أنه لا ينبغي أن نحسب أن هذه هي القيمة التي كانت شائعة عادة. ويتضح هذا من الواقع في أن إيسوكراتيس كان يمكنه استعمال تلك الكلمة دون أية فكرة للاستخفاف.

ورغم أنه كتب خطبة «ضد السفسطائيين»؛ فإنها لم تكن موجَّهة ضد المهنة عامة، بل ضد فئات خاصة كان يسمِّيها «ἀγέλαιοι σοφιοταί سفسطائيين من النوع الوضيع».
وأول عمل لإيسوكراتيس عن التعليم، هو الخطبة أو المقالة «ضد السفسطائيين» (الخطبة ۱۳)، وتاريخها منذ بدء احترافه تلك المهنة، أي حوالي عام ۳۹۰ق.م. ولدينا جزء فقط من تلك الخطبة ربما يقل عن نصفها. وما يتبقى فهو محض نقد هدَّام يقصد به إظهار نظرية الكاتب نفسه، كما يتضح من الكلمات الختامية، وإنه ليحق لنا أن نأسف على فقد ما ضاع من تلك الخطبة، ولو أنه ليس من العسير تعويضه؛ إذ إن الخطبة «عن أنتيدوسيس Antidosis»، التي كتبت بعد ذلك بخمس وثلاثين سنة، تكملها ببيان تركيبي كامل.
ومقدمة خطبته «عن السفسطائيين» قاسية في شدتها:١٧

«لو اقتنع جميع معلِّمينا المحترفين بقولهم الصدق، ولم يعدوا بأكثر مما ينوون القيام به، لما كانت لهم سمعة سيئة بين العوام. فالواقع، أن سفاهتهم الوقحة قد شجَّعت الرأي القائل بأن حياة الكسل والتغافل خير من حياة موقوفة على الفلسفة.»

ثم يستطرد في حديثه لينقذ طبقات مختلفة فيقول:

«لا يمكننا أن نتجنَّب كراهية واحتقار أساتذة النقاش الجدلي الذين، في الوقت الذي يدَّعون فيه بأنهم يسعَون للوصول إلى الحقيقة، يقدِّمون الكذب في مستهلِّ ادعاءاتهم؛ فيعترفون بأنهم يستطيعون التنبُّؤ بالمستقبل، وهذه قوة أنكرها هوميروس حتى على الآلهة، كما يؤكدون لتلاميذهم معرفتهم التامة للسلوك القويم، ويعدونهم بالسعادة نتيجة لذلك. إنهم يعرضون للبيع تلك البضاعة الفاسدة بسعر فاحش يبعث على الضحك — ثلاثة أو أربعة ميناي.١٨ حقيقة إنهم يدَّعون بغضهم للمال — مجرد مقدار تافه من الفضة، أو كما يسمونه «نظير ذلك الربح الضئيل»، سيرفعون تلاميذهم إلى مستوى الخالدين تقريبًا. إنهم يدَّعون بأنهم يعلمون كل فضيلة، غير أنه يلاحظ أنه يجب على التلاميذ تقديم ضمان عن سداد مصروفاتهم قبل أن يسمح لهم بتلقِّي المنهج.
تعيد إلينا نغمة هذا الطغيان، ذكرى هجمات سقراط الأفلاطوني ضد «السفسطائيين المجادلين eristic Sophists» غير أنه من المسلَّم به قطعًا أن الذين يهاجمهم إيسوكراتيس هنا، هم بعض السقراطيين الأقل أهمية، ويتجلى هذا بوضوح إذا ما رجعنا إلى فقرة ۳ عن المعرفة (έπιστήμη) التي، تبعًا لهؤلاء المعلمين، سوف تسوق إلى مسلك قويم، أو فضيلة، ومن ثَم إلى السعادة.
والرأي السقراطي بأن المعرفة أساس الفضيلة، والفضيلة أساس السعادة، معروف تمام المعرفة. ولم يعترف سقراط نفسه بأنه يعلِّم الفضيلة نظير أجر، بَيدَ أن الميجاريين Megarians أتباع تلميذه يوكليديس Euclides فعلوا ذلك، ويبدو أن تهكُّم إيسوكراتيس موجَّه إليه. ويؤكد إيسوكراتيس في مكان آخر أن المدرسة الأفلاطونية تتعلق بطبقة الجدليين١٩eristic class.
«يأتي بعد ذلك معلِّمو النقش السياسي بالممنوعات، أعني معلِّمي البلاغة العملية سواء أكانوا قضاة أو مستشارين،٢٠ فهم لا يهتمون بالحق إطلاقًا، في حين أن الجدليين يهتمون بالبحث عنه. إنهم يعتبرون مهمتهم جذب أكبر عدد مستطاع من التلاميذ بما يتقاضونه منهم من أجور زهيدة، أو بما يعدونهم به من وعود خلَّابة. حقًّا إنهم في منتهى الغباوة ويظنون غيرهم أغبياء، حتى إنه بالرغم من كون الخطب التي يكتبونها أسوأ مما يستطيع ارتجاله غير المحترفين؛ فإنهم يتعهَّدون بأن يجعلوا من تلاميذهم خطباء يتساوون مع أية شخصية بارزة. إنهم يدَّعون أن في مقدورهم تعليم الخطابة بالسهولة التي يعلَّمون بها الحروف الأبجدية، وأن الخطابة موضوع ذو قواعد محددة غير قابلة للتغيير، في حين أن ظروف المتكلم ليست واحدة في أي فرصتَين.

يتوقَّف نجاح الخطبة على ملاءمتها للموضوع، وللظروف، وللخطيب، ويجب أن تكون إلى حدٍّ ما طبيعية. ويمكن للتعليم أن يكسبنا مهارة فنية؛ ولكنه لا يستطيع أن يوجد ملكة الخطابة التي يلزم أن تكون متأصِّلة في نفس الخطيب الجيد بمحض الطبيعة والسليقة.»

لا ريب في أن إيسوكراتيس قد اعترف بإعطائه تدريبًا عمليًّا عن الحياة العامة، ولكنه يذكر هنا ما يكرره بتأكيد أكثر، في شيء كتبه فيما بعد.٢١

«ولا بد للتوضيح في الكلام أو العمل، أو في أي عمل آخر، من ثلاثة ضرورات؛ استعداد طبعي، وتدريب نظري، وخبرة عملية. ولا يُستغنى عن أولاها، بل على العكس هي أهمها كلها.» غير أن السفسطائيين ادَّعوا استغناءهم عن تلك الضرورة الأولى، وهذا أسُّ تنازع الفلاسفة معهم.

ويتناول القسم الثالث من الخطبة، القائم طبيعيًّا على القسم الثاني، كتابًا للإرشادات الفنية للبلاغة (τέχναι).
«يدَّعون أنهم يعلمون قوانين القضاء، مختارين لأنفسهم ذلك اللقب البغيض الذي يصبح أكثر بلاغة في أفواه معيريهم. إنهم شر ممن ينغمسون في حمأة «الجدل»؛ إذ يتظاهرون باهتمامهم بالفضيلة والاعتدال، في حين أن من نحن بصددهم الآن يعلِّمون الناس ألا يتدخلوا فيما لا يعنيهم، وأن يبتعدوا عن خلَّة الحسد الدنيئة.»٢٢
وهنا أيضًا نرى أن إيسوكراتيس، الذي كوَّن بنفسه فنًّا للبلاغة، لا يتهم كل من يحاول تعليم ذلك الموضوع، وجلُّ شكواه في أن أغلبية أولئك المعلمين قد تفرَّغوا للقسم الوضيع من تلك المهنة، وجليٌّ أن هذا النقد وجيه ويردده أرسطو الذي يعلن أن الخطابة أمام مجمع عام أقل تفاهة من الخطابة في محكمة.٢٣
حقًّا إن الخطبة «عن الأنتيدوسيس (عن تبادل الأملاك)» دفاع لإيسوكراتيس عن حياته وعن مهنته؛ فقد تحدَّاه ميجاكليديس Megacleides سنة ٣٥٥ق.م. في تحويل السفن وإعدادها، وإلا كان على إيسوكراتيس أن يقبل «الأنتيدوسيس» أو تبادل الأملاك؛ فكان ذلك الأمر موضوع محاكمة ترتَّب عليها أن قام إيسوكراتيس بقيادة السفن الحربية، وبعد ذلك بمدة — عامين تقريبًا — كتب هذه الخطبة، وهي ليست ذات أهمية تاريخية طالما أن اسم المدَّعي «لوسيماخوس Lysimachus» نفسه اسم خيالي. وتبدأ الخطبة بتشبيه ذي صورة قضائية في فقرة ١٤، غير أنه سرعان ما يسقط الادعاء. وتلخَّص الحجة في الخاتمة (فقرات ۳۲۰–۳۲۳) إلا أن الجزء الأكبر من الخطبة لا يمتُّ بصلة إلى أية محاكمة حقيقية أو خيالية.

وتنقسم المقالة، كما يمكن أن نسميها، إلى قسمين؛ ففي الفقرات ۱٤–۱٦٦ يدافع كاتبها عن أخلاقه الشخصية، وفي الفقرات ١٦٧–٣١٩ يدافع عن طريقته في التعليم.

والتهمة التي يدافع عنها هي أنه كان من عادته إفساد الجيل القادم بتعليمه قوانين المقاضاة؛ فلم يجد صعوبة تذكر في البرهنة على أن عمله الرئيسي كان أكثر نبلًا من البلاغة القضائية؛ ففي الوقت الذي شغل فيه غيره بقضايا المحاكم الصغيرة، ألَّف هو خطبًا تحمل على الشئون السياسية لبلاد اليونان بأكملها. وقد برهن على ذلك بسرد فقرات طويلة من أشهر مؤلفاته: البانيجوريك (فقرة ٥٩)، وعن السلم (فقرة ٦٦)، ونيكوكليس Nicocles (فقرة ۷۲).
وكما سبق أن ذكرنا يشتمل النصف الثاني من الخطبة على بيان ودفاع عن نظرية إيسوكراتيس، فيقول:

«إن الفلسفة للروح كالرياضة البدنية للجسد.»

أما تشبيهاته فيحكم إتقانها تمامًا:

«يعلِّم مدرِّب الرياضة البدنية تلاميذه أولًا القيام بالحركات واحدةً واحدة، ثم يجمعها بعد ذلك مع بعضها البعض كذلك المعلم، يتبع نفس النظام، ويصر الاثنان على تمرين طويل شاقٍّ، بَيدَ أنه لا يستطيع مدرِّب الجسد أن يخلق من الرجل بطلًا رياضيًّا، كما لا يتسنى لمدرِّب العقل أن يجعل من كل فرد خطيبًا. فلا بد للنجاح من مستلزمات ثلاثة؛ استعداد طبعي، وتعليم صحيح، وتمرين طويل، وزيادة على ذلك يجب وجود إرادة مستمرة من جانب كلٍّ من المعلم والتلميذ. والمقدرة الطبعية أهم هذه العناصر؛ فقد ينهار التدريب مهما كان كاملًا لو كان الخطيب تنقصه الجرأة.٢٤

ومما يثير الضحك أن يتوقَّع بعض الناس تحسُّنًا ملموسًا بعد دراسة أيام قلائل على يد سفسطائي، ويطلب مرانًا تامًّا في عام واحد. وهيهات لأية مرتبة من التعليم أن تأتي بمثل هاتيك النتائج، ولا مبرر للاستخفاف بنا كطبقة معلِّمين لعدم استطاعتنا القيام بأكثر مما نعترف بإمكاننا القيام به، فلا يمكننا جعل جميع الناس خطباء، ولكن يمكننا تهذيبهم.»

«ويؤكد آخرون أن لفلسفتنا ميولًا تتنافى مع الأخلاق، وإني لن أدافع عن كل من يدَّعون كونهم مهذبين، بل سأدافع عمن يستحقون هذا اللقب؛ فلن نربح شيئًا من إفساد أخلاق الناس، بل بالعكس؛ فإن خير ما يصبو إليه السفسطائي، هو أن يجعل تلاميذه عقلاء ونبلاء يخدمهم زملاؤهم، وإن تلاميذنا ليأتون إلينا من صقلية، وبونطوس، ومن بلاد أخرى نائية؛ فهل تكبَّدوا مشقة المجيء من تلك البلاد القصية ليتعلموا الشرور؟ كلَّا، وألف مرة كلَّا؛ فقد كان في استطاعتهم أن يحصلوا على كثير من التعليم في بلادهم، ولكنهم يتجشَّمون المتاعب وركوب الأخطار، ويتكبَّدون نفقات باهظة، لاعتقادهم الراسخ بأن في استطاعة أثينا أن تلقَّنهم خير تعليم في العالم.»

«كذلك، ليست قوة المناظرة في حد ذاتها مفسدة للأخلاق؛ فقد درس أعظم ساسة هذه الأجيال والأجيال السابقة الخطابة ومارسوها، أمثال صولون Solon الذي سُمي أحد السفسطائيين السبعة، وثيموستوكليس، وبركليس. وإنك لتلوم الطِّيبيين على افتقارهم إلى التهذيب؛ فلمَ تلومنا إذَن، نحن الذين نسعى لنأخذ قسطًا منه؟ وإن أثينا لتبجِّل ربة الإغراء بذبيحة سنوية، ومع ذلك فيهاجمنا أعداؤنا لبحثنا عن الموهبة التي تمثِّلها هذه الربة.»
«لقد هاجمنا حتى «الجدليون»،٢٥ وبغض النظر عن الرد؛ فإني مستعد للاعتراف بأنه يمكننا أن نجني خيرًا كثيرًا حتى من النزاع الجدلي ومن علم الفلك٢٦ ومن الهندسة: فهي تفيد كدراسة تحضيرية لدراسات أعلى.»

«ورأيي في الفلسفة بسيط؛ فمن المحال أن تحصل على معرفة تامة بما يجب وما لا يجب أن تفعله، ولكن العاقل هو من يستطيع التخمين بنجاح بصفة عامة، والفلاسفة هم أولئك الذين يدرسون كي يصلوا إلى هذه الحكمة العملية. فلا يوجد، ولم يوجد قط، علمٌ في قدرته أن يهَب العدالة والفضيلة لمن ليس عندهم ميل طبعي إلى هاتَين الخلَّتَين، ولكن الرجل ذا الرغبة في الخطابة أو الكتابة الجيدة، وفي إغراء غيره، يصبح صدفة أكثر عدلًا وفضلًا؛ إذ للأخلاق أن تقول كلمتها وتحكم أكثر من أي شيء سواها.»

«فالخطابة، بعد تفكير ورويَّة، تسوق إلى العمل المتقن، وإن تربيتك الراقية لترفعك على من سواك من الإغريق، كما يعلو الإنسان على سائر الحيوانات الدنيا، والإغريق على البرابرة. إذَن فلا تعاقب من يلقِّنونك هذه التربية.»٢٧
فإذا ما جمعنا هاتَين المقالتَين وأكملناهما ببضع فقرات من الخطب الأخرى، أمكننا أن نكوِّن فكرة طيبة عن نظام إيسوكراتيس، ويمكن تمييز فلسفته عن التخيُّلات النظرية البحتة، مثلما تتميز نظريات الأيونيين Ionians الطبيعية، أو منطق بارمينيديس Parmenides، عن الجدل — وهو فن الجدل لأجل الجدال — وعن الهندسة وعلم الفلك، وعن العمل الأدبي العديم الفائدة العملية، وعن بلاغة دور القضاء.

قد يفيد الأطفال في المدارس من دراسة النحو والشعر، وفي سنٍّ متأخرة تكون دراسة الرياضيات التطبيقية، وحتى «الجدل»، تمرينات عقلية ملائمة، غير أنه تجب ملاحظة أنها فقط إعداد لفلسفة إيسوكراتيس التي هي للروح بمثابة الألعاب الرياضية للجسد:

فكما أن المدرِّب الرياضي يعلِّم أولًا طرق الدفاع والاتِّقاء، كذلك معلم الفلسفة يطلب من تلاميذه أولًا حفظ جميع أساليب الإنشاء النثري،٢٨ ثم يجعلهم يربطون ما حفظوه. ويجب حسن اختيار مواضيع مثل هذه التمرينات حتى تكون عملية وتتناول أغراضًا واسعة.

إن تدريب المرء على مثل هذه الأمور يعدُّه، بقدر ما تسمح به طبيعته، للكلام والعمل أمام الجمهور، وعلى ذلك يكون ما يسميه إيسوكراتيس «فلسفة»، هو في الواقع علم السياسة العملية.

ويبدو أن إيسوكراتيس بلغ الكمال في كل شيء؛ فقد كان شخصيًّا محبًّا للجد والعمل، أولى مؤلفاته عناية فائقة، وكان يتوقع من تلاميذه أن يشتغلوا بجِد؛ فلم يقنع كبعض السفسطائيين بجعلهم يحفظون مذكراته المنقَّحة عن ظهر قلب، بل جعلهم يعتمدون على أنفسهم. وكان يسخر من المعلمين الذين يدَّعون إمكانهم تثقيف تلاميذهم في عام؛ إذ كان أكثر اعتدالًا في وعوده لتلاميذه، ومع ذلك فقد اقتضى تعليم مقرره ثلاث أو أربع سنوات. وكان يؤمن بالتعليم الفردي أكثر من تعليم الفصول.

وهناك رواية لبلوتارخوس الكاذب تقول إنه قد حضر إليه يومًا ما ثلاثة من تلاميذه في وقت واحد؛ فلم يقبل سوى اثنين منهم، وأخبر الثالث أن يعود في اليوم التالي. وقد حاول أن يربِّي في تلاميذه سعة التفكير الظاهرة بوضوح في خطبه، والتي ساعدته على أن يغضَّ النظر عن محاكمات دور القضاء، وعن صالح الأحزاب، أو حتى عن الصالح الفردي للدولة، واضعًا نصب عينيه فكرة الوحدة القومية، والروح السامية التي مكَّنته في عصر الخطباء الأنانيين والسفلة، من السير قدمًا في طريقه نحو الصدق دون محاباة لأي اعتبارات شخصية، وغير منحدر إلى الطعن أو السب.

٤

الوطنية

لم يكن إيسوكراتيس أقل وطنية من ديموسثينيس، ولو أنه كان يختلف عنه كثيرًا في آرائه السياسية التي يمكن جمعها من مجموعة خطب له تدور حول مواضيع قومية وضعها في حقبة تزيد على الأربعين عامًا.

ويحتمل أن تكون «البانيجوريك» أولى هذه الخطب قد ألِّفت لتنشر في اجتماع من الاجتماعات القومية الكبيرة، وربما كان هو العيد الأوليمبي لسنة ٣۸۰ق.م. تقريبًا. وحقيقة كان هذا وقتًا مناسبًا. وقد رأى إيسوكراتيس أنه ما من حل لتلك المتاعب، وما من فرصة للسلم أو الصلح إلا إذا كان هناك مشروع يربط مشاعر المدن المتنازعة ويحثها على ترك الخصومات الشخصية، ويزجَّها متكاتفة في قضية تتعلق بهيلاس Hellas كأمة واحدة.

وما من باعث أمكنه توحيد الإغريق ولو مؤقتًا سوى عداوتهم للبرابرة؛ فتناوله إيسوكراتيس ورسم صورة حية لحالة البؤس التي آل إليها العالم الإغريقي بسبب الحرب الأهلية، ثم برهن كيف أدى نفوذ بلاد فارس، مع قيام تلك الحرب، إلى خراب بلاد الإغريق. وبعد أن ناقش طلب إسبرطة وأثينا للزعامة، اقترح وجوب الاتفاق على صلح وحثهما على الاتحاد مع غيرهما للقيام بحرب شعوبية ضد الفرس.

ولم يكن ثمة أثر عملي لهذه الخطبة؛ فإن نهضة طيبة بعد ذلك التاريخ بفترة وجيزة، غيَّرت من توازن القوى، وعلى العموم لم تحسن الأحوال. فلما فقد إيسوكراتيس كل أمل في إيجاد قضية مشتركة داخل بلاد اليونان نفسها، تطلع إلى زعيم يقود البلاد. فكتب سنة ۳٦۸ق.م. أو حوالي ذلك التاريخ إلى ديونوسيوس السيراكوزي الذي كانت له في ذلك الوقت إمبراطورية تفوق أية ولاية إغريقية، يحثُّه على المجيء ليتزعَّم الروح الإغريقية القومية.٢٩
وفي سنة ٣٦٥ق.م. حوَّل إيسوكراتيس اتجاهه نحو إسبرطة، فكتب إلى أرخيداموس Archidamus الذي كان قد ورث الملك حديثًا عن والده أجيسيلاوس Agesilaus، يحثه على اتخاذ ما يراه «لوضع حدٍّ للحرب الأهلية في بلاد الإغريق، وكبح جماح البرابرة وتجريدهم من بعض امتيازاتهم التي اكتسبوها بدون حق.»

فلو كان أرخيداموس كأبيه في شدة البأس وزاد عليه في عدم الأنانية؛ لأصبح زعيمًا للجهاد الذي أعدَّه له إيسوكراتيس.

وكانت أغلبية الإغريق تنظر وقتذاك إلى فيليب المقدوني، رغم الشهرة التي بدأ ينالها، كأمير فقير مزعزع على عرشه المغتصب، الذي سوف يُطرَد عنه في أي وقت إما بالثورة وإما بالاغتيال، ولكنه وضع يده في تلك السنة على مناجم الذهب في بانجايوم Pangaeum، وسرعان ما لوحظ أن مقدونيا ستلعب دورًا رئيسيًّا في السيادة الإغريقية.
وفي عام ٣٤٦ق.م. خاطب إيسوكراتيس فيليب في أن يتولى الأخير الزعامة، أولًا لجمع سائر الدويلات الإغريقية في اتحاد واحد، وثانيًا لقيادتهم كي يهزموا البرابرة.٣٠ وبذلك انتهت العداوة التي كانت قائمة بين فيليب وأثينا لمدة عشر سنوات، بسلم فيلوكراتيس. ولمَّا كان من رأي إيسوكراتيس أن أمفيبوليس Amphipolis التي كانت سبب النزاع، لا يرغب في امتلاكها كلا الفريقَين؛ فقد كان يظن ويؤمِّل في إمكان دوام السلم.

ورغم فشل البانيجوريك والالتماسات التي قُدِّمت إلى ديونوسيوس وأرخيداموس؛ فإن إيسوكراتيس كان يأمل في نجاح تقديم رجاء إلى فيليب؛ فكتب إليه يقول:

«لقد قرَّ رأيي على مفاتحتك في الموضوع، لا كشكوى خاصة، ولو أنه كان يسرُّني أن تحظى كلماتي بعطفك، ولكن دفعني إلى ذلك أني وجدت عامة الرجال البارزين الآخرين قد وجب عليهم أن يطيعوا بلادهم وقوانينها، وألا يفعلوا غير ما يطلب منهم عمله، ومع ذلك، فليس في مقدور أحد منهم أن يضطلع بالأمر الذي عزمت الآن على مناقشته.»

«فإنك أنت وحدك، عن طريق ثروتك، قد خوَّلت لنفسك سلطة كاملة لتبعث السفراء لمن أردت، وتستقبلهم حيث شئت، وتقول ما تعتقد أنه مجد، وزيادة على ذلك فإنك ذو ثروة وقوة لا يتمتع بمثلهما غيرك من الإغريق؛ وهما أقوى عاملين كي تحثَّ أو تملي إرادتك، وستجد الحث كافيًا للإغريق بينما لا يُجدي مع البرابرة غير إجبارهم.٣١

وهاك تلخيصًا لبعض فقرات الخطبة يوضح فحواها:

«من واجبك أن تسعى في عقد الصلح بين المدن الأربع العظيمة؛ أرجوس وإسبرطة وطيبة وأثينا. أعِد هذه المدن إلى رشدها، عندئذٍ لا تجد صعوبةً مع بقية المدن التي تعتمد عليها (الفقرتان ٣۰-٣۱)؛ فإنك من سلالة من أرجوس، وما كان يصح أن تعاديك هذه البلدان أو بعضها، بل كان يجدر التسامح حيث كانت جميعها مخطئة (الفقرات ۳۳–۳۸). فلو كانت الغلبة الآن لأثينا أو إسبرطة، لما أمكن عمل شيء، ولكن جميع المدن العظمى الآن، عمليًّا، في مستوًى واحد. وليست هناك عداوات متغلغلة لا يمكن التغلُّب عليها؛ فقد سبق أن تحالفت أثينا عدة مرات مع كلٍّ من طيبة وإسبرطة. وأن كلًّا من إسبرطة وأرجوس وطيبة، لراغبة في السلم. وقد ثابت أثينا إلى رشدها كغيرها فعقدت الصلح، وهي الآن على أتم استعداد لتمنحكم عطفها الفعَّال (الفقرات ٣٩–٥٦).»

«والتاريخ مليء بأمثلة عدة لرجال ليسوا على كثير من المواهب والميزات، بل وعديمي الكفاءات، قاموا بعظائم الأعمال. أما أنتم مع وفرة مواردكم؛ فستجدون هذه المهمة سهلة يسيرة (الفقرات ٥٧–٦۷).»

«سيكون النجاح في مثل هذه القضية رائعًا، وحتى الفشل نفسه سيكون نبيلًا، وإن الواشين ليوعزون إليكم بإخضاع بلاد الإغريق، ولكنكم ستقنعونهم بخطئهم (الفقرات ٦۸–۸۰).»

«كفى هذا عن واجبكم نحو بلاد الإغريق، ولنَعُد الآن إلى فتح آسيا؛ فقد فشل أجيسيلاوس Agesilaus لأنه أثار الأحقاد السياسية.»
«لقد هزم الإغريق الجيش الفارسي بقيادة قورش Cyrus، وعلى الرغم من أنهم تركوا بلا قائد فقد أجادوا الانسحاب. ألا ترون أن كل الظروف في صالحكم؟ فإن إغريق آسيا في عداء مع قورش وسيرحبون بكم. وإن ملك فارس الحالي لأقل بأسًا من سابقه الذي حاربه قورش، وقد انقسمت فارس على نفسها، أما قبرص وكيليكيا Cilicia وفينيقيا Phoenicia التي أمدت الملك بالسفن، فلن تفعل بعدئذٍ مثل ذلك العمل (الفقرات ۸۳–۱۰٤).»
«وقد تهدفون إلى فتح المملكة الفارسية برمَّتها؛ فإن فشلتم في ذلك فقد تربحون كل ما هو غرب الخط الواصل من كيليكيا إلى سينوب Sinope، وحتى هذا يكون فوزًا باهرًا؛ إذ يمكنكم أن تبنوا مدنًا تضم الجنود المرتزقين الذين دفعتهم الفاقة إلى الارتحال والفتك بمن يقابلونهم من السكان المستوطنين؛ وهذا أمر فيه مضايقة للإغريق والفرس على حدٍّ سواء، وإنكم ستقدِّمون إلى هؤلاء الرجال خدمة جليلة، وفي نفس الوقت تكوِّنون منهم حرسًا دائمًا لحدودكم».

«ولو أصبح هذا فوق طاقتكم؛ فعلى الأقل يمكنكم تحرير المدن اليونانية الآسيوية، وسواء عظم نجاحكم أو قل؛ فلا أقل من أنكم ستنالون صِيتًا عظيمًا، لقيادتكم حملة اتحدت وتكاتفت فيها جميع بلاد الإغريق (الفقرات ۱١۹–۱٢٦).»

«وليس في طوق أية دولة أو فرد آخر أن يضطلع بهذا العمل؛ فأنتم في حل من كل قيد إذ إن كل هيلاس وطنكم، وستقاتلون لا طمعًا في سلطان أو مال، وإنما من أجل المجد، وستكون رسالتكم إذَن أن تكونوا أصحاب الفضل في بلاد الإغريق، وملك مقدونيا، وحاكم آسيا (الفقرات ۱۲٧–١٥٥).»

ولربَّ قائل يقول إن إيسوكراتيس قد غالى كثيرًا في تقدير صفاء دوافع فيليب، ومن ناحية أخرى يمكن ملاحظة أن فيليب ربما كان يفضِّل السير عن رغبة صادقة إلى آسيا كقائد للقوات الإغريقية المتحدة. وإن الرجل الذي اعتبره إيسوكراتيس إغريقيًّا من أصل ملكي أو نصف إلهي، والذي وصفه ديموسثينيس بأنه بربري من الصنف الوضيع، كانت تغلب عليه طبيعته الإغريقية أكثر من البربرية؛ فعلى الأقل قد أظهر عطفًا خارقًا نحو أثينا، وعاملها باحترام أكثر مما تستحق مبجَّلًا إياها من أجل عظمتها القديمة. لقد فعل كل ما في الإمكان لإرضائها، وسلم هذه السياسة لابنه، ولكنه لم يستطع الرحيل إلى الشرق تاركًا وراءه أعداءً كثيرين لا سبيل إلى الصلح بينهم. ورفض الولايات زعامته قد جعل من العسير اقتحام خايرونيا Chaeronea.

ومن يقرأ المقالة بأكملها، وليس هذا الملخَّص المقتضب، تأخذه الدهشة من تمكَّن ذلك الكاتب من التاريخ المعاصر، ومن إلمامه التام بحركات القوات في أثناء وجودها في القتال. إنه يقلِّل من قيمة تحفُّظ المدن الإغريقية الحرة، ظانًّا خطأً أن في إمكان الأغلبية أن تكون مثله في رجاحة العقل وسعة التفكير.

وتظهر فصول المقالة عن آسيا دراية بالغة بالظروف والحاجيات، وقد عمل الإسكندر حرفيًّا بنصيحته عن تأسيس المدن؛ فبعد أول نصر له اتبع تلك السياسة لضمان الاحتفاظ بفتوحاته.

وفي سنة ٣٤٢ق.م. كتب إيسوكراتيس إلى فيليب عودًا على بدء يؤنِّبه على تهوُّره في المجازفة بحياته في القتال، مكرَّرًا بعض محاورات المقالة الأولى، ولخَّص نصيحته قائلًا:

«إن حصولك على مودَّة المدينة لأكثر نبلًا من استيلائك على أسوارها.»

وبعد خايرونيا كتب إليه ثانيةً عام ۳۲۸ق.م. يذكِّره بنصيحته السابقة مظهرًا رضاءه عن تحقيق بعض أحلام شبابه، وكون البعض الآخر في طريقه إلى التحقيق.

٥

أعماله الأخرى

لقد سبق أن ناقشنا المحتويات العامة ﻟ «البانيجوريكوس»، بَيدَ أنه ما من شيء سوى دراسة الخطبة دراسة وافية، يكشف لنا عن المهارة التي جعلت الموضوع الواحد يجرُّ إلى آخر، مع بقاء الأجزاء متناسقة تناسقًا جميلًا، والسهولة الواضحة في ربط مختلف خيوط الحوار بعضها ببعض. ويبدو كثير من الفقرات لأول وهلة كأنه دخيل، غير أنه عند تناول الخطبة في مجموعها، نجده ضروريًّا لوحدتها. ورغم تشعُّب المناقشة في موضوعات شتى؛ فإن الموضوع الأصلي لا يغيب مطلقًا عن البال. ومستوى الأسلوب راقٍ طوال الخطبة، ولا يمكن توضيحه بانتقاء بعض نبذ من الخطبة.

وعلى أية حال فإن تحليلًا مختصرًا قد يفيد في توضيح كيفية ربط المناقشات.٣٢

«ههنا حضرت لأنصحكم بضرورة محاربة الفرس ووجوب الاتحاد بين الإغريق. وقد تناول هذا الموضوع آخرون قبلي، بَيدَ أن فشلهم في الوصول إلى نتيجة أحبط كل مسعًى لطرق الموضوع مرة أخرى، فالأمر يحتاج إلى علاج أنجع مما سبق.» (فقرات ۱–۱٤).

«لقد فات من سبقني نقطة هامة، وهي أنه من العبث القيام بعمل ما قبل أن تعقد الزعيمتان أثينا وإسبرطة الصلح وتحثَّان على اقتسام الزعامة بينهما.»

«قد تمسكت إسبرطة بتقاليد خاطئة، ألا وهي أنها قد ورثت حق الزعامة عن الأجداد، وسأحاول البرهنة على أن الزعامة في الواقع من حق أثينا، وعلى ذلك يكون على إسبرطة أن توافق على زعامة مشتركة.» (فقرات ١٥–۲۰)

«كان لأثينا إمبراطورية بحرية قبل إسبرطة، وكانت حضارتها أقدم الحضارات في بلاد الإغريق (فقرات ٢١–۲٥) وإليك مسوِّغات حقها في الزعامة:

(١) (أ) يسجِّل العرف الذي لم ينقض قط، أن أثينا كانت أول مدينة قامت بكفاية نفسها بلوازم المعيشة؛ فكانت ديميتير Demeter تعلم في أتيكا زراعة القمح كما أوجدت الأسرار.

(ب) لا ريب في أن أثينا كانت أول من قام بالاستعمار، وبذلك وسَّعت حدود البلاد الإغريقية، ودحرت البرابرة وردَّتهم على أعقابهم (٢٨–٣٧).

(ﺟ) كان لأثينا أقدم القوانين وأقدم دستور، وشيَّدت ميناء بيريوس Piraeus مركز التجارة الإغريقية، كما أنها تقيم لنفسها عيدًا باستمرار تشجِّع فيه الفنون. وإن للفلسفة العملية والخطابة لشأنًا عظيمًا في أثينا، حتى أصبح الاسم «إغريقي» يستعمل استعمالًا صحيحًا لا بحق صلة الدم، ولكن بفضل امتلاك ثقافة أثينية (٣٨–٥٠).

(٢) (أ) منذ عصور الأبطال وما بعدها، برهنت أثينا على أخذها بناصر المظلومين، حتى إن إسبرطة نفسها قد عظم شأنها بتأييد أثينا لها (٥٧–٦٥).

(ب) لقد ميَّزت أثينا نفسها عن البرابرة منذ العصور الأولى وفي الحروب الفارسية (٦٦–٧٤).

«منذ القدم كانت المنافسات بين الأحزاب السياسية المتعارضة وبين أثينا وإسبرطة منافسات شريفة، وقد أخجلت المنافسة الشريفة بين البلدين باقي الإغريق الآخرين، فحملوا السلاح في وجه إكسركسيس Xerxes، وعلى أية حال فقد كان لأثينا سفن أكثر مما كان لكافة البلدان الأخرى مجتمعة، وعلى ذلك فقد ثبت حقها في الزعامة حتى نهاية الحرب الفارسية (٧٥–٧٩).
«نعم، إن أثينا عاملت حليفتيها المتمردتين — ميلوس وسكيوني Melos and Scione — بقسوة. وهل يتوقع المتمرد غير العقاب؟ ومن ناحية أخرى، فقد تمتَّع رعايانا الملكيون لمدة سبعين عامًا بالتحرر من الاستبداد والحماية من هجمات البرابرة، وأسسوا حكومة ووطَّدوا السلم بينهم وبين العالم بأسره (۱۰۰–۱۰٦).»

«أما إسبرطة فإن الأضرار التي أحدثتها في بضعة شهور تفوق ما أحدثته أثينا طول مدة حكمها كله (۱۱٠–۱۱٤).»

لقد كان حكمنا مفضَّلًا عما يسمَّى «السلام والاستقلال» اللذين منحتهما إسبرطة للمدن؛ إذ امتلأ البحر الآن بالقراصنة، وأغير على مدن أكثر مما أغير عليه قبل السلام، وقد جعل الطغاة والحكام الحياة في المدن جحيمًا لا يطاق، كما أن الملك العظيم الذى حدَّدت له أثينا اختصاصات معينة قد أغار على شبه جزيرة البيلوبونيز (۱۱٥–۱۱۹). لقد تركت إسبرطة الأيونيين Ionians للعبودية وجرَّت بنفسها الخراب على بلاد اليونان، وأثقلت كاهل أهل الجزيرة بالضرائب. فمن البلية أن نخرِّب نحن الإغريق بلادنا بسبب ما بيننا من خلافات تافهة، في حين أنه كان في استطاعتنا أن نجني من آسيا خيرًا وفيرًا (١٢٠–١٣٢).»

«لقد سمحنا للملك العظيم، بواسطة منازعاتنا، أن يبلغ قوة لم يسمع عنها من قبل، مع أنه في الحقيقة ليس على شيء من القوة.»

«هناك أمثلة عديدة من التاريخ تشير إلى انحطاط قادة الفرس وانحطاط نظامهم؛ فكثيرًا ما هزموا على سواحل آسيا، وقد مثَّلنا بهم عندما همُّوا بغزو بلاد اليونان، وأخيرًا قاموا بنحت تمثال مضحك أمام حوائط قصورهم٣٣ (١٣٣–١٤٩).»

«هذا ما يمكننا أن نتوقعه من نظام حياتهم؛ فإن سواد الشعب لخليق بالاستعباد أكثر من الجندية، أما الأشراف فشيمتهم الغطرسة والدناءة، ونظرًا لانغماسهم في الملذَّات؛ فهم ضعاف خونة وجديرون بكل مقت منا وبُغض، والحقيقة أنه لا يمكن مطلقًا إزالة عداوتنا لهم. ومن أسباب شهرة هوميروس أنه يخبرنا عن حرب طاحنة ضد آسيا (۱۰٥–۱٥٩).»

«قد آن أوان الهجوم، فقد خربت فينيقيا وسوريا، واقتحمت صور Tyre، كما أن معظم كيليكيا في جانبنا، وشقَّت مصر وقبرص عصا الطاعة، والإغريق الآن على استعداد للنهوض؛ فلنسرع ولا ندَع تاريخ الثورة الأيونية يعيد نفسه. فالعذاب الحالي في بلاد الإغريق فوق كل ما سبق؛ ولذا فالجيل الحالي يستحق بعض التعويض، وهذا سبب آخر للإسراع. وبما أن أعيان المدن غير مهتمين بالحالة، فلنتولَّ زمام القيادة نحن الذين خارج السياسة كما أفعل أنا (١٦٠–١٧٤).»
«يجب ألا تقف معاهدة أنتالكيداس Antalcidas حجر عثرة في طريقنا، فقد تحطَّمت روحها. وألا ننظر إلا إلى ما سبَّب لنا العار والخزي، أعني الشروط التي استسلم بها حلفاؤنا للفرس؛ فلم تكن شروطًا عادلةً بل رضخنا لشروط أملاها الملك.»
«إن الشرف والظروف المواتية تتطلَّب منا الاتحاد للقيام بأعباء هذه الحرب التي ستفوق شهرتها الحرب الطروادية Torjan war(١٧٥–١٨٩).»

والآن، يمكننا أن نناقش مجموعة الخطب التي تتناول الشئون الداخلية في بلاد الإغريق:

الخطبة الرابعة عشرة: بلاتيكوس Plataicus

استعادت إسبرطة بلاتيا Plataea سنة ٣٨٦ق.م. بعد أن دمَّرت في عام ٤٢٧ق.م. وذلك لتهدد طيبة Thebes، ولكنها اضطرَّت إلى الدخول في الحلف البويوتي Boeotian Confederacy سنة ۳۷٦ق.م.

وفي عام ۳۷٦ق.م. انقضَّ عليها جيش من طيبة على حين غِرة ودمَّرها من جديد، فهرب سكانها إلى أثينا حيث عرضت قضيتهم في الإكليسيا وفي مؤتمر الحلفاء.

ألقى هذه الخطبة في مجلس الإكليسيا الأثيني، رجل من بلاتيا، وأهم ما تضمنته نداء قصد به تحريك المشاعر عن طريق التاريخ؛ فذكر العلاقات القديمة بين بلاتيا وأثينا، ثم استخلص من ذلك واجب أثينا الحالي. والخطبة في صورة صالحة للإلقاء أمام المجلس، ويحتمل أن تكون قد ألقيت أمامه.

الخطبة الثامنة: عن السلام On the Peace

لهذه الخطبة وجهة أخرى، فهي عبارة عن رسالة سياسية يرجع تاريخها إلى سنة ٣٥٥ق.م. عندما أوشكت الحرب الاجتماعية أن تضع أوزارها. والموضوع الرئيسي لهذه الخطبة هو الحث على ضرورة الصلح واستتباب السلام بين أثينا والعالم كله، بَيدَ أن الحث بهذه الطريقة يوجد بطبيعة الحال نقدًا للحزب الحربي واتهامًا قاسيًا لا للسياسة الحالية فحسب، بل ولأحوال الإمبراطورية الأثينية القديمة أيضًا.

وما جعل هذه الخطبة بارزة، أن إيسوكراتيس خرج فيها عن لهجته المعتدلة المتزنة دفعة واحدة، وجنح إلى الاحتقار والصرامة ليكسب انتقاداته صبغة خاصة، فيقول:

«إن الحصول على إمبراطورية رغم أنف الشعب الكاره لها وغير الراغب فيها، ظلم وسياسة فاشلة، فالطموح كالطعم الذي يغري الحيوان الضاري إلى حتفه في الشرك المنصوب له. إن إدارتنا فاسدة، وقد فقد مواطنونا الثقة في المجهود الشخصي، ونحن نستخدم الجنود المرتزقة لتقاتل في معاركنا. إن ساستنا أسوأ المواطنين، وإننا نعين قوَّادنا من عديمي الكفاءات الذين لا يصلحون لأي منصب ثقة، ونحتفظ بهم لا لشيء سوى أن منافسينا ضعاف مثلنا. وإن طيش مجلسنا ليزيد في عدد حلفاء طيبة، كما أن طيشهم خلاص لنا. لذا كان من صالح كل ولاية أن تقوم برشوة مجلس الأخرى ليكثر من اجتماعاته.»

«إن أملنا متوقف على هجران إمبراطوريتنا، وهذا ليس من العدل في شيء، ولم نستطع القيام به ونحن أغنياء، فما بالك ونحن الآن في فقر مدقع؟ لقد بذل ساسة أثينا كل ما في وسعهم لعدم إذاعة سياسة مدينتهم، وافتخروا بالجزية التي يغتصبونها من حلفائهم، مذكِّرين العالم كله بطغيانهم وظلمهم، واستعرضوا أولاد من قتلوا في سوق الوغى في مختلف جهات العالم، أولئك الذين أصبحوا ضحايا الجشع القومي. أما مركز أثينا إبان حكم ثيموستوكليس Themistocles وأرستيديس Aristides فيختلف عن هذا اختلافًا تامًّا. لقد شوهت الإمبراطورية الحياة القومية».

«إن تاريخ زعامة إسبرطة نقطة أخرى في الموضوع. فقد تزعَّم بركليس الدهماء وقاد المدينة إلى مستقبل سيئ، ولكنه على الأقل زاد في ثروة نفسه. إن رؤساء الدهماء الآن لا يسعون إلا إلى ما يعود عليهم بالنفع الشخصي؛ فلم يزجُّوا الدولة إلى الفقر وإنما دفعوا المواطنين إليه.»

«إن السلام بالثمن الذي أشرت إليه هو العلاج الوحيد؛ فيجب علينا إنقاذ بلاد الإغريق لا خرابها. وينبغي أن تحتل أثينا بين الدويلات الإغريقية مكانة الملوك في إسبرطة؛ فليس أهلها طغاة، ومستواهم الخلقي أرفع من مستوى خلق الفرد العادي، ولهم منزلة مبجَّلة حتى إن الشخص الذي لا يضحِّي بحياته من أجلهم في ساحة الوغى يعتبر أحطَّ من الهارب.»

هناك قدر عظيم من الصدق في المطاعن الموجهة إلى الإمبراطورية القديمة؛ فقد استطاع إيسوكراتيس أن يرى ما وراء الألوان البراقة التي ترسم بها أحيانًا أمجاد العصر البركليسي، كما أنه هو وديموسثينيس قد لاحظا وتحقَّقا من ضعف أثينا في عصره، غير أن نصيحته رغم نبالتها ليست عملية. لقد فشل على الرغم من إلمامه بالتاريخ، في قياس درجة الأنانية الإغريقية؛ فما من أمة اعتمدت كلية أو رأسًا على القيمة الخلقية، واستطاعت أن تنال صوتًا في مجلس بلاد الإغريق أقل سيطرةً من سياستها.

الخطبة السابعة: الأريوباجيتيكوس Areopagiticus

ربما كان تأليف هذه الخطبة في نفس العام، وهي تكمل خطبته «عن السلام» في عدة نقط، وقد وقفها أولًا على المقارنة بين الأيام الغابرة للحكومة المبجَّلة في عصر دستوري صولون وكليسثينيس Cleisthenes، وأحوال الحياة غير المرضية في عصر هذا الخطيب.

قد يكون نصف الدستور القديم صورة خيالية، ولكن المقارنة تساعد على إظهار الشرور التي يرمي إليها إيسوكراتيس في الحكومة الحديثة. وتتناول الخطبة الحياة الداخلية في أثينا أكثر من السياسة الخارجية، كما أن الفضل الرئيسي للحكومة الحسنة والحياة الطيبة إبان الأيام الغابرة، يعطي لمجلس الأريوباجوس تلك الهيئة الآمرة التي لها الآن من النفوذ القوي ما يجعل أسوأ رجال العصور الحديثة، لو رقُّوا إلى العضوية فيه، لتخلَّقوا بخلقه وهجروا الشرور المتأصلة فيهم، وأصبحوا يفكرون ويعملون وفق تقاليد المجلس السامية.

الخطبة السادسة: الأرخيداموس Archidamus

وضعت هذه الخطبة على لسان ملك إسبرطي بهذا الاسم، كان إيسوكراتيس يجلُّه كثيرًا كما نعلم، ويبدو أنها جزء من محاورة في عام ۳٦٦ق.م. خاصة باقتراح الطِّيبيين Thebans منح السلام على شريطة اعتراف إسبرطة باستقلال ميسينيا Messinia. ويحتمل أنها تشمل عرضًا عادلًا لمشاعر الإسبرطيين Spartans في الوقت الذي اقترح فيه إظهار العداء لسكان ميسينيا، الذين اعتبروه لعدة أجيال عبيدًا لهم.

تتبقى بعد ذلك أعمال ذات ثلاث مراتب؛ «خطابات الوعظ والإرشاد، والعرض، والخطب القضائية».

خطابات الوعظ والإرشاد

الخطبة الأولى: إلى ديمونيكوس Demonicus، ۳۷۲ق.م. (؟)

المقصود من هذا الخطاب الموجَّه إلى حاكم صغير لا يعرف عنه شيء، أن يكون ذخيرة (ταμιείον) لحكم خلقية تتضمن واجبنا نحو الآلهة ونحو الناس ونحو أنفسنا. ويشتمل هذا الخطاب على عدد غير قليل من الحكم أغلبها ذات طبيعة عملية أو شبه عملية، منها: «إننا نختبر الذهب بالنار والأصدقاء بالملمَّات.» «لا تحلف قط بالآلهة فيما يختص بالمال؛ إذ يظن البعض أنك حانث، والبعض الآخر أنك جشع.»

وأحيانًا تزداد النغمة الأخلاقية سموًّا؛ مثال ذلك: «إذا أذنبت فلا تأمل في عدم انكشاف أمرك؛ فإذا لم يكشف الآخرون أمرك فسوف يكشفك ضميرك لنفسك.»

الخطبة الثانية: إلى نيكوكليس Nicocles، ۳۷٤ق.م.

موجَّهة إلى نيكوكليس الذي اعتلى عرش سالاميس Salamis بقبرص سنة ۳۷٤ق.م. وتتناول واجبات الملك ومسئولياته. «تذكَّر منصبك الرفيع، وتوخَّ دائمًا ألا تفعل شيئا يشينه.»

الخطبة الثالثة: نيكوكليس أو القبرصيون Cyprians، ۳۷۲ق.م.

هي تتمة الخطبة الثانية، وفيها يصوِّر الملك نفسه يتحدث عن واجبات الرعية نحو مليكهم. «اعملوا لمليككم ما تحبون أن يعمله رعاياكم لكم.»

خطب العرض

كتب كثير من السفسطائيين خطبًا خيالية في مواضيع خرافية، ورغم أن هذا الموضوع كان خارج نطاق مهمة إيسوكراتيس؛ فقد اقتحمه كناقد. فالخطبة المسمَّاة بوسيريس Busiris (الخطبة الحادية عشرة ۳۹۱ق.م.) الموجَّهة إلى السفسطائي بولوكراتيس Polycrates، تحوي أولًا نقدًا لخطبة ألَّفها بولوكراتيس عن هذا الموضوع، وثانيًا عرضًا للطريقة التي يعالج بها إيسوكراتيس نفسه مثل هذا الموضوع. وأحيانًا يسلِّم إيسوكراتيس بصحة الأساطير القديمة إجمالًا، في حين أنه يرفض بعض أجزاء منها غير مناسبة.

الخطبة العاشرة: مدح هيلين The Encomlum of Helen، ۳۷۰ق.م.

تبدأ هذه الخطبة بنقد مدح معين يعتقد عامة أنه الشيء الوحيد الباقي المنسوب إلى جورجياس. فلم يكتب الكاتب السابق مدحًا، بل اعتذارًا. إن إيسوكراتيس نفسه سيكتب مدحًا يختلف عما سبق أن كتبه غيره.

الخطبة التاسعة: إيفاجوراس Evagoras، ۳٦٥ق.م. (؟)

وضعت لعيد احتفل به نيكوكليس تخليدًا لذكرى والده إيفاجوراس السلاميسي المتوفى عام ۳۷٤ق.م. وتحوي بيانًا لتقريظ مستقبل الملك وتشجيعًا لابنه على التحلِّي بفضائل أبيه.

أما الباناثينايكوس Panathenaicus؛ فقد بدئت عندما كان إيسوكراتيس في سن ٩٤، أي في عام ۳٤۲ق.م. ولم يستطع إتمامها في ثلاث سنوات لمرض أصابه. وتحوي مادة غزيرة استعملت في الأريوباجيتيكوس. وموضوعها الرئيسي عظمة أثينا ومجدها من الناحية التاريخية لا بالنسبة إلى السياسات المعاصرة. وتشتمل كذلك على اعترافات طويلة؛ دفاع عن طريقته الخاصة ضد هجمات بعض السفسطائيين الثقلاء (الفقرات ٥–٣٤)، ونقاش عن أجاممنون Agamemnon (الفقرات ٦۲–۷۳)، وتفسير شخصي (الفقرة ۹۹ وما بعدها)، ويبيِّن فيها المؤلف أن الخطبة قد تنتهي عند تلك النقطة، ويسرد المحادثات والمناقشات التي دفعته إلى إنهائها. وقد لامه البعض على قسوته ضد إسبرطة، ورغم أنه أفحم ناقديه، فقد وجِّهت إليه بعض الاتهامات؛ فنتج عن ذلك زيادة الخطبة بقدر الثلث وإخلال توازنها تمامًا وهدم كل وحدة فيها.

الخطب القضائية

وصلت إلينا خطب قضائية تنسب كلها إلى الأيام الأولى لإيسوكراتيس الذي ندم فيما بعد على اشتغاله بمثل ذلك الفن، ويمكن تلخيصها في كلمات قليلة:

الخطبة العشرون، ضد لوخيتيس Lochites ٣٩٤ق.م. لقضية اعتداء.
الخطبة التاسعة عشرة، أيجينيتيكوس Aegineticus ٣٩٤ق.م. لدعوى ميراث.
الخطبة الحادية والعشرون، ضد يوثونوس Euthynus ٤٠٣ق.م. لاسترداد وديعة.
الخطبة السابعة عشرة، ترابيزيتيكوس Trapeziticus ٣٩٤ق.م. لقضية مماثلة ضد صاحب المصرف الشهير باسيون Pasion.
الخطبة السادسة عشرة (πεϱὶ τοῦ ζεύγους) عن قطيع من الجياد ٣۹۷ق.م. لدعوى أقامها ألكيبياديس الصغير ضد رجل يدعى تيسياس Tisias. ويؤكد هذا الأخير أن ألكيبياديس الكبير والد الخطيب سرق منه أربعة جياد، وهي قضية لتعويض خسارة قدرها خمسة تالنتات.
خطبة ضد كاليماخوس Callimachus، ۳۹۹ق.م. وهي دفاع خاص παϱαγϱαφή يقدِّمه المدَّعى عليه الذي يقول إنه لا يمكن الاحتفاظ بقضية ترفع ضده للمطالبة بتعويض عن خسارة.

الرسائل

سبقت الإشارة إلى بعض الرسائل الخاصة:

  • إلى ديونوسيوس Dionysius سنة ٣٦٨ق.م.
  • إلى أرخيداموس Archidamus سنة ۳٦٥ق.م.
  • إلى فيليب والإسكندر سنة ٣٤٢ق.م.

رسائل أخرى موجَّهة إلى أولاد جاسون (الرسالة السادسة) سنة ۳٥۹ق.م. وهم ثيبي Thebe وإخوتها غير الأشقَّاء أولاد الطاغية فيراي Pherae الذي قتل سنة ۳۷۰ق.م.
الرسالة السابعة: إلى تيموثيوس Timotheus سنة ٣٤٥ق.م. ملك هيراقليا Heraclea الواقعة على بحر اليوكسين Euxine.
الرسالة الثامنة، سنة ۳٥٠ق.م. إلى حكَّام ميتوليني Mitylene، أولئك الحكام الأوليجاركيين الذين قلبوا النظام الديمقراطي حديثًا.
الرسالة الرابعة: سنة ٣٤٠ق.م. إلى أنتيباتر Antipater، ويظهر أنها كانت في عصر حاكم مقدونيا في أثناء غياب فيليب في تراقيا Thrace. تساعدنا هذه القائمة من راسلهم إيسوكراتيس، وكانت علاقته ببعضهم ودِّية رفعت فيها الكلفة، على إيضاح أهمية ذلك الخطيب في العالم الإغريقي.
كذلك ينسب إلى إيسوكراتيس تأليف «فن τέχνη» أو رسالة فن البلاغة، وهي الآن مفقودة ما عدا فقرة واحدة منها، وتحوي نسخ النصوص عددًا من الأقوال المنسوبة إليه، وكلها عديمة الأهمية.
١  أنتيدوسيس، فصل ١٦١.
٢  فايدروس Phaedrus، صحيفة ٢٧٨-٢٧٩.
٣  καὶ ἀϱχὰς δέ “και” (τὰς?) πεϱὶ τὴν Χίον κατέστησε καὶ τὴν αὐτὴν τῇ πατϱίδι πολίτειαν بلوتارخوس الكاذب، ٨٣٧ ب.
٤  وعلى أية حال، فلو اعتبرنا هذه الفقرة لكانت الرحلة مع تيموثيوس غير تاريخية، ويمكن العثور على جميع الأدلة في بلاس، الخطباء الآتيكيون، المجلد الثاني صحيفة ١٦-١٧.
٥  أنتيدوسيس، فصل ١٥٩ وما بعده.
٦  عن تركيب الكلمات de Comp, Verb، الباب الثالث والعشرون.
٧  عن تركيب الكلمات، وإنه يقتبس من الأريوباجيتيكوس الفقرات من ١–٥.
٨  يسمح إيسوكراتيس بحذف بعض حروف العلة القصيرة المد، ولكنه يقلل من استعمالها عن معظم الشعراء. وأكثر الحذف شيوعًا في خطبه التي قصد بها الظهور هو استعماله لاختصارات الألفاظ أو شبه الاختصارات (τε, δέ, etc.)، والضمائر، أما إدغام حروف المد فنادر ما عدا καί άν والحذف أقل بكثير في خطبه القضائية التي هي باكورة أعماله.
٩  Maxim. Planud. ad Hermog., V. 469.
١٠  صحيفة ١٤٤ من المجلد الثاني.
١١  التروخي في الشعر الإغريقي واللاتيني وزن يتألف من مقطعين الأول طويل والآخر قصير. والإيامبوس في الشعر الإغريقي واللاتيني وزن يتألف من مقطعين الأول قصير والآخر طويل.
١٢  كتاب البلاغة، الباب الثالث، ٨، ٤.
١٣  ϑαυμάζειν καὶ ζηλοῦν, ἐπαινεῖν καὶ τιμᾶν, etc.
١٤  مثلًا البانيجوريكوس، فصل ٥، ὅταν ἤ τὰ πϱάγματα λάβῃ τέλος … ἤ τὸν λόγον ἴδῃ τις ἔχοντα πέϱας, حيث لا يمكن التمييز بين πέϱας, τέλος بمعنى ختام أو تكميل، أو يكون تمييزهما ضئيلًا، ففي إيفاجوراس، فصل ٢، εὐλογεῖν, ἐγκυμιάζειν تستعملان للتناقض (مدحًا أو ذمًّا).
١٥  مثلًا، إيفاجوراس، فصل ١٠، αὐταῖς τοῖς εὐϱυθμίαις καὶ ταῖς συμμετϱίαις ψυχαγωγοὺσι τοὺς ἀ ούοντας. ونجد في مكان آخر ἀϱγίαι, αὐθάδειαι, λαμπϱότητες, μετϱιότητες … إلخ.
١٦  أريستوفانيس، السحب.
١٧  قارن إشارة إيسوكراتيس إلى هذه الفقرة في أنتيدوسيس، فقرة ١٩٣.
١٨  انظر صحيفة ١٢٠.
١٩  هيلين (خطبة ١٠) فصل ١، οἱ δὲ διεξιόντες ὡς ἀνδϱία καὶ σοφία καὶ δικαιοσύνη ταὐτόν ἐστι.
٢٠  فقرة ٩ وما بعدها.
٢١  أنتيدوسيس، فقرات ١٨٧–١٨٩.
٢٢  أنتيدوسيس، فقرة ١٩ وما بعدها.
٢٣  البلاغة، الباب الأول، ١، ١٠.
٢٤  το τολμαν، الفقرة ١٩٢.
٢٥  انظر ما سبق ذكره في صحيفة ١٤٨.
٢٦  أو علم النجوم.
٢٧  أنتيدوسيس، خلاصة الفقرات ١٨١–٣٠٣.
٢٨  أنتيدوسيس، الفقرة الثانية، ιδέαι.
٢٩  الخطاب الأول، فصل ٨٧. ويشار إلى هذا الخطاب في «خطبة فيلبوس» فقرة، نص الخطاب الباقي لدينا غير كامل.
٣٠  فيلبوس، ٣٤٦ق.م.
٣١  فيلبوس (الخطبة ٥)، فقرات ١٤–١٧.
٣٢  يقال إن إيسوكراتيس قضى عشر سنين في تأليف البانيجوريكوس، وقد نشرت بالضبط عام ٣٨٠ق.م.
٣٣  وهو تمثال فوز العشرة الآلاف عند كوناكسا Cunaxa.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤