الفصل التاسع

ديموسثينيس

١

المقدمة

لن يتقدَّم فن البلاغة بعد إيسوكراتيس، الذي بالإضافة إلى أسلوبه المتقن كل الإتقان الذي يمكن أن تحقَّقه البراعة الفنية، قد لقَّن تلاميذه العديدين فن تأليف جمل متفقة النغمات، وربطها مع بعضها البعض في عبارات موزونة، فكل طامح صغير إلى الشهرة الأدبيَّة، يستطيع الآن أن يتعلم منه كيف يكتب نثرًا سلسًا سهلًا، كان يتعذَّر على ثوكوديديس وأنتيفون. وإذا بدا الأسلوب في بعض المناسبات بالغ الدقة حتى يصبح موضوع الخطبة ذا مرتبة ثانوية؛ فليس ذلك خطأ الفنان بقدر ما هو خطأ المتكلم. لم يكتب إيسوكراتيس قط بحرارة شديدة؛ فقد صدرت أعظم أعماله بعد دراسة وروية، وهو هادئ رزين، لا يتعجَّل في كتابته، بل يكتب بعد تفكير عميق حتى يكون قوة حيوية حقيقية.

ولكن ديموسثينيس ومعاصريه كانوا على نقيض ذلك؛ فقد شغلوا بالسياسة بتحريض من شعور الحزبية القوي، فتسلَّطت عليهم العاطفة الشخصية، نتيجة للموقف السياسي. وكان لمثل ذلك الشعور أثر قوي في ظهور حكومة الثلاثين الأوليجاركية في أثينا، حتى إنه عندما تحاربت أثينا وجميع بلاد الإغريق، ليس ضد الأوليجاركية، بل ضد إمبراطورية ملك قاهر، تحرَّكت الأعماق.

وكان نشر الخطب السياسية من المظاهر الجديدة في ذلك العصر؛ فمنذ عصر أول الخطباء — أنتيفون — يحفظ كاتبو الخطب logogaphoi خطبهم كتابة. وقد أُلقيَ معظم تلك الخطب في قضايا صغيرة ذات أغراض شخصية بحتة، ولو أن بعض الخطب التي كتبها لوسياس وآخرون، تشير مباشرة إلى شئون سياسية.
ومن أنواع الخطب الأخرى التي حفظت، خطب الظهور epideictic، وهي خطب أعدَّت لتُلقى أمام المجامع العظيمة، كمجامع الأعياد الدينية والجنازات العامة. لقد كان إيسوكراتيس مبدعًا في كتاباته لدرجة أنه يستطيع أن يكتب في شكل خطب ما هو في الحقيقة معاهدات سياسية، بَيدَ أن هذه قد ألِّفت لتُقرأ فقط ولم يُقصد إلقاؤها مطلقًا.
هناك تنوع في أعمال معاصري ديموسثينيس؛ فبعض الخطباء أمثال ديماديس Demades وفوكيون Phocion، لم ينشروا أية خطَب، ويظهر أنهم نادرًا ما كانوا يُعدُّونها قبل إلقائها، معتمدين على مهارتهم في الارتجال. بينما غيرهم أمثال أيسخينيس ولوكورجوس ودينارخوس Dinarchus، قد نقَّحوا ونشروا خطبهم القضائية، لا سيما ما كان منها ذا صبغة سياسية. وفي بعض الحالات قدَّم هوبيريديس وديموسثينيس إلى العالم، زيادة على ذلك، تراجم منقَّحة لخطَبهم العامة.

لم ينشر ديموسثينيس أمثال هذه الخطب دائمًا؛ لأن هناك فترات طويلة من حياته السياسية لم تمثَّل بأعمال تحريرية، ولكن يظهر أنه كان يرغب في عمل سِجل دائم لخطَب معينة تحوي شرح سياسته، حتى إن من لم يسمعه يخطب، أو من لم يستطع الإلمام بكل أقواله، يمكنه أن يجد فرصة ثانية لدراسة آرائه بعد أن مر تأثير فصاحته. ومن المحتمل أن معظم الخطب التي نشرت بهذه الطريقة كانت في عصر لم يكن لحزبه فيه أي نفوذ في الحكومة، فكان على المعارضة أن تقوِّي خطابتها بالتسجيل.

كانت النتيجة بالغة الأهمية من جهتَين؛ فالخطابة مصدر خطير للأدب، عظيم القيمة في دراسة تقدُّم النثر الإغريقي، وكذلك لها قيمة تاريخية أعظم، لأنها رغم عدم الوثوق بها في بعض التفاصيل؛ فإنها تكوِّن مادة رائعة لفهم الموقف السياسي، وأغراض ومبادئ الحزب المناهض للمقدونيين.

٢

حياته
ولد ديموسثينيس الخطيب في أثينا عام ۳۸٤ق.م. وكان والده ديموسثينيس صانع سيوف من أثرياء دائرة باينيا Paenia الانتخابية، وكانت أمه ابنة رجل أثيني يُدعى جولون Gylon، ترك أثينا بسبب تهمة خيانة الوطن، بعد الحرب البيلوبونيزية، واستوطن بجوار «كريميا Crimea»،١ وتزوج امرأة ثرية من تلك المنطقة، ولا نعرف عنها زيادةً على ذلك إلا ما وصفها به أيسخينيس من أنها سكوثية Scythian، ويجوز أنها كانت من أصل هيليني. وحتى بلوتارخوس نفسه يشك في تأكيد أيسخينيس من أنها كانت بربرية، وقد كانت تلك الشبهة كافية لأيسخينيس كي يستطيع تلقيب عدوه برجل سكوثي يتكلم الإغريقية.
مات ديوسثينيس الكبير تاركًا ابنه في السابعة من عمره، وبنتًا عمرها خمس سنوات. وفي وصيته أقام عليهما أوصياء، ابنَي أخيه أفوبوس Aphobos وديموفون Demophon، وصديقًا يدعي تريبيديس Therippides. وتبعًا للتقاليد الآتيكية كان على الأوَّلَين أن يتزوَّجا الأرملة وابنتها؛ إذ كانا أقرب الناس إليهما، بَيدَ أن ذلك لم يحدث. وفي أثناء المدة التي كان فيها ديموسثينيس قاصرًا، خرَّب الأوصياء مصنع السيوف بسوء إدارتهم، وبدَّدوا كل ما جُمع من الأرباح.
ولمَّا بلغ ديموسثينيس الثامنة عشرة من عمره بعد أن ربَّته أمه، طلب وضع يده على أملاك والده؛ فحاول الأوصياء إحباط مسعاه بعدة طرق، ومضت مدة ثلاث سنوات في محاولات للصلح ونظر الدعوى أمام بعض القضاة العُرفيين. وفي أثناء تلك المدة كان ديموسثينيس يدرس البلاغة وإجراءات القضاء على يد إيسايوس، الذي تَدين إلى طرقه كثيرًا خطَب ديموسثينيس المبكرة، حتى لاحظ أحد المعاصرين «لقد التَهم إيسايوس بأكمله.»٢ وأخيرًا عندما بلغ الحادية والعشرين ساعده الحظ في تقديم دعواه أمام المحكمة، وبفضل تدريب إيسايوس استطاع أن يترافع بنفسه في دعواه وكسبها. ولمَّا كان خصومه ماهرين؛ فقد ساعدتهم مهارتهم في أن يشغلوه في إجراءات قانونية أخرى استغرقت حوالي سنتَين أخريَين، وأخيرًا كسب القضية. غير أنه حين استولى على ميراثه، لم يكُن قد بقي منه إلا القليل.
ولمَّا اضطر إلى إيجاد وسيلة يكسب منها قوته، اتخذ صناعة كتابة الخطب وظل يمارسها معظم حياته.٣ وقد كتب خطبًا ليستعملها غيره كما صنع والده سيوفًا لغيره، وقد أجاد مهنته كوالده، ونجح في مهنته الجديدة في تعويض ثروته التي بدَّدت.
وعلاوةً على صنعه أسلحة لغيره؛ فقد لقَّن تلاميذه فن البلاغة. ويظهر أنه ترك تلك المهنة بعد عام ۳٤٥ق.م. عندما بدأت الأعمال تتطلَّب جلَّ نشاطه.٤ ومن ذلك الوقت فصاعدًا، عمل سيفًا واضحًا من صنعه هو نفسه.

ويقال إنه حاول وهو لا يزال صبيًّا غضَّ الإهاب، أن يتكلم في مجلس الشعب «الإكليسيا»، غير أنه فشل؛ فقد كان صوته ضعيفًا جدًّا، وإلقاؤه غير كامل، وأسلوبه غير ملائم. ولكن الفشل شحذ عزيمته ليتمرَّن حتى يتغلَّب على عيوبه الطبيعية، وكلنا يعلم قصص خطابته وقد وضع الحصى في فمه، وتسميعه الخطب وهو يجري صاعدًا التل، ودراسته في كهف على شاطئ البحر؛ حيث حاول جعل صوته مسموعًا أكثر من خرير الأمواج الصاخب.

وقد مكَّنه ذلك التمرين من أن يتغلَّب لدرجة كبيرة، على أية عيوب كان يشكو منها، بَيدَ أنه لم تكن له ميزة صوت وإلقاء أيسخينيس. وتمثِّله الأساطير التي كانت شائعة في عصر بلوتارخوس، منهمكًا في دراسة خير كتَّاب النثر. وتقول إحدى الروايات إنه نقل تاريخ ثوكوديديس ثماني مرات، وخليق بنا ألا نقبل رواية كهذه، ولكن من المسلَّم به أنه درس أسلوب ذلك المؤلف دراسة مستفيضة.

ويحتمل أنه لم يكن تلميذًا لإيسوكراتيس أو أفلاطون، غير أنه تعلم عن الأول كثيرًا من طرق تأليف النثر والنظم. أما عن أعمال الأخير، فرغم أنه كان يخالف المبدأ العظيم لأفلاطون، في أن ذلك الرجل العظيم كان يتجنَّب المجامع الشعبية Agora ودور القضاء، إلا أنها أوحت إليه بكثير من الآراء الكريمة التي كانت أساس سياسته.
ومن دراسة بعض الفقرات، كالبحث الميلي Melian وغيره؛ حيث يسند المؤرِّخ أساس العدالة إلى حق الأقوى، يحتمل أنه كان يعود إلى ما يرتاح إليه ضميره من المناقشة الأكثر نبلًا، وهي مناقشة العدالة في الجمهورية. وفي الحقيقة إن رأي ديموسثينيس عن الصواب والصالح أقرب إلى الفيلسوف منه إلى المؤرِّخ.
قد يتخصص محترف كتابة الخطب، في أثينا، في نوع معيَّن من القضايا، وبذا يحصر اختصاصه فيصبح خبيرًا حقيقيًّا في نوع خاص، كما فعل إيسايوس مثلًا في محاكم الوصايا، وإلا كان يمكنه أن يشتغل بالقضايا العامة. فمثلًا قد يحدث نزاع بين أحد المزارعين وجارٍ له على الحدود، أو خسارة سببها فيضان المياه السطحية؛٥ وقد يطلب أحد المواطنين الوادعين، تعويضًا من الحكومة في قضية اعتداء لم يستطع أو لم يودَّ مقابلته بالمثل؛٦ وقد يرغب ضامن خدع في صفقة بحرية كاذبة، في أن يقدِّم محتالًا آخر إلى القضاء.٧ بَيدَ أنه بجانب هذه القضايا الخاصة، سواء أكانت قضايا مدنية،٨ أم قضايا جنائية عملية إن لم تكن جنائية فنية، يوجد عمل أكثر أهميةً لكاتب الخطَب Logographos.
قد ترغب الحكومة في محاكمة موظف أساء استعمال الثقة الموضوعة فيه. فعندما تندر الأمانة عن المهارة، توجد الحاجة إلى تعيين مدَّع يتوافر فيه الإخلاص أكثر من الكفاءة القضائية. وإن مثل ذلك المدَّعي لفي حاجة إلى مساعدة فنية، وقد شغلت هذه الحاجة بعض الخطب السياسية المبكرة لديموسثينيس، وهي الخطب ضد أندروتيون Androtion، وتيموكراتيس Timocrates، وأريستوكراتيس Aristocrates (٣٥٥–٣٥٢ق.م.).

ويلاحظ أنه ليس لدينا أي أثر من أعماله بين الخطب التي ألقيت ضد الأوصياء وأولى خطب المجموعة الأخيرة هذه. ويحتمل أنه قضى بعض هذه السنين العشر في الدراسة، والبعض الآخر في الإشراف على قضايا المبتدئين. ولا بد أن يكون قد كوَّن شهرة بالتدريج في ذلك الوقت، ولكنه لم يودَّ أن يحتفظ بأي سجلٍّ لأعماله المبكرة التي ربما لم تبد له أنها تليق بشهرته في أوج مجده في المحاماة.

من المستحيل أن نبالغ في أهمية هذا النشاط المتنوِّع، في مستقبل ديموسثينيس، فلا بد وأنه قد ألمَّ بعدة فروع من القانون في خلال سنواته المبكرة، فقد كان على علاقات ودية بشخصيات من جميع الطبقات، وبجميع ألوان الآراء السياسية؛ فلكي يكون ذا فائدة لغيره في القضايا السياسية، لا بد وأن يكون قد أمعن في دراسة السياسة، وإن لمثل هذه الدراسات أهمية عظمى في التعلم السياسي، ولا بد أن تكون آراؤه السياسية قد تكوَّنت بالتدريج بوساطة القضايا شبه الشعبية التي اشتغل بها، ولو أنها لم تكُن لحسابه، وربما لم تتفق دائمًا مع معتقداته.

وفي عام ٣٥٤ق.م. وهو العام التالي لمحاكمة أندروثيون، ظهر ديموسثينيس بنفسه أمام المحكمة موكَّلًا من كتيسيبوس Ctesippus في قضية ضد لبتينيس Leptines كانت لها أهمية سياسية. وبعد ذلك ببضعة شهور، تقدَّم إلى المجمع ليلقي خطبته «عن السومورييس Symmories»، لحقتها بعد مدة وجيزة خطبة شعبية أخرى «بالنيابة عن أهل ميجابوليس» (٣٥٣ق.م.) وبعد ذلك بسنتين تقدَّم إلى الأمام، لا كمجرد محامٍ، بل كمستشار للشعب، ثم بدأ مجموعته العظيمة من الخطب الفيليبية Philippics.
وتنقسم حياته طبيعيًّا من تلك النقطة فما بعدها إلى ثلاث حقبات: الحقبة الأولى من ٣٥١–٣٤٠ق.م. وكان مناهضًا للحزب القوي في أثينا، وتتميَّز الفترة الأولى لهذه الحقبة ببعض خطب شهيرة، وهي الفيليبية الأولى First Philippic، والثلاث خطَب الأولونثية Olynthiac الأولى (٣٥١–۳٤۹ق.م.) وحتى ذلك الوقت لم يُدرك الأثينيون أهمية ازدياد القوة المقدونية؛ فقد كان بعد ثماني سنوات فقط من تولِّي فيليب العرش، أن قام بعمله العظيم من توحيد أجزاء المملكة التي مزَّقتها الحرب الأهلية، وخلق شعور وطني؛ وتجنيد جيش. ففاز بنجاح عظيم في سنوات قلائل. فبمزيج من القوة والدهاء جعل نفسه سيد أمفيبوليس Amphipolis وبودنا Pydna في عام ۳٥۷ق.م. وفي السنة التالية وضع يده على مناجم الذهب في جبال بانجايوس Mt. Fargaeus التي أمدَّته بثروة لا ينضب معينها ومكَّنته من تحضير كثير من مشروعات مطامعه. وكانت هذه أزمةً في حياته، فقد انتشرت الرشوة التي اشتهر بها والتي وثق بها كثيرًا، على نطاق واسع.
وليس في خطب ديموسثينيس المبكرة إلا إشارات بسيطة إلى فيليب إذ لم ينظر إليه كمنافس خطر على أثينا. وهناك إشارة عابرة إليه في «اللبتينيس» (۳۸٤ق.م.)٩ ويلعب دورًا أكبر في «الأريستوكراتيس Aristocrates»، ولكنه يعامل بتهكُّم: «طبعًا تعلمون من أعني بهذا الفيليب المقدوني.»
(ἴστε δήπου Φίλιππον τουτονὶ τὸν Μακέδονα)، وهذه هي الطريقة التي كان يقدِّم بها اسمه (فقرة ۱۱۱)، وكان يعتبر عدوًّا، إنما كان يدرج بين طبقة الأمراء البرابرة أمثال كيرسوبليتيس التراقي.
لكن فيليب لم يقنع بضم المدن والمقاطعات المجاورة له، التي كانت تسرُّ أثينا بإخلاصها؛ أمفيبوليس، بودنا، بوتيدايا، ميثوني Methone، وجزء من تراقيا. بل تدخل في شئون تساليا Thessaly التي جلبت المتاعب قريبًا من أثينا (۳٥۳ق.م.) واقترح في عام ۳٥۲ق.م. أن يمرَّ من وسط ثرموبولاي، وأن يشترك في الحرب المقدسة ضد فوكيس Phocis، ولكن أثينا تدخَّلت هنا للمرة الأولى وأوقفت تقدَّمه.
وبعد هذه الضربة القاصمة، عمد الأثينيون، رغم نشاط فيليب المتجدِّد في ترافيا وبروبونتيس Propontis، إلى الركود وعدم الاهتمام، اللذين حاول ديموسثينيس عبثًا أن يوقظهم منهما.

يظهر من لغة «الفيليبية الأولى» أن ديموسثينيس كان يدرك تمامًا حرج الموقف، والخطر الجسيم الذي يتعرض له مواطنوه بسبب ملاطفتهم فيليب؛ فكان يرغب في أن يشعرهم بأن الحالة، ولو أنها لم تكن ميئوسًا منها حتى ذلك الوقت، قد تصبح كذلك إذا ركنوا إلى ركودهم وجمودهم وعدم قيامهم بأي عمل، بينما يمكنهم إعادة السلام إن قاموا بعمل جِدي.

الفقرة الثانية: «سادتي، يجب علينا بادئ ذي بدء ألا نيأس من حالة شئوننا الحالية، ولو أنها في خطر؛ لأن عظم ضعفنا في الماضي سيكون قوتنا في المستقبل. وماذا أعني؟ أعني أنكم الآن في متاعب؛ لأنكم لم تظهروا عزيمة لعمل واجبكم، وإذا ظلت الأمور كما هي، رغم ما يجب عليكم القيام به من مجهود شاقٍّ، فلا أمل في التحسين. ثانيًا، أودُّ أن تفكروا في القوة التي كانت لإسبرطة منذ أمد بعيد، والتي يتذكرها بعضكم ويسمع عنها بعضكم الآخر، ومع ذلك فقد قمتم في وجه تلك القوة بشرف ونبل، ولم تحطُّوا من قدر مجد وطنكم، فواجهتم الحرب غير هيَّابين ولا متردَّدين، لعدالة غرضكم …»

الفقرة الرابعة: «لو ظن أحدكم أن فيليب لا يُقهر، ناظرًا إلى عظم القوات التي تحت تصرفه، وإلى أن مدينتنا قد فقدت كل تلك الأماكن، لكان محقًّا في ظنه، وكان اعتقاده يستند إلى أسس، ولكن دعوا ذلك الشخص ينظر إلى أننا في وقت ما كنا نملك بودنا وبوتيدايا وميثوني وسائر تلك المقاطعة، وأن كثيرًا من القبائل الخاضعة له الآن كانت حرةً مستقلة، وكانت تفضِّل الخضوع لنا على الخضوع لمقدونيا، ولو كان فيليب قد شعر كما تشعرون الآن، أن محاربة أثينا أمر جلل؛ لأنها كانت تملك كثيرًا من الحصون التي تشرف على مملكته، بينما لم يكن له حلفاء، لما فاز بأيٍّ من انتصاراته الحالية، ولما وصل إلى تلك القوة العظيمة التي ترتجفون منها الآن. ولكنه رأى بوضوح أن هذه الأماكن ما هي إلا جوائز الحرب التي تمنح في مسابقة حرة، وأن أملاك من يغيب عن سوق الوغى تذهب طبيعيًّا لمن يتقدَّم إلى الحرب مطالبًا بها، وأن من يرغب في العمل بجدٍّ وفي المجازفة قد يحلُّ محلَّ من يهمل الفرص.»

الفقرة الثامنة: «لا تظنوا أنه إله آمن في ممتلكات أبدية؛ فهناك رجال يبغضونه ويخافونه ويحسدونه، حتى بين أقرب خاصته. وإنهم ليخفون هذا الشعور الآن لأنهم لا يجدون منفذًا في تباطئكم وإهمالكم. وإني أقول إنه ينبغي عليكم أن تخلعوا عنكم هذه العادات.»

الفقرة العاشرة: «وإذا ما سألت، متى تهبُّون من سباتكم وتقومون بواجبكم؟ تقولون: عندما يحين وقت الضرورة. وماذا تظنون في الأزمة الحالية؟ أعتقد أن أمَّة حرة لن تكون في أزمة أعظم من الوقت الذي يكون فيه سلوكها مخجلًا وعارًا عليها. أخبروني، أتريدون أن تذرعوا الطرقات سائلين بعضكم بعضًا، «هل هناك أخبار جديدة اليوم؟» وأي أخبار أخطر من أن أحد المقدونيين يسحق أثينا الآن، ويملي سياسة اليونان؟ فيقول أحدكم: «إن فيليب ميت.» ويقول آخر: «لا بل هو مريض.» وما الفرق بين هذا وذاك لكم؟ فحتى لو حدث له شيء، سرعان ما تطلبون وجود فيليب آخر إذا كنتم تراعون مصالحكم بالعناية التي تراعونها بها الآن. فليست قوته هي التي رفعته بقدر ما رفعه جمودكم.»

يبدأ الخطيب ببذل النصائح المطوَّلة عن قيادة الحرب، ولا يطلب منهم «قوات من الورق»،١٠ كأخذ الأصوات في المجمع الشعبي، دون الاهتمام بالحصول على القوات أو عدم الحصول عليها — عشرة أو عشرون ألفًا من الجنود المرتزقة أو ما إليها. فهو يريد حملة صغيرة ولكنها قوية ذات جدارة، نواتها جيش من المشاة المواطنين يكون ربع الحملة كلها، وأسطول صغير قوي، ومال يسدُّ به نفقات الجيش والبحرية — وقد فات المجلس هذا الأمر — وقائد أثيني يثق فيه المواطنون.

لقد كانت هذه النصيحة معتدلة وسليمة للغاية، وربما كان ديموسثينيس يعي ما يقول عندما قال: إنه يكفي في الوقت الحاضر ألفان من المشاة، ومائتان من الفرسان، وخمسون من جنود البحرية. وإن هجوم مثل تلك القوة على فيليب بعزيمة صادقة؛ ليجدِّد الجرأة في قلوب أعدائه العديدين الذين لم يخضعهم تمامًا.

هناك نقطة أخرى يتميز بها الفرق بين هذه النصيحة ونصائح من سبقه، وهي عدم تحديد حملة معينة واحدة للجيش، بل يحتفظ بقوته الأصلية لأي مدة يتطلَّبها الأمر.١١ ويخدم الجنود مدة معينة محدودة يستبدلون عند انتهائها بجنود جدد.١٢ والجيش الذي يقترح تكوينه غير كافٍ ليهزم فيليب دون مساعدة، ولكنه كافٍ لإحداث أثر قوي؛ فإنه يمكنهم إرسال قوة كبيرة، ولكنها لا تكون مجدية، ولا يستطيعون الاحتفاظ بها.١٣
وقد فشلت خطبته «الفيليبية الأولى» في إحداث الأثر المقصود، كما لم تجد كذلك الخطب الأولونثية التي تلتها. وفي سنة ٣٤٩ق.م. وجد حجة لشن الحرب على أولونثوس Olynthus التي طلبت المساعدة من أثينا.
ويظهر أن التحالف الذي سعى إليه عبثًا في سنة ۳٥۷، ۳٥۲ق.م. قد عقد الآن دون معارضة كبيرة؛ فأوفد خاريس Chares على رأس ألفي جندي مرتزق لمساعدة العصبة الأولونثية. ويحاول ديموسثينيس تأكيد أهمية الموقف؛ فإن القوة التي قرروا بالتصويت إرسالها لم تكُن كافية، وكان ينبغي أن يعملوا بسرعة، فيرسلوا قوتَين من المواطنين وليس من الجنود المرتزقة، إحداهما لحماية أولونثوس، والأخرى لعرقلة أعمال فيليب حيثما وجد. ويلزم كذلك مبالغ عظيمة من المال، مشيرًا إلى أن لدى الأثينيين أمدادًا حاضرةً من الأموال. ويشير إلى قرض الأعياد Festival Fund (ϑεωρικόυ)، ولكنه إزاء ذلك يجد نفسه في موقف دقيق. فقد كان الحكم لوزارة يوبولوس Eubulus، وقد أصدر يوبولوس قانونًا بأن أية محاولة لإفساد اﻟ (ϑεωρικόυ) تُعَد جريمة. ولمَّا كان ديموسثينيس أحد الأقليات الضعيفة؛ فإنه كان يتحرك بحذر، مقترحًا أن الحاجة تقضي بتغيير الإدارة، ولكنه لا يقترح أية حركة معينة.
هناك فرق ملحوظ بين نغمة الخطبتَين الأوليَين والخطبة الثالثة؛ فيصر ديموسثينيس في الأوليَين على أنه لا يزال كل شيء في حاجة إلى الإنجاز، غير أنه يشير إلى أن هناك عدة نقط ضعيفة في تسلُّح فيليب، وأن سياسة الاتحاد القوية قد تستطيع قهره. أما في الخطبة الثالثة فيوضح أنه قد سبق السيف العذل، وضاعت الفرصة بعد أن كانت مواتية، ولا يمكن استرجاع الأراضي التي امتلكها فيليب إلا بوسائل قوية مستميتة. ويقترح صراحة تحويل قرض الأعياد إلى عدد حربية لأن ذلك هو الموضوع الأساسي للعمليات، الذي تنصبُّ عليه كل حجَّة بدورها.١٤
كانت جهود أثينا فاترة وغير كافية؛ فسقطت أولونثوس ومدن الحلف الخالكيدي Chalcidian League الأخرى في السنة التالية (٣٤۹ق.م.) فدمَّرت وأخذ جميع السكان عبيدًا. وقد فشلت كل المحاولات في توحيد الولايات البيلوبونيزية ضد العدو؛ فبدأت المفاوضات بين فيليب وأثينا. وقد باشر بعض الخاصة تلك المفاوضات بصفة غير رسمية في أول الأمر، ولكن في عام ٣٤٧ق.م. أرسل وفد إلى فيليب تبعًا لاقتراح فيلوكراتيس. وتسلم رد فيليب سنة ٣٤٦ق.م. وفيه يطلب استثناء فوكيس Phoces وهالوس Halus من المعاهدة المقترحة، وقد عارض ديموسثينيس في هذه النقطة بينما وافق عليها أيسخينيس. ثم أرسل وفد آخر فوقَّع على صلح فيلوكراتيس الموصوم بالعار، وكانت النتيجة خراب فوكيس.

وعلى الرغم من أن ديموسثينيس أظهر عدم موافقته على ذلك الصلح، في السنة التالية في خطبته «عن السلم»، إلا أنه نصح الأثينيين بتنفيذ شروطه، قائلًا إنَّ نقضه يجرَّ عليهم بلاءً أعظم.

ونتيجة لذلك الصلح تمكن فيليب من عقد المجلس الأمفيكتيوني Amphictyonic Council وطلب التصويت على إدانة فوكيس؛ فاندحرت اثنتان وعشرون مدينة، وانتقلت الأصوات الفوكية في المجلس إلى جانب فيليب الذي نصِّب رئيسًا للألعاب الأولونثية أيضًا. وعلى ذلك حصل ذلك — الذي كان بربريًّا منذ بضع سنوات — على أسمى مصادقة دينية على طلبه ليكون قائد بلاد الإغريق. وقد رفضت الاعتراف به، أثينا وحدها التي اغتصب حقها، ورأى ديموسثينيس أن التمسُّك بخطة العداء، قد يرمي بكل الولايات في حرب أمفيكتيونية جديدة، وأنه من الأوفق أن يستسلموا ويعتبروا تلك المعاهدة مؤقَّتة، وأنها ليست سوى فترة يقومون فيها باستعدادات جديدة.
بقيت البلاد بعد ذلك في سلم اسميٍّ لمدة ستة أعوام، وسَّع فيليب خلالها نفوذه سياسيًّا. لقد عامل أثينا باحترام، إما عن مبدأ وإما عن سياسة، مشيرًا بوساطة وُلاته إلى الخدمات العظيمة التي هو مستعدٌّ لمنحها. وقد وثق كثير من المواطنين في صدق أقواله، ولا سيَّما إيسوكراتيس الذي خطب في سنة ٣٤٦ق.م. عن الشكوك التي لا أساس لها، الناجمة عن تأكيدات دعاة السوء، وهي رغبة فيليب في سحق الحرية الإغريقية.١٥ بَيدَ أن ديموسثينيس لم تخدعه تلك المظاهر قط، وكان في ذلك الوقت قائدًا بارزًا، جمع إلى جانبه قوةً لا يستهان بها من الخطباء المتحمسين أمثال لوكورجوس وهو بيريديس. وبعد أن نظم فيليب حكومة تساليا، وتحالف مع طيبة، تدخَّل في الشئون البيلوبونيزية بتعضيده مسينا Messene وأركاديا Arcadia وأرجوس ضد إسبرطة.
ذهب وفد أثيني برئاسة ديموسثينيس إلى الولايات ليحذِّرها من الخطر المحدق بها نتيجةً لتحالفها الجديد، وقد كان لهذا التحذير بعض الأثر، ويظهر أن بعض الولايات أرسل وفدًا إلى أثينا. وردًّا على توكيلهم، الذي لم يحفظ منه أي أثر، ألقى ديموسثينيس «الفيليبية الثانية Second Philippic». وفيها يكشف عن نفاق الملك قائلًا: «إن الخطط التي تتخذها أثينا ضد مناوراته غير كافية، فإننا نتكلم بينما هو يفعل. إننا نتكلم بأقصى ما يمكن ونتراخى عن العمل بأقصى ما يمكن؛ فكلا الطرفين جادٌّ في سبيله إلى أقصى حد، غير أن سبيله أكثر فعلًا وأعظم أثرًا (الفقرات ۱–٥). فإن الشعب يقبل في الحال تأكيدات فيليب بحسن نواياه، وقد أدرك هو أن طيبة، لقاء ما أسداه إليها من معروف، ستعضده في مشروعاته المقبلة.»
«إنه يظهر الأن العطف على مسينا وأرجوس للباعث ذاته. وقد أدَّى إلى أثينا أسمى إطراء بكونه لم يعقد معها شروطًا غير مشرفة (الفقرات ٦–۱۲). إن سابق أعماله تكشفه، فقد أرغم المدن البويوتية على الخضوع لطيبة؛ فلا يبدو إذَن أنه سيحرر الولايات البيلوبونيزية من سلطان إسبرطة. وهو يعلم أنه في الحقيقة يقصدكم، ويعلم أنكم تعرفون ذلك تمامًا، وهذا هو السبب في يقظته الدائمة، وتعضيده الطيبيين والبيلوبونيزيين Peloponnesians ضدكم، أولئك الذين يظنهم على درجة من الطمع بحيث يقبلون كل ما يمنحهم، ومن الغباوة لدرجة عدم تبصُّرهم بالعواقب.» (الفقرات ۱۲–۱۹).

وتشمل الخاتمة إدانة كل من يستحق اللوم لتسبُّبه في المتاعب الحاضرة. وإذا ما نظرنا إلى أقوال ديموسثينيس العامة، نراه لا يذكر أيسخينيس ولا فيلوكراتيس بالاسم، مع أنه يقصدهم بالذات.

ازداد نفوذ الحرب المناوئ لمقدونيا في سنة ٣٤٣ق.م. وقد اتَّهم هوميرويديس فيلوكراتيس؛ فرحل الأخير إلى المنفى وحُكم عليه بالإعدام. وفي نفس الوقت تقريبًا، أقام ديموسثينيس عينه دعوى ضد أيسخينيس، استمرت ثلاث سنوات، لسلوكه ضد الوطن عندما أوفد إلى فيليب. لقد كان الموقف صعبًا لسببين؛ فإن سلوكه هو نفسه في ذلك الشأن لم يمكن تمييزه تمامًا عن سلوك أيسخينيس، وكان جلُّ اعتماد الاتهام على انتقاده للبواعث، دون أن يكون لديه فعلًا أي دليل على إثم أيسخينيس. وباعتبار الضعف الفني لقضية المدَّعي، فليس غريبًا أن يفرَّ أيسخينيس. ومن الملحوظ أكثر أنه بريء بأغلبية قليلة.

وفي سنة ٣٤٢ق.م. بدأ فيليب، الذي تضاءل نفوذه قليلًا في البيلوبونيز، بحملة جديدة على تراقيا، ووصل عام ۳٤۱ إلى خيرسونيز Chersonese. ويعني امتلاك تلك المنطقة الإشراف على الدردنيل Dardanelles. ولمَّا كانت أثينا لا تزال تعتمد على تجارة البحر الأسود Black Sea في الحصول على حاجتها من القمح؛ فقد أصبح تقدُّمه يهدِّد حياتها.
أخذ ديوبيثيس Diopeirthes، أحد قوَّاد الجنود المرتزقة، في سنة ٣٤٣ق.م. بعض الأهلين ليستوطنوا كارديا Cardia، وهي مدينة في الخيرسونيز في تحالف اسميّ مع مقدونيا. فعارضت كارديا في قبولهم، وعلى ذلك أرسل فيليب قوةً من الجند إلى تلك المدينة. وحدث أن ديوبيثيس، الذي جمع — تبعًا لتقاليد ذلك العصر — تبرُّعات من أصدقائه وأعدائه المحايدين ليقوى أسطوله، حدث أنه أغار على بعض مقاطعات ترافيا الخاضعة لنفوذ مقدونيا؛ فأرسل فيليب خطاب معارضة إلى أثينا، وطلب الملتفُّون حوله في تلك المدينة استدعاء ديوبيثيس. وألحَّ ديموسثينيس في خطبته «عن خيرسونيز» في أنه لا ينبغي أن تهجر خيرسونيز في مثل تلك الأزمة، وأنه يجب الاحتفاظ هناك بقوة دائمة. ويدافع عن تصرفات ديوبيثيس بأنها كانت لدافع الحاجة. وكان من عادة الأثينيين أن يجمعوا الأصوات عن مدِّ الأجانب بالأسلحة، ولا يجمعوها عن مدِّهم بالمئونة، وعلى ذلك كان على القوَّاد أن يمدُّوا أنفسهم بالمئونة.
«يأخذ جميع القوَّاد الذين سافروا من أثينا، المال من خيوس Chios أو أروثراي Erythrae، أو من أية مدينة آسيوية يستطيعون الحصول عليه منها؛ فكل من معه سفينة أو سفينتان يأخذ مالًا أقل، بينما يأخذ أكثر من كانت معه قوة أكبر. وإن الذين يعطون ذلك المال، كثر أو قل، ليسوا مجانين ليعطوه دون مقابل؛ فإنهم يشترون به حماية تجارتهم التي تبحر من موانئهم، والضمان ضد العدوان وحماية قوافل سفنهم، وامتيازات أخرى مماثلة. وإنهم ليخبرونك بأنهم يدفعون «تبرعات Benevolences»، كما اصطلح على تسمية تلك الأموال التي كانت تُجمع بالإكراه».
«والآن في قضيتنا الحالية، كان لدى ديوبيثيس جيش، وغنيٌّ عن البيان أن كل هؤلاء القوم سيمدُّونه بالمال. وبما أنه لم يأخذ منكم شيئًا، وليس له أي مورد خاص يدفع منه مرتبات جنده، فمن أين تظنون يحصل على المال اللازم لاحتفاظه بجيشه؟ أتمطر السماء ذهبًا؟ كلا، لا تمطر لسوء الحظ؛ وعليه إذَن أن يعيش من يوم إلى آخر مما يجمعه، وما يتسوَّله، وما يقترضه.»١٦

وبالإضافة إلى اشتمال الخطبة على خطة للغزو؛ فإنها تحتوي كذلك، كما يحتوي كثير من الخطَب، على اعتراف صريح بحقيقة الموقف والطعن المعتاد في جمود الأثينيين. ويحوي الجزء الختامي تحذيرًا أكثر صرامة وحزمًا من المعتاد، ويظهر أن ديموسثينيس كاد ييأس من النجاح.

«فإذا فهمتم الموقف كما أوضحت لكم، واستنرتم بكل شيء؛ فقد تتحسن الأمور، أما إذا ظللتم في جمودكم، وقصر حماسكم على التفوُّه بعبارات الاستحسان وأصوات الإعجاب، والتنصُّل من العمل وقت الحاجة للعمل؛ فلا أرى أن أية فصاحة لا يعضدها قيامكم بواجبكم، تستطيع أن تقود بلادنا إلى السلامة.»١٧
وقد أُلقيت «الفيليبية الثالثة Third Philippic في نفس العام (۳٤۱ق.م.) والموقف هو نفسه في جميع النقط الأساسية؛ إذ يعيد ديموسثينيس طلب إرسال المساعدة إلى خيرسونيز، وضمان سلامة بيزنطة Byzantium، ولكنه لا يتوسع في هاتَين النقطتَين اللتَين تناولهما الخطباء السابقون.١٨ «حقيقية، يجب علينا مساعدتهما، وأن نضع نُصب أعيننا ألا يصيبهما أي مكروه، غير أنه يجب أن ينحصر كل نقاشنا في اتخاذ التدابير ضد ذلك الخطر الجسيم الذي يهدد كيان بلاد الإغريق برمَّتها.»١٩ وإن ذلك الرأي هو ما يميِّز الفيليبية الثالثة، ويجعلها أعظم الخطب العامة.

وقد اقترح ديموسثينيس في «خيرسونيز» إيفاد عدة سفارات، ويتوسع الآن في هذا الموضوع؛ فإن مصالح أثينا يجب أن تعرف مع مصالح بلاد الإغريق كلها، ويجب أن تعلم جميع الولايات ذلك؛ فقد وضع فيليب خططه ضد حرية جميع بلاد الإغريق مجتمعة؛ فينبغي أن تتسلَّح أثينا وتضع نفسها على رأس عصبة قوية للمطالبة بالحرية.

«وإذا ما مررت بأولونثوس وميثوني Methone وأبولونيا Apollonia واثنين وثلاثين مدينة أخرى في مقاطعة تراقيا، أراه قد خرَّبها بوحشية حتى لَيصعب على أي زائر أن يعلم أن هناك من كان يسكنها إطلاقًا. وإني لأسكت عن تدمير أمة عظيمة هي شعب الفوكيين Phocians، ولكن ماذا حلَّ بتساليا؟ إنه لم يكتفِ بتجريد المدن من حكوماتها، بل كوَّن حكومات رباعية Tetrarchies،٢٠ حتى لا يستعبد المدينة الأخرى فحسب، بل أيضًا لتستعبد القبيلة الأخرى. ألا يحكم مدن يوبويا Euboea الآن طغاة، رغم أن هذه الجزيرة قريبة من حدود طيبة وأثينا؟ ألم يؤكِّد في خطاباته قائلًا «إنني في سلام مع من يطيعني»؟ وإن أفعاله لتؤيد وتنطبق على أقواله؛ فقد بدأ بالهجوم على الهيلسبونت، وقبل ذلك زار أمبراكيا Ambracia، وامتلك المدينة الهامة إليس Elis في البيلوبونيز، وفي الأسبوع الماضي فقط تآمر على ميجارا Megara؛ فلا اليونان ولا الممالك التي بعدها تتسع لأطماعه.»٢١

إن هذا الاقتباس البسيط لمثلٌ جيد حقيقي لطريقة ديموسثينيس في الاستشهاد بالحجج التاريخية، ولكنه لا يعطي سوى فكرة ضئيلة عن الخطبة في مجموعها. وفي الحقيقة يكثر فيه ذكر الحوادث التاريخية الحديثة ذات الأثر الفعَّال في القضية، كما تكثر فيه المقارنات بين الحاضر والماضي.

تحلُّ هذه الاستعانة الواسعة النطاق بالأمثلة، محلَّ الحجج العقلية، ولكن تأثير كل العوامل، من الاستعانة بتحريك المشاعر والعقل، قويُّ الإقناع.

لا بد أن يكون الخطيب نفسه قد علَّق أهمية عظمى على هذه الخطبة كوسيلة يفصح بها عن سياسته؛ إذ يبدو أنه نشر منها صيغتَين منقَّحتَين مختلفتَين، محفوظتَين في مجموعتَين مختلفتَين للمخطوطات. والصيغة الأقصر الموجودة في S (باريسينوس ParisinusL (لورنتيانوس Laurentianus) محذوف منها بعض العبارات، وأحيانًا فقرات بأكملها، وبذا تكون أقصر من الصيغة الموجودة بالمجموعة الأخرى. ويعتقد أن الصيغة الأقصر هي الصيغة النهائية التي أراد ديموسثينيس أن يحفظ عليها خطبته.٢٢
وتحوي «الفيليبية الرابعة Fourth Philippic» اقتراحًا بأنه يجب على أثينا أن تلجأ إلى ملك الفرس طالبةً مساعدته ضد فيليب. ويحتمل أن تكون تلك الخطبة مزوَّرةً وذات طابع غريب، ويتركَّب نحو ثلثها من فقرات مأخوذة من خطبته «عن خيرسونيز»، ويؤيد قسم منها (الفقرات ۳٥–٤٥) جمع تبرعات الملاهي،٢٣ وهذا ما يعارض روح الخطبتَين «الأولونثية» و«عن خيرسونيز»، ولكن بعض فقراتها في أسلوب ونغمة يليقان بديموسثينيس، وتتفق وآراءه.
إذَن لدينا الآن ولا شك مجموعة من خطب ديموسثينيس الحقيقية، مطوَّلة بنوعٍ ما من الوسائل البلاغية. أما «الرد على خطاب فيليب» والخطبة «عن التنظيم περι συνραξεως» فهما تزويران بسيطان. وهذه تختم مجموعة الخطب الفيليبية.

ينتهي سجلنا عن خطب ديموسثينيس العامة بالخطبة الفيليبية الثالثة، وذلك في اللحظة التي بلغت فيها فصاحته ذروتها. وتتعلق خطبه العظمى بأعوام المعارضة، والآن بعد نضال أحد عشر عامًا، نصَّب نفسه رئيسًا أعلى للمجمع. ولا شك في أنه كان يخطب كثيرًا بألفاظ تثير الحماسة، غير أنه إذ شغل بعمله الإداري، لم يجد متَّسعًا من الوقت أو حاجة للكتابة.

كانت السنوات ٣٤٠–۳۳۸ق.م. وقت انتعاش قوي لأثينا؛ فيبدو أن حكومة المدينة خرجت ظافرة من نضالها ضد الملكية مدة قصيرة زاهرة. وقد أوحى الحماس إلى الحزب الوطني بجهود نبيلة فانتزعت يوبويا من نفوذ فيليب، وكوَّنت أثينا محالفة جديدة تشمل أكارنانيا Acarnania وأخايا Achaea، وكوركورا Corcyra، وكورنثة، ويوبويا، وميجارا. وقد توقَّف فيليب نفسه أمام البيزنطيين الذين طلبوا المساعدة من أثينا؛ فلم يكن طلبهم عبثًا.

أما عن الشئون الداخلية؛ فقد سُنَّ قانون جديد لبناء السفن وإعدادها، ولم يزِد هذا القانون في مقدرة الأسطول فحسب، بل ألغى مظالم اجتماعية بالغة؛ إذ جعل عبء نفقات بناء السفن على جميع الطبقات بنسبة دخلهم، وعلى ذلك ظُلم فقراء المواطنين. وحدث كذلك إصلاح أعظم من ذلك، وهو تحويل تبرعات الملاهي لنفقات الحرب (عام ۳٣۹ق.م.) وهو مشروع طالما تاقت إليه النفوس. وفي سنة ٣۳۸ق.م. عيِّن لوكورجوس لوزارة المالية، فملأ منصبه بجدارة خارقة مدة اثنتَي عشرة سنة.

غير أنه كان لفيليب عدة ميزات، وكان أشدَّ خطرًا عندما يبدو متغاضيًا عن أعدائه. فلما لم ينجح في الهيلسبونت سحب أسطوله وحمل برًّا ضد أمير سكوتيٍّ كان قد أساء إليه. ولم تؤثِّر هذه الرحلة على خططه العظيمة، وكان يسرُّ أثينا أن تفكر في إمكان هزيمته أو حتى قتله. وقد جرح فعلًا ولكنه عاد إلى مقدونيا في عام ۳٣۹ق.م. متمِّمًا ما يحتمل أنه كان غرضه الأساسي، وهو إعادة ثقة جنوده، بعد انقلابهم في المعارك الحديثة مع الإغريق.

وفي أثناء ذلك كانت الأمور تجري في اليونان في صالح خططه، ويجوز أنَّ نفوذه كان يسيطر بعض الشيء على سير تلك الأمور.

في سنة ۳٤٠ق.م. قام اثنان من أعداء ديموسثينيس، وهما ميدياس وأيسخينيس، بتمثيل أثينا في المجلس الأمفيكتيوني. فيشرح أيسخينيس كيف أثار هو نفسه حماسة الأمفيكتيونيين، بدون أي باعث سياسي ظاهر سوى إرضاء حقده الشخصي؛ فأعلنوا الحرب المقدسة على لوكرانيي أمفيسا Amphissa. وكانت أية حرب بين الإغريق وبعضهم، ميزة لفيليب.
سارت الحرب الأمفيكتيونية في بطء وتراخٍ، وفي خريف عام ۳۳۹ق.م. دعا المجلس، الذي لم يزل تحت تأثير أيسخينيس، فيليب لوضع حدٍّ لتلك الأمور. وكان الملك قد شُفي بسرعة من جرحه؛ فسرعان ما قابل بالتَّرحاب والتقبيل تلك المهمة المقدسة التي مكَّنته من احتراق تساليا وثيرموبولاي دون أن يقف في طريقه أحد. وعندما وصل إلى إلاتيا Elatea، التي كانت ذات مرة أهم مدن فوكيس ثم عُزلت، توقَّف وأخذ يحصِّنها للدفاع. فقابلت أثينا تلك الأنباء بالدهشة والخوف، كما يصف ذلك ديموسثينيس.٢٤ فعقد اجتماع مجلس على عجل، شرح فيه ديموسثينيس بالتفصيل ما دعاه إلى ذلك العمل.

كان ذلك تهديدًا لأثينا وطيبة على حدٍّ سواء، وقد بذل ذلك السياسي العظيم كل ما أوتي من فصاحة اللسان في حث الأثينيين على ترك عداءاتهم الطويلة الأمد وتقديم كل قوتهم الحربية مساعدة لطِيبة، دون أجر ودون قيد ولا شرط، ويحتمل أن يكون أعظم ظفر نالته فصاحةٌ ما، أن ديموسثينيس نجح في ندائه هذا. وكان لا بد من الحرب قرُب أم بعُد أوانها، وكان شرفًا عظيمًا له أنه كان السبب في عقد التحالف مع طيبة، ولو أن نتيجته كانت وبالًا على جميع الإغريق الذين اشتركوا في موقعة خايرونيا (٣٣٨ق.م.)

وعلى ذلك كان نفوذ أثينا على الشئون الخارجية محدودًا جدًّا، ولو أنها حافظت على استقلالها؛ لأن فيليب كان عدوًّا سخيًّا.٢٥ لقد شغل ديموسثينيس نفسه بالأمور الداخلية فعهد إليه إصلاح التحصينات، فتبرع للإنفاق عليها بمائة ميناي. وقد اقترح كتيسيفون سنة ۳۳۷ق.م. منح ديموسثينيس تاجًا ذهبيًّا نظير ذلك العمل. فاتَّهم أيسخينيس كتيسيفون بالقيام بحركة غير قانونية، وكانت نتيجة ذلك الاتهام إقامة قضية «التاج The Crown» الشهيرة التي ألقى فيها الطرفان المتخاصمان خطَبًا عظمى؛ ولكن القضية لم تُسمع إلا بعد ستة أعوام.

قُتل فيليب سنة ۳۳٦ق.م. فكان ديموسثينيس قدوةً للابتهاج، بأن ظهر بين الجمهور لابسًا تاجًا من الأزهار مع أنه كان في حداد على ابنته في ذلك الوقت. وقد ضرب الإسكندر الأرض بالآمال العظيمة التي أمَّلت فيها مدن الولايات، ورغم أنه كان في الثانية والعشرين فقط من عمره، فقد أثبت أنه قائد أعظم وسياسي أكثر حنكة من والده.

حرَّض ديموسثينيس طيبة على شقِّ عصا الطاعة، وكان الفرس يمدُّون ديموسثينيس بالمال، بَيدَ أن الإسكندر سحق وخرَّب طيبة قبل أن تصلها النجدة، وأرسل إنذارًا إلى أثينا طالبًا تسليم ديموسثينيس ولوكورجوس وثمانية خطباء آخرين من حزبهما، ولكن يظهر أن ديماديس توسُّط في الأمر وأنقذهم.٢٦

رحل الإسكندر إلى آسيا تاركًا الساسة الأثينيين يتنازعون حول الشئون السياسية لمدينتهم. وفي ذلك الوقت نظرت القضية العظمى التي شُغل بها كلٌّ من ديموسثينيس وأيسخينيس، وكان موضوع النزاع اسميًّا فقط؛ فقد كان في الحقيقة موضوع استعراض وحكم على الحياة السياسية لهذين الخصمين العظيمين في السنوات العشرين الماضية.

واجه كتيسيفون ثلاث تهم لخرق القانون: (١) إن القرار الذي يؤكد كذبًا أن ديموسثينيس قام بخدمة جليلة للدولة، عبارة عن إثبات وقائع كاذبة في السجلَّات العامة. (۲) ليس من الشرعي أن يتوَّج موظف لا يزال، مثل ديموسثينيس، عرضة للمحاسبة. (٣) إعلان التتويج في المسرح أمر غير قانوني.

كانت قضية المدَّعي قوية عن القسمين (۲)، (۳)، وهما النقطتان الفنِّيتان. أما القسم الأول فكان القسم ذا الأهمية الحقيقية؛ حيث إنه كان يهدف حقيقة إلى ديموسثينيس، وقد خصَّص الجزء الرئيسي من خطبة أيسخينيس عن كتيسيفون للطعن في حياة ديموسثينيس العامة. وقد أخذ منها أربع فترات:
  • (١)

    الفترة من الحرب على أمفيبوليس حتى صلح فيلوكراتيس (۳٥۷–٣٤٦ق.م.)

  • (٢)

    مدة الصلح (٣٤٦–٣٤٠ق.م.)

  • (٣)

    فترة وزارة ديموسثينيس (۳٤۰–٣۳۸ق.م.)

  • (٤)

    المدة بعد خايرونيا (٣۳۸–۳۳۰ق.م.)

وينصبُّ رد ديموسثينيس «عن التاج» أساسيًّا على دفاعه عن سياسته، تاركًا النقط الفنية التي اعتمد عليها الاتهام، في المؤخرة. ومن الملحوظ أنه عندما تناول الأعوام المبكرة، لم يحاول الاهتمام بالخطب العظمى التي حاول بوساطتها أن يؤثِّر على وطنه في ذلك الوقت، وهي الفيليبية الأولى والأوليمبيات الثلاث. وأهم ما يناقشه هو مفاوضات الصلح، ويتكلم بتفصيل أكثر عن الفترة الثانية، واضعًا جلَّ الضغط على الفترة الثالثة، تلك المدة التي كان فيها قائدًا للشعب حتى إن تقرير السياسة القومية يشمل ذكر وطنيته. ولا يشير إلى الفترة الأخيرة إلا بتلميحات بسيطة، وهي المدة منذ موقعة خايرونيا.

ليس لتلك الخطَب ترتيب تاريخي ولا تركيب منظم ظاهريًّا، بَيدَ أن خطبة التاج أعظم الخطَب الأثينية قاطبة.

لا يمكن تمثيل الخطبة بذكر مقتبسات منها، وإنما يجب قراءتها كلها حتى يمكن إدراك كنهها وتقديرها حق قدرها. ولا تفيدنا قراءة ملخَّص لها أكثر من لفت النظر إلى غرائب تركيبها، التي يرجع سببها أحيانًا إلى طول الخطبة وتنوُّع موضوعاتها التي تتناولها.٢٧
  • (١)

    الفقرات ۱–۸: تبدأ مقدمتها العرفية وتنتهي بدعاء حار.

  • (٢)

    الفقرات ۹–٥۲: تكذيب لادِّعاءات أيسخينيس. ويتناول هذا القسم أساسيًّا، سرد ديموسثينيس نفسه لمفاوضات صلح عام ۳٤٦ق.م. ويوضح فيه أن أيسخينيس وزملاءه مذنبون حقيقةً بالخيانة في معاملاتهم مع فيليب.

  • (٣)

    الفقرات ٥۳–۱۲٥: دفاع كتيسيفون، ويتعهَّد ديموسثينيس بإثبات: (أ) أنه استحق أن يمنح تاجًا. (ب) أنه لا لوم على كتيسيفون من الوجهة القانونية.

    ففي (أ) يلخِّص ديموسثينيس حالة بلاد الإغريق إبان سنوات الصلح ويعدِّد بعدها مباشرة خدماته هو نفسه للشعب، مبرِّرًا سياسته. وفي (ب) يفحص موضوع شرعية الإجراءات، ويبرهن على أن كتيسيفون في جانب الصواب إزاء القانون.

  • (٤)

    الفقرات ۱۲٦–۱٥۹: طعن في أيسخينيس. ويمكننا تسمية ذلك خاتمة كاذبة، غير أنها في الحقيقة ليست سوى مداعبة في وسط الخطبة، وتتناول (أ) مولد وحياة خصمه، و(ب) على الأخص، تصرفه الذي أشعل نار حرب أمفيكتيونية.

  • (٥)

    الفقرات ۱٦۰–٢٥۱: يستمر ديموسثينيس في مناقشة سياسته الماضية فيما يتعلق بالتحالف الطيبي، والحرب الماضية مع فيليب.

  • (٦)

    الفقرات ۲٥۲–۳۲٤: خاتمة خارقة الطول، موضوعها الرئيسي مقارنة بين ديموسثينيس وأيسخينيس. وينسب الخطيب نفسه إلى المدينة التي شكَّل سياستها، حتى إنه إذا هاجمه أيسخينيس يكون قد هاجم أثينا. وتنتهي الخطبة كما بدأت بالدعاء.

٣

يحتمل أن يكون ديموسثينيس قد قضى بعض السنوات التالية في كتابة خطَب خاصة لغيره، ولو أن الخطَب التي بقيت لنا من هذه الفترة مشكوك في صحتها. كذلك ظل هو شخصية بارزة في السياسة الأثينية، فلم يغيِّر آراءه، ولكن يظهر أنه اعتزل رئاسة الحزب الوطني وسلَّمها لغيره ممن كانت وطنيتهم أشد حدة من وطنيته، وعلى ذلك كان يعتبر في ذلك الوقت من المعتدلين في آرائهم، وقد يكون مركزه هو الذي أوقعه في الخطر عام ۳۲٤ق.م.

حدث في ذلك الوقت أن هاربالوس Harpalus الذي كان الإسكندر قد تركه وراءه محافظًا من قبله في بابل Babylon، عندما بلغته إشاعة بموت سيده في الهند، استولى على أموال الحكومة وأبحر إلى اليونان على رأس قوة قوامها ستة آلاف رجل، ورسا برجاله بعيدًا عن بيرايوس Piraeus، فالتفَّ حوله الوطنيون المتحمِّسون واقترحوا أن ترحِّب به أثينا وتنتفع بما معه من الأموال والرجال في شق عصا الطاعة.
عارض ديموسثينيس فكرة هذا العصيان السافر ضد الإسكندر، وعند إعلانه ذلك لم يسمح للأسطول بالدخول؛ فأقبل هاربالوس وحده بدون رجاله، فسمحوا له بالدخول، ثم جاء في إثره مباشرة رسل من الإسكندر يطلبون تسليمه؛ فعارض ديموسثينيس وفوكيون في ذلك. وتبعًا لآراء ديموسثينيس قرَّروا مسايرة الأمور حسب الظروف، بأن يعامل هاربالوس كأسير، وتودع الأموال في بارثينون Parthenon. وقد صرَّح هاربالوس بأن تلك الأموال تبلغ ۷٢٠ تالنتًا، ولكن سرعان ما علم أنها لا تبلغ سوى ٣٥٠ تالنتًا أودعت في الأكروبول Acropolis. وفي أثناء ذلك هرب هاربالوس من معقله واختفى. فحامت الشبهات حول كل من كان يظهر عطفًا عليه. وإزاء هياج الشعب، اقترح ديموسثينيس على مجلس الأريوباجوس أن يحقِّق في حادث اختفاء بقية الأموال. وبعد ستة شهور قدَّم المجلس تقريره وبه قائمة بأسماء تسعة رجال من الشعب ثبتت إدانتهم بالاستيلاء على جزء من المال المفقود. وكان اسم ديموسثينيس نفسه في أول القائمة متهمًا بالاستيلاء على عشرين تالنتًا نظير مساعدة هاربالوس في الفرار.
لم يكن ذلك التقرير بمثابة حكم قضائي، ولكن ترتَّبت عليه المحاكمة وتعيين عشرة مدَّعين، وإدانة ديموسثينيس. فحكم عليه بغرامة قدرها خمسون تالنتًا، ولمَّا لم يستطع دفعها أُلقي في غياهب السجن. ولكنه سرعان ما هرب إلى أيجينا Aegina أولًا ثم إلى ترويزن Troezen حيث ظل، على حد قول بلوتارخوس، يجلس يوميًّا على شاطئ البحر يرقب شواطئ أتيكا Attcia البعيدة بعيون ملؤها الحزن والحسرة.
هذا الموضوع جد غامض؛ فلا نعلم كيف دافع ديموسثينيس عن نفسه، غير أن لدينا خطبتَين للاتهام؛ إحداهما لهوبيريديس، والثانية لدينارخوس Dinarchus، وهما غير واضحتَين. وقد اعتُمِد تقرير مجلس الأريوباجوس لذكره الوقائع، ولذا استُغنِي عن كل دليل آخر، فلم تكن مهمة المحكمة سوى تقدير الدوافع وتقدير درجة إثم كلٍّ من المتهمين.
يؤكد هوبيريديس٢٨ أن ديموسثينيس بدأ يعترف باستيلائه على النقود، ولكنه أنكر بعد ذلك مقرِّرًا استعداده لقبول الموت لو كان استولى على أية نقود.٢٩ ومن المؤكد أن ديموسثينيس هو الذي طلب من الأريوباجوس التحقيق في الموضوع.
هناك أمران يحيِّراننا في تلك القضية، وهما: الغرامة التي حكم بها — وهي تبلغ قدر المبلغ المستولى عليه مرتين ونصف مرة — غرامة بسيطة لو عرفنا أن القانون يقضي بأن تكون عشرة أمثال المبلغ. وثانيًا، من الصعب معرفة متى أخذ ديموسثينيس المبلغ؛ فلم يتمكن هاربالوس من أن يدفع له وقت هروبه، ولا في أي وقت بعد القبض عليه؛ لأنه لم يأخذ المال معه في السجن. ويجوز أن يكون المبلغ قد دفع قبل ذلك، لأن ديموسثينيس كان يعمل باستمرار ضد هاربالوس. ويظن الأستاذ بوتشر Butcher، أنه يجوز أن يكون المبلغ قد دفع إلى ديموسثينيس عندما عارض في تسليم هاربالوس إلى الإسكندر.٣٠

لقد اقترحت نظريتان لتبرئة ذلك الخطيب تبرئة تامة أو جزئية؛ إحداهما أنه كان بريئًا تمامًا ولكنه كان ضحية جماعة من أعدائه السياسيين، وهم الوطنيون المتطرفون الذين لم ترقهم سياسته المعتدلة، والحزب المقدوني خصمه القديم. وتقول النظرية الأخرى إنه استولى على المبلغ وأنفقه، أو قصد إنفاقه في الوجوه السرية التي تنفق فيها كل حكومة بعض الأموال، ولو أنه لا يمكن عادةً إعطاء أية تفاصيل عن وجوه تلك المصروفات.

وحتى إذا لم يستطع إثبات إنفاقه الأموال في تلك الوجوه؛ فإن جريمة أخذ الرشوة جريمة بسيطة يمكن التغاضي عنها إذا لم تكن للإضرار بمصالح الدولة كما يعترف المدَّعي هوبيريديس. ولدينا دليل في صالح ديموسثينيس، وهو دليل باوسانياس Pausanias الذي يؤكد أنه عندما حقَّق الإسكندر مع أحد أتباع هاربالوس في ذلك الموضوع، أفشى هاربالوس أسماء عدة أشخاص لم يكن ديموسثينيس بينهم.

طلب دينارخوس إدانة ديموسثينيس بتهمة الرشوة، مؤكدًا أن ديموسثينيس استولى على ثلاثمائة تالنت من الملك العظيم لينقذ طيبة في سنة ۳۳٥ق.م. ولكنه ضحَّى بطيبة لصالحه هو؛ لأنه أراد الاحتفاظ بعشرة تالنتات كان الأركاديون قد وعدوا بها نظير مساعدتهم؛ ولكن هذه الرواية غير معقولة.

لمَّا مات الإسكندر عام ۳٢۳ق.م. تجدَّد أمل ديموسثينيس في الحرية، فقام في الحال برحلة إلى البيلوبونيزكي يحثُّ المدن على ضرورة العمل جنبًا إلى جنب. فتصالح مع حزب هوبيريديس واستدعيَ من منفاه؛ فسافر إلى وطنه على سفينة حربية، ونزل من الميناء في موكب حتى وصل إلى المدينة. ولمَّا تمسَّك القانون بحكمه، دفع الشعب الغرامة بدلًا منه. ثم بدأت الحرب اللامية بنجاح تحت قيادة ليوسثينيس Leosthenes، بَيدَ أن أنتيباتر Antipater أباد القوات الإغريقية في موقعة كرانون Crannon؛ فاضطرت أثينا إلى قبول قوات مقدونية مرابطة، وأن تفقد دستورها الديمقراطي، وأن تسلِّم قوَّادها إلى المنتصر ليصبَّ عليهم جام انتقامه.
كان بيد ديماديس أمر بقتل ديموسثينيس وهوبيريديس، ولكن ديموسثينيس كان قد سبقه وهرب معتصمًا بمعبد بوسيدون Posidon في جزيرة كالاوريا Calauria؛ فلحقه إلى هناك رسول من أنتيباتر يدعى أرخياس Archias الملقب بصياد المنفى، وكان يشتغل ممثِّلًا. فحاول ذاك الرجل إغراء ديموسثينيس بالوعود السخية، غير أن ديموسثينيس أجابه قائلًا: «لم يحمل تمثيلك اتهامًا قط، كذلك وعودك لا يوثق بها.» عندئذٍ لجأ أرخياس إلى التهديد، ولكنه كان يضرب على حديد بارد، وردَّ عليه ديموسثينيس بقوله: «الآن، تتكلم بلغة مقدونية، وما كان كلامك قبلًا إلا تمثيلًا، فانتظر قليلًا حتى أكتب بضعة سطور إلى وطني.» ولكنه غافله متظاهرًا بالكتابة، وتجرَّع سمًّا كان في طرف قلمه، وأراح رأسه على يديه كما لو كان يفكر. وعندما قدم إليه أرخياس ثانية، نظر ديموسثينيس في وجهه وقال: «لقد آن وقتك لتلعب دور كريون Creon وترمي بجثتي هذه دون أن تدفنها. والآن أيها المعبود بوسيدون أترك معبدك وأنا على قيد الحياة، ولكن أنتيباتر وأتباعه.
المقدونيين لم يتركوا حتى معبدك دون تدنيس.» ثم حاول بعد ذلك أن يسير، ولكنه سقط جثةً هامدةً على سلم المذبح.»٣١
يروي لوكيان Lucian في «مدح ديموسثينيس» رواية خيالية عن أنتيباتر، مستقيًا أخباره من أرخياس. وإليك كلماتها الختامية:
«هكذا ذهب إما ليعش مع الأبطال في جزر النعمة، وإما في طريق الأرواح التي تصعد إلى السماء، ليكون روحًا مرافقةً لزوس؛ واهب الحرية، ولكننا سنرسل جثته إلى أثينا، كتذكار لتلك الأرض أنبل من الجثث التي سقطت في ماراثون Marathon».٣٢

٤

شهرته الأدبية
إن حكم القدماء الذي ظل مقبولًا حتى الأزمنة الحديثة، قد جعل مرتبة ديموسثينيس، أعظم الخطباء. وكان له في عصره منافسون؛ فأيسخينيس كما رأينا جدير بأن يقارن به في وجوه كثيرة، وكان من معاصريه أيضًا فوكيون ذو التأثير الشخصي لوقاره ومهابته، وإخلاصه وإيجازه. «كان يستطيع التعبير عن معان كثيرة في ألفاظ قليلة». وأحيانًا كان ارتجال ديماديس العنيف أكثر تأثيرًا من مهارة ديموسثينيس المصقولة. ويفضِّل أيسخينيس كلام ليوداماس Leodamas وأخارناي Acharnae، ولكن النغمة التي يقول بها ذلك فيها كثير من الاعتذار، وإن النقد اللاذع الذي كان يوجِّهه أيسخينيس باستمرار إلى خصمه ليدلَّ دلالةً قاطعةً على أن ديموسثينيس كان يعتبر أول خطباء عصره.
إن الثِّقات الإغريق الذين جاءوا بعد ذلك، والذين كانوا يعرفون خطباء العصور قبل المقدونية، يعجبون بديموسثينيس إعجابًا لا تشوبه ضغائن. وقد رأى فيه مؤلف السمو Sublime عدة أخطاء، وأقرُّ بتفوُّق هوبيريديس عليه في عدة نواح،٣٣ ومع ذلك فإنه يرى في ديموسثينيس صفات دينية معينة وضعته وحده في مرتبة خاصة، فهو يفوق خطباء سائر الأجيال، وإن ثورته وصخبه ليتغلَّبان على كل معارضة، ويستحيل مواجهة لآلائه المتألق دون خوف ووجل، ولكن هوبيريديس لم يخَف أحدًا قط.
ونجد ديموسثينيس في عصور لاحقة يلقَّب ﺑ «الخطيب»، كما يلقِّب هوميروس ﺑ «الشاعر». وقد كتب لوكيان، الذي تستحق تقديراته الأدبية اهتمامنا، مدحًا لديموسثينيس يحوي حوارًا خياليًّا بطله أنتيباتر. إنه يقدِّر ويحترم عدوَّه الميت الذي «أيقظ مواطنيه من سباتهم العميق.»٣٤

وتشبَّه الخطَب الفيليبية بالمنجنيقات والقذائف، ويروى أن فيليب اغتبط لعدم تعيين ديموسثينيس قائدًا، فقد هزت خطبه عرش ذلك الملك، فما بالك لو أعطي فرصة العمل! إذَن لقلبت أعماله العرش.

وشيشرون أحد النقَّاد الرومانيين الذين يظهرون إعجابهم العظيم به، ففي عدة فقرات من «بروتوس Brutus»، و«الخطيب Orator»، يعجب شيشرون بامتياز ديموسثينيس في كل نوع من أنواع الخطابة، ويعتبر أنه قد بذَّ كلُّ من عداه، ولو أنه لم يصل إلى الكمال في بعض النواحي. وإن مدح كوينتيليان Quintilian ليميِّزه بإخلاص، وفي الحقيقة يمكننا أن نقول أن العالَمَين الإغريقي والروماني قد أجمعا عمليًّا على منزلة ذلك الخطيب.

من الصعب أن نلقي نظرة عامة على أسلوب ديموسثينيس، وذلك بسبب تنوُّعه، فإن لكل نوع من أنواع الخطب الثلاثة — أعني الخطب الشرعية، وخطب القضايا الخاصة والعامة، والخطب الحماسية العامة التي ألقاها في المجامع — مميزاته، ومع ذلك فإن هناك ميزات عامة يمكن ملاحظتها في جميع الأنواع.

وأولى مميزاته هي العناية الفائقة بالتأليف، ومن المعروف أن إيسوكراتيس قضى سنوات في صقل موضوعاته التي قصد جعلها نماذج دائمةً لعلم السياسة. وكان أفلاطون يكتب ويمحو فيما كتب، ثم يكتب ثانية قبل أن يطمئن إلى الصيغة التي رغب أن يخرج فيها فلسفته إلى العالم. ولكن ديموسثينيس دون أن يتعب لعدة سنوات، استطاع إخراج خطب في أغراض معينة، جعلها بهاؤها جديرة بالتقدير كموضوعات أدبية عظيمة؛ هذا علاوة على قيمتها في السياسة العملية.

وهناك فكاهة شائعة عنه، وهي أن رائحة خطبه كرائحة زيت منتصف الليل، ولكنه لا بد وأن يكون ذا فصاحة طبعية حتى إنه استطاع إجادة تأليف مثل تلك الخطب العديدة. ومن جهة أخرى فقد لا تكون خطبه الباقية لنا، في الصيغة التي ألقاها بها. ويظهر أنه كان من عادة خطباء ذلك العصر أن ينشروا خطبهم التي ألقوها في القضايا الهامة، حتى يستطيع أكبر عدد من الناس أن يقرأ سجلًّا دائمًا لآراء الخطباء في المسائل السياسية أو القانونية ذات المتعة الدائمة.

ولدينا دليل غير مباشر على أن ديموسثينيس اعتاد تصحيح نصوص خطَبه، ويذكر أيسخينيس بعض عباراته متهكِّمًا، ولا سيما الأمثال المبالغ فيها التي لا توجد في الخطب المحفوظة لدينا، ولو أنه من الواضح أن بعضها هو النص الحقيقي إن لم يكن النص قد نقَّح.٣٥ ومن الجدير بالذكر ملاحظة إيراتوسثينيس٣٦Eratosthenes أنه كان أحيانًا يخرج عن طوره وهو يتكلم، فيتكلم كمن به مس. وكذلك ملاحظة ديمتريوس الفاليروني Demetrius of Phaleron، أنه خرج على الذوق السليم في إحدى المناسبات؛ فذكر قسمًا شعريًّا يحمل طابع الهزل، إذ قال:

«أقسم بالأرض والنافورات والنهيرات ومجاري الماء.»

لا توجد هذه الفقرة في أية خطبة باقية، غير أنه يلاحظ أن ديموسثينيس يستعمل عادة أمثال تلك الصيغ التي تمثَّل عادة بالصيغة المألوفة ὦ γῆ καὶ θεοί «أيتها الأرض والآلهة» حيث إنها في الحقيقة توجد في معاصرة أيسخينيس.
من الجليِّ أن الذوق الآتيكي كان يعاني تعديلًا؛ فإن أمثال تلك المصطلحات لا توجد في الأسلوب المتجانس الموقَّر لإيسوكراتيس، ونادرة الوجود في أسلوب لوسياس الرصين، الذي كان أسلوبه نموذجًا لخطب ديموسثينيس المبكرة. وتوجد في خطبه بعض المصطلحات الأخرى الخاصة بالكلام الدارج، التي قد يكون إيسوكراتيس قد تحاشى استعمالها لكونها عامية نحو ο δεινα شخصٍ ما وὦ ταν أي صديقي العزيز.
وتحت العنوان نفسه يأتي استعمال المصطلحات الجافة والعبارات الشخصية المستهجنة. وفي كثير من الخطب الخاصة بالقضايا القانونية العامة، يسمح ديموسثينيس لنفسه على مدًى واسع بكل ما يجيزه الذوق في عصره. وفي الاستعمال الحقيقي للألقاب والصفات المستهجنة — θηρίον Κατάρατος ونحوها — لا يذهب أبعد مما اعتاد أيسخينيس استعماله، وحتى دينارخوس يفوقه في ذلك، بَيدَ أنه عند تراكم الإشارات اللاذعة إلى ما يزعم أنه أخلاق خصومه السياسيين الخاصة، ينزل إلى الإغراق في القدح المستهجن، حتى إننا لندهش كيف كان جمهور محترم من المستمعين، يحتمل ذلك ولا يسكته.٣٧ وواضح أن الشعب الأثيني قد أحبَّ الفظاظة من أجل فظاظتها، بصرف النظر عن الأخلاق.
وفي بعض الأحايين توجد في الخطب الخاصة خشونة معينة لا يمكن تحاشيها، حيث إن قضايا المحاكم البوليسية غالبًا ما تتعلَّق بالتفاصيل الدنيئة. وأحيانًا يضطر المقام إلى وصف أفعال شائنة،٣٨ ولكن هذا أمر يختلف تمامًا عن المقدمة غير اللائقة.

لقد وضع ديموسثينيس نفسه مثلًا أعلى، في الخطَب التي ألقيت أمام مجلس الشعب. ففي الأمور التي تتعلق بالسياسة العامة، لا يسمح بالتعرُّض للعداءات الشخصية، وقد راعى ديموسثينيس هذه القاعدة في طول الخطب الفيليبية والأوليمبية، ولم يتعرَّض قط إلى الشخصيات تحت تأثير أي ضغط، حيث إنه لم يقدح في خصومه السياسيين، ولم يذكرهم حتى بالاسم، محافظًا بذلك على حرمة النقاش أيَّما محافظة.

٥

الأسلوب والتركيب
رغم أن ديموسثينيس كان يكتب بلغة أتيكية نقية؛ فإن ديونوسيوس ينسب الفضل في الكتابة بلغة نقية تمام النقاء إلى لوسياس وإيسوكراتيس أكثر من ديموسثينيس. ومن المحتمل أن ديموسثينيس كان أقرب إلى الكلام الحي، وحتى في الخطَب التي ألَّفها بروية وتأنٍّ، كان يستعمل بعض المصطلحات المألوفة، نحو ὦ ταν, ο δεινα وبعض الحشو مثل νή Δία التي كان يبدو، لإيسوكراتيس أنها لا تستعمل غالبًا إلا في الروايات الهزليَّة. كذلك قد يوجد في أسلوب الظهور بعض العبارات العنيفة، مثل λαγὼ βίον ἐξης «لقد عشت عيشة أرنب.» أو بمعنى أصح «عيشة كلب.»٣٩ أو العبارة المألوفة κακῶν Ἰλιάς «أربعة وعشرون كتابًا من البؤس.»٤٠ ويظهر في أعماله بجلاء كثرة استعماله للغة الدارجة في بعض الاستعارات ذات الألفاظ الفردية مثل ἕωλα καὶ ψυχρά «قديم وبارد» (حين تستعمل في الجرائم)،٤١  προδηλῶσθα «ليرفق أسفل»،٤٢ أو تعاقب الاستعارات الظلفة حين يروي كيف تشاجر أريستوجيتون Aristogiton في السجن مع سجين آخر، «ولمَّا كان مقبوضًا عليه حديثًا وطازجًا، كان خيرًا من أريستوجيتون، الذي كان قد وقع في الشبكة منذ مدة وظل مخللًا مدة طويلة، وعلى ذلك لمَّا وجد نفسه أسوأ منه، أكل أنف ذلك الرجل.»٤٣
وهناك جرأة في استعمال مستلزمات الأشخاص، لغير العقلاء في «الصلح الذي دمَّر حوائط حلفائكم ويبني الآن بيوتًا لسفرائكم.»٤٤ ومثل هذه التعابير:
τεθνᾶσι τῷ δέει τοὺς τοιούτους ἀποστόλους.
«يموتون خوفًا من كذا وكذا» فيها مبالغة أكثر مما يتطلَّب الأدب.٤٥
يبدو أن ديموسثينيس كان لا يميل إلى استعمال الاستمارات في أوقات الجد، وإنه ليستعمل مثل تلك التعابير السابقة بروح التهكُّم، عندما يروي المنظر المعيب في السجن، وفي إحدى ثورات غضبه واستهجانه، يتكلم عن منافسيه السياسيين بقوله «هم شياطين مثَّلوا بجثث أوطانهم، وقدَّموا حرِّيتهم كهدية عيد ميلاد، أولًا لفيليب، ثم للإسكندر، ويقيسون السعادة ببطونهم وملاذِّهم الدنيئة.»٤٦ ولكنه في الأوقات الخطيرة، سواء في السرد أو في الإدلاء بآرائه، نجده يتحوَّل إلى بساطة تماثل بساطة لوسياس. وإن بساطة اللغة التي يصف بها الهياج الذي أحدثه نبأ استيلاء فيليب على إلاتيا، لبساطة مثالية.٤٧

«إذا ظل كل فرد ساكنًا، مؤمِّلًا أن ينال بغيته دون أن يسعى لها بنفسه؛ فلا يجد أولًا من يسعى لها من أجله، وثانيًا أخشى أن نضطر إلى عمل كل ما لا نودُّه. هذا ما أقوله لكم، وهذا ما أقترحه عليكم، وإني لواثق من أننا إن فعلنا ذلك، لا بد من أن تستقيم أمورنا عودًا على بدء. وإذا كان لدى أحدكم اقتراح خير من هذا فليتقدَّم به ويبسطه، وأطلب من الله أن يسدِّد اقتراحكم لخير الوطن.»

لا تستوي بساطة اللغة إلا بالنغمة الجدية؛ فإذا ما استعملت أبسط الألفاظ استعمالًا صحيحًا، أحدثت أثرًا بليغًا يزداد أحيانًا بالتكرار الذي يجده ديموسثينيس مفيدًا في بعض الفرص ἀλλ᾽ οὐκ ἔστιν, ὅπως ἡμάρτετε «ولكن، يقينًا، يقينًا، لم تكن مخطئًا.»٤٨ وإنا لندرك، أنه لا بد أن كان يرفع صوته قليلًا عند لفظه الكلمة في المرة الثانية. ويحاكيه في ذلك دينارخوس أحد مقلِّديه، ولكنه يكثر من استعمال ذلك التكرار استعمالًا غير صحيح، وفي هذا وفي بعض التفاصيل الأخرى يكون أسلوبه تقليدًا غير ناجح، لأسلوب الخطيب العظيم ديموسثينيس.
يقارن ديونوسيوس ديموسثينيس بعدة كتَّاب آخرين كلٍّ بدوره؛ فلا نجد فقرات تذكرنا بأسلوب ثوكوديديس؛٤٩ فيذكر القسم الأول من «الفيليبية الثالثة»، وبوساطة تحليلها تحليلًا تامًّا وبمهارة، يظهر أوجه التشابه. وأهم خاصية لاحظها هذا الناقد، أن ذلك الكاتب لا يقدِّم آراءه في أي ترتيب طبيعي أو تقليدي، ولكنه يستخدم ترتيبًا للألفاظ يسترعي الانتباه بتحاشيه البساطة.

فنجد جملة صلة تفصل بين الفاعل والفعل في جملة الصلة الرئيسية، بينما نظل في انتظار الأفعال في كلٍّ من جملة الصلة والجملة الأصلية. ولا يمكن إحداث ذلك الأثر الغريب الذي يلاحظه، في لغة غير متصرفة كاللغة الإنجليزية مثلًا.

وفي أحيان أخرى، ولا سيَّما في السرد، ينافس ديموسثينيس جهد طاقته لوسياس في جلائه ووضوحه. ويذكر ديونوسيوس باستحسان تام عن استحقاق العرض الزاهي للقصة التي يدور عليها أساس الاتهام ضد كونون؛ حيث تعطينا القصة صورةً ممتازةً لحياة معسكرات جنود الميليشيا Militia غير النظاميين. ويجدر بنا ذكر بعض الفقرات المقتبسة.
«ولمَّا جنِّدنا للخدمة العسكرية منذ سنتين، سافرنا إلى باناكتوم Panactum. وقد أقام أبناء كونون في فسطاط قريب منا. ويا ليت الأمر لم يكن كذلك؛ لأن هذا كان السبب الأول في إثارة العداوة والتصادم بيننا. وسأقصُّ على مسامعكم كيف نشأ ذلك العداء. لقد اعتادوا أن يسكروا كل يوم، وطول النهار من بعد تناول طعام الإفطار مباشرة، وقد ظلوا على تلك الحال طيلة وجودنا بالمعسكر. وعلى النقيض من ذلك كنت أعيش أنا وإخوتي كما اعتدنا الحياة في منزلنا، وعندما كان يأتي الوقت الذي حدَّدناه للعشاء، كانوا يبدون عربدتهم ومعاكساتهم كما تُهيِّؤها لهم الحمير، أولًا لخدمنا وأخيرا لنا نحن أنفسنا، قائلين إن الخدم يصعدون الدخان في وجوههم عند طهو الطعام، أو إن الخدم يعاملونهم بغير لياقة، وعلى ذلك كانوا يسومونهم ضربًا ويفرغون أواني البراز فوق رءوسهم … وفي الجملة كان سلوكهم وحشيًّا ومضايقًا من جميع الوجوه.»
«كنا نرى ذلك ونحتمل الإهانة، وقد اعترضنا عليهم في بادئ الأمر، ولكنهم سخروا منا ولم يكفُّوا عن سلوكهم الشائن؛ فذهبنا كلنا وأبلغنا الأمر إلى القائد، لست أنا وحدي، وإنما المجموعة بأسرها؛ فوبَّختهم توبيخًا عنيفًا، لا لسلوكهم المشين فحسب، بل ولسلوكهم العام في المعسكر أيضًا. وعلى الرغم من ذلك لم يرعَووا ولم يشعروا بأي عار، حتى إنهم بمجرد أن أرخى الليل نقابه القاتم، هجموا علينا وقذفونا أولًا بالسباب والألفاظ النابية، ثم أوسعوني ضربًا، وأقاموا الدنيا وأقعدوها حول الفسطاط، حتى إن القائد خرج مع موظفيه وبعض الجنود الآخرين ومنعوهم من إيذائنا، كما منعونا من الانتقام منهم.»٥٠

وهاك فقرة أخرى من نفس الخطبة، تعطينا صورة مماثلة لخلق المدَّعى عليه في الحياة المدنية:

«عندما قابلناهم، انقضَّ أحدهم، ولا أستطيع التعرف عليه، على فانوستراتوس Phanostratus، وأمسكه بقبضة من حديد، بينما انقضَّ على كونون وابنه ابن أندرومينيس Andromenes، ثم نزعوا ملابسي، وطرحوني أرضًا، وألقوني في الوحل، ثم وثبوا فوقي، وانهالوا عليَّ ضربًا حتى أصبحت في حالة يرثى لها، لدرجة أن شفتِي شقَّت شقًّا، وأغمضت عيناي كلتاهما. ثم تركوني خائر القوى لا أستطيع حراكًا، ولا أقوى على النطق، وبينما كنت ملقًى على الأرض سمعتهم يقذفونني بوابل من الألفاظ النابية؛ بعضها سافل، والبعض الآخر تشمئزُّ نفسي من تكراره، ولكني سأذكر شيئًا واحدًا على سبيل المثال لوحشية كونون، ولأثبت أنه كان المسئول عن كل ما حدث؛ فقد بدأ يصيح كديك المراهنة بعد فوزه، وطلب إليه الآخرون أن ينشر ذراعيه على كلا جنبيه انتصارًا وظفرًا، وبعد ذلك حملني بعد المارَّة عاريًا إلى منزلي بينما أخذ المدَّعى عليهم معطفي.»٥١
يلاحظ ديونوسيوس أن مجلس الشعب والمحاكم كانت تتألف من خليط من العناصر،٥٢ ليسوا جميعًا من ذوي المهارة والدهاء؛ فقد كان معظمهم من المزارعين والتجَّار والصنَّاع، الذين كان يروقهم الكلام البسيط وتتحرَّك شهيتهم لأي شيء ذي طعم غير عادي، ولم يكن منهم سوى نسبة ضئيلة جدًّا من ذوي الثقافات العالية، الذين تستطيع التحدث إليهم كما تتحدث إلى عامة الشعب، ولم يهمل الخطيب أيَّ القسمين. وعلى ذلك كان يهدف إلى إرضاء كليهما؛ فكان عليه استخدام طريق وسط متجنِّبًا النهاية القصوى لكل ناحية.

ومن رأي ديونوسيوس، أن كلًّا من إيسوكراتيس وأفلاطون نموذج جيِّد للأسلوب المتوسط، فقد نهجا بساطة يفهمها الجميع ولكنها ممزوجة بشيء من الدهاء لا يعرف قدره سوى الخبير. بَيدَ أن ديموسثينيس قد بذَّهما كليهما في كمال ذلك الفن. ويذكر إثباتًا لذلك فقرة «الصلح» التي اختارها إيسوكراتيس نفسه للاقتباس، كنموذج لأسلوبه هو نفسه في خطبته عن «الأنتيدوسيس». ويقارن تلك الفقرة بفقرة من «الأوليمبية» الثالثة، معطيًا الميزة لديموسثينيس، الذي وجد أنه أنبل وأسمى وأقوى، وتحاشى سآمة كثرة التهذيب التي يهتم بها إيسوكراتيس.

يظهر أن ذلك النقد مبني على أساس التطويل في التفاصيل الدقيقة، ولكن ما من شك في أن ديونوسيوس لم يركِّز جلَّ اعتماده على التحليل، بل عن تأثير الخطبة. وبعد أن يعدِّد النقط التي تنقص أو يتفوق فيها كل من الخطيبَين، يبيِّن شعوره هو نفسه فيقول:

«عندما أقرأ خطبة لإيسوكراتيس، أُصبح رزينًا يتملَّكني الجد كما لو كنت أصغي إلى قطعة موسيقية هامة، ولكني عند قراءة خطبة لديموسثينيس أكون في غير شعوري؛ فتسير أفكاري في هذه الطريق أو تلك، وتحرِّكني عاطفة إثر أخرى؛ من ريبة، وضيق، وخوف، وازدراء، وكراهية، وعطف، وشفقة، وغضب، وحسد؛ فأمرُّ بالتعاقب خلال جميع العواطف التي يمكن أن تهيمن على العقل البشري … وقد أسأل نفسي عن أي أثر كان يحدثه فيمن أسعدهم الحظ بالاستماع إليه. فإننا نحن الذين بيننا وبينه دهر طويل، ولا تهمُّنا الحوادث الفعلية التي حدثت بحالٍ ما، تملك الخطبة علينا لبَّنا وتسيطر على مشاعرنا، حتى لنجد أنفسنا نتتبع الخطبة حينما تقودنا، فما بالك بالأثينيين والإغريق الآخرين؟ أين كان يقودهم الخطيب نفسه وقد كان من شأنهم ويهمُّهم أمر القضايا التي كان يتكلم فيها؟»٥٣
لقد كان لديونوسيوس أسلوب حادُّ الذوق كما نعلم من كثير من نقده، وكانت له كذلك مخيِّلة قوية، ويروي في نفس المقالة كيف أن تركيب الجمل يبيِّن له النغمة التي قيلت بها الألفاظ، ونفس النبرات التي كانت تصاحبها.٥٤
ولو أننا، نحن طلبة العصر الحديث، لا نتوقع أن ننافسه في مواهبه العجيبة، إلا أنه لا يزال من الممكن أن نشاركه مشاعره. وليس بعسير علينا عند قراءة خطبة كالفيليبية الثالثة مثلًا، أن نقدِّر كيف كان ديموسثينيس يدرك تمامًا المثل الأفلاطوني الموضَّح في «الجورجياس»، وهو أن البلاغة هي فن الإغراء. ولسنا في حاجة إلى تحليل الوسيلة التي وصل بها إلى هذه الغاية. وقد يشبه لوسياس أحيانًا في السرد البسيط، وأحيانًا أخرى نجده يستخدم الطباق والمقابلة مثل ثوكوديديس أو في زهاء جورجياس. وقد يشبه بروتيوس Broteus، كما يقول ديونوسيوس، في تغيير تراكيبه، غير أنه مهما كان بسيطًا، أو حازمًا، أو مؤثِّرًا، أو حانقًا، أو متهكِّمًا، فإنه مقنع. والسبب في ذلك بسيط، فإن له غرضًا لا يفارق مخيِّلته، وهو أنه يجعل سامعيه يشعرون بما يشعر به هو.

ينتظر من قرَّاء إيسوكراتيس، عندما يتابعون عرض الموضوع، أن يلاحظوا جمال القالب الذي صيغ فيه، أما في ديموسثينيس فليس هناك أية فكرة عن عرض كهذا. وكان في عُرفه أن الخطبة الجيدة هي الخطبة الناجحة، وليست هي الخطبة التي قد يعجب بها النقَّاد كقطعة أدبية. ومن النادر أن تكون لخطبة صفة أدبية تجعله في مصافِّ أعاظم كتَّاب النثر الآتيكي، ولكنه كان، كخطيب، لا يعتمد على تلك الصفة.

لقد أبى شعور ديموسثينيس العملي القوي، أن يتقيَّد بأية طريقة نظرية لفلاسفة البلاغة؛ فما كان يميل إلى تعقيد الأوزان التي تجعل أسلوب إيسوكراتيس على وتيرة واحدة على الرغم من عبقرية الكاتب العجيبة، بل كان يستعمل جملًا طويلةً وقصيرة، معقدةً وسهلة، كل نوع بدوره دون أي ترتيب نظامي، حتى إنه لا يمكننا وصف أي نوع بأنه من خصائصه؛ فإن تركيب الجملة كاللغة، رهن بالغرض الذي تستعمل فيه.٥٥
كان ديموسثينيس يراعي حد الاعتدال في عنايته باجتناب المد في الحروف بين الكلمات، وقد عدَّل، في هذا الموضوع، في طريقة إيسوكراتيس بما يفي وحاجة الخطب. لقد كانت تقوده أذنه، لا عينه، لذا نجد المد محذوفًا غالبًا بين اﻟ cola أو أجزاء العبارة الموزونة. وفي الحقيقة إن أية وقفة في النطق كافية لتبيان عدم إرغام حرف العلَّة قبل الوقفة. وعلى نقيض ذلك كان إيسوكراتيس يتحاشى ظهور المد في مثل تلك الحالات.
هناك طريقة شكلية واحدة لتركيب الجمل، كان ديموسثينيس يتبعها بدقة، وهي اجتناب تعاقب المقاطع القصيرة. ومن المعروف أنه نادرًا ما كان يستعمل المقاطع الثلاثية Tribrach لو أمكن تحاشيها بوساطة عناية بسيطة، بينما أمثلة استخدام أكثر من ثلاثة حروف علَّة قصيرة متعاقبة، نادرة جدًّا بل وشاذة أيضًا.٥٦ ويمكن إيضاح وجود ترتيب غير عادي للكلمات بالرجوع إلى ذلك الاستعمال.٥٧
نعلم من أريسطاطليس وغيره من النقَّاد، أن قدامى كتَّاب النثر الفني من ثراسوماخوس فمن بعده، كانوا يهتمون بعض الاهتمام بالشكل الوزني للألفاظ، وببعض التراكيب المعينة للمقاطع الطويلة والقصيرة. وقد درس ثراسوماخوس على الأخص استعمال اﻟ Paeonius   في بدء ونهاية الجملة.٥٨
إن تأثير زيادة عدد المقاطع القصيرة، سواء في النثر أو النظم، هو لجعل حركة السطر أو مجموعة الألفاظ التي ينطق بها في نفس واحد، أكثر سرعة. وإن كثرة استعمال، يوربيديس للمقاطع الثلاثية؛ ليحدث ذلك التأثير باستمرار. وأشد الحالات هو تركيب الوزن الجاليامبيكي Glliambic metre، كما نرى مثلًا في أتيس لكاتولوس Attis of Catullus.٥٩ وعلى العكس فإن مضاعفة المقاطع الطويلة تجعل الحركة بطيئة وتحدث تأثير المهابة والوقار.٦٠

يبدو أن ديموسثينيس هو أول كاتب نثر اهتمَّ باجتناب المقاطع الثلاثية، ويظهر أن أفلاطون كان يفضِّل تعاقب المقاطع القصيرة حيثما كان ذلك مستطاعًا. وقد يكون الفرق بين وجهتي نظريهما أن أفلاطون كان يهدف إلى إحداث سرعة طبيعية في الحديث، بينما كان يهدف ديموسثينيس إلى أسلوب أكثر رزانة ومهابة يلائم الإلقاء على جمع غفير من المستمعين.

تلك كانت القاعدة الوزنية الوحيدة التي كان يلاحظها ديموسثينيس، ويعتقد أحد فطاحل النقَّاد أنه حتى تلك القاعدة كان يستعملها بغريزته وليس عن قصد أو وعي.٦١ ولم يتخذ أية صيغة وزنية لآخر الجمل لو قورنت بصيغة شيشرون المشهورة esse videatur، أو التروخي المزدوج في أول الجملة الذي وافق عليه الكتَّاب المتأخرون. وعند عمل فحص نرى أن عنده تنويعًا غير محدود لكل من أول الجمل وآخرها. ويظهر أنه لم يتبع أية طريقة منتظمة.

لقد بُذِل مجهود «جبَّار»، ولا سيما في ألمانيا، في تحليل العنصر الشعري في أسلوب ديموسثينيس. ومما لا مراء فيه أن كثيرًا من الخطباء، من جورجياس فمن بعده، قد بذل مجهودًا للحصول على مطابقات تقريبية للأوزان الشعرية تكون وسطًا بين كل من المطابقات والاختلافات الشعرية في عصورهم. ففي بعض الحالات نجد عدد المقاطع متساويًا في عبارتَين، مع وجود مطابقة تامة أو غير تامة للأوزان الشعرية. ومثل هذه الطرق يؤيِّد صيغ الكلام الغريبة التي كان يميل إليها جورجياس، وهي تناسب نوع الخطب المعدِّ لغرض الظهور قبل كل غرض آخر، غير أنه من الصعب تصديق أن مثل هذه البراعة كانت تبذل عن قصد في أية خطبة قضائية طويلة.

إن تذييل المجلد الثالث في الخطابة الآتيكية لبلاس، قطعة أثرية لأعمال الخطباء. ويحوي تحليلًا للسبعة عشر قسمًا الأولى لخطبة «عن التاج»، وكل الخطبة الأولونثية الأولى والفيليبية الثالثة، وتدلُّ على أن ذلك النثر الديموسثيني يمكن اعتباره، يقينًا، كنوع بسيط من الإنشاء مثل النشيد البنداري Pindaric ode؛ ولا يحكم على هذا الموضوع تمامًا دون دراسة طويلة دقيقة. ويحتاج كثير من الحالات إلى تنقيح؛ فيجب أن تقسم الكلمات في الوسط، وتشق الجمل بطريقة غير طبيعية. ولا أعتقد أنه يمكن القيام بالتحليل لهذه الدرجة، فمن المعقول أكثر أن نفرض أنه كان لديموسثينيس أذن حادة طبيعيًّا، وأن الممارسة قد قوَّت هذه المقدرة حتى أصبح كلامه طبيعيًّا ذا وزن شعري معيِّن. ولا أقتنع بأنه كان يُعِد كل ذلك الأثر الشعري.٦٢

٦

الوسائل البلاغية

كان إيسايوس — معلم ديموسثينيس — أستاذًا في المناظرة والبيان، ويظهر ديموسثينيس في خطبه المبكرة آثارًا من نفوذ إيسايوس، ولكنه في أعماله الأخيرة قد كوَّن ملكات مختلفة مكَّنته من التفوُّق على أستاذه. ولمَّا أدرك عدم كفايته للظهور أمام جمهور شهير من المستمعين ذي آراء راجحة، قوَّى منطقه بوسائل عرضية مكتسبة تنتمي من عدة طرق غير مباشرة إلى الإحساس والتعصب. وإحدى الطرق القيِّمة لإيقاظ الميل، هي استعماله الفذ للطباق والمقابلة:

«وأما بخصوص موضوع موارد المال التي تحت تصرفنا؛ فإني أعلم أن ما أريد قوله يبدو مناقضًا، ولكن يجب أن أقوله؛ لأني واثق من أنه إذا نظر إلى اقتراحي نظرة صحيحة؛ فإنه يبدو الاقتراح الوحيد الحقيقي والصحيح. أقول لكم إنه لا حاجة بنا إلى إثارة موضوع المال بالمرة؛ فإن لدينا موارد عظيمة يمكننا استعمالها بعدل وشرف عندما نحتاج إليها. وإذا ما بحثنا عنها الآن، خيل إلينا أنها لن تصبح تحت تصرفنا في الوقت الحاضر مطلقًا. ولكن إذا صبرنا حصلنا عليها. وما هي إذَن تلك الموارد غير الموجودة الآن والتي سنحصل عليها مستقبلًا؟ إنها تبدو لغزًا، وسأفسِّره لكم. انظروا إلى مدينتنا هذه كوحدة، إنها تحتوي على أموال تعادل ما تحويه كل المدن الأخرى مجتمعة. بَيدَ أن الأفراد الذين يملكون هذه الأموال عديمو الشعور، لدرجة أنه لو حاول جميع الخطباء إفزاعهم بقولهم إن الملك آتٍ وإنه قريب وإنه لا مفرَّ من الغزو، وحتى لو عضد هؤلاء الخطباء عدد مساوٍ لهم من المنجِّمين؛ فإنهم لا يرفضون التبرع بالأموال فحسب، بل ويرفضون الاعتراف بأنهم يملكون أموالًا بالمرة. ولكن فرضوا أن الأهوال التي تتكلم عنها الآن تتحقق، إذَن لا ترون فيهم من يبلغ به البله أن يضنَّ بأمواله ولا يتبرع في الحال … لذا أقول لكم إن لدينا أموالًا معدَّة لوقت الحاجة القصوى وليس قبله.»٦٣

وبالمثل في الخطبة الأولونثية الثالثة، يثير حبَّ الاستطلاع في سامعيه بإعطائهم لغزًا، ويتركهم فترة قصيرة، ثم يعطيهم هو نفسه حل ذلك اللغز. وموضوع المناقشة في تلك الخطبة هو الحاجة إلى إرسال المساعدة إلى أولونثوس. وهناك كالمعتاد صعوبة الحصول على المال:

«قد تقولون «حسنًا جدًّا، لقد قرَّرنا كلنا أنه يجب علينا إرسال المساعدة، وإن المساعدة سنرسلها، ولكن كيف نقوم بها؟ دلَّنا على ذلك.» والآن لا تعجبوا أيها السادة إذا كان ما أقوله سيكون مفاجأةً لأغلبكم. عيِّنوا لجنة تشريعية؛ مُرُوا تلك اللجنة ألا تصدر أي قانون (فإن عندكم ما يكفي من القوانين)، ولكن تبطل القوانين الضارَّة في الظروف الحاضرة؛ وإني لأشير إلى القوانين الخاصة بالتبرعات الثيورية.»٦٤
يعطينا ذكر تبرعات الأعياد هذه فكرة عن تمسُّك الخطيب ومثابرته؛ فلا يقنع بالكلام عن اقتراحه مرة واحدة ويترك كلماته تحدث تأثيرها بنفسها، بل كالمحاضر الماهر يكرر ما يقول مؤكدًا إياه بطرق شتى، حتى يرى أن سامعيه قد وعوا اقتراحه وعرفوا أهميته واستولى على لبِّهم وجَنانهم؛ فإن الأسوار التي يهاجمها لن تسقط من صوت البوق، بل لا بدَّ للمجانيق أن تكرِّر ضربها حتى تحدث فيها ثغرة وتتداعى. وإنه يجب أن تخرج قذائفه المدافعين من مكامنهم. هذا هو تفسير تعليق لوكيان عن الكلمات المنسوبة إلى فيليب.٦٥
تقسم خطبة «عن خيرسونيز» مثلًا إلى ثلاثة أقسام؛ تتناول على التعاقب معاملة ديوبيثيس Diopeithes، وجمود أثينا، وجريرة مواطني فيليب، ولكننا نجد في جميع الأقسام تأكيد الحاجة إلى العمل بجهد ونشاط. هذا في الحقيقة هو موضوع الخطبة، وتنحصر أهمية بقيتها فقط في تدعيم الموضوع الرئيسي.
وتوضح الفقرة السابقة٦٦ بأية براعة يبدأ مقدمة حواره؛ حيث يتصور أنه يسأل أو يجيب على أسئلة ناقد خيالي. هذه وسيلة غالبًا ما تستخدم بنجاح عظيم. ونرى في الفقرة التالية وسيلة أخرى من نوع مختلف:
«إذا استولى فيليب على أولونثوس، فمن ذا الذي يمنعه من دخول بلدنا؟ هل يمنعه الطيبيون؟ يكون هذا من هذر القول؛ فإنهم يرحِّبون بالانضمام إليه في الغزو. أو يمنعه الفوكيون؟ وهم لا يستطيعون حتى الدفاع عن أرضهم إلا بمساعدتكم. أيمكنكم التفكير فيمن يمنعه غير هؤلاء؟ «يا أعزائي، إنه لا يريد مهاجمتنا.» إنها تكون في الحقيقة أعظم مفاجأة للعالم إذا لم يهاجمنا لو أتيحت له الفرصة؛ حيث إنه قد أظهر غباوته الآن بالإفصاح عن نواياه.»٦٧
كذلك يمكن للرواية أن تحل محل الجدال؛ فإن سرد أعمال فيليب المشينة في السنين القليلة الماضية ليفعل فعله في إقناع الأثينيين بالحاجة إلى العمل أكثر من أي جدال عن حالة أيِّ الحلفاء المهدد في تلك اللحظة.٦٨
كان ديموسثينيس واسع الاطلاع في التاريخ. ويظهر تفوُّق مداركه على مدارك أيسخينيس في استخدامه الاستشهاد بالحوادث السابقة بطريقة أكثر فلسفة، وإن أمثلته لصائبة مقنعة سهلة الفهم. ويستطيع أن يلقي ضوءًا على الحالة الراهنة، لا بالإشارة إلى الحوادث الماضية القديمة فحسب، بل بالبحث الدقيق في داخلية الروح التي حمَّست رجال العصور الغابرة.٦٩

إن هذه الأمثلة التي ذكرناها لحواره البلاغي بلسان خصمَين وهميَّين، تعطينا فكرة عن استخدامه للنغمة التهكمية، وإن التهكم المستتر قد يسير أحيانًا خلال فقرة بالغة الطول كما في النادرة التالية. وقد نلاحظ بمرورنا أنه عادةً ما يقتر في استخدام النوادر التي لا يستعملها مطلقًا بدون سبب وجيه. ويمكن عذره هنا إذ أنها تظهر كسابقة تاريخية لإجراء يحبذه بتهكم لمعاصريه.

ولكي يطعن في الإجراءات التهورية للساسة الأثينيين الذين يسنُّون القوانين لصالحهم الخاص كل شهر تقريبًا،٧٠ يذكر عادات اللوكريين Locrlans، ثم يتصنع الجد ويبدي رغبته في فرض قيود مماثلة في أثينا:
«أودُّ أن أخبركم أيها السادة كيف يسنُّ اللوكريون قوانينهم. ولن يضرَّكم أن يكون أمامكم مثال، ولا سيما مثال ولاية حسنة الحكم. فالناس هناك مقتنعون بأنه يجب عليهم اتباع القوانين ومراعاة تقاليده، وألا يسنُّوا قوانين تتفق وملذَّاتهم، أو يساعدوا مجرمًا على الفرار، وأن يوضع حبل حول رقبته كل من يقترح سن قانون جديد، وذلك ساعة عرضه طلب ذلك القانون ومناقشته؛ فإن رأوا أن القانون نافع ولصالح البلد تركوه يحيا وأخلوا سبيله، وإلا جذبوا الحبل فتنتهي بذلك حياته. ذلك لأنهم لا يتحمَّلون سن قوانين جديدة، بل يراعون القوانين القديمة حرفيًّا. ونعلم يقينًا أنهم لم يسنُّوا سوى قانون جديد واحد في خلال عدة سنوات طوال؛ فقد كان هناك قانون يقضي بأن العين بالعين، وحدث أن رجلًا هدَّد آخر أعور بفقء عينه، عندئذٍ ارتاع الأخير، ورأى أن الحياة لا تصبح ذات فائدة إن أضحى أعمى، وعلى ذلك تجاسر على المطالبة بسن قانون يقضي بأن من يفقأ عين رجل أعور، يجب أن يستسلم ويخضع لفقء عينيه الاثنتين حتى يتساوى الخصمان. هذا هو القانون الذي نعرف أن اللوكريين سنُّوه في مدة تربُو على مائتي عام.٧١
ومع ذلك فقد كان هذا يحدث فقط في الخطب التي تلقى أمام المحاكم العاديَّة وهي المكان الذي يلائمه، ولا يلائم الأسلوب الرصين الجاد الذي يخاطب به الجمعية. كذلك لا تلائم الخطب الحماسية العامة أية وسيلة بلاغية كالنقد اللاذع الذي يوجِّهه إلى خطبة «عن التاج»، لما فيها من الألفاظ العامية السافلة والتصوير المزري للحقائق التي قام بها أيخينيس وأتباعه.٧٢ وعذره في كل ذلك أنها رغم سوء القصد منها، فيها مبالغة تحول دون تصديقها. ويمكن مقارنتها بانتقاد أريستوفانيس لكليون في «الفرسان Knights» الذي كان ظلفًا جدًّا، ولكنه لم يصِب كليون بضرر خطير. وفي الحقيقة يصبح ديموسثينيس أريستوفانيًّا صادقًا عندما يتكلم عن أفعال أيسخينيس:
«وعندما خلصتم على مر الأيام من تلك الواجبات، مقترفين كل الآثام التي يتهمون بها غيركم؛ فإني أقسم أن حياتكم بعد ذلك لم تخلُ من أعمالكم السابقة، فشغلتم أنفسكم مع اللاعبين سيمولوس Simylus وسقراط، الذين كانا يسمَّيان «الصارخين Bellowers»، لتقوموا بأدوار بسيطة، وكنتم تحصدون التين والعنب والزيتون، كالفاكهي الذي يحصل على بضاعته من حدائق غيره، وقد جمعتم أموالًا من هذه المهنة أكثر من ألعابكم التي كنتم تقومون بها، مخاطرين بحياتكم، هذا علاوة على الحرب الشعواء التي كانت بينكم وبين النظارة التي أصبتم منها بجراح عديدة، حتى أصبحتم تسخرون ممن لم يمارسوا ذلك إطلاقًا.٧٣
يوصف ديموسثينيس عادة بأنه ناقص الذكاء، ويظهر أنه كان أقل ذكاءً من أيسخينيس، ولو أنه استطاع في مناسبة أو مناسبتين أن يردَّ بجواب مفحم.٧٤
وكما يقول ديونوسيوس:
«كل موهبة لا تمنح لجميع الرجال.»٧٥

وإذا كان في خطر إثارة الضحك على نفسه، كما يؤكد ناقده؛ فإن لديه مواهب خطيرة تعوِّض ذلك النقص، بل وتزيد عليه.

يجب ألا يتطرَّق إلى أذهاننا أنه كان خاليًا من السفسطة تمامًا، فهو ككثير من الخطباء الذين يؤلِّفون في الأغراض الطيبة والسيئة، كان يجهد نفسه من وقت إلى آخر كي يعطي إلى الخطبة الضعيفة مظهر القوة، وهذا المجهود بلا شك نفاق أيَّما نفاق.

وإن جميع خطبة «عن التاج» عبارة عن محاولة لتضليل القضاة عن حقائق القضية وقيادتهم في طريق كاذبة. ويؤكد في دفاعه أن العدالة في جانبه حقيقة في تلك المناسبة، ولكنه لمَّا وجد أن مركز أيسخينيس يستند إلى أسس قانونية متينة لا تقبل الطعن أو يستطاع إحداث ثغرة فيها، ترك المناقشة في الأسس القانونية وساق المحاكمة في سبيل يختلف عن ذلك تمام الاختلاف. ومن المعترف به في هذه القضية أن النقط الفنية لم تكن سوى السبب في إقامة الدعوى، ويحتمل أن المحكمة لم تعلِّق عليها أهمية كبيرة. فتناولت المحاكمة الفعلية، المبادئ السياسية وأعمال الخصمين العظيمين، بينما لم يكن كتيسيفون سوى آلة لتنفيذ غرض صاحبه. ولكن عند دراسة الخطب الأخرى نكتشف عدة نقط أقل أهمية يقيس فيها الخطيب ذكاء سامعيه ويضلِّلهم عمدًا عن السير الصحيح للقضية. وعلى ذلك كانت معرفته بالتاريخ عميقة، وقد أثبتت التجارب أن معرفة أي جمهور من المستمعين لتاريخ جيلهم نفسه كانت معرفة سطحية وغير صحيحة.

لم تنته الحوادث حسب الخطط الموضوعة لها، ويجب علينا إما أن نعتمد على ذاكرتنا المتأثِّرة بالتعصب، أو على روايات المؤرَّخين القريبين جدًّا من ذلك العصر بدرجة يستطيعون معها تكوين وجهة نظر عادلة. وهذا يعطي السياسي فرصته في جمع الحقائق أو استبعاد ما يعطي فكرة خاطئة.

والأمثلة عديدة على عدم الثقة فيما يختص بديموسثينيس، حتى ولو كانت عديمة الأهمية.

فيؤكد في الخطبة «عن السفارة»٧٦ أن أيسخينيس، بغض النظر عن معارضة زعم فيليب باعتباره أمفيكتيونيًّا، كان الشخص الوحيد الذي تكلم في صالحه، ومع ذلك فإن ديموسثينيس نفسه نصح بالإذعان. وبالخطبة «ضد تيموكراتيس» مبالغات واضحة عن الضرر الذي أصاب المدَّعى عليه. لقد اقترح تيموكراتيس إمهال مدينتين معينتين مهلات كي تتمكن خلالها من تسديد ديونهما، ويؤكد ديموسثينيس أنه أرجع إليهما كامل حقوقهما المدنية بغير تسديد ديونهما.٧٧ وقبيل نهاية الخطبة نرى حقيقة تتعارض مع حقيقة أخرى في المقدمة.٧٨
ما تلك الوسائل البلاغية سوى أخطاء تافهة يتعرَّض لها أغلب السياسيين.٧٩ وقد يشعر الخطيب نفسه أنه يسمح حتى بالأعمال المريبة من أجل الغرض الذي هو بطله. ويجب أن نتذكر أن جميع القضايا الهامة حقيقة، التي اشترك فيها كان منشؤها أسبابًا سياسية، وأنه خلال حياته العامة لم يدخر وسعًا في المحافظة على تلك المبادئ التي شرحها في خطبه الحماسية العامة. وقد كان له أمل، حتى النهاية، في استقلال الإغريق وتمتعهم بالحرية، وفي حرية أثينا التي لا تعتمد على أي مشروع عديم الفائدة، بل تعتمد على خلق الروح الأثينية القديمة من جديد. وسيكون التجديد الذي تصوره نتيجةً لإحياء روح التضحية. فأول ما يجب على كل فرد، هو أن يعلم أن للمدينة رسالة مجيدة لإكمال شعار الحرية المؤسسة على مبادئ العدالة، ثم يعلم أنه للوصول إلى ذلك الهدف، يجب ألا يحيا كل فرد لنفسه أو لحزبه، بل يحيا لمدينته فقط.

إن ما يجعلنا نميِّز ديموسثينيس عن باقي الخطباء هو يقظته في أن تكون هذه الآراء حاضرة دائمًا في ذهنه. ويصبح لوكورجوس، الخطيب من الدرجة الثانية، مؤثِّرًا بوساطة إخلاصه وعدم فساده، كما يصبح ديموسثينيس العظيم بين الخطباء مميَّزًا عن الشعب ومبرَّزًا بوساطة نبل طموحه.

۷

تركيب الخطب

يمدُّنا تركيب الخطَب بمَثل أخير عن مقدرة مؤلفها على التنويع وعدم تقيُّده بالصِّيغ العرفية.

حقيقةً نجد له نوعًا خاصًّا من المقدمات والخاتمات، ولكنه يعطي لنفسه الحرية الكاملة في باقي أقسام الخطبة. فلا يمكننا أن نقدِّر وجود حقيقة في مكانٍ ما بقضية يعقبها دائمًا الدليل، ثم تفنيد حجج الخصم، وهكذا. فقد تكون جميع العناصر مبعثرة في الخطبة؛ حيث إنه لا يرتِّب حججه ترتيبًا تاريخيًّا، ليس من الضروري أن يرتِّبها ترتيبًا منطقيًّا، ولكنه يرتِّبها بالترتيب الذي يراه أكثر ملاءمة. فهو لا يتقيَّد بأية طرق تقليدية للحرب، وقد يترك أجنحة جيوشه دون حماية، بينما يسدِّد ضربة قاصمة إلى الوسط. ويستحيل في بعض القضايا عمل تقسيم منظَّم على قواعد فنية؛ فإن في الخطبة «عن التاج» مادة للنزاع في الموضع الذي تبدأ منه الخاتمة فعلًا.٨٠

وتنتهي أغلب الخطب وفقًا للقاعدة الآتيكية التي كانت تخضع لها الماسأة والخطابة، ببضع جمل معتدلة النغمة تلطِّف من حدَّة الانفعال السابق؛ فإن الهدوء يعقب زوبعة هياج العواطف. أما الخطب القضائية فتحتوي على طلب إصدار حكم عادل، أو إقرار الخطيب بأنه يمكن ترك القضية وقتئذٍ إلى قرار المحكمة وهو مطمئن، وعلى ذلك تنتهي خطبة «اللبتينيس» بالبساطة اللائقة (المميزة) بلوسياس.

«لا أرى أنني في حاجة إلى المزيد من القول؛ لأني أظن أنه لا توجد أية نقطة لم تُشرح لكم شرحًا وافيًا.» وخطبة «ميدياس» أكثر رزانة «وتبعًا لكل ما ذكرته أمامكم ولا سيما لإظهار إجلالي للإله الذي ثبت أن ميدياس قد دنَّس عيده، يجب أن تعاقبوه، فتصدروا حكمًا يتفق مع التقوى والعدالة.»

وفي خطبة «عن السفارة الكاذبة» شعور شخصي أكثر من ذلك «يجب ألا تتركوه ينصرف، بل تجعلوا عقابه عبرة لأثينا كلها واليونان بأسرها.» وكذلك خطبة «تيموكراتيس» مشابهة: «لا مجال للرحمة في مثل هذه الظروف؛ فإن إصدار حكم خفيف معناه تعويد وتعليم أكبر عدد منكم على إتيان الشر.» وتنتهي خطبة «أندروتيون» برأي شخصي عن موضوع الجُرم، وكذلك تنتهي «الأريستوكراتيس» بنغمة مماثلة. وتتناول الخطبة الأولى ضد أريستوجيتون مصالح القضاة الشخصية مباشرة: «يمس جرمه كل فرد منكم، وكلٌّ منكم يودُّ التبرُّؤ من شروره، ويرى أنه قد نال جزاءه.»

وخطبة التاج ممتازة في كل الوجوه؛ فتلك الخطبة العظيمة التي نشأت عن أسباب تافهة نوعًا ما، قد خرجت من نطاق المواضيع البسيطة وأصبحت دفاعًا بارعًا للسياسة الوطنية، وتبدأ بتوسُّل رزين: «أيا رجال أثينا، أبدأ كلامي بالتوسُّل إلى جميع الآلهة والإلهات، بأن يجعلوكم تظهروا إليَّ في هذه القضية أمنية كأمنيتي التي أبديتها، والتي لا أزال أبديها لأثينا ولجميعكم.» وتنتهي الخطبة بطريقة فذَّة بتوسُّل، لا للمحكمة، بل لهيئة قضائية عليا؛ توسُّل أكثر تأثيرًا؛ لأن لغته تذكِّر بالتوسُّلات المقدَّسة ذات الصبغة الدينية. «أيتها الآلهة السماوية، لا تمنحوا أخلاقهم بركاتكم وصلاحكم قط، بل إن أمكن اجعلوا حتى في أعدائي عقلًا أرجح وقلبًا أسلم. ولكن إذا كانوا لا يُرجى لهم علاج ولا يمكن إصلاحهم، اقذفوا بهم إلى الدمار برًّا وبحرًا، وأنقذوا بقيَّتنا، بأسرع ما يمكن، من المخاوف الجاثمة فوق رءوسنا، وامنحونا خلاصًا ثابت الأركان.»

طبعًا تختلف الخطب التي تُلقى أمام المجلس من الخطب القضائية في خاتماتها، فليس هناك مجرم ليهاجم، ولا جريمة حتى تفضح. فالسامعون أنفسهم يجلسون كأنما يدافعون عن أنفسهم، وديموسثينيس يبيِّن أخطاءهم بكل صراحة. غير أن الخصوم الشخصيين كانوا يهزمون، وإذا كان هناك مستشارون أشرار؛ فإن مسئولية اتِّباع النصيحة الخاطئة تقع على عاتق الجمهور الذي يمكن تحذيره فقط ليتبع طريقة أحسن. وتنتهي الخطبة «عن السومورييس» والخطبة «عن ميجابوليس» بملخص لنصيحة المتكلم. وكذلك تنتهي الخطبة «عن حرية رودس» بنفس النصيحة، وتشمل كلماتها الأخيرة إشارة ظريفة إلى درس العبرة بالماضي. «افرضوا أن آباءكم أقاموا هذه التماثيل لا لتنظروا إليها مليًّا إعجابًا بهم، بل لتقلِّدوا مآثر الذين أقاموها.»

ينتهي كثير من الخطب المتعلِّقة بالقضية المقدونية، بدعاء قصير للتوفيق، ففي الفيليبية الأولى نجد هذا الدعاء: «عسى أن تسود النصيحة التي فيها صالحنا جميعًا.» وفي الأولونثية الأولى: «حري قراركم أن يكون موفَّقًا لكم جميعًا.» وفي الفيليبية الثالثة: «أسأل السماء أن تجعل كل ما تقرِّرونه لصالحكم.» وفي الأولونثية الثالثة: «لقد أخبرتكم أن ما أراه هو لصالحكم، وأرجو أن تختاروا ما فيه صالح الدولة وصالحكم جميعًا.»

ونجد أحيانًا إيمانًا ظاهرًا أكثر من ذلك، كما في الأولونثية الثانية: «وإذا ما فعلتم هكذا، فإنكم لا تقرِّظون ناصحكم الحالي فحسب، بل سيكون لكم مبرر لتقريظ سلوككم في المستقبل عندما تجدون تحسُّنًا في مطامحكم.»

وتنتهي الفيليبية الثانية كذلك بدعاء مماثل للدعاء الموجود في الخطبة «عن التاج»، ولو أنه أقل تأكيدًا، وتنتهي «عن خيرسونيز» ببرهان وتحذير.٨١ وليس في خطبة «الصلح» خاتمة إطلاقًا، بل تنتهي بتهكُّم.

قد يفيد ذكر طبيعة مواضيع الخطب كمرجع؛ ويمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:

(أ) خاصة. (ب) عامة. (ج) نيابية.

(أ) خطَب القضايا الخاصة

ضد أفوبوس Aphobus ١، ٢ (٣٦٣ق.م.): أُلقيت القضية التي أقامها ديموسثينيس ضد الوصي عليه لاسترداد ضيعته.
من أجل فانوس Phanos ضد أفوبوس (۳٦۳ق.م.): لما وجد أفوبوس نفسه مدانًا في القضية السابقة، اتَّهم الشاهد فانوس بشهادة الزور، فقام ديموسثينيس يدافع عن فانوس.
ضد أونيتور Onetor ١، ٢ (٣٦۲ق.م.): هذه قضية أخرى نشأت عن الوصاية؛ فعندما أدين أفوبوس، وجد أنه هرَّب بعض الضيعة إلى حميه أونيتور الذي اضطر ديموسثينيس أن يقيم ضده قضية تبديد …
عن تاج ربَّان السفينة (۳٦۱–٣٥٧ق.م.): لما منح أبولودورس التاج الذي كان يعطى كل سنة إلى أول ربَّان تبحر سفينته في مهمة للدولة، طالب بتاج آخر لأنه قدَّم أحسن سفينة إعدادًا.
ضد سبودياس Spudias (تاريخها غير معروف): مات شخص يدعى بوليوكتوس Polyeuctus تاركًا ضيعته لتقسم بين ابنتيه بالتساوي؛ فأقام زوج كبراهما دعوى بأن المهر الذي اتفق عليه مع زوجته لم يدفع كاملًا، وعلى ذلك لا يكون لسبودياس — زوج الصغرى — حق في نصف الضيعة، ويجب أولًا استبعاد الدين الذي يطلبه المدَّعي ثم يقسم الباقي.
ضد كاليكليس Callicles (تاريخها غير معروف): كان كاليكليس مزارعًا، وأقام دعوى بأن المدَّعى عليه بنى سدًّا في وسط مجرى ماء؛ وعلى ذلك عندما نزلت الأمطار فاضت على أرض المدَّعي. ولكن المدَّعى عليه ينكر التهمة ويسخر منها على أساس أن الطريق المرتفع كان الطريق الطبيعي للمجرى.٨٢
ضد كونون (قد يكون تاريخها ۳٤۱ق.م. انظر طبعة بالي وساندي Paley & Sandy): أقام أريستون Ariston قضية ضد كونون يتهمه بالاعتداء. ويرجع تاريخ المشاجرة إلى الوقت الذي كانا فيه معًا في الخدمة العسكرية، وقد ضايق كونون وبنوه أريستون وأصدقاءه مضايقة شديدة. وعلى ذلك اعتدى المدَّعى عليه يساعده بنوه وغيرهم من أعضاء أحد أندية موهوك Mohock، السيئ السمعة والذي يسمَّى «تريبالي Triballi»، على المتكلم اعتداءً قاسيًا.٨٣
من أجل فورميو Phormio (٣٥٠ق.م.): كان فورميو رئيس الكتبة عند باسيون Pasion صاحب المصارف الأثيني المشهور، ثم خلفه في تلك المهنة. وبعد ذلك بسنوات طالبه أبولودوروس بن باسيون بمبلغ من المال قال إنه مستحق له بموجب وصية والده. وقد أثبت فورميو أنه حدثت ترضية أبطلت القضية الحالية.
ضد ستيفانوس Stephanus الأولى (۳٤۹ أو ٣٤٨ق.م.): يتَّهم أبولودوروس ستيفانوس أحد شهود فورميو في القضية السابقة بالشهادة الزور. ويلاحظ أن ديموسثينيس، كاتب الخطب المحترف، يغيِّر رأيه الآن؛ فإن قضية عن الأخلاق المريبة تجب أن يحكم فيها بالمستوى الدقيق.
ضد بويوتوس Boeotus الأولى (۳٤۸ق.م.): كان لمانتياس Mantias — السياسي الأثيني — ثلاثة أبناء؛ مانتيثيوس Mantitheus (شرعي) وبويوتوس وآخر (غير شرعيَّين). فأقام بويوتوس دعوى مطالبًا بالاسم «مانتيثيوس»؛ فأقام مانتيثيوس الحقيقي دعوى لمنعه من استعمال اسمه.
ضد بانتاينيتوس Pantaenetus (٣٤٦ق.م.): قدَّم نيكوبولوس Nicobulus احتجاجًا (…) ضد بانتاينيتوس الذي اتهم الأول بإتلاف حقول مناجمه. ومن العسير تتبُّع القضية لأن المنجم موضوع القضية، كان قد استولى عليه بالتعاقب ما لا يقلُّ عن ستة أشخاص سواء بالملكية، أو بالرهن، أو بالإيجار.
ضد ناوزيماخوس Nausimachus (حوالي ٣٤٦ق.م.): أقام اليتيمان ناوزيماخوس وكسينوبيثيس Xenopeithes دعوى ضد الوصي عليهما أريستايخموس Aristaechmus بخصوص ضيعتهما، ولكنهم اتفقوا على الصلح نظير مبلغ قدره ثلاثة تالنتات دفع إلى الأولَين. ولمَّا مات الوصي، أقام المدَّعيان قضية ضد أبنائه الأربعة تجديدًا لقضيتهما الأصلية. فرفع أبناء الوصي احتجاجًا παραγραφή لإيقاف القضية على أساس التراضي الذي حدث.
ضد يوبوليديس Eubulides (٣٤٥ق.م.): لما استبعد يوكسيثيوس Euxitheus من قائمة المواطنين عند مراجعتها، أقام دعوى قائلًا إن له حقًّا في أن يكون مواطنًا، ولكن يوبوليديس استبعد اسمه من القائمة لضغائن في نفسه. وهذه القضية التماس (έφέσις) منه إلى المحكمة ضد ذلك القرار. من الممكن جدًّا ألا يكون ديموسثينيس هو الذي كتب بقية الخطب الخاصة، ولو أنه يتعذَّر إثبات ذلك. ومع كلٍّ فيظهر أنها خطب حقيقية كتبها للإلقاء مؤلف أو بعض المؤلفين في عصر ديموسثينيس. وإن فيها لمتعة وأهمية لجميع طلبة دراسة الحياة الخاصة في أثينا.
ضد كاليبوس Calippus (۳٦۹ق.م.): هي έφέσις أو التماس قدَّمه أبولودوروس بن باسيون يطعن في قانونية الحكم العرفي الذي أصدرته المحكمة، حيث إن الذي حكم به لم يقسم اليمين. وقد نشأت القضية من مطالبة كاليبوس بما أودعه عند صاحب المصارف باسيون الذي أعطاه إلى شخص يُدعى كيفيسياديس Cephisiades.
ضد نيكوستراتوس Nicostratus (٣٦٨–٣٦٥ق.م.): قرَّر أبولودوروس أن أريثوسيوس Arethusius المدين للدولة، يملك عبدين أوشكت الدولة أن تستولي عليهما وفاءً للدَّين. وقرَّر نيكوستراتوس شقيق أريثوسيوس أن العبدين ملكه. فكان على أبولودوروس أن يثبت في هذه الخطبة أن ذلك الادِّعاء كاذب.
ضد تيموثيوس Timotheus (۳٦۲ق.م.): وفيها يطالب أبولودوروس بنقود كان قد اقترضها تيموثيوس من باسيون.
ضد بولوكليس Polycles (٣٥٨ق.م.): أجبر أبولودوررس على العمل في الأسطول مدةً تزيد على المدة المقررة؛ لأن بولوكليس الذي كان سيحلُّ محلَّه لم يستعد للخدمة، وعلى ذلك طالبه الأول بتعويض.
ضد ستيفانوس الثانية: انظر ضد ستيفانوس الأولى؛ حيث إن القضية الثانية ملحقة للأولى.
ضد يويرجوس Euergus ونيسيبولوس Mnesibulus (٣٥٦–٣٥٣ق.م.): وهي طعن في شهادة شهود في قضية ربابنة الأسطول السابقين المدينين للدولة.
ضد زينوثيميس Zenothemis (تاريخها مجهول): وهي قضية معقدة عن نصب وتواطؤ في أموال اقترضت نظير رهن سفينة، ثم محاولة إغراق هذه السفينة.
ضد بويوتوس الثانية (۳٤۸–۳٤٦ق.م.): (انظر الخطبة ضد بويوتوس الأولى). يطلب مانتيثيوس من إخوته دفع مهر والدته علاوةً على نصيبه من ميراث والده.
ضد ماكارتاتوس Macartatus (حوالي ٣٤١ق.م): وهي قضية عن وصية مزوَّرة ونزاع حول المطالبة بميراث.
ضد أولومبيودوروس Olympiodorus (حوالي ٣٤١ق.م.): حصل أولومبيودوروس وكاليستراتوس Callistratus، وكان أحدهما زوج أخت الآخر، على ميراث كونون. وكان هناك شك حول أحقِّيتهما لذلك الميراث؛ فصدر ضدهما حكم غيابي. فأقاما قضية جديدة طالب فيها أولومبيودوروس بالميراث كله، وطالب كاليستراتوس بنصفه، ولكنهما اتفقا فيما بينهما على أن يقتسماه بالتساوي. ولمَّا حكم لأولومبيودوروس بالميراث كله، لم يعطِ منه شيئًا لزميله، وعلى ذلك أقام الأخير دعوى على أساس ذلك الاتفاق.
ضد لاكريتوس Lacritus (تاريخها غير معروف): يتنصَّل لاكريتوس من مسئولية ديون أخيه أرتيمون Artemon، وكان قد ورث ممتلكاته.
ضد فاينيبوس Phaenippus (٣٣٠ق.م. «؟»): لمَّا وقع الاختيار على صاحب هذه الدعوى ليكون ربَّانًا للأسطول، ادَّعى أن فاينيبوس أقدر منه على القيام بذلك المنصب ويحتم عليه أن يبادله، ويهتم فاينيبوس بالبلاغ الكاذب.
ضد ليوخاريس Leochares (تاريخها غير معروف): وهي قضية أخرى عن التنازع على ميراث.
ضد أباتوريوس Apaturius (٣٤١ق.م. «؟»): يدَّعي أباتوريوس أن له في ذمة ضابط الجلسة نقودًا باقية من عقد بينهما ضاع منه. ويؤكد ضابط الجلسة احتجاج παραγραφή أنه دفع قيمة العقد كاملة منذ مدة وأن العقد مزِّق.
ضد فورميو (حوالي ۳۲٦ق.م.): اقترض فورميو نقودًا من خروسيبوس Chrysippus، وأمَّن له بأجر حمولة سفينة في رحلة إلى البسفور ذهابًا وإيابًا، ولكنه لم يحمل السفينة عند عودتها، ولمَّا غرقت السفينة لم يدفع له باقي مطلوبه؛ فأقام خروسيبوس الدائن دعوى بطلب السداد. فقدَّم فورميو παραγραφή يقول فيه إنه استردَّ كل المطلوب منه.
ضد ديونوسودوروس Dionysodorus (۳۲۲-۳۲۳ق.م.): وهي لقضية أخرى مماثلة، عن الإخلال بالتزامات عقد.

(ب) خطَب القضايا العامة

ضد أندروتيون (٣٥٥ق.م.): كتبت لديودوروس Diodorus. اقترح أندروتيون منح تاج ذهبي لرؤساء البحرية تقديرًا لجهودهم طول العام؛ فاعترض يوكتيمون Euctemon وديودوروس على ذلك الاقتراح لعدم شرعيَّته؛ لأن البحرية لم تزد في تلك السنة. ويهاجم ديموسثينيس في هذه الخطبة نظام البحرية الرَّجعي، مشيرًا بالحجج التاريخية إلى أهمية البحرية، ويطعن بوجه عام في الحزب الذي يمثِّله أندروتيون، كما يعيب سلوك أندروتيون الشخصي.
ضد ليبتينيس (٣٥٤ق.م.): هذه هي أول مرة يظهر فيها ديموسثينيس في محكمة عامة. اقترح ليبتينيس إبطال الإعفاء من الضرائب الموروث (ἀτέλειαι) الذي كان يمنحه من قام بخدمات جليلة للشعب؛ وكان ذلك النظام مفيدًا بالنظر إلى الأزمة السائدة وقتذاك. ولكن ديموسثينيس اعترض عليه بحجَّة أنه خرق للثقة. «يجب أن تلاحظوا ألا تتَّهموا كحكومة بفعل ما تأنفون من فعله كأفراد.»٨٤ ويقارن هذا الغش الحكومي بتزييف النقود٨٥ الذي كان يعتبر جريمة عظمى.
ضد تيموكراتيس (٣٥٣ق.م.): هي خطبة أخرى كتبت لديودوروس، وتحوي عدة فقرات مكررة من الخطبة ضد أندروتيون. لمَّا لم يستطع ذلك الرجل مع آخرين دفع أموال اختلسوها، أصبحوا عرضة للسجن؛ فاقترح تيموكراتيس مدَّ أجل الدفع حتى يمكَّنوا من السداد. ويقول ديموسثينيس إن القانون قد سنَّ بطريقة شكلية غير صحيحة، ولم يكن شرعيًّا. وكثير من الحجج سفسطائي أو تافه، ولكن بعضها قوي مبني على أسس عامة من سوء التشريع الماضي لصالح الأفراد. وهذه الخطبة سليمة جدًّا، وتحوي خاتمتها تقريظًا لقوانين أثينا.٨٦
ضد أريستوكراتيس Aristocrates (٣٥٢ق.م.): هذه الخطبة مستند هام للقانون الأثيني الخاص بجرائم القتل. فقد وطَّد أريستوكراتيس العزم على حماية خاريديموس Charidemus من كل أذى. وقد كان ذلك الرجل، وهو من مواليد يوبويا، قائدًا للجنود المرتزقة، وساعد في ضياع أمفيبوليس Amphipolis، ولكنه يقترح الآن استعادتها، وكان في ذلك الوقت يقود قوات الرئيس التراقي كيرسوبلبتيس Cersobleptes.
كتب ديموسثينيس هذه الخطبة ليوثوكليس Euthycles الذي اعترض على ذلك الاقتراح. وبالخطبة تنسيق غير عادي في ثلاثة أقسام:
  • (١)

    عدم شرعية الاقتراح.

  • (٢)

    إن الاقتراح ضد مصلحتنا.

  • (٣)

    إن خاريديموس شخص لا يستحق الاعتبار.

ويرى ديموسثينيس يتكلم بأحسن ما يستطيع في مرافعته عن المبدأ التشريعي، واستعماله للحجج التاريخية، وشرحه شروط خدمة الجنود المرتزقة وسياسة الضواحي البربرية. والقضية قوية ضد خاريديموس، فقد كان في خدمة أثينا وأولونثوس وآسيا وتراقيا، وقد ترك له الحبل على الغارب فتلاعب بها كلها.

ضد ميدياس (٣٤٧ق.م.): خطبة جليلة عن موضوع تافه لا تستطيع كل فصاحة ديموسثينيس أن تظهره بمظهر التبجيل. وتتجلى العواطف القوية خلال الخطبة كلها. والنغمة مضخمة، وفيها فقرات مثيرة للشجون ومداعبات. وكل ذلك عن ضربة على الأذن!
كان ميدياس يكنُّ حقدًا شخصيًّا طويلًا لديموسثينيس، كما كان خصمه السياسي. فعندما تعهَّد ديموسثينيس بإعداد فرقة المرتَّلين لقبيلته في الديونوسيا Dionysia الكبرى سنة ٣٤٨ق.م. بذل ميدياس كل ما في مكنته ليفسد العرض؛ فصفع ديموسثينيس على وجهه في المسرح أمام جميع الحاضرين في ذلك اليوم.٨٧ فقدَّم ديموسثينيس شكوى، وأدين ميدياس بانتهاك حرمة الشعائر الدينية (άιἀδικεῖν περὶ τήν ἑορτήν). لم يشمل ذلك الحكم الابتدائي أي غرامة، فصمَّم ديموسثينيس على أن يسير في القضية إلى أقصى حد. ولمَّا كان ميدياس قد اعتدى على موظف في أثناء تأدية وظيفته، وعلاوةً على ذلك قد انتهك بعمله هذا حرمة الشعائر الدينية؛ فقد أصبح عرضةً للحكم عليه بالإعدام أو مصادرة ممتلكاته. وفي النهاية، كما نعلم من أيسخينيس،٨٨ حدث صلح وقبل ديموسثينيس مبلغ نصف تالنت تعويضًا عمَّا أصابه. لم يكن ذلك المبلغ كافيًا، ولكن هناك أسبابًا قويةً تدعونا إلى الاعتقاد بأن ديموسثينيس رضي به لأسباب سياسية؛ حيث نرى تفاهمًا في نهاية ذلك العام بينه وبين حزب يوبولوس الذي ينتمي إليه ميدياس.
عن السفارة (عن السفارة الكاذبة) (٣٤٤ق.م.): نأتي الآن إلى الخطبتَين العظيمتَين الناشئتَين عن العداوة السياسية بين ديموسثينيس وأيسخينيس، وهما الخطبتان «عن السفارة» (٣٤٤ق.م.) و«عن التاج» (۳۳۰ق.م.). وسبق أن ذكرنا تاريخ الشجار، وشرحنا الخطبتين أنفسهما إلى حدٍّ ما؛ إذ لا يكون تاريخ حياتهما كاملًا بدون الإشارة الكاملة إلى خصومتهما.٨٩ ومن الممكن أن نذكر هنا بعض ملاحظات تكميلية.

كان على ديموسثينيس، في خطبة السفارة، أن يحارب من فوق تلٍّ؛ فإنه يتَّهم أيسخينيس بأنه أتمَّ صلحًا شائنًا لبواعث فاسدة. ولا يستطيع ديموسثينيس تقديم دليل مباشر على جريمة خصمه، ولكن دليله بالقرائن قوي؛ فكان لديه نقطة لا نزاع فيها يتمسَّك بها. فعند عودة أيسخينيس من سفارته الثانية، أدلى بوقائع ووعود معينة ضللت الشعب ونتج عنها الاستيلاء على ثيرموبولاي وتدمير فوكيس. فلا بد أن يكون أيسخينيس نفسه إما مخدوعًا وإما مرتشيًا بوساطة فيليب، وحيث إنه لم يعترف بسابق انخداعه قط، إذَن فلا بدَّ أن يكون أثيمًا. وقد خصص قسم طويل من الخطبة (الفقرات ۲۹–۹۷) لشرح أثر سياسة أيسخينيس، وقسم آخر (الفقرات ۹۸–۱٤۹) لإثبات إدانته بالنقط المذكورة وحوادث معينة أخرى في حياته، وقد توصَّل إلى قرينة لإدانته في الأقسام الأولى من الخطبة (الفقرات ۹–۲۸)؛ حيث يفسِّر التغيير المفاجئ في وجهة أيسخينيس. وسرد حوادث السفارة الثانية يقوِّي تأثير الخطبة (الفقرات ۱٥۰–۱۷۸). وحيث إن التهمة تكوَّنت بقدر ما سمحت به الظروف والقرائن؛ فإن بقية الخطبة، وهي بطول القسم الأول تقريبًا، ليست في الحقيقة سوى تكملة لها. إنها خطبة شاذة، وفي بعض المواضع، حيث توضح المبادئ العامة، تذكَّرنا بنغمة الخطب النيابية.

والخطبة عن التاج ٩٠ (۳٣۰ق.م.): تفوق حتى الخطبة السابقة في مظهر عدم النظام الذي يحتمل حدوثه بسبب التصميم العميق. وإن وحدة وتركيب الخطبة بأسرها محفوظ بالمال الذي يتناول كل قسم، حتى إن المتكلم كان يجب عليه أن يوضح أنه مرتبط بالمدينة، وسياسته هي سياستها، ومصالحه الشخصية مختلطة بمصالح الشعب، وأن القضية يجب أن تكسب لا بنقط القانون الفنية، بل بتطبيق المبادئ الأوسع التي تسيطر على جميع إجراءات الحكومة.
والخطبة ضد أريستوجيتون Aristogiton (۳۲٥ق.م.): ٩١ تُعَد عادة مزوَّرة، ومع ذلك فإن وايل Weil يدافع عن صحة الخطبة الأولى ولا يتعرَّض للثانية، والقضية عبارة عن محاولة للتغلُّب على شخص دخيل خطر وخبيث. وهناك خطبتان عامتان بوساطة كتَّاب معاصرين أدخلتا في مجموعة خطب ديموسثينيس، وهما ضد نيايرا Neaera التي كتبها أبولودوروس بين عامَي ۳٤٣، ۳۳۹ق.م. عن موضوع التشريع القانوني betaira. وضد ثيوكرينيس Theocrines (حوالي ۳٤۰ق.م.) وقد كان ثيوكرينيس دخيلًا آخر احتقره ديموسثينيس باستمرار مستعملًا اسمه مثلًا دنيئًا؛ فقد أشار إلى أيسخينيس بأنه «ثيوكرينيس في شكل ممثِّل محزن.»٩٢

(ج) الخطب النيابية

عن السومورييس (٣٥٤ق.م.): تتناول إشاعة مؤدَّاها أن فارس عزمت على غزو اليونان، فيبيِّن ديموسثينيس أن ذلك الأمر لا أساس له من الصحة، ويثبِّط العزيمة في اتخاذ أية خطوات تهوُّرية، ولكنه يعترف بأن من المتوقَّع حدوث متاعب في المستقبل، وعلى ذلك يجد فرصة لتقديم خدمة لإصلاح البحرية، ويمكن الحصول على الأموال إذا ما دقّ ناقوس الخطر،٩٣ والواجب في ذلك الوقت هو استكمال المعدَّات. وأسلوب هذه الخطبة يشبه أسلوب المؤرِّخ ثوكوديديس.
لأجل سكان ميجالوبولبس (۳٥۳ق.م.): مدينة ميجالوبوليس مركز الحلف الأركاري، شيَّدها إيامينونداس Epaminondas، كانت تهدِّدها إسبرطة بشقِّها؛ فاستنجدت بأثينا، وفي الوقت نفسه أرسلت إسبرطة وفدًا. وقد أوصى ديموسثينيس بالحياد، وعضد الأركاديين رغبة في الاحتفاظ بإخلاصهم من أجل توازن القوى، ولكنه فشل في ذلك.
الفيليبية الأولى (٣٥١ق.م.): انظر الصفحات ۲۱۹–٣٢٣ (۲۱۹ كان معارضًا سنة ۳٥۱ للحزب القوي في أثينا؛ ۲۲۳ فشلت الفيليبية الأولى).
من أجل حرية أهل رودس Rhodians (۳٥۱ق.م.): تعضد دعوى أهل تلك الجزيرة ضد ظلم أرتيميسيا Artemisia أرملة ماوسولوس الكاري Mausolus of Caria. وقد فشل ديموسثينيس ثانية، ولا سيما بوساطة التعصب ضد رودس؛ لأنها كانت ثارت ضد أثينا عام ۳٥۷ق.م.
الأولونثيات الأولى والثانية والثالثة (كلها في سنة ۳٤۹ق.م.): انظر صفحة ٢٢٣.
عن السلم (۳٤٦ق.م.): انظر صفحة ۱۷۷.
الفيليبية الثانية (٣٤٤ق.م.): انظر الصفحتين ۲۲٦-٢٢٧.
عن الخيرسونيز (٣٤١ق.م.): انظر الصفحتين ۲۲۷–۲۲۹.
الفيليبية الثالثة (٣٤١ق.م.): انظر الصفحات ۲۲۹–٢٣١.
الفيليبية الرابعة المزوَّرة (٣٤١-۳٤٠ق.م.): سبق أن ناقشنا هذه الخطبة في صفحة ٢٣١.
والخطبة عن الهالونيسوس Halonnesus (٣٤٢ق.م.): تنسب إلى هيجيسيبوس Hegesippus. وهي ردٌّ على عرض فيليب تقديم جزيرة هالونيسوس — التي استولى عليها، بعد تطهيرها من القراصنة الذين سكنوها — هدية إلى أثينا.٩٤
عن المعاهدة مع الإسكندر (تاريخها غير مؤكَّد، ربما كان ٣٣٥ق.م.): كتبها كذلك أحد الخطباء المعاصرين لديموسثينيس؛ وموضوعها: يجب على الجميع احترام المعاهدات، ولكن مقدونيا قد أخلَّت بعهودها؛ ولذا كانت هذه فرصة لأثينا لتستعيد حرَّيتها.
الرد على خطاب فيليب وخطبة περὶ συντάξεως (عن النظام المالي)؛ ويعتبران عادة تزويرين بلاغيين.
وهناك خطبتان من خطب المحافل، إحداهما في الرِّثاء Epitaphius، والأخرى في الغزل Eroticus، ويغلب ألا يكون ديموسثينيس كاتبهما. والخطابات الستة مشكوك فيها. وربما كانت الست والخمسون مقدمة Prooemia تمرينات حقيقية ترجع إلى مطلع حياته.
١  يقول أيسخينيس (كتيسيفون، فقرة ١٧١) ἀφικνεῖται εἰς Βόσποϱον وهو قول غامض نظرًا لوجود عدد كبير من اﻟ Βόσποϱοι أما حقيقة تسميته المرأة Σκυθίς فدليل، فيما يبدو، على أنه يقصد كريميا.
٢  بوثياس Pytheas، ذكره ديونوسيوس.
٣  الخطب الأخيرة الخاصة التي يُشكُّ في صحتها، تاريخها عام ٣٤٦ أو ٣٤٥ق.م. ولكن غيرها مثل «ضد فورميو Phormio» التي لم يتساءل عن صحتها في العصور القديمة، يرجع تاريخها إلى سنة ٣٢٦ق.م. ثم أصبحت صحة «الفورميو» بعد ذلك محتملة.
٤  أيسخينيس (عام ٣٤٥ق.م.) في خطبة «تيمارخوس»، الفقرات ١١٧، ١٧٠–١٧٥ تشير إليه كمدرِّس. وفي السفارة (٣٤٣ق.م.) لا توجد أية إشارة إلى هذه المهنة.
٥  ضد كاليكليس Callicles.
٦  ضد كونون Conon.
٧  الخطَب ضد زينوثيميس Zenothemes، ولاكريتوس Lacritus، وديونوسودوروس Dionysodorus، وفورميو.
٨  مثال ذلك الخطبة ضد بويوتوس Boeotus.
٩  الفقرة ٦١، بودنا وبوتيدايا Potidaea، اللتان هما من أتباع فيليب، وخصومكم. وكذلك الفقرة ٦٣.
١٠  فقرة ١٩: ἐπιστολιμαίους δυνάμεις.
١١  الفقرة ١٩: δύναμιν … ἢ συνεχῶς πολεμήσει ….
١٢  الفقرة ٢١: χϱόνον τακτὸν στϱατευομένους, μὴ μακϱὸν τοῦτον ἀλλ᾽ ὅσον ἄν δοκῇ καλῶς ἔχειν, ἐκ διαδοχῆς ἀλλήλοις.
١٣  الفقرة ٢٣: οὐ τοίνυν ὑπέϱογκον αυτήν (οὐ γὰϱ ἔστι μισθὸς οὐδὲ τϱοφὴ), οὐδὲ παντελῶς ταπινὴν εἶναι δεῖ.
١٤  لقد فرضت أن الترتيب التقليدي للخطب الأولونثية هو الصحيح، وقد حدث نزاع شديد في هذا الأمر، ولكن م. وايل M. Weil يناقشه بوضوح في مقدمته للخطب (Les Harangues de Démosthène).
١٥  إيسوكراتيس، فيلبوس، الفقرتان ٧٣-٧٤.
١٦  خير سونيز، الفقرات ٢٤–٢٦.
١٧  الفقرة ٧٧.
١٨  الفقرة ١٩.
١٩  الفقرة ٢٠.
٢٠  حكومة توزَّع السلطة فيها بين أربعة حكَّام.
٢١  الفقرتان ٢٦-٢٧.
٢٢  ناقش م. ويل M. Weil هذا الموضوع مناقشة رائعة (Les Harangues de Démosthéne) (الطبعة الثانية، صفحات ٣١٢–٣١٦). ويجدر بمن يهمه دراسة هذا الموضوع أن يقرأ حججه بإمعان، وإني لأكتفي هنا بذكر خاتمته: «سبق أن رأينا أن فقرات عديدة تنقص في L, S ولا يمكن أن تكون إلا لديموسثينيس نفسه ص٣١٤. ونتيجة لهذا الفحص نوجد أمام نصَّين يتمتعان بدرجة واحدة من الثقة. وإن الإضافات والتعديلات التي تميِّز الأولى عن الثانية يجب أن تنسب إلى الكاتب نفسه» ص٣١٥. ويعتمد بلاس هذه الحجج (الخطباء الآتيكيون، ١٨٩٣م) وسانديز Sandys (١٩٠٠م) الذي يعتبر أن الصيغة القصيرة هي التي كتبها الخطيب أولًا. ويعتبر بوتشر Butcher في «ديموسثينيس الطبعة الثالثة عام ١٩١١م» أن الصيغة القصيرة هي آخر تنقيح للخطيب.
٢٣  Theoric Fund كانت تجمع في أثينا قديمًا للترفيه عن الفقراء بإدخالهم المسرح.
٢٤  عن كورنثوس، الفقرتان ١٦٩-١٧٠.
٢٥  يظهر أن فيليب كان يعجب إعجابًا حقيقيًّا وكان يعاملها دائمًا باحترام خارق. ولكي تدرك ذلك جيدًا، انظر هوجارث Hogarth «فيليب والإسكندر».
٢٦  بلوتارخوس، ديموسثينيس، باب ٢٣.
٢٧  انظر كذلك هذا الباب، أول الفصل السابع.
٢٨  هوبيريديس، ضد ديموسثينيس، شذرة ٣، عمود ١٣.
٢٩  دينارخوس، ضد ديموسثينيس، فقرة ١.
٣٠  بوتشر، ديموسثينيس، الصفحات ١٢٤–١٢٧.
٣١  أخذت هذه الرواية من بلوتارخوس (ديموسثينيس، باب ٢٩).
٣٢  لوكيان، مدح ديموسثينيس، فقرة ٥٠.
٣٣  «عن السمو»، باب ٣٤.
٣٤  فقرة ٣٦، …
٣٥  أيسخينيس، كتيسيفون، الفقرتان ٧٣، ١٦٦، عن السفارة فقرة ١، كتيسيفون الفقرتان ٨٤، ٢٠٩.
٣٦  بلوتارخوس، ديموسثينيس، باب ٩، …
٣٧  وأخص ذلك القدح في حياة أيسخينيس الخاصة وتاريخ عائلته في خطبة التاج de Corona، الفقرات ١٢٩-١٣٠، ٢٦٠. ويبيِّن المستر بيكارد كامبردج Mr. Pickard Camridge أن الأعضاء الدائمين لمحاكم القضايا، من منسوب اجتماعي أقل من منسوب أعضاء مجلس الشعب، وأن المرتب في كلتا الحالتين ضئيل بحيث لم يغر سوى المتعطلين، غير أنه إذا كان هناك باعث قوي لأعضاء من الطبقة الراقية كي يحضروا جلسات مجلس الشعب، أو إذا ضحَّى رجال الأعمال الخيِّرون بوقتهم الثمين، دون أنانية، لصالح الدولة، فقد يكون هناك بعض ما يغري أولئك القوم في احتمال الروتين الممل لمحاكم القضايا (انظر ديموسثينيس باب ٣).
٣٨  مثال ذلك، كونون Conon، فقرة ٤.
٣٩  عن كورنثوس، الفقرة ٢٦٣.
٤٠  عن السفارة الكاذبة، الفقرة ١٤٨.
٤١  ميدياس، الفقرة ٩١.
٤٢  ميدياس، الفقرة ١٠٥.
٤٣  ومن جهة أخرى يعتذر عن الاستعارات بواسطة ὥσπερ أو οἷον-ἦν τοῦθ᾽ ὥσπερ ἐμπόδισμά τιτῷ Φιλίππῳ ولو أنَّ ἐμπόδισμα قد تكون الصيغة الطبيعية لعبارتنا «عقبة».
٤٤  عن السفارة الكاذبة، الفقرة ٢٧٥.
٤٥  فيلوكراتيس، الفقرة ٤٥، قارن τεθνάναι τῷ φόβῳ Θηβαίους عن السفارة الكاذبة فقرة ٨١.
٤٦  عن كورنثوس، الفقرة ٢٩٦.
٤٧  عن كورنثوس، الفقرة ١٦٩.
٤٨  عن كورنثوس، الفقرة ٢٠٨.
٤٩  عن ثوكوديديس، فصل ٥٣.
٥٠  ضد كونون، الفقرات ٣–٥.
٥١  ضد كونون، الفقرتان ٨-٩.
٥٢  عن ديموسثينيس، باب ١٥.
٥٣  ديموسثينيس، باب ٢٢.
٥٤  ديموسثينيس، البابان ٥٣-٥٤. وعلى ذلك صاح أيسخينيس بعد أن قرأ بعض فقرات من ديموسثينيس بصوت مرتفع، ولاحظ أثرها في سامعيه: «وماذا لو كنتم سمعتم الوحش نفسه؟»
٥٥  عن خيرسونيز، الفقرات ٦٩–٧١ تعطي مثالًا لجملة طولها نحو سبعة وعشرين سطرًا. طبعة توبنر Teubner.
٥٦  تيموكراتيس Timocrates، الفقرة ٢١٧، οὐδ᾽ ὁτιοῦν ἂν εἴη ὄφελος εἴη، ومثال ذلك   ، وفي هذه الحالة لم يمكن ترتيب الألفاظ ترتيبًا آخر، οὐδ᾽ ὅτιοῦν ἂν εἴη ὄφελος تعطي مدًّا ظلفًا. قارن كذلك الخطبة الأولينثية الأولى فقرة ٢٧. ἡλίκα γ᾽ ἐστὶ τὰ διάφορ᾽ ἐνθάδ᾽ ἢ ᾽κεῖ πολεμεῖν حيث توجد خمسة مقاطع قصيرة متتابعة.
٥٧  مثال ذلك، عن السفارة الكاذبة، فقرة ١١، διεξιὼν ἡλίκα τὴν Ελλαδα πᾶσαν, οὐχὶ τὰς ἰδιὰς ἀδικοῦσι μόνον πατρίδας οἱ δωροδοκοῦντες. إن موقع ἀδικοῦσι غريب، ولكن أغلب الجملة مقاطع قصيرة، ولو رتِّبت ترتيبًا آخر لزاد عددها؛ فمثلًا التريب الأكثر طبعية τὰς ἰδίας μόνον πατρίδας ἀδικοῦσι   أو ἰδίας μόνον ἀδικοῦσι πατρίδας  .
٥٨  أريسطاطليس، البلاغة، الفصل الثالث، ٨، ٤.
٥٩  Super alta vectus Attis celeri rate maria, etc. «انتصر أتيس فوق البحر انتصارًا سريعًا نادرًا.» وإن الاختتام بخمسة مقاطع قصيرة ليعطي تأثير السرعة المستمرة.
٦٠  قارن اللحن السبوندي Spondaic, Ζεῦ πάντων ἀρχάν πάντων ἄγητορ Ζεῦ σοὶ σπένδω ταύταν ὕμνων ἀρχάν.
٦١  كروازيه، تاريخ البلاغة الإغريقية، الجزء الرابع، الصفحتان ٥٥٢-٥٥٣.
٦٢  انظر كروازيه، الجزء الرابع، صفحة ٥٥٣، السطر الأول.
٦٣  عن السومورييس، الفقرات ٢٤–٢٦.
٦٤  الأولونثية الثالثة، الفقرتان ١٠-١١.
٦٥  سبق ذكرها بصفحة ٢٤٢.
٦٦  انظر الصفحة السابقة.
٦٧  الأولونثية الأولى، الفقرتان ٢٥-٢٦.
٦٨  الخيرسونيز، الفقرات ٦١–٦٧. إن سرد الحالة الراهنة لفوكيس، قطعة بسيطة من الحوار بالوصف، ولكنها ذات أثر فعَّال: «لقد كان منظرًا بشعًا أيها السادة، ومحزنًا أيضًا؛ فعندما كنا في طريقنا إلى دلفي اضطررنا إلى رؤيته كله؛ المنازل المخرَّبة، والأسوار المدمَّرة، والريف الخالي من الرجال في سن التجنيد، وكل ما هنالك هو بعض النساء الفقيرات والأطفال الصغار والشيوخ في حالة يرثى لها، وإن الألفاظ لتقصر عن وصف مدى البؤس الذي يعانونه الآن.» (عن السفارة الكاذبة، فقرة ٦٥).
٦٩  قارن الأولونثية الثالثة، الفقرات ٢٤–٢٦.
٧٠  أي في كل اجتماع لمجلس الشعب يمكن تشريع القوانين فيه.
٧١  تيموكراتيس، الفقرات ١٣٩ … إلخ.
٧٢  وعلى الأخص «عن التاج»، الفقرات ١٢٩–١٣٠، ٢٥٨–٢٦٢. قارن كذلك ما سبق بصفحة ١٧٧.
٧٣  عن التاج، الفقرتان ١٨٣–١٩٠.
٧٤  انظر ما سبق في الصفحتين ١٨٣، ١٩٠.
٧٥  οὐ γάρ πως ἅμα πάντα βεοὶ δόσαν ἀνθρώποισι.
٧٦  عن السفارة الكاذبة، الفقرتان ١١٢-١١٣، مع مذكرة وايل Weil.
٧٧  الفقرة ٩٠.
٧٨  الفقرتان ٩، ١٩٦. ويلاحظ وايل حقيقة «إن الخطباء لا يفتخرون بصحة أقوالهم، إذ كثيرًا ما يستعملون التورية الكاذبة.»
٧٩  يلاحظ المستر بيكارد كامبردج (ديموسثينيس صفحة ٨٠) أن «من يجتمع في حشد من الناس لا يفكر … وغالبًا ما يضطر الخطيب إلى استعمال حجج لا يقرُّها أي منطق، ويستخدم طرقًا لإغراء الجمهور يخجل من استخدامها هو نفسه مع أصدقائه»؛ وفي هذا شيء من الصحة ويجب الأخذ به بتحفُّظ. وإن حجج ديموسثينيس في خطبه الحماسية هي عادة السابقة في هذا المضمار. وقد لقيت الخطب العامة لمشاهير الساسة الإنجليز عن أسباب الحرب العظمي، آذانًا صاغية من طبيعة سامعيهم العالية.
٨٠  هناك خاتمة كاذبة، الفقرات ١٢٦–١٠٩، أهم ما تتناوله مولد وحياة أيسخينيس، وكان يجوز أن تنتهي الخطبة هناك، بَيدَ أن الخطيب يشير في الفقرة ١٦٠ إلى فحص ودفاع حياته السياسية هو نفسه. والخاتمة الحقيقية موجودة في الفقرات ٢٥٢–٣٢٤. وقد نتج عدم الترتيب بلا شك من الوقائع الغريبة للقضية، وهي أن مواضيع المحاكمة قد اتسعت أكثر مما يبدو. ولا يهتم ديموسثينيس كثيرًا بإثبات شرعية قرار كتيسيفون حتى يعتذر عن خلقه السياسي خلال عدة سنوات.
٨١  سبق ذكره بصفحة ٢٢٨.
٨٢  ردٌّ صائب. تستعمل مجاري المياه في اليونان في وقتنا هذا كطرق، وكذلك في جنوب إسبانيا. ومنذ بضع سنين، عبر خط الترام في ملاجا Malaga وادي النهر.
٨٣  انظر صفحة ٢٤٩.
٨٤  الفقرة ١٣٦.
٨٥  الفقرة ١٦٧.
٨٦  الفقرات ٢١٠ … إلخ. «تنعكس أخلاق الحكومة في قوانينها.» (νόμους … ὑπελίηφασι … τρόπους τῆς πόλεως.)
٨٧  انظر صفحة ٢٠٣.
٨٨  كتيسيفون، فقرة ٥٢.
٨٩  انظر الصفحات ٢٠٧-٢٠٨، ٢٣٥-٢٣٦.
٩٠  قارن صفحة ٢٣٥–٢٣٦.
٩١  نعلم من دينارخوس، أريستوجيتون، فقرة ١٣، أن هذه المحاكمة سبقت قضية هاربالوس بوقت قصير.
٩٢  عن التاج، فقرة ٣١٣، τραγικὸς Θεοκρίνης.
٩٣  انظر الصفحتين ٢٥٦-٢٥٧.
٩٤  كان هيجيسيبوس هذا خطيبًا من الدرجة الثانية، وكان معضِّدًا للحزب الوطني، وفي سنة ٣٥٧ق.م. قدَّم اتهامًا ضد رجل يدعى كاليبوس بخصوص شئون كارديا (عن هالوينسوس فقرة ٤٣، وموضوع الخطبة). وفي سنة ٣٤٣ق.م. كان عضوًا في الوفد الذي أرسل إلى فيليب (ديموسثينيس، عن السفارة الكاذبة، فقرة ٣٣١). وكان لا يزال على قيد الحياة عام ٣٢٥ق.م. (كروازيه، المجلد الرابع، صفحة ٦٢١). وتحوي الخطبة الباقية مناقشة جلية صريحة عن مختلف نقط اقتراح فيليب. وأسلوبها سهل ولكنه يخلو مما يميِّزه، وديونوسيوس الذي لم يشكَّ في أن هذه الخطبة من عمل ديموسثينيس، يلاحظ أن الخطيب قد لجأ إلى أسلوب لوسياس (عن ديموسثينيس باب ٩). وبالخطبة كثير من المدِّ في الحروف والمقاطع وبعض التكرارات ذات الوتيرة الواحدة. وراع النقَّاد الجملة الختامية للفقرة ٤٥: «إذا كنتم تحملون عقولكم في رءوسكم، لا في كعوب أقدامكم، حتى لا تمشوا عليها.» ويسمِّي أيسخينيس ذلك الخطيب κρύβυλος من طريقته المتأثِّرة بكونه يحمل في شعره «قرص» على أم رأسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤