خيوط السماء

١

بكالوريوس التجارة! ثم ماذا؟ من أين له بعمل؟ مصر تُعاني والحكومة لا تُعيِّن أحدًا. فإذا فعلتْ فبمقدار، وهذا المقدار لا يناله إلا من يعرف صاحب نفوذ؛ صاحب نفوذ …

إن أباه عامل التلغراف بمحطة الديميرية، وأقرب عزبة لمحطة الديميرية هي عزبة الباشا، وليصحب معه صديقه نديم؛ نديم … لا بد أن نديم يعرف الباشا؛ فنديم من عائلة فيها أغنياء ولاسمها طنين لا تخطئه الأذن؛ نديم الطوبجي! أكان جده طوبجيًّا في جيش محمد علي؟ لا بد أنهم في العائلة يدَّعون هذا على الأقل فكل عائلة تحاول أن تجعل بينها وبين عائلة محمد علي صلة؛ أي صلة. حتى الشماشرجي لم تغير عائلته اسمها على ضآلة الوظيفة التي كان يشغلها جدها في عهد محمد علي، لقد كان مجرد خادم في حشم الوالي ومع ذلك يتشرف أحفاده بهذا العمل المهين! وأغلب الظن أن هذا الطوبجي كان خادمًا لأحد الضباط ورافقه في حرب من حروب إبراهيم، وعاد ليدَّعي أنه كان طوبجيًّا. يا عم! وأنا مالي، المهم أن أجد نديم وأجد والده على معرفة بهذا الباشا الذي يعمل أبي بجوار عزبته، إنه يعرفه لا شك، وقد ذكره لي في بعض أحاديثه. وعلى كل حال فإنني حتى إذا لم أسافر لأجعل أبي يتوسط لي عند الباشا فلا بد لي أن أسافر لأخبر أبي أني حصلت على الشهادة، وأحاول أن أقيم هناك بضعة أيام حتى يتأكد أبي أنني مفلس؛ فلو علم أن معي مالًا لانقضَّ عليه. هو لا يحب أن أقيم معهم ولا يحب أن يراني، وكذلك أنا، ولكن في هذه المرة لا بد مما ليس منه بُد.

معذور أبوه فهو كلما رآه تذكر ما صنعته به أمه … ويل له من أمه وأبيه معًا! ولكن هذه قصة أخرى، فماذا علينا إذا رويناها؟ وهل أمتع من التسلية بأحاديث الناس وأخبارهم وأسرارهم؟

أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه …

ولكن القرآن ينهى عن كل المتع، والنبي كان يعرف هذا فليس عجيبًا أن يقول إن الجنة حُفت بالمكاره.

وعلى أية حال أتظنون أنكم ستعرفون عمن أحكي؟ ما هي إلا أسماء سميتُها، فإذا أنت عرفتها وفككت عنها طلاسمها وامتد بك عقلك إلى حقيقتها؛ فالذنب عليك يقع فأنا لن أذكر أسماء، ولن أتحمل وزر النميمة. فإذا ساء منك الظن بالناس، ورحتَ أنت تُحمِّل أسمائي ما لم أُصرِّح به أنا فأنت وحدك المسئول.

وعلى كل حال فأنت تعرف أن هوايتي وحرفتي في الحياة أن أحكي، فإذا لم أحكِ فماذا أفعل؟ والحكاية في ذاتها لا تعترض عليها الأديان، فكل الكتب السماوية لها قصصها، وكل الكتب السماوية تتخذ من هذه الحكاية وسيلة لتضرب بها الأمثال لعلهم يعقلون.

فأي بأس عليَّ أن أحكي أنا أيضًا؟ وإن كان القرآن لا يحكي إلا صدقًا فإن الذين مثلي لا يحكون إلا ما تؤلِّف الحياة.

أحكي إذن لك حكاية أمه …

من البداية؟

لا بأس من البداية …

ولكن البداية بعيدة تتحجب بالسنين الطوال وبالأحداث.

وماذا وراءنا؟

على رأيك … ماذا وراءنا.

كان ذلك في مولد الشيخ السمالوطي بالصعيد، وكان فهيم الحوت حديث التعيين في مصلحة السكة الحديد، وكان يعمل خفير مزلقان يومذاك، فما كاد ينتهي من عمله حتى سارع إلى المولد. كان الترك وهو المسرح الرسمي للمولد واضعًا صورةً ضخمةً فخمة على واجهته، وكانت الصورة تمثل امرأة رآها فهيم جميلة غاية الجمال! وإذا عرفت أن فهيم هذا لم يرَ في حياته امرأة إلا أمه، وهي امرأة غاية في القبح تزوجها أبوه دون أن يراها، وأختيه وهما أقبح من أمهما؛ لأدركت سبب إعجابه بالصورة وصاحبتها.

وهذه قصةٌ أخرى ولكنها قصيرة … كان أبوه خفيرًا، وكان حريصًا على وظيفته كل الحرص؛ فلم يجد وسيلة خيرًا من أن يخطب ابنة شيخ الخفراء دون أن يسأل عن شيء من حقائقها؛ فالحقيقة الوحيدة عنده أنها ابنة شيخ الخفراء.

ولم يكن يتصور أنها بهذا القبح كله، حتى لقد كان كثيرًا ما يرى أنها أجدر من أبيها بالوظيفة من حيث الرجولية والاخشوشان، ولكنه رضي مرغمًا بما وقع فيه. وولدت له فهيم أول ما ولدت ثم أتبعته بثلاثة رجال وبنتَين جمعوا جميعًا أقبح ما في الأم وأقبح ما في الأب.

إذا عرفت هذا جميعه استطعت أن تتصور نوع الجمال الذي يمكن أن يعجب فهيم.

كانت أمه وأختاه عجفاوات كأنهن عصا الخفراء، وكانت الراقصة توحة سمينة مفرطة السِّمَن. كانت أمه وأختاه ذوات أنوفٍ فطساء، وكان أنف توحة واثبًا من الصورة كأنه نفير من فم نافخ واستقرَّ عند الأنف، كانت أمه وأختاه — أراني سأُطيل المقارنة — كل هذه تفاصيل لا تعنيك ولا تعنيني في شيء، المهم أن فهيم اشترى التذكرة ودفع المليمَين ودخل الترك.

وانتهى العرض وخرج فسأل: أهذا آخر عرض؟

– بل أول عرض.

– وكم مرة ستعرضون؟

– خمس مرات.

– فأعطني لكل عرض تذكرة.

ودفع قرشًا صاغًا كاملًا.

كيف السبيل إلى توحة؟ كان هذا هو السؤال الذي انفجر في كيانه، ولم يكن هذا مجرد سؤال، وإنما خُيِّل إليه في لحظته تلك أن الوصول إلى توحة يمثل له كل الآمال التي يمكن أن يتعلق بها مستقبله.

وبماذا يمكن أن تتعلق آمال مستقبله؟! خفير مزلقان أقصى ما يحلم به علاوات ثم تتوالى الأيام عقيمةً مكرورةً حاسرة الوجه لا تستطيع أن تحجب في ثنايا خفاياها أي جديد. تجعل من الانتظار متعة، ومن الغد توقعًا، ومن السنوات أمنيات. إذا لم يتزوج من توحة فما الحياة! توحة هي الابتسامة المشرقة التي تستطيع أن تجعل في حياته الرتيبة الضجرة شيئًا يتوارى خلفه من ملل الأيام. قد تسخر منه القرية أنه تزوج راقصة، ولكن ما القرية وماذا يلقى منها أو من أهلها! ستصبح توحة هي حياته جميعًا.

ظل يتردد على الترك كل يوم، وكانت توحة تمر بالجالسين بعد كل رقصة تجمع النقطة. ومن هذه النقطة وجد فهيم وسيلة إليها. كان يشهد كل العروض، وكان الجميع يلقون في منديل توحة قرشًا أو نصف قرش، وكان هو يلقي خمسة قروش، وكان حريصًا أن يريها القروش الخمسة قبل أن يلقي بها في المنديل، وكان طبيعيًّا أن تفرج توحة فمها عن ابتسامة من فئة الخمسة قروش. وحين تكرر الذهاب من فهيم أصبحت الابتسامة تزداد؛ حتى كان يوم أحسَّ فهيم من غمزة عينٍ مدرَّبة أنها تدعوه؛ فدُعي. وفي كواليس توحة عرض عليها الزواج وقبلت توحة؛ فقد كان مثل هذا الزواج هو المصير الذي تعرف أنه ينتظرها، فسارت إليه مدركة أنه قدرها الطبيعي لا عجب فيه ولا غرابة، ولا يحتاج حتى أي تفكير. عادت توحة إلى اسمها تحية الملواني.

ولم تهتم القرية بالتعليق على هذا الزواج؛ فلم يكن فهيم ذا شأن يحتاج إلى تعليق، وسواء عند القرية أن يتزوج من غزية أو يتزوج من غيرها. كل ما يستطيعون أن يفعلوه هو أن يمنعوا نساءهم عن بيت فهيم، وقد فعلوه وكان فهيم يتوقعه.

وتفرح الأيام وتتألق في عينَي فهيم، ثم يخبو الفرح وينطمس التألق شيئًا فشيئًا، وتعود إلى الحياة ملالاتها، وتروح الأيام تدفع بعضها بعضًا في فتور وتكاسل. عادت الأيام تتثاءب وهي تمضي مثقلة بالضيق، ولولا أن اليوم الحالي يدفعه اليوم القادم ما مضى يوم ليحلَّ آخر.

قد يومض يوم أو بعض يوم ثم تسترخي الأيام بعد ذلك؛ فقد أومض مثلًا اليوم الذي أتم فيه تعلم الضرب على آلة البرقيات وأصبح عامل تلغراف، وأومض اليوم الذي عرف فيه أن توحة حامل … ولكن ما هي إلا لمعة برهة ثم تذكر ما سيكلفه الولد من عنت وجهد، فراحت الفرحة تتراجع بين ظهور واستخفاء، فما جاء الليل حتى استقر رأي الفرحة على التواري والاختفاء لتترك وراءها قلقًا وخوفًا لم يستطيعا حتى أن يبدِّدا الملالة وتحجُّر اللحظات، وكان هذا الملل أشد وطأة على تحية بعد أن انسلخت من ملابس توحة.

وكانت وهي تعمل في المولد تنظر إلى المستقبل في ذعر يرادفه الأمل، وكان العمل الذي يفرض عليها الفرح يفرض معه نسيان الخوف. وكانت الأيام عندها متجددة؛ سواء عندها إن كان هذا التجديد بخير أو بشرٍّ، فهو على كل حال خير من هذه الوقفة الغبية التي تراها من أيام زواجها بخفير المزلقان أو حتى عامل التلغراف. كان التصفيق يوقظ لياليها، وكانت الوجوه المتغيرة تردُّ عنها الملالة. وكان الصراع بينها وبين أفراد الترك يجعلها مشغولة، وكانت بهذا الشغل تستطيع أن تنسى الذعر من الغد والقلق من المستقبل. وهكذا كانت تستطيع أن تنسى ما شهدته من نهاية الراقصات اللواتي سبقنها في هذه الحلبة، وكيف زحف جليد الشيخوخة على نضارة الشباب فيهن؟ فانطمرت حياتهن وهن ما زلن على قيد الحياة.

وللنفس أمام الحياة سراديب وطرقٌ خفية تمكنها من قبول هذه الحياة واحتمال لحظاتها البطيئة الثقيلة العاتية والسريعة الرعناء والعابثة في آنٍ. تمر السنوات سريعةً وامضة وتمضي الأيام بطيئة وكأنها لا تمضي. وينشغل الإنسان باليوم عن السنة وبالحاضر عن الآتي وتلهيه اللحظة عن الدقيقة، والدقيقة عن الساعة، والساعة عن اليوم، واليوم عن العام. ويمضي العمر وأيامه جامدة كأنها لا تتحرك، وسنواته كأنها خفقة طائر أو طرفة عين أو سراب ما ظهر حتى امَّحى.

والإنسان في لوثة الحياة ينظر إلى الآخرين وكأنه ليس منهم وكأنهم ليسوا منه فهو دائمًا يرى نفسه فصيلة غير الفصيلة، وجنسًا غير الجنس. فتجارب الآخرين عنده متعة وليست عبرة، وما يحدث للإنسان الذي ليس أنا، لا أتصور أنه سيحدث لي. وهكذا استطاعت الحياة التي يواجهها الإنسان بالسراديب والطرق الخفية أن تحاربه هي أيضًا بسراديبها وطرقها الخفية. وإنها لأشد مكرًا وأعظم حيلة، فتجاربها معلنةٌ مشهرة يعرفها الناس جميعًا، ولكن الحياة تقنعهم بسحرٍ لها عجيبٍ أن هذا الذي يحدث للآخرين لا يمكن أن يحدث إلا لهؤلاء الآخرين. ولهذا لم يكن غريبًا أن تضيق تحية بحياتها الجديدة، ولم تعد تفكر في الأخريات من زميلاتها راقصات المولد حين عبرتهن الحياة دون زواج؛ فانتهى بهن الأمر، وقد اجتمع عليهن ذل الحاجة وذل الرفض من المجتمع.

ولم يستغرق انقلابها من قبول الزواج إلى الضيق به غير بضعة أشهر، ولولا أن فاجأها هذا الجنين لربما كان لها تفكيرٌ آخر.

ولكن الجنين جثم على إرادتها، ورضخت له وخضعت لسنن الزواج.

ومرت الأيام الثقيلة فولدت، ومرت السنوات الجارية فشبَّ الطفل وبدأ يذهب إلى مدرسة القرية. ويل له من تلك المدرسة؛ إنها اليوم بالنسبة إليه نوع من الماضي عبر به ولا يريد أن يذكره، ولكنه يفرض نفسه عليه فرضًا محمومًا لا نجاة منه؛ طفل هو في السنوات الخضر وفي الأيام البله الساذجة من حياته خرج من حصار البيت إلى سعة المدرسة طفرةً واحدة كحيوانٍ حبيس لم يرَ إلى الحياة ولم يعاشرها وإنما كل دنياه غرفات البيت، وكل مراحه هذه الباحة تشبُّ فيها معه الكتاكيت، تتوالى عليها الألوان حتى إذا استوت فراخًا اختفت لتأتي بدلًا منها كتاكيتُ أخرى، وليس يدري من مصير الكتاكيت الذاهبة شيئًا، فهو حتى لا يكاد يربط بينها وبين هذه الفرخة التي يظل يأكل جزئياتٍ منها أيامًا.

ومعه في هذه الباحة جاموسة تبقى أحيانًا بالبيت اليوم بأكمله، وفي فتراتٍ أخرى تخرج مع أبيه في الصباح الباكر، وتعود معه والشمس تميل نحو المغيب.

وفي صدر هذه الباحة حجرة ليس بها إلا فرنٌ مبني تخبز أمه فيه العيش، وقد يصيب في يوم الخبيز رغيفًا عليه بيضتان وقد لا يصيب.

تلك هي دنياه، لا يدري هو أن الأطفال تخرج إلى القرية، وتلعب بها، وتجوب الشوارع والحواري والأزقَّة، وتقفز على أكياس القطن في موسم القطن، وتركب النورج في موسم القمح أو موسم الأرز. حبيس البيت هو، تمنعه أمه أن يرى إلى الدنيا. وإن خرجت هي لبعض شأنها فهي تصحبه مرتبطًا بيدها لا تفلته حتى يتم لها ما تشاء من عمل خارج البيت، وتعود به ويسأل هو أمه ويلحف في السؤال لماذا لا يجري في الطرقات مثل هؤلاء الأطفال الذين يمر بهم، وتروعه أمه بالإجابة القاسية حينًا أو تلاينه أحيانًا. ولكن الإجابات دائمًا عمياء لا يبصر منها سببًا يقنعه أو سببًا يرتاح إليه.

وماذا يمكن أن تقول له أمه؟ إنها أيضًا معذورة؛ لقد كانت تجاهد أن تؤجل لقاءه بقدرة قادر ما تتيح لها الحيلة أن تؤجل.

لم يعد يذكر إن كان قد عرف السبب الذي جعل أمه تخفيه عن الحياة في أول يوم ذهب إلى المدرسة أم لم يعرف. ولكن الشيء الذي لم ينسه ويحاول دائمًا أن ينساه أنه لقي هولًا.

أحسَّ في الوهلة الأولى أنه من فصيلةٍ أخرى غير فصيلة هؤلاء التلاميذ، لم تأتِه الكارثة من أنه لم يكن يعرف أحدًا من التلاميذ، فهذه السن عند البشر لا تفصل بين الكائن البشري والكائن البشري الآخر وإنما الأطفال جميعًا كتلةٌ واحدة متعارفة، وإن لم يسبق بينهم تعارف، كتلة تحتويها الصداقة، وإن لم يسبقها لقاء كيان بكيان، ومتى يبدأ التعارف تبدأ الصداقة، وإن لم تسبقها البواكير الأولى التي تسبق أنواع الصداقات الأخرى؛ فعدم معرفته بالأطفال الآخرين، وعدم معرفتهم به لم يكن أمرًا ذا بال في حد ذاته. فقد كان يمكن أن يكون صديقًا لهم جميعًا في لحظة اللقاء الأولى. ولكن الكارثة أنه وجد نفسه كيانًا مستقلًّا وهم جميعًا كيانٌ مستقل آخر.

ودخل إلى الفصل، وهذا الشعور بأنه منطقةٌ منبوذة من الحياة يملأ نفسه ويهشمها تهشيمًا. وفي الحصة الأولى بدأ المدرس يقرأ أسماء التلاميذ حتى بلغ اسمه.

– فرغلي فهيم الحوت.

– نعم.

– أنت.

– نعم.

– تشرفنا.

وانفجر الضحك.

– اسمع أنت هنا تنسى البيت تمامًا.

– وماله البيت؟

– لا شأن لنا به المهم أن تنساه تمامًا. المهم أن تكون تلميذًا مضبوطًا.

– على الواحدة …

وسارع المدرس يقول للتلميذ الطويل الذي ألقى القنبلة الأخيرة: اخرس يا خليل.

ولكن التلاميذ لا يخرسون وإنما هم يضحكون، لا يريد أن يسكت، وهو واقف مكانه لا يدري ما هذا الذي يحيط به، وينقذه المدرس أخيرًا.

– اقعد يا فرغلي.

وقعد … ولكن ما هذا الذي يجري حوله؟! ما هذه الواحدة التي ضحكوا منها؟! ظل ذاهلًا طول الدرس وما تلاه من دروس، وفى الفسحة ظل يحاول مرةً أخرى أن يكون قطعة من هذا النسيج الذي يكوِّن تلاميذ المدرسة لكنه أحسَّ أنه قطعةٌ مستقلة عن قماش التلاميذ، شيء لا ينسجم معهم ولا ينسجمون معه. انتبذ مكانًا قصيًّا أمن إليه واطمأن أنه مخفيه عن الآخرين، وراح يفكر فيما حدث له في يومه الأول هذا في المدرسة. أي شيء فيه يجعله كيانًا لا يلتئم مع كيانات الآخرين! أية عجينة تجعل منه صنفًا منفردًا غير مقبول من أبناء مدرسته! إنه طفل مثلما هم أطفال، له أب وله أم، ولا شك أن لكلٍّ منهم أبًا وأمًّا أيضًا؛ لا بد من خافية لا يدريها وهم يدرونها.

ما هي؟ لماذا ينقبض عن كل أمثاله ليصبح مادةً معزولة غير صالحة أن تذوب في الكل كما يذوب جميع هؤلاء الأفراد في كلٍّ واحد.

هو لا يدري. إنما كل الذي يدريه أنه عجينةٌ أخرى أو أنهم جميعًا من عجينةٍ مغايرة لطبيعته.

أكمل اليوم وانتهب الطريق إلى أمه وارتمى على ركبتها وبكى كما لم يبكِ من قبلُ ورفعت الأم وجهه إليها، ونظرت إلى عينيه. رأت ذلة وانكسارًا ودهشةً حائرة وألمًا عاصفًا وطوفانًا من الأسئلة يتفجر في رأسه وقلبه ومشاعره، ولكنه لا يدري كيف يبدأ وبماذا يبدأ … ترك الدموع والبكاء العالي الضجيج يتولى عنه السؤال وصمَتَ هو.

وحين التقت عيناه بعينَي أمه وجدها قد فهمت عنه ما لم يقله فتخافت صوت البكاء شيئًا فشيئًا ثم انتحى من البيت جانبًا وتكوَّم فيه وألقى برأسه إلى ركبتَيه في ذلة وهوان لا يدري مأتاهما ولكنهما يعصفان به عصفًا أخيذًا، وينتاشان قلبه في عنفٍ صاخبٍ وبيل.

ما إن دخل فهيم من باب البيت حتى سارعت تحية تقول له في حسم: فهيم، فرغلي من بكرة يروح مدرسة البندر.

كان فهيم يقفل باب البيت حين انفجرت هذه القنبلة، حتى إذا استدار ورأى وجه تحية جال بعينَيه في الحجرة، ورأى فرغلي في كومته البشرية، ورآه وهو يرفع إليه في جهد رأسًا تجاهد الذل لترتفع، ورأى عينَين تجاهدان الهوان يطلُّ إصرارٌ ساطعٌ لا لبس فيه.

ولم يسأل فهيم لماذا؟ فقد كان ينتظر هذا اليوم، ويكاد يوقن أنه ملاقٍ فيه ما يلاقيه في لحظته تلك. ونكس فهيم رأسه: حاضر.

وكان في هذه اللفظة أشياءُ كثيرة تتعاوج في حروفها القليلة … كيف استطاعت كلمةٌ واحدة أن تحمل كل هذه المعاني؟! معجزة هذا الإنسان كيف يستطيع في تلوينة صوت أن يجعل كلمةً واحدة تحمل كل هذا الألم والشعور بالذنب والخضوع والأسف لابنه، والضيق بزوجته، والهلع لمستقبل ابنه، والامتثال لقدر هو نفسه الذي قدره على نفسه.

٢

مدرسة جديدة

كان وجود فهيم بالسكة الحديد يجعل ذهاب فرغلي إلى مدرسة البندر أمرًا ميسورًا؛ فقد كان الكمسارية جميعًا يعرفونه، وكان من الطبيعي أن يركب فرغلي القطار مجانًا، فكان أبوه يصحبه في باكر الصباح إلى القطار الأول، وكان ينتظره حتى يعود في قطار الخامسة من بعد الظهر.

وكان القطار في ذاته مصدر متعة لفرغلي، والعجيب أنها متعة لم تنل منها الأيام أو ينقصها التكرار.

وفي الأيام الأولى استطاع فرغلي أن يصادق التلاميذ وصادقوه، وفرحوا بهذه السذاجة التي طالعتهم منه؛ فقد تكشَّف لهم عن إنسان لا يعرف شيئًا من المعلومات التي يعرفها الأطفال في هذه السن الباكرة. إنها تلك المعلومات التي جعلت أحد الفلاسفة الكبار يقول لستُ صغيرًا لدرجة أنني أعرف كل شيء.

كان الأطفال يعرفون كل شيء أو خُيل لهم ذلك على الأقل، في حين لا يعرف فرغلي شيئًا على الإطلاق، وكما ينبت الخير من الشر في كثير من الأحيان أصبح هذا الجهل من فرغلي هو أهم العناصر التي تجعل صداقته محبَّبة لزملائه.

وأن يجد التلاميذ فرصة مثل هذه الفرصة التي يهيئها لهم جهل فرغلي. لقد أصبحوا جميعًا له أساتذة في علم الحياة؛ فعرف منهم خفايا الجنس واللفظ الجارح قبل أن يعرف منهم لعب الكرة أو لعب البلي.

وأصبحت المدرسة عند فرغلي متعة بعد أن كانت وبالًا عليه. وأصبح التلاميذ يقبلون عليه في لهفة يضحكون من سذاجته ثم يمارسون عليه أستاذية لا يتيحها لهم تلميذٌ آخر. ولكن أتترك الأيام فرغلي ينعم بهذا الاقبال؟ ولماذا وماذا يكون هو حتى لا يواجه من الحياة ما يواجهه أمثاله؟ وكيف يمكن أن ينشغل عنه مجتمعه ولا يصيب منه ما يصيبه من الآخرين ألمًا وعنتًا؟

حين انقضت الشهور الأولى لأيامه في المدرسة بدأت تتضح أشياء لم يكن من الممكن أن تتضح إلا إذا مرَّ بها الوقت. فالملابس التي دخل بها الطلبة إلى المدرسة كانت جديدة في بدء العام الدراسي، ولا بد لكل جديد أن يصيبه القدم.

والملابس بالذات تتأثر بالاستعمال أكثر مما تتأثر بالزمن.

وضحت الفوارق بين التلاميذ وعرف الأغنياء بعضهم بعضًا. وعرف الأغنياء الفقراء والفقراء الأغنياء.

وفي هذه السن لا ينظر التلاميذ إلى هذه الفوارق؛ حتى إذا عرفوها فإنها لا تعني شيئًا بالنسبة إليهم؛ فعلاقاتهم بعضهم ببعض في هذه السن النضرة النقية الشفيفة لا تعترف بالفقر والغنى، وحين استبانت حقائق كل تلميذ لم يكن لهذه الحقائق أي أثر عند الأغلبية الكاثرة منهم، ولكن فرغلي بالذات كان من هذه القلة الضئيلة التي عرفت ما معنى أن يكون الإنسان غنيًّا وما معنى أن يكون الإنسان فقيرًا، وما معنى أن يملك التلميذ أكثر من بدلة يأتي بها إلى المدرسة، وما معنى ألا يملك إلا بدلةً واحدة ما تلبث أن يحيط بها القدم فتتمزق وترتق أو يزداد بها القِدم فتظل رائحةً جائية من الرفا إلى البيت ومن البيت إلى الرفا.

أدرك هذا جميعه وأحسَّ في نفسه لذعة ألم ونار غيظ، وبدأت براءته التي أتى بها إلى المدرسة ساذجةً نقية تنتابها القتامة شيئًا فشيئًا، ووجد نفسه ينأى بعيدًا عن مواطن التجمع من التلاميذ التي تسبكهم جميعًا في كلٍّ واحد لا يعرف الفقر ولا يعرف الغنى ولا يُعنى بأمره.

في هذه المرة فرض هو الوحدة على نفسه. وكلما سعى إليه زملاؤه يلتمسون منه هذه السذاجة التي عرفوها فيه وأحبوها منه أجابهم تلك الإجابات التي تغلق عليهم مسالك الحديث وتقفل دونهم دروب المسامرة.

وقد كان فرغلي في وحدته هذه أشبه بنواة خلية. وكما تنقسم الخلية في نظامٍ ربانيٍّ فريد لا يدرك سرَّه إلا خالقُ النفوس كذلك تتكون خلايا متقاربةٌ متشابهة متماثلة بطبيعة الأخلاق التي جلبت عليها الطبائع.

وبسرِّ هذه الجاذبية الخفية تكوَّن حول فرغلي أربعة طلاب. لم يكونوا أصدقاء في بداية دخوله المدرسة، وهم بطبيعة الحال ليسوا من قريته، فالمدرسة ليس بها أحد من قريته وإلا لذاع السر الذي لا يعرفه هو، والذي يعرفه أهل القرية جميعًا، والذي من أجله ترك مدرسة القرية إلى مدرسة المدينة.

وهم أيضًا يضحكون من سذاجته، فهم أنفسهم كانوا قريبين من هذه السذاجة حين جاءوا إلى المدرسة أول ما جاءوا. فقد كان آباؤهم أو كانت أمهاتهم يمنعونهم أن يختلطوا بأبناء القرية وما يرد على ذلك المنع استثناء.

تكوَّن هؤلاء الأربعة حول فرغلي وأصبحوا وحدهم فريقًا في المدرسة.

ما الذي جمعهم حوله؟ ولماذا لم يكن هو واحدًا من الأربعة ليجتمع هو معهم حول آخر؟ لماذا كان هو النواة وليس جزئية من الجزئيات التي تتجمع ولا تجمع؟

كان فرغلي جامد الوجه صموتًا قاسي القسمات لم تعرف عضلات وجهه استرخاء الطفل وليانه وطراوته؛ لقد كان ذلك من مكوثه في البيت لا تطالع عيناه إلا وجه أمه. وقد فرضت ولادته على أمه أن تمكث في البيت لا تبارحه إلى ما كانت تهفو إليه نفسها من مرح الموالد وانطلاقة الغوازي؛ فإذا قسماتها تتطلب وتتشنَّج لهذا الذي فرض عليها، فإذا بهذا التشنج يلتصق بوجهها، وإذا ابنها ينمسخ وجهه على نمط وجهها، وإذا هو يفقد ما يُكسب الطفل جمال الطفولة. وكانت عينا أمه بعد ولادته قد انقلبتا إلى كراهية فيهما عينان يحقدان على ميلاده الذي حرمها من تحقيق ما أرادت أن ترجع إليه من حياة. فلم يرَ في عينَي أمه ما يراه الأطفال الآخرون من حب أو إشفاق أو وداعة أو هناء أو رضًى.

لم يكن يرى إلا عينَين تقدحان شررًا لا يعرف لغته، أهو شرر الحقد أم شرر الغيظ أم شرر السخط؟ لم يكن يعرف، وكذلك لم تعرف عيناه إلا هذه النظرات التي تجمدت على شعاعها ألوانٌ شتى من الكراهية والحقد والغيظ والسخط لا تتيح فسحة من مكان لبصيص عطف أو رضًى.

وكانت أمه لا تثرثر بالحديث مع أبيه أو معه، فهي لا تتكلم إلا لتقول شيئًا يحتاج إلى كلام. لم يسمعها في حياتها تتكلم لمجرد الكلام لمجرد هذه الثرثرة الفارغة التي يستمتع بها النساء وكثيرًا ما يستمتع بها الرجال أيضًا.

كانت أمه في عيشتها التي أجبرها ميلاده عليها ترى نفسها سجينة في سجنٍ منفرد لا يدرك أحد مقدار الغضب الذي يغتلي في نفسها. ولا سبيل للغاضب أن يثرثر، وغضبها هذا من نوعٍ خاص؛ فهي لا تستطيع أن تبين عنه أو تكشف خوافيه، بل هي تخشى أن يطَّلع عليه أحد، ولهذا لم يكن عجيبًا أن تزم شفتيها كضلفتَي باب لسجن تغتلي بين جنباته ألوان من عذاب.

وهكذا انغلقت شفتاه مشدودتَين كأوتار من آلة من آلات التعذيب تأبى أن ترنَّ بغير أصوات الحقد والكراهية والألم والهوان.

هذا التركيب الذي صنعته طبيعة الحياة التي يحياها فرغلي جعلت منه تلك النواة التي اجتمع عليها عمران الفوال وشلبي المبوع وعطية سيد أحمد وفرحات عبد الباسط. ودون أن يتم بينهم اتفاق ودون تعاقد تكشف عنه الألفاظ ثم التعاهد، لقد تقاربت أرواحهم وتمازجت، وأحسُّوا أنهم يستطيعون هم الأربعة أن يكونوا نسيجًا متميزًا عن هذا النسيج الضخم الذي نُسجت خيوطه من كل التلاميذ الآخرين.

إنهم يكرهون هذا النسيج الآخر في تكوينه الكامل وفي خيوطه التي صنعته. إنهم يكرهون التلاميذ الآخرين جماعةً وأفرادًا، ويشعرون أنهم هم، وهم فقط في خمستهم، الجديرين بالحياة حين ينبغي أن يُحرق جميع هؤلاء التلاميذ. فهؤلاء التلاميذ ما هم إلا أبناء الأغنياء الذين يستطيعون أن يلبسوا أكثر من حلة وأكثر من حذاء، وما الآخرون الذين يصادفونهم إلا الأغبياء الذين يسمحون لهم بهذا الغنى ولا يحاربونه، كما يجب أن يحارَب كل شيء لا يملكونه.

وما هي إلا أيام حتى راح هؤلاء النفر الأربعة بزعامة خامسهم فرغلي يصنعون ما يعتقدون أنه الواجب الأول لمن كان في مثل حالهم.

ودهش ناظر المدرسة والمدرسون والفراشون والتلاميذ حين جاءت فسحة الغداء فإذا هم يجدون صنابير الشرب جميعها مكسورة، والماء يتدفق في شكل سيل ويأمر الناظر فتُقفل محابس المياه ويبحثون عن الفاعل ولكن هيهات. ولا تمر أيامٌ كثيرة حتى تتواتر الشكاوى إلى الناظر من طلبة بعينهم أنهم حين قاموا عن مقاعد أدراجهم كانت بنطلوناتهم مليئة بالحبر الذي كان ملقًى على المقاعد بشكلٍ خفي لا يُلحَظ، ولو كان عند الناظر أية فكرة عن عصبة فرغلي لاستبان أن هذا لم يحدث إلا في الفصول التي كان هؤلاء الخمسة من بين تلاميذها. ولعل أسوأ ما صنعته العصابة هو ذاك الذي تولَّاه فرغلي شخصيًّا بمساعدة شلبي المبوع فقط؛ لأن الفرصة لاحت حين كانا هما فقط أمامهما ولم يتسع لهما أن يستدعيا الآخرين.

كانا يمران أمام مصلى المدرسة وفجأة استرعت نظرهما كمية الأحذية المرصوفة أمام الجامع.

– معك مطواة.

– معي.

وفي لحظات سريعة حاسمة شقَّا فردةً واحدة لكل زوج من الأحذية، والفكرة بقدر جرأتها تدل على عمق التجربة في الإيذاء؛ فإن شق فردةٍ واحدة يستغرق نصف الوقت، وهو مع ذلك يقضي على الأحذية جميعًا قضاءً مبرمًا.

وبقدر الذكاء الذي تنكشف عنه هذه التجربة نلمح الغباء في ثناياها. خرج التلاميذ من الجامع وجابهتهم الجريمة فاغرة الأفواه بشعة تدعو إلى الحيرة والغيظ في وقت معًا. وكان ناظر المدرسة بين المصلين. ترك حذاءه الذبيح وذهب إلى غرفته وأعلن الأحكام العرفية. كلف المدرسين أن يفتشوا جميع التلاميذ بحثًا عن موس أو مطواة.

وشاع الخبر، وبدأت فرق التفتيش عملها.

– وفجأة أدرك فرغلي أنه وقع على فرصة لا تعوضها الأيام كثيرًا تسلل من الفصل في هرج تناقل الأخبار والتعليق عليها وقصد إلى غرفة الناظر.

– أنا أعرف ذابح الأحذية.

– من؟

– شلبي المبوع.

– كيف عرفت؟

– أراني مطواته في الصباح وقال إنه سيصنع بها انقلابًا في المدرسة.

– ولماذا لم تأتِ قبل الآن.

– كنت متعبًا ولم أترك الفصل في فسحة الظهر، وحين عرفت الخبر سارعت أقول لحضرتك.

وجاء شلبي المبوع واعترف ولكنه وقد وجد الاتهام موجهًا إليه من فرغلي أفشى الأسرار كلها والكلمات التي تبادلاها وهما يقومان بمهمتهما، واتضحت الحقيقة أمام الجميع حتى أصبحت لا تحتاج إلى شك.

وفُصل شلبي وفرغلي من المدرسة.

كان فرغلي في السنة النهائية من المدرسة الإلزامية وكان الدخول إلى المدرسة الابتدائية لا يحتاج إلى شهادة تدل على بقاء التلميذ بالمدارس الإلزامية فترةً معينة لأن دخول المدرسة الابتدائية كان لا يتم إلا بامتحان، فلم يكن لهذا الفصل الذي وقع على فرغلي أي أثر عدا أنه ذهب مرةً أخرى إلى منعزله ببيت أمه، ولكنه طمأن نفسه أنه كان على أية حال عائدًا إلى هذا المنعزل فقد كانت السنة الدراسية موشكة على الانتهاء، وكان قد أعدَّ لإجازة الصيف عدة.

– أَمَّهْ … لماذا لا أخرج إلى القرية.

– وما الداعي؟

– أنا الوحيد من أبناء القرية الذي لا ألعب مع الأطفال.

– البيت بعيد عن القرية.

– وهل هذا ذنبي؟

– لقد بنى أبوك بيته بجانب عمله.

– وما ذنبي أنا؟

– لو لم تعمل عملتك المهببة لكنت الآن في المدرسة.

– المدرسة لم يبقَ على إجازتها إلا بضعة أيام.

– أحسن من قعدتك في البيت.

– ولو كنتِ مثل كل الأمهات ما كنتُ أنا في البيت.

وأحسَّت تحية كأن طعنة خنجرٍ حاد الشفرتين قد أصابتها من لسان ابنها، واختلطت في نفسها حُميَّا الألم مع رعب القلق … أيكون قد عرف أنها ليست مثل الأمهات؟!

– وَلَهْ … أنت شايفني اختلفت عن كل الأمهات.

– طبعًا.

– فيمَ أختلف عنهن.

– أولادهن جميعًا في الطرقات يلاعب بعضهم بعضًا إلا أنت … فهل مثلهن أنت؟

وانهدمت جالسة.

تبدَّد ألمُها، وزال قلقها إلى اطمئنان، واستطاعت بلسانٍ جاف أن تقول: من خوفي عليك.

– وهن ألا يخفن على أبنائهن؟

– كل شيخ وله طريقة.

– إلا شيخك فطريقته عجيبة!

وكأن ريقها أصبح دمعًا وهي تقول: ولكنك لا تعرف شيئًا يا فرغلي.

– بالتأكيد هناك شيء لا أعرفه.

– بل أنت لا تعرف شيئًا على الإطلاق.

– أنا على وش الدخول إلى المدرسة الابتدائية، وأعرف القراءة والكتابة والحساب.

– ومع ذلك لا تعرف شيئًا.

– عرِّفيني.

– ستعرف.

– قولي.

– ستعرف … من المؤكد أنك ستعرف.

– وما دمتُ سأعرف فلماذا لا تقولين أنت.

– سيأتي الوقت.

– وإلى أن يأتي الوقت الذي أعرف فيه سأبقى محبوسًا هكذا في البيت.

– ليس الأمر بيدي.

– فالأمر إذن بيدي أنا.

ودقَّت صدرها في عجب.

– كسر يدك! أتريد أن تخالف أمري يا وله؟

– من غير مخالفة.

– ماذا تريد أن تفعل؟

– رأيت من في سني يعملون في المركز.

– ماذا يعملون؟

– أعمالًا كثيرة.

– مثل ماذا؟

– صبي في قهوة، مساعد بقال، أي شيء.

– (ونظرت إليه مليًّا) ألست صغيرًا على هذه الأعمال.

– رأيت زملاء لي كثيرين يقومون بهذه الأعمال.

– إذن فأنت تستطيع أن تعمل.

– ما دمت لا أستطيع أن ألعب مثل العيال فلماذا لا أعمل مثل الكبار.

– الحكاية هذه لا بأس بها ولكن.

– لا تكملي … أعمل وأساعد أبي على المعيشة.

وأطرقت تحية وصمت فرغلي وتوهَّجت حكمة الله العلي القدير في صمتهما؛ فقد شاء سبحانه أن تلتقي العيون وتتقارب الأرحام، ولكن أحدًا لا يستطيع أن يكشف ما يفكر فيه الآخر.

فلو أن فرغلي رأى ما يدور برأس أمه لرأى عجبًا، ولما صدَّق ما تهمس به نفسها إلى نفسها. ولو أنها هي رأت ما يدور بعقل ابنها لهالها أن يجتمع كل هذا الجشع في كيان هذا الطفل الصغير.

•••

استطاع زملاء فهيم أن يجدوا لفرغلي عملًا بسهولة. فهم منتشرون ولهم أصدقاءُ كثيرون وميسور عليهم أن يجدوا لابن زميلهم عملًا هزيلًا، وقد شاءت الصدفة أن يكون عمل فرغلي في مقهى الحرية بميدان الساعة. وقد كان موقع المقهى عظيمًا وكان زبائنها يملئونها أغلب ساعات النهار.

ونشط فرغلي في عمله الجديد وكان البقشيش الذي يناله أعظم من مرتَّبه بكثير. فقد حدد له صاحب المقهى ستين قرشًا مرتبًا شهريًّا ولكنه يحصل على ضعفَي هذا المبلغ من الزبائن، والعرف في المقاهي أن يضع العاملون في المقهى كل ما جمعوه من بقشيش في وعاءٍ خاص ثم يقسم بينهم. وقد اضطر فرغلي أن ينفذ هذه القاعدة في الأيام الأولى من عمله بالمقهى، فقد كان كبيرهم يفتشهم جميعًا عند فتح المقهى في الصباح ويستولي على ما معهم من نقود لتكون أمانة في ظرفٍ خاص يحمل اسم كلٍّ منهم على حدة، حتى إذا انتهى العمل في المقهى فتَّشهم جميعًا وتقاسموا البقشيش. وكان مسموحًا لفرغلي أن ينهي عمله مبكرًا بعض الشيء لصغر سنه، وليتمكن من اللحاق بآخر قطار يعود به إلى القرية. فالقطار وحده هو الذي يستطيع أن يركبه مجانًا بوصفه واحدًا من أسرة المصلحة.

بعد أيام من العمل بالمقهى وجد فرغلي أنه ينال الكثير، ولكنه لا يحصل بهذه القسمة إلا على القليل.

ذهب إلى صانع أحذية واشترى منه إبرة أحذية وخيطًا وكان يفتق الحذائين في الصباح وهو ذاهب بالقطار، وكان يضع بهذا الجيب السري العجيب الكثير من القروش التي يحصل عليها، وفي المساء كان يخيط الحذاء سرًّا ويعود بجزء كبير من البقشيش. وهكذا استطاع أن يخفي القروش على كبير القهوة حسنين، ولم يكن حسنين يتصور أن هذا الطفل الذي لا ينفتق وجهه عن ابتسامة يستطيع أن يفتق حذاءً عن جيبَين.

ولم يكن أبوه يسأله عما أصاب من مال مكتفيًا بأنه هو الذي يقبض مرتبه جميعًا آخر الشهر.

أما أمه فكانت منذ عمل فرغلي مشغولة بأشياء ألهتها تمامًا أن تسأله عما يربح.

الشيء الذي لا يعرفه فرغلي ولا يملك أن يعرفه أن هذا الذي يناله سواء بالتهرب أو بالحق أقل كثيرًا مما كان يستطيع أن يحصل عليه لو أنه عرف فقط كيف يضع على محياه ابتسامة تكسب وجهه براءة الطفولة وجمالها. ولكن هذه الابتسامة كانت بعيدة عن تفكيره كل البعد. ومن أين يأتي بها وقد عاش عمره مع أب يأتي إلى البيت وقد طحنه العمل وأمٍّ لم ترَ في ميلاده إلا حبالًا قاسية تكبل آمالها، حتى إذا ذهب إلى مدرسة القرية واجهته السخرية والضحك في يومه الأول والأخير بها فجعلته هذه السخرية السريعة يكره الضحك لأنه لم يصدر عنه أبدًا وإنما صدر عليه ودون أن يعرف السبب.

وحين ذهب إلى مدرسة المركز لفَّت به الأيام لفة كان فيها مصدرًا يُضحك الآخرين، ثم كان زعيمًا لحزب الحاقدين والحقد للضحك فزع، وهيهات لمن عرفت نفسه الحقد أن يعرف وجهه أو قلبه الضحك أو حتى الابتسام.

مسكين فرغلي لقد حرمته الحياة الضياء الوحيد الذي يستطيع به الإنسان أن يشقَّ طريقه في ظلام الأيام، ولكن الحياة العظيمة التي تستطيع دائمًا إذا منعت أن تهب، والتي إذا حرمت إنسانًا نعمة من أنعمها أمدَّته في خفية وفي كرم بما يغنيه من هذه النعمة. هذه الحياة الرءوف الرءوم حرمته متعة الإشراق أو الضحك أو الابتسام، وفي نفس الوقت وهبت له نعمة الجهل بأنه فاقد لأجمل مقومات الدنيا وأحلى ما فيها والشيء الذي يجعل من الدنيا في كثير من الأحيان عليا قريبة من مسابح السماء.

٣

نقلة

انتهت إجازة الصيف، وفي اليوم الأول من المرحلة الابتدائية كان فرغلي قد لبس حلةً جديدة اشتراها له أبوه، وأكمل الحلة بكل ما يحتاج إليه صاحبها من رباط عنق وقميص وحذاء. ونظر فرغلي في المرآة التي لا يوجد غيرها في البيت، والتي تكاد تنطبع عليها صورة أمه من كثرة ما تقف أمامها. رأى في الملابس الجديدة إنسانًا غريبًا عليه بل رأى في المرآة وجهًا أوشك ألا يتعرف عليه فلم يكن هو أو أبوه يقفان أمام المرآة إلا لمناسبة، وما أقل هذه المناسبات في حياته أو في حياة أبيه!

أحسَّ فرغلي وهو واقف أمام المرآة ينعم النظر أنه لأول مرة يجد في نفسه إنسانًا ينبغي أن يحترمه الآخرون، أو على الأقل أحسَّ أنه ليس عجيبًا أن يحترمه الآخرون. فقد كانت ملابسه تشعره دائمًا أنها من أهم الأسباب التي تدعو الآخرين إلى احتقاره، وأحسَّ فرغلي أنه يجب أن يكون كذلك دائمًا. وحينئذٍ خُيل إليه أن صورته في المرآة تزداد تقطيبًا ترادفه دهشةٌ موصولة باليأس، وتنتهي به هذه المشاعر إلى نوع من الإصرار لا يدري من أين هبَّت عليه رياحه بل هو حتى لا يدري ما الذي يهدف إليه إصراره هذا. إنه مُصرٌّ ولكنه لا يعلم على ماذا يصرَّ، وتوهجت عيناه فيهما شرر وبريق شرس، وصرفت أسنانه يضغط بعضها على بعض، وفي حركةٍ مفاجئةٍ عنيفة لوى وجهه عن المرآة وذهب إلى السرير حيث كانت تنتظره الحقيبة الجديدة، وأمسك بها وتهيأ للخروج مع والده ليركب القطار إلى المدرسة الابتدائية. والمدرسة الابتدائية في البندر بطبيعة الحال، ففي ذلك الحين لم يكن في القرية أو في أية قرية مدرسةٌ ابتدائية.

حين بلغ القطار أركبه أبوه وتركه وحده يسير إلى مصيره الجديد. ألم يكن من المناسب أن يركب معي ويذهب بي إلى المدرسة الابتدائية؟ إنها مرحلةٌ جديدة من حياتي ولا شك أنني سأحسُّ بعض الرهبة وأنا أخطو هذه العتبة لأول مرة، ويلي! ما هذا؟! إن تلاميذ كثيرين من البلدة يركبون القطار. أنا بينهم الوحيد الذي لا يرافقه أبوه.

والتقت العيون وتعرَّف أبناء القرية على فرغلي بل وتعرف عليه أيضًا آباؤهم، ماذا أصابهم؟ لماذا صرفوا عنه عيونهم لينظر بعضهم إلى بعضهم؟ وما هذه الابتسامة الصارخة بالتهديد التي ترتسم على أفواههم؟ وما هذا التجاهل الذي يلقي به عليه آباء التلاميذ؟ أي شيء عجيب فيه يعرفه أبناء القرية ولا يعرفه الآخرون؟!

لم يلتقِ بهذه المشاعر في مدرسة البندر الإلزامية ولا التقى بها في رواد المقهى أو من زملائه بها أو من صاحب المقهى. ربما التقى بالظلم أو بالضرب من صاحب المقهى أو بالسخرية المعلنة من خطأ ارتكبه أو ملبس متهرئ يرتديه. ولكن هذا النوع العجيب من التفاهم الصامت على الهزء به لم يعرفه إلا من أبناء قريته هؤلاء.

وصل القطار ونزل متباعدًا عن تلاميذ القرية، ولم يكن محتاجًا إلى دليل ليعرف الطريق إلى المدرسة الابتدائية فقد عاش شهور الإجازة بالبندر، ومن الطبيعي أن يعرف المدرسة الابتدائية التي سيتعلم بها …

ودخل المدرسة، وفي لحظات وجد التلاميذ قد أصبحوا جماعاتٍ متفرقة، ووجد أبناء قريته جماعة وحدهم، وما لبث أن وجد الكثيرين من أبناء مدرسته الأولى، ولم يفكر أن ينضم إلى أية جماعة وإنما بقي وحده منفردًا لا يجد أحدًا يأنس إليه. فهو غريب عن أبناء قريته غربته عن أبناء مدرسته السابقة.

كانت في مدارس ذلك الحين مقاعدُ طويلة أشبه بمقاعد البوابين متناثرة في فناء المدرسة. اختار مقعدًا مواجهًا للباب يرقب منه التلاميذ الداخلين.

كان شلبي المبوع أول من دخل من جماعته القديمة. نظر إليه مليًّا ولم يره شلبي، وإن كان فرغلي ظن أن شلبي رآه وصرف عنه عينَيه، ولم يعجب فرغلي من هذا التصرف بل إن ما فعله بشلبي في معركة الأحذية هو الذي موَّه عليه صدق النظرة، وجعله يظن هذا الظن. أسقط شلبي من تفكيره وظل محملقًا للباب ينتظر أن يرى عمران الفوال أو عطية سيد أحمد أو فرحات عبد الباسط جماعته القديمة.

وقبل أن يأتي أحد منهم أحسَّ يدًا تربت على كتفه، والتفت ولم يصدق هنيهة ثم مد يده لشلبي الذي رآه فجأة يحييه. لم يكن فرغلي يدرك بعدُ أن السفلة يغفرون لبعضهم البعض التصرفات السافلة عن طبيعةٍ مواتية وغريزة لا تدبير فيها ولا منطق لها … أو هم على الأقل لا يحاولون البحث عن هذا المنطق، فالحقيقة أنهم يلعبون في أرضٍ واحدة ينعدم فيها الخلق وينمحي ما تعارف الناس عليه من أخلاق أو مُثل. وأسلحتهم التي يتعاملون بها واحدة لا يختلف سلاح أحدهم عن سلاح الآخر، وفي هذه الظلال من انعدام الخلق الذي اتفقوا عليه دون عقدٍ شفهي أو تحريري كل شيء مباح. فشلبي لم يغفر لفرغلي لأنه طفلٌ طيب يعرف معنى الصفح عن خطأ الصديق، وإنما غفر له لأنه لو كان في مكانه لصنع نفس الصنيع.

وجلس التلميذان متجاورَين، وما لبث أن جاء فرحات عبد الباسط، وأعقبه عطية سيد أحمد، وجلس أربعتهم على الدكة.

وبدأ بينهم الحديث عما صنعه كلٌّ منهم في الإجازة، ولكن قليلًا ما دار الحديث بينهم، فقد فوجئوا جميعًا بحركة غير عادية في الفناء. انفرطت الجماعة التي كانت تضم أبناء القرية وتفرقوا في أنحاءٍ شتى يقف كل واحد منهم مع جماعة، ثم ما تلبث عيون هذه الجماعة أن تلتفت إلى حيث يجلس الأربعة ثم يضحكون، ونظر الأربعة بعضهم لبعض لا يدري أحد ما وراء هذه التحركات إلا فرغلي. فقد أيقن في رهبة زلزلت كيانه أن السر الذي لا يعرفه والذي لوى حياته كلها عن طريقها الطبيعي هو الذي ينثر الآن على هذه الجماعات. هو يعرف أن الأمر متعلق به ولكنه لا يعرف ما هو. كانت لحظات ربما اكتملت دقيقة أو دقيقتين لم يدرِ وإنما كانت اللحظة عمرًا مديدًا كريهًا متراخيًا متهرئًا مقيتًا كان يعرف أن شرًّا يُلقي عليه شباكه، ولكن لم يكن يدري أي نوع من الشر ذاك الذي يكيدونه له، لا يدري مداه ولا عمقه ولا لونه ولا مدى الدمار الذي يتغشَّاه.

أصبح القدماء جميعًا عيونًا تحيط به من كل مُتَّجَه، ويسفلها ابتسامة فيها سخرية، وفيها احتقار. وكانت الوجوه المتجهة إليه تحمل سمات الوحش، وقد وجد فريسة هو واثق من افتراسها، فهو يسعى إليها في غير جهد فيضيف إلى لذة الافتراس لذة التمتع بذعر فريسته.

وراحت الجماعات تسعى إلى حيث يجلس وكأنها على التباعد بينها قد تواعدت على اللحظة التي تتحرك فيها في نظامٍ عفويٍّ منسق، وكأنه مرتب في دقة ومهارة.

حتى إذا أحاط تلاميذ المدرسة بالدكة ومَن عليها خلع أحد التلاميذ رباط عنقه، وربطه حول وسطه وصاح: على وحدة ونص يا واد.

وسحب لفظة الواد هذه في ميوعةٍ فاجرة، فإذا التلاميذ جميعًا وفي لحظةٍ واحدة يصفقون تصفيق المتفرجين على الرقص، وإذ تلميذٌ آخر يتحزم برباط عنقه، ويدخل إلى الحلبة مع التلميذ الأول.

وينظر أربعة الدكة بعضهم إلى بعض، ويدرك فرغلي أنه المقصود، ولكن لا يدري ما تحمله هذه الرقصات وهذا التصفيق. ويقوم شلبي المبوع ويتبعه عطية ثم فرحات ويبقى فرغلي وحده، وقد انهدم كيانه فالرقص مستمر الآن له وحده، وهو لا يدري ماذا يعنيه هذا الرقص.

لم يجد شيئًا يفعله إلا أنه يتابع أصدقائه الثلاثة، وقد اندس كل منهم في ناحية من نواحي التجمع، وراح يرى على وجه كلٍّ منهم معالم دهشة ثم سخرية لم يختلف واحد منهم عن الآخر في هذين الانفعالين. ولم يعد أحد منهم إلى مكانه من الدكة، ولكن لم يشترك أحد من الثلاثة في التصفيق إلا شلبي المبوع، وقد انفرجت شفتاه عن ضحكةٍ عريضة فيها كل الشماتة والسخرية، ولم يكن غريبًا ألا يشعر نحو شلبي بشعور يختلف عما يحس به نحو التلاميذ جميعًا، ولم يحاول طبعًا أن يعجب من نفسه أنها أخذت في موقف شلبي مأخذًا طبيعيًّا وكأنها لا تنتظر غيره.

وضرب جرس البدء لليوم الدراسي، وصاح التلاميذ مرةً واحدة في اتفاق وعلى غير اتفاق: هييييه.

وأخيرًا تمكن فرغلي أن يخلو إلى فرحات: ماذا يقصدون؟

– ألا تعرف؟

– أبدًا.

– كيف؟

– لا أعرف. لقد حصل مثل هذا تقريبًا حين ذهبت إلى مدرسة القرية ولهذا جئت إليكم في المدرسة الإلزامية.

– تريد أن تقول إنك لا تعرف.

– مطلقًا!

– لا تعرف ماذا تعمل أمك؟

– أعرف.

– ماذا؟

– تعمل أمي وزوجة أبي أحيانًا.

– لا … لا … قبل أن تكون أمك، وقبل أن تكون زوجة أبيك.

– كانت بنتًا مثل كل البنات.

– فأنت إذن لا تعرف شيئًا عن أمك.

– كيف؟

– البلد كلها عندكم تعرف.

– كانت تمنعني أن ألعب مع أحد.

– معذورة.

– لماذا؟

– حتى لا تعرف الحقيقة.

– وما هي الحقيقة؟

– أمك كانت غزية يا أستاذ.

– ماذا؟

– كانت راقصة في الموالد.

وتجمد فرغلي يعجز كيانه عن التحرك. لقد جاءت إليه الحقيقة التي تُفسِّر سنوات عمره الماضي جميعًا … كان يمكن أن تكون الحقيقة أي شيء إلا هذا … وصاح به فرحات: هيا.

ولم يلتفت إلى نداء فرحات. وعاد فرحات يصيح: ألم تكن تعرف، أم لم تكن تريدنا أن نعرف؟

وفى وجوم شبه أبله هزَّ فرغلي رأسه يمنة ويسرة ولم ينطق.

– لا يهم.

ونظر إليه فرغلي في دهشة ولم يقل شيئًا.

– لا يهمُّ فكل حقيقة ستُعرف في يوم من الأيام، لا يغير من الأمر شيئًا أنك كنت تعرف أو لم تكن تعرف المهم أنك عرفت، وعليك أن تدبر مستقبلك على أنك تعرف، وعلى أن كثيرًا من الناس سيعرفون صدفة أو يبحثون حتى يعرفوا. وجذبه فتحرك معه لأنه لم يكن يملك أن يقود نفسه أو يتحكم في تصرفاته.

سار ذاهلًا ولم يسمع شيئًا من الأسماء التي يلقيها المدرس ليحدد لكل تلميذ الفصل الذي سيكون فيه، وحتى حين سمع اسمه لم يُعنَ بأن يعرف فصله، وجره فرحات وذهب به إلى الفصل فهو زميله فيه، واختار فرحات المكتب وجلس إليه وأجلسه معه. وأحسَّ فرغلي أخيرًا أنه يستطيع أن يخلو إلى نفسه وأن يفكر.

إن الأم والأب من الأمور التي لا يختارها الأبناء؛ ما ذنبه؟ بل وما ذنب أمه؟! الذنب كله ذنب أبيه. ولكن أكان يُتصوَّر هذا الذي يحدث لفرغلي الآن؟

كل هذا لا يهم، لا يهم الآن إلا شيءٌ واحد؛ كيف سأظل في هذه المدرسة أربع سنوات؟ كيف سأواجه الطلبة؟ وكيف أعيش بينهم؟ غزية … راقصة موالد!

وطبعًا المدرسون سيعرفون، وطبعًا سيحاول بعضهم أن يسخر مني، وأين يجد فرصة كهذه حتى يظهر خفة دم أمه؟ وسيحاول بعضهم أن يجعل منه مشكلةً اجتماعية، وويل لفرغلي من هذا الذي سيحاول أن يساعده على حل عقدته فإن فرغلي لا يدري، إن هؤلاء في أغلب الأمر يضيفون إلى العقدة الواحدة عدة عقد، لا سبيل إلى حل واحدة منها. وسيحاول بعضهم أن يشفق عليه ويردَّ عنه الطلبة، وهذه الشفقة هي شر ما تلاقيه نفس فيها ما في نفس فرغلي من الحقد؛ ستكون وبالًا عليه أي وبال، وسيحاول بعضهم ممن يدعي الترفع والكبرياء أن يتجاهل الأمر وكأنه لا يعرفه، وربما كان هذا أخفَّهم وطأة. طبعًا لم يفكر فرغلي في هذه الأشكال من المدرسين ولم يصنعها، ولكنه كان يفكر في الكارثة ككل؛ في الكارثة برمَّتها بكل ما تحويه من خزى وذلة وامتهان وألم دون أن يكون له يد في ذلك جميعًا.

كان المدرس يشرح الدرس، وبين كل حصة وحصة لم يخلُ الأمر من غمزة أو نكتة من طالب أو أكثر. وفي فسحة الظهر لهى عنه التلاميذ كجماعات، ولكنه لم يفقد بعضًا قليلًا منهم يمر عليه فيلقيه بكلمة أو هزة وسط أو تصفيقة.

وتحسَّس أصدقاؤه الثلاثة الموقف فحين وجدوا تحمس الصباح قد خف؛ عادوا يلتفون حوله. والعجيب أنه أحس أنه لم يفقد بين هؤلاء الثلاثة مكانته وكأنهم ينتظرون أن يكون زعيمهم مختلفًا عن الآخرين حتى ولو كان هذا الاختلاف متمثلًا في رقص أمه.

وحين انتهى اليوم الدراسي أحسَّ فرغلي إحساس الذي كان ينتظر نتيجة امتحان وتكشَّفت عن سقوطه؛ فمشاعره مزيج من الشعور بالاطمئنان إلى اليأس، والراحة من القلق وشعور بالمهانة، والخجل أنه صنفٌ آخر غير أصناف التلاميذ أجمعين. كانت نهاية اليوم الدراسي أخف وطأة من بدايته، وأصبح هو يتحرى أن يبتعد ما وسعه الجهد عن تجمعات التلاميذ فيما عدا أصدقاءه الثلاثة. وعند الانصراف ذهب إلى المحطة، ورأى من بُعد العربة التي يركب فيها تلاميذ القرية؛ فاختار أبعد عربة عنها وانزوى فيها صامتًا مطرقًا. وقد عاوده إصرار الصباح الذي اجتاحه، والذي لم يستطع أن يتبين منه الأمر الذي ينبغي أن يصرَّ عليه. هو إصرار على مجهول، ولكنه يحس به الآن يزداد عنفًا وضراوة. ومع هذا كان كيانه منسحقًا لا يدري لنفسه ذنبًا في هذا الهول الذي يلاقيه، ولا يدري أيضًا أي إنسان يستحق أن يوجه إليه اللوم فيما يصرخ في جنباته من أنينٍ محمومٍ مجنون يتفجر به الجنون ويكتمه لا يظهر ولا يبين ولا يعرفه أحد. فكفاه خزيًا أن يكون ابن راقصة ولا داعي بعد ذلك أن يكون مجنونًا أيضًا! أو لا داعي على الأقل أن تظهر عليه أعراض الجنون.

ألم يكن أبوه يُقدِّر هذا حين تزوج أمه؟ وإذا كان قد أساء الاختيار وتزوجها أكان لا بد لها أيضًا أن تلد؟ ماذا ينتظر هذان الأحمقان لابنهما أن يكون؟ باشا؟! ألم يعرفا مصير أبناء الغوازي بين أبناء النسوة الأخريات؟ قد يكون شأن هؤلاء النسوة شرًّا من شأن أمه، وربما كانت الغالبية العظمى فيهن غير شريفات، ولكنهن لم يعرضن أنفسهم في الموالد ولم يصمهن قدرهن بأنهن غوازٍ؛ تلك الوصمة التي لا تترك المرأة حياتها جميعًا بل وتلاحقها أيضًا في أبنائها وإن كان الأبناء أبرياء؛ نعم وإن كان الأبناء أبرياء.

وصل القطار إلى القرية، وتسلل فرغلي من طريقٍ بعيد عن طريق التلاميذ وبلغ البيت. كانت أمه وأبوه ومعهما عمته تفيدة في مدخل البيت. حاول أن يدخل إلى حجرته مباشرة ولكن كيف؟ سلم على عمته وقبلته ثم أمسكت كتفيه ومدت بهما ذراعيها إلى أقصى ما يمتدان ونظرت إليه مليًّا: ولهْ … مالك؟

وأطرق ولم ينطق.

– هل زعَّلك أحد؟

وهزَّ رأسه نفيًا.

– لم أستطع أن أشتري لك شكولاتة فقد تركت مصر في عجلة خذ نصف الريال هذا واشترِ أنت ما يحلو لك.

واختطف نصف الريال الورقي وجرى إلى حجرته.

والتفتت تفيدة إلى أمه.

– ماله الولد يا تحية؟

– لا أعرف … ساعاتٍ كثيرة أجده كشر هكذا بلا مناسبة.

– كان بودي أن أشتري له الحلويات التي يحبها، ولكن عمك حسين لم يعرف أنه مسافر للتفتيش إلا قبل السفر بساعة؛ فاقترح أن أجيء معه لأراكم وأنتظره في محطتكم وهو عائد. يا ترى هل فرغلي زعلان لأني دخلت بيدي فاضية؟

وقال فهيم الحوت: يا أختي تفيدة لا تشغلي بالك، ماذا يمكن أن يزعل منه عيل إلا شغل عيال مثله؟ ولا يهمك.

ولكن زوجته تحية بخبرتها وأمومتها معًا أدركت أن الأمر ليس بهذه الضآلة، وإنما جارت زوجها في الحديث.

– على رأيك. إذن فلن تبيتي معنا الليلة.

يا ريت … كان مناي. ولكن عمك حسين من يخدمه. لقد كبر الأولاد كما تعرفين وأصبحت أنا وهو وحدنا في البيت فإذا عاد من العمل لم يجد غيري، وأظل أخدمه حتى يخرج ليقعد على المقهى، وهذه الفترة هي التي أستطيع فيها أن أزور صديقاتي أو أولادي. لكن حتمًا أكون في البيت قبل رجوعه فإن عاد ولم يجدني غضب كأنه عيل صغير.

– ربنا يخليك له.

– ويخليك ياختي، العقبي لك حين تفرحين بفرغلي وتزورينه في بيت عدله إن شاء الله.

– سلمت يا حبيبتي.

وانبعث صوت من حجرة فرغلي كأنه أنين.

– أمَّهْ.

وحاولت تحية أن تتجاهله ولكن تفيدة قالت لها: قومي يا حبيبتي شوفي ابنك … يمكن أن يكون جائعًا.

– سأعدُّ له الأكل حالًا. أنا أريد أن أجلس معك، لي زمان لم أركِ.

– يا اختي ربنا يجبر بخاطرك، أنا ميعادي قرب.

وقالت تحية لتغير الحديث: وعم حسين أفندي مرتاح في الشغل؟

– له أربعون سنة فيه، ليس في مصر من يعرف الأرشيف مثل عمك حسين وهو اسم النبي حارسه ذكي وشاطر.

وقال فهيم: أتراه متضايقًا لقرب خروجه على المعاش.

– يا أخي يا فهيم أنت تعرف حسين يرضى بكل شيء، وهو عامل حسابه على يوم المعاش ومبسوط في أمان الله. كل الذي سيتغير أنه سيجلس على المقهى في الصباح والمساء بدل أن يجلس عليه في المساء فقط، والماهية تقريبًا لن ينقص منها شيء.

– على رأيك.

وجاء الصوت المطحون مرة أخرى.

– أمَّهْ.

– قومي يا حبيبتي شوفي فرغلي. وأنا فُتك بعافية. تعالى معي يا فهيم وصلني المحطة؛ تركبني القطار وتسلم على حسين أفندي.

– أي والله لي زمان لم أره … هيا بنا.

حين دخلت تحية إلى فرغلي وجدته جالسًا على حرف السرير ينظر إلى فراغ … باهت العينين جامد الوجه، وحين توسطت الحجرة نظر إليها طويلًا وفهمت هي كل شيء، وكأن شيئًا يتكلم في داخلها؛ شيئًا غير إنساني ينطق عن حطامٍ مدمَّر كل التدمير.

– أصحيح يا أمه …

ولم يكمل.

– أمك أشرف واحدة في هذه الدنيا كلها.

– إذن فهو صحيح.

– وماذا في الأمر إن كان صحيحًا.

– لو لم يكن فيه شيء لتركتني ألعب مع عيال البلد، ولتركتني أروح المدرسة في البلد.

– خفت عليك.

– والآن.

– ماله الآن؟

– ماذا أفعل؟

– ضع إصبعك في عين أعظم عظيم فيهم! الفقر ليس عيبًا، وأنا كنت آكل لقمتي بعرق جبيني، ولو لم أكن شريفة ما أبقاني أبوك في بيته كل هذه السنوات.

– لا فائدة من كل هذا.

– إذا كنت تريد أن تغيظ من يسيئون إليك ذاكر وانجح واطلع الأول عليهم.

– أتظنين هذا ينفع.

– لا ينفع غيره.

– أمه … أنا اتبهدلت قوي يا أمه. اتبهدلت قوي يا أمه …

والعجيب أنها وجدت نفسها تلقفه في حضنها مع أحزانه، وكلاهما لا يدري ماذا يقول للآخر.

•••

لم يكن أمام فرغلي شيء يعمله في البيت إلا أن يذاكر، أما في المدرسة فقد أصبحت عصابته المكونة منه ومن الثلاثة الآخرين هي مصدر تحطيم كل شيء جميل يملكه الآخرون؛ إن كان قلمًا سرقوه، أو كان حلة حرصوا على أن يلطخوها بالحبر. وكان من الطبيعي أن يبيعوا ما يسرقونه ويتقاسموه، ولكن فرحهم بالتخريب كان أعظم.

ولم يكن عجيبًا أن يكون أربعتهم من الذين ينجحون في امتحانات الفترة وامتحانات آخر العام، ولم يكن عجيبًا أيضًا أن يكون فرغلي من المتقدمين لأن الثلاثة الآخرين يستطيعون طبعًا أن يلعبوا مع أصدقاء. ولو لم يكن فرغلي قد حثَّهم على المذاكرة حتى لا يفقدوا عطف المدرسين لما أصابوا هذا النجاح الذي يصيبونه دائمًا.

ووصل فرغلي إلى السنة الثالثة الابتدائية، ولم تكن سنه متناسبة مع سنته الدراسية فقد بدأ التعليم متأخرًا، ولكن السن لم تكن ذات شأن في هذه الأيام من حياة التعليم في مصر. كان فرغلي حينذاك يقترب من الرابعة عشرة.

٤

انطلاق … أم قيود؟

كان فرغلي في الأيام الأولى من السنة التي سيحصل فيها على الابتدائية، والابتدائية في هذه الفترة من الزمان معناها أن يذهب التلميذ حين ينالها إلى المرحلة الثانوية.

وكان فرغلي قد انفصل تمامًا عن منزله. وقد استطاع أن يكتفي بصداقة الثلاثة الذين قبلوه على ما به من هذه الأمومة التي أثارت عليه سخرية التلاميذ، وكان حريصًا دائمًا ألا يتعرض للعب أو مناقشة مع تلاميذَ آخرين. وأصبحت حكاية أمه الراقصة حقيقة لا تثير الحماس في المدرسة، ولكنه مع ذلك كان دائمًا يشعر بالقوة التي تهدده من الطلبة، وكأنما تحذره هذه العيون ألا يتعدى المكان الذي وضعته فيه أمومته.

والعجيب أن التلاميذ لا يعرفون ولا يهمهم أن يعرفوا شيئًا عن مهن الآباء، ولا يتناقل الطلبة شيئًا عن هؤلاء الآباء إلا إذا كان الأب ذا وظيفةٍ ملحوظة في المديرية كالمدير أو وكيل المديرية أو رئيس في مصلحة. أو إذا كان الأب صاحب سوابق من خريجي السجون أو من المقيمين به ولم يكن في المدرسة أحد من هؤلاء. أما الأمهات فطبيعة الأمر تقضي أن يكن جميعهن غير عاملات، والفلاحات على ما يبذلن من جهد وجهاد في الحياة لا يُعتَبرن في نظر التلاميذ عاملات.

وهكذا شاءت الأقدار أن ينفرد فرغلي باهتمام التلاميذ بعمل أمه الذي تركته والذي لا يريد أن يتركها، وعلى كل حال فقد ساد التلاميذ ركود من الاهتمام بفرغلي أو أم فرغلي وساعد هو على أن ينسى التلاميذ أو يسكتوا على الأقل عن ذكر أمه أو تذكيره بها.

وفي بداية الربيع كان في منطقةٍ قريبة من قرية الديميرية مولد. وأحب الأب والأم أن يصحبا ابنهما إلى هذا المولد فرفض رفضًا مطلقًا، ولم يناقشه أحد منهما فقد كان كلاهما يعرف تمامًا الأسباب التي تجعله يصرُّ على هذا الرفض.

وذهب فهيم مع تحية ودخلا الترك مسرح المولد.

ما هذا الشعور الذي تولى تحية.

إني أعيش … هذا هو مكاني. كأني كنت في قبر وعدت إلى الحياة، بل كأني كنت في بلدٍ غريب وعدت إلى حيث يجب أن أكون، أو حيث أحب أن أكون.

وجدت تحية الكثيرين والكثيرات من الزملاء وأحسَّت من تحيتهم أن مكانتها عندهم لم تزل كما هي وتحسرت؛ فقد أصبح من الصعب عليها أن تترك ابنها اليوم، فإذا كان ماضيها قد جعل منه هذا الفتى التعيس فكيف إذا انضم الحاضر والمستقبل إلى هذا الماضي؟! لا، لا سبيل … وداعًا أيها المسرح! وداعًا يا ليالي السعادة أيام كنا نمرح في شقائنا ونستلذه وتخفق القلوب منا بهذا التصفيق، وذلك الصفير، وتلك القروش المعدنية أو الفضية أو الورقية وهي تلقى إلى مناديلنا. كنا في هذه الأيام نحس أننا في قلب الحياة وفي شرايينها نصنعها كما تصنعنا ونطحنها كما تطحن كياننا ونفوسنا وكرامتنا.

أحسُّ اليوم أنني واقفة على جسر الحياة وهي تمر لا تشعر بي وأشعر أنا بريحها الخاطفة تعصف بلحظات حياتي وتحيلها إلى غضون على وجهي وشعراتٍ بيض في رأسي وملالة تملأ كل أيامي ونفسي. ولكن هيهات لا مكان لي اليوم إلا هذا الجسر.

كان فهيم جالسًا إلى جوارها في كواليس المسرح ينظران إلى الراقصة التي حلَّت مكانها. وأحست تحية أن الرؤية إلى المسرح ليست جديرة بها. فما هذا مكانها؟ إنها لا تستطيع أن تكون متفرجة في الحياة ومتفرجة في المسرح أيضًا. أحسَّت شيئًا خفيًّا يشدها أن تقف وأن تذهب حيث يتجمع زملاؤها وزميلاتها، وقالوا ولكن هي لم تقل شيئًا فجميعهم يعرف أنها أصبحت أم فرغلي فأي جديد أو جديدة يمكن أن ترويه لهم بعد ذلك؟! إنهم هم وحدهم وهن وحدهن الذين يملكون أن يقولوا ويحكوا؛ فهم يرون في كل ليلة ما يصلح أن يكون موضوع رواية وحكاية.

اقترب منها الحاج وهدان أبو نار.

– توحة.

وتخلجت لحظة ثم أفاقت؛ إنها هي التي يقصدها.

– يوه يا حاج فكرتني بالذي مضى.

– تعالي.

– عيني.

– لماذا لا نعيد الذي مضى؟

– وزوجي وابني.

– الولد كبر وهذا الزوج يستطيع أن يجد غيرك ولكن مكانك هنا …

– وكيف يا حاج؟!

– من غير كثرة كلام … نحن قدامنا أسبوع. فكِّري وطبعًا لن تنضمي إلينا إلا ونحن مسافرون حتى لا يحاول زوجك أن يجدك ويضايقك ويضايقنا.

– يا ليت يا حاج … كان من عيني.

– فكري يا ستي وهل سآخذك الآن؟ قدامك أسبوع فكري.

– لا أظن …

– أنا منتظر على كل حال.

– ربنا يخليك … يعني ما زلت أنفع؟

– وهل شفتني أرمي فلوسي.

– فشر! أنت سيد من يعرف أين يحط قرشه.

– ناصحة … فكري وأنا منتظر … مع السلامة.

أسبوع … عادت إلى البيت وخلا بها الصباح، فهيم في المحطة وفرغلي في المدرسة، وهي وحيدة. ولا عمل؛ لا تنظيف للبيت إلا أن يكنس ويعاد إلى السريرين ما أشاعه فيهما النوم من اضطراب، ثم لا حاجة إلى طبخ الطعام؛ فالطبخ لا يكون إلا في أيامٍ قلائل من أيام الأسبوع، وإطعام الطيور لا يحتاج إلى وقتٍ كثير فما هي إلا الساعة أو بعض الساعة ثم يصبح اليوم كله خاليًا بلا عمل. الملالة تملأ وقتها جميعًا. ولو كان زوجها يعوضها عن هذه الملالة إشراقًا أو حديثًا يجعل حياتها سائغة بعض الشيء لكان من الممكن أن تتحمل هذا الفراغ القاتل.

إن فراغ الوقت وحش يكشر لها عن أنيابه في كل أيامها. وهو على قسوته رحيم إذا هي قارنته بالفراغ الذي مزق ما بينها وبين ابنها. إنه يحاول كل جهده ألا يكلمها، يحاول أن ينسى أنها موجودة في البيت في اللحظات القليلة التي يقضيها قبل النوم، فهو لا يأتي من المركز إلا قبيل موعد نومه بساعة أو ساعتَين على الأكثر. فقد أصرَّ أن يعمل بالمقهى بعد خروجه من المدرسة وحين جادلته أمه ازداد إصرارًا، وحين قالت له: ألا تخشى أن يعيرك زملاؤك بأنك تعمل في المقهى.

أطرق وقد عضَّ طرفه في غيظٍ كظيم: هذا أبسط كثيرًا مما يعيرونني به.

ولم تكمل الحوار وعمل بالمقهى.

ما بقاؤها إذن؟

فهيم؛ لم يكن بالنسبة إليها إلا زوجًا تزوجته لأنها تصورت يومذاك أن كل أنثى لا بد لها أن تتزوج وإن كان هو أحبها فهذا شأنه. إن كان هناك تردد فلا أثر لفهيم فيه. إنما هي تخشى على ابنها ولكنها وهي تعمل الفكر يزداد اليقين في نفسها أن بقاءها شر لابنها من ذهابها؛ فهي في بقائها تذكِّره دائمًا بأنها راقصة وتذكر زملاءه بنفسها وتلحُّ في تذكيرهم بصورة لا تسمح لهم بنسيان هذا الأمر أو التغاضي عنه أو غفرانه. أما إن ذهبت فلا بد أن ينسوا أمرها بعد حين. قد يكون في ذهابها فضيحة ولكنها فضيحةٌ موقتة ما تلبث أن تبتلعها الأيام الطوال، أما بقاؤها ففضيحةٌ مستمرة. ومن وجهة نظر أخرى أي فضيحة في أن تعود راقصةٌ سابقة إلى الرقص مرةً أخرى، أي جديد في هذا؟! إنها تكون فضيحة حقًّا لو كانت ستًّا محجبة في بيتها وخرجت إلى الرقص، أما الراقصة تعود إلى الرقص فأمر لا غرابة فيه. وما دام لا غرابة فلا فضيحة.

•••

حين تركت تحية البيت وهربت، أو ذهبت، اختر أيهما شئت، مع مسرح المولد فُجع فهيم؛ فقد كان بسذاجةٍ فائقة يظن أنه أنقذها من التشتت والضياع وتيه الليل وتناثر الحياة ومذلة اليد الممدودة والوسط المتلوِّي ليوفر لها حياة البيت والزوجية والأمومة، ولم يفكر مطلقًا أن مجتمع القرية رفضها أو هو أبى أن يفكر هذا التفكير، مع أنه حين باع نصف الفدان الذي كان يملكه وبنى بيته منعزلًا عن القرية هذا الانعزال كان يفعل ذلك بعد أن أيقن أن مجتمع القرية يرفض زوجته، ولم يشأ أن يجعلها تواجه هذا الرفض في بيته الذي كان داخل القرية مع سائر بيوتها. كان يدرك تمامًا أن انعزال بيته إنما هو في الحقيقة انعزال زوجته عن القرية جميعًا، وقد أبقى على بيته في القرية حتى لا يقال إنه باع البيت الذي تركه أبوه، فنصف الفدان قد يهون ولكن البيت لا يهون. ترى أكان هذا هو السبب؟ أم أنه كان في دخيلة نفسه يخشى ألا يدوم زواجه؟

ولكن اليوم وبعد هذه السنوات الطوال وقد دام الزواج فعلًا، كان قد نسى في زحام الأيام بعضها ببعض هذه الأفكار، ولم يعد يتصور أنه يمكن أن يعيش بغير تحية. وحين فكر قليلًا وجد أنه مطعون ولكن في شيءٍ آخر غير الحب فنوع الحب الذي أحبه لتحية كان من شأنه أن ينتهي في الأيام الأولى من الزواج. وقد كان يحس دائمًا أنها بعيدة عنه وأنه بعيد عنها، فانفرادهما بالحياة جعل كلًّا منهما يحس العزلة عن الآخر، فإن الألفة لا تتواصل إلا في مناخ المجتمع العام الذي يشيع الدفء في النفوس، ويجعل الزوجين يحسان إنهما جزء من هذا المجتمع مستقل ومتصل، مؤتلف كلٌّ منهما مع الآخر ومؤتلفان كلاهما مع المجتمع حولهما.

يحسان بأنهما يعيشان الحياة في تحية صباح من جار، في طلب أداة من صديق، في مشاجرة يشتركان فيها، في حديث يدور عنهما ويبلغهما به مستمع، أو في حدث يدور بينهما وينتقل عنهما إلى أصحابه، في اشتباك الحياة وفروعها بالفرع الذي يمثلانه منها. أغلب الأمر أن آدم وحواء دبرا قصة التفاحة ليبحثا عن مجتمع يعيشان فيه، وليكن مجتمعًا الشر فيه غالب على الخير، وليكن مجتمعًا القبح فيه أكثر من الجمال، ولكنه وهو هكذا وبحالته تلك أحب إلى نفس الزوجين من الوحدة والانفراد والعزلة. فهنا في ظل هذا البُعد تصبح الحياة جميعها جليدًا هيهات فيه لألفة أن تنشأ أو تتواصل. هو طعين لا من حب تحطم، ولا من ألفة تبددت وإنما من شعوره أنه لا يساوي شيئًا. حتى الراقصة التي جعل منها ست بيت تركته وذهبت ولم تحفظ جميله، ولم يمنعها الوفاء بل ولم تمنعها الأمومة بل ولم يمنعها الستر أن تظل في بيتها ست بيتها.

إنه طعين، وحائر، ومنهار.

أما فرغلي فكان أمره عجبًا، وكان أمر زملائه أعجب.

قد أحسَّ أن شيئًا كان يدهمه ويضع أنفه في الرغام، ويضغط عليه في قسوةٍ شرسة قد رُفع عنه، وأن رأسه يستطيع الآن أن يشعر بالحرية، وإن كان لا يستطيع أن يشعر بالكرامة. لم يخشَ أن يعيره أحد أن أمه تركت البيت لتعود راقصةً مرة أخرى فما داموا قد عرفوا أنها راقصة فكل شيء هين بعد ذلك، فليس هناك أي بأس أن تتكسر النصال على النصال، وقد عرف المهانة في أبشع صورها ولم تعد مهانة تخيفه بعد ذلك.

عجيبة هذه الحياة لقد خيل لفرغلي يوم أعلن عليه أمر أمه في المدرسة أن أعمدة الحياة قد تهاوت، وأن الحياة لا تستحق أن يحيياها، بل طالما تمنى أن تنخسف به الأرض فلا يبقى منه في الوجود شيء، ولا حتى ذكرى في قلب أبيه أو في نبض أمه، بل إنه كان يتمنى أن ينمحي هذان الاثنان بالذات. وكراهيته لأبيه كانت أشد من كراهيته لأمه، فهو لا يعلم لماذا أصبحت أمه راقصة ويقدر أنها ربما فرض عليها هذا الطريق فرضًا ولم تختره، أما أبوه فهو وحده الذي اختار أمه تلك من بين نساء العالمين وجعل منها أمًّا له. ولكنه مع الأيام تعود المهانة ثم هو بقدرةٍ إلهيةٍ عجيبة استشعر من هذه المهانة قوة فلم يعد يخشى شيئًا مما يخشاه التلاميذ. إنه ينجح في المدرسة لا لينال الشرف فهو يعلم أنه لا سبيل له إلى هذا الشرف أبدًا، ثم هو ينجح لأنه لا يجد سببًا يسقط من أجله وإنما كان يقول لنفسه إنه يكفيه سقوط أهله فلا داعي لأن يسقط هو نفسه أيضًا. أصبحت هذه المهانة مصلًا في دمائه يحميه من الشعور بمهانةٍ أخرى. لا بأس عليه أن يشتم المدرسون والتلاميذ أمه وأباه، طظ، وماذا في هذا؟ إنه هو نفسه يتمنى أن يشتم أمه وأباه. لا بأس أن يحتقروه بل لا بأس أن يحتقره الفراشون، لا بأس لا بأس، لا بأس بأي شيء، فكل شيء مقبول ومحتمل والإنسان أقوى ما يكون إذا وطن نفسه على قبول كل إهانة، وليس يهم من قريب أو بعيد أن يكتسب هذه القوة من العزة والكبرياء أم من الذلة والمهانة ما دام الطريق من أعلى الجبل والطريق من سفحه يلتقيان عند مكانٍ واحد من الجبل حصين.

وهكذا وجد في ترك أمه للبيت خيرًا، وإن كان هو سيقوم بغسل الهدمات القليلة فلا ضير في ذلك عليه، فقد تعود أن يغسل كل شيء في المقهى. أما الطعام فقد كان يأكله خارج البيت أغلب الأمر، فهو يشتري نصف رغيف أو رغيفًا في الصباح ليكون فطوره، وكان يتناول غداءه في المدرسة، فقد كانت المدارس في هذه الأيام تقدم طعام الغداء، وكان يتعشى بالمقهى، وعلى أبيه أن يبحث عن وسيلة لإطعام نفسه فإن هذا أمر لا يعنيه في شيء.

لأمه أن تذهب من هذه الدنيا حينما تريد، وكلما ابتعدت عنه ازداد هو شعورًا بالأمان. أمرٌ واحد كان يشغله ولكن ما أقل ما كان يشغله لقد خشي أن يجدد هرب أمه زياط التلاميذ حوله ويذكرهم بما نسوه من أمره، فهرب أمه عُرف في القرية جميعها في ساعاتٍ معدودات وللقرية في المدرسة تلاميذ، والتلاميذ شأنهم شأن قريتهم بل شأن الناس أجمعين يحبون أن يلقوا الأنباء إلى من لا يعرفها أو حتى لمن يعرفها ليروا هذه الدهشة التي قد لا تبقى على الوجوه أكثر من هنيهة، ولكن هكذا الناس يحبون أن يروا هذه الهنيهة وإن كان الخبر يحطم قومًا آخرين ويدمرهم ويجعلهم جذاذًا ورمادًا منسحقًا وهباءً وعدمًا. لا يهم … المهم هو هذه الهنيهة البلهاء وهذا الإدهاش ثم التعليق.

كان هذا ما يخشاه فرغلي، ولكن أمر الناس عجيب، لقد انتقل الخبر إلى المدرسة وذاع بين أرجائها وشاع ولكن التلاميذ الذين داسوه كحشرة يوم عرفوا أن أمه كانت راقصة؛ التفوا حوله هذه المرة يواسونه في عطف وحب واشفاق بل في حساسيةٍ رقيقة عجيب أن تصدر ممن هم في مثل أعمارهم. لم يذكروا عن هرب أمه شيئًا وإنما كل ما فعلوه أن جماعاتهم كانت تناديه ليشاركهم اللعب أو يشاركهم الحديث.

والعجيب الأعجب أن أبناء قريته أصبحوا يزورونه دائمًا في المقهى بعد الفراغ من المدرسة، ويصرون أن يذاكر معهم إذا عاد إلى القرية ويلازمونه أو يرغمونه على أن يلازمهم في أيام الجمع والإجازات.

من يستطيع أن يحلل هذا المجتمع؟ كيف يرفض ابنًا لراقصة سابقة؟ ويقبل هذا الابن نفسه حين تصبح أمه راقصة عاملة؟ ترى هل بُعدها عن البيت هو الذي صنع هذا التناقض؟ أم شعورهم بأن الابن أصبح من غير أم؟ أم هو مجتمعٌ هوائي يميل حين يميل ويشيح حين يشيح بغير منطق في الميل أو الإشاحة؟ كابن عمار الذي يذكره البيت الشهير يعطي ويمنع بخطرات من هواجسه لا عن بخل ولا عن كرم.

عجب فرغلي واستقبل حياته هذه الجديدة وسرعان ما نعم بها ولكنه مع ذلك مطلقًا لم ينسَ أنه يتلقى الصداقة عن شفقة لا عن حب، وأنها تكال له بمكيال المهانة لا بمكيال المساواة. لم تكن نفسه من هذه النفوس التي تنسى فهو يستقبل هذه المشاعر الجديدة في استسلام لها، ولكنه في العميق العميق من دخائله لا يُكنُّ لكل هؤلاء الأصدقاء الجدد إلا الكراهية والحقد الدفين المستعر.

٥

البحث عن كرامة

كان فهيم أيام كانت زوجته في بيته ينتهي من عمله ثم يذهب من فوره إلى البيت مقدرًا أنها وحيدة ظانًّا أنه يؤنس هذه الوحدة التي تعانيها.

فحين تركت تحية البيت ظل أيامًا يعود إلى البيت فيجد نفسه منفردًا فيه؛ فابنه فرغلي لا يعود إلا في الساعات الأولى من الليل ليذاكر ثم لينام. وحتى إذا وجد فرغلي فليس هناك من حديث بينه وبين فرغلي. إن فرغلي بالنسبة إليه كتلةٌ صماء لا ترسل ولا تستقبل وهو لا يدري من أمره شيئًا أو يكاد.

ولكن الوحدة جعلته يبحث عن فرغلي في أيام الإجازات. وعرف أنه بالقرية، وتبين لأول مرة أن فرغلي لم يذهب إلى القرية إلا بعد أن تركت أمه البيت، ودهش لهذه الحقيقة، وأعمل فيها فكره، ولم يستطع أن يتصور أن زملاء فرغلي ولداته كانوا يرفضون صحبته وأمه ست في بيتها وقبلوا هذه الصحبة وأمه راقصة في الموالد، ولكنه على كل حال وجد مهربًا من وحدته. لماذا لا يذهب هو أيضًا إلى القرية، ويجلس على مصطبة الحاج هنداوي، فقد طالما جلس إليها؟

واستقبله الرجال استقبالًا طيبًا فهو وإن كان قد انقطع عن مجالستهم إلا أنهم هم لم ينقطعوا عنه، فجميعهم كان يأتي إلى المحطة لشأن أو لآخر.

وفي الرجال غلظة قد لا تكون عند الصغار أو إن شئت الدقة في التعبير؛ فإن القسوة عند الرجال تختلف عن القسوة عند الصغار، فما كان الرجال مثلًا ليصنعوا ما صنعه الأطفال بفرغلي حين عرفوا أن أمه كانت راقصة، ولكن الصغار أيضًا لم يصنعوا مع فرغلي ما صنعه الرجال بفهيم.

– فرحنا لك والله يا فهيم.

– وفيم الفرح يا حاج هنداوي.

– لقد أسأت الاختيار من أول الأمر.

– قسمة.

وقال آخر: ولكنك تبدو حزينًا.

– العشرة لا تهون إلا على ابن الحرام.

وقال آخر: والله ما ابن حرام إلا هي؛ التي جعلتَ منها ستًّا وأمًّا لابنك ثم تركتك.

وقال آخر: في ستين داهية.

وقال فهيم: أنا الغلطان؛ تزوجتها وأنا لا أعرف عن أصلها شيئًا.

وقال آخر: وهل لمن ترقص في الموالد أصل، لا بد أن أمها كانت مثلها.

وقال آخر: ولا بد أن أباها ديوث يلم النقطة على زوجته وابنته.

وقال فهيم: كانت تقول إن أباها عمدة ولكنها كانت غاوية الرقص.

– وصدقتها؟

– لم أفكر في تصديقها أو تكذيبها.

– لو كان ما تقوله صحيحًا، وهو طبعًا غير صحيح، لكان عليك أن تفارقها قبل أن تأتي لك بفرغلي، إن من تترك بيت العمدة لتعمل راقصة ستترك حتمًا بيت العَدَل لتعود إلى الرقص.

– في أول الأمر لم أكن أفكر إلا في الزواج بها.

– المهم، ماذا تنوي أن تعمل؟

– العمل عمل ربنا.

– أيبقى بيتك بغير «مَرَة» تنظفه لك وتطبخ أكلك وتليِّف ظهرك.

– والولد!

– ماله؟

– تكون له زوجة أب؟

– وهل هو أول ولد له زوجة أب؟

– أتعرف لي أحدًا يا حاج هنداوي؟

– واشمعنا تسألني أنا؟! على كل حال النسوان على قفا من يشيل.

وقال آخر: طبعًا أنت يلزمك عَزبة.

– طبعًا، وهل يمكن لمن هو في سني أن يتزوج بكرًا؟

وقال آخر: من ناحية السن يمكن، إنما البكر كما تعلم تحتاج مهرًا كبيرًا.

– ونحن مالنا ولهن … نتكلم عن العزباوات أحسن.

– تعجبني.

– الحقيقة يا متولي إني أريد أن أتزوج بأسرع ما يمكن.

– عجيبة! كنت من دقيقة تقول الولد وزوجة الأب!

– كلام تعودنا نسمعه على من يُعرَض عليه الزواج وهو أب، قلته كما يقوله الناس. يا سلام يا متولي لازم تحاسبني على كل كلمة!

– المقصود.

– المقصود أن أتزوَّج بأسرع ما يمكن حتى تعرف بنت الكلب أنني أقدر أتزوج ست ستِّها.

– وأنا عندي طلبك.

– صحيح؟ من؟

– شهاوي بنت سليمان أبو منصور.

وقال هنداوي: ناصح والله يا متولي.

وقال فهيم: ونعم ما اخترت بنت منكسرة، ولا تقول العيب.

– وليس عندها إلا ولد واحد وهو كبير، ويروح المدرسة فلن يضايقك.

وقال فهيم: زوجها الله يرحمه كان صاحبي.

– ماذا قلت؟

– نتوكل على الله.

•••

لم يكن هذا الزواج ذا أثر على فرغلي إلا أنه أعفاه من غسل هدومه، فهو لم يكن يلم بالبيت إلا لينام أو ليذاكر ووجود امرأة أو عدم وجودها أمر ليس ذا أثر عنده. وهو لا يهمه أن يكون أبوه مستريحًا أو غير مستريح، فالهوَّة التي تفصل بينه وبين أبيه أكبر من تلك التي تفصل بينه وبين الحياة.

ولكنه في خبثٍ شديد اتخذ من وجود هذه المرأة في البيت وسيلة لينفذ أمرًا كان يتوق إليه منذ سنوات، ولكن لم يكن يجرؤ أن يهمس به إلى نفسه وإنما كان يكبته في بئرٍ عميق تعوَّد أن يلقي فيها بآمال وأحلامٍ كثيرة يعلم أنها قد تكون مستحيلة، ولكنه في نفس الوقت مصمم على تنفيذها.

في نفس اليوم الذي حصل فيه على شهادة الابتدائية علم أن زوجة أبيه حامل، وترك أباه يفرح بخبر زوجته، ولم يشأ أن يخبره أنه حصل على الشهادة. لقد بخل على أبيه أن يعرف خبرَين مفرحَين في يومٍ واحد، فهو مع كراهيته لأبيه يعلم أن أباه يحب أن يتفاخر بنجاحه بين صحبه وإخوانه.

في اليوم التالي أيقظه أبوه من الفجر: فرغلي.

– نعم يا آبا.

– نتيجة الابتدائية ظهرت البارحة.

– نعم أعرف.

– وأنت هل سقطت؟

– لا.

– لا … لا ماذا؟

– أنا نجحت.

– ماذا تقول؟

– نجحت.

– ولماذا لم تخبرني؟

– كنتَ مشغولًا بخالتي شهاوي.

– وهل يمنع هذا أن تخبرني بنجاحك؟! النهاية … هات قبلة وخذ خمسين قرشًا مكافأةً لك.

– كثر خيرك.

– واغسل وشك وتعال …

– حاضر.

•••

– ماذا تنوي أن تعمل؟

– فيم؟

– كثيرون يستطيعون أن يتعيَّنوا بالابتدائية.

– تعيين أغبر.

– فأنت تريد أن تكمل؟

– نعم.

– توكلنا على الله.

– لن أكلفك شيئًا.

– كيف؟

– وهل كنت أكلفك شيئًا؟ ألم أكن أعمل؟

– أنت تعرف أن الحمل سيكون ثقيلًا فأنا الآن أنفق على سيد أحمد ابن شهاوي كما سأنفق على المولود الجديد.

– يا آبا لا تخف لن أكلفك شيئًا.

– على كل حال أنا اتفقت أن أبيع هذا البيت.

– ماذا؟! وأين نعيش؟

– في بيتنا في البلد؛ ليس هناك داعٍ أن يكون لنا بيتان.

– ولكني أريد شيئًا آخر.

– ماذا؟

– أريد أن أذهب إلى مصر.

– إلى مصر! ماذا تعمل هناك؟

– أتعلَّم في مدارس مصر وأعيش مع عمتي تفيدة.

وصمت فهيم وحملق في ابنه … الفكرة حسنة من كل الوجوه، فتفيدة تحبه وحالتها المالية منتعشة بمرتب زوجها وبما يعطيه لها أبناؤها من معونة، فأحدهما طبيب والآخر مهندس، وهما وإن كانا في أول حياتهما إلا أنهما يستطيعان دائمًا أن يبرَّا أمهما وأباهما، ولكن!

– الفكرة لا بأس بها والله يا فرغلي.

– إذن فأنت موافق.

– ولكن ألم تلاحظ شيئًا؟

– ماذا؟ أولاد عمتك ممدوح ويحيى لم يزرني أحدٌ منهما أبدًا ولا حتى حسين … منذ تزو …

– أكمل يا أبي … نعم منذ تزوجتَ أمي لم يزرك أحد منهم. لهم حق؛ ولماذا يزور ناس محترمون مثلهم بيتًا الست فيه رقاصة؟

– اخرس لا تقل هذا عن أمك.

– أمي! الأم يا آبا لا تترك ابنها.

– اخرس.

– حفظتُ بيتًا في المحفوظات.

– تكلمني بالشعر؟

– حفظته بعد أن تركتْنا زوجتك بأيام قليلة.

– ترفض أن تقول أمي.

– البيت لشاعر عربي يعتبر أعظم الشعراء، وربما سمعت عنه اسمه المتنبي.

– لا يهم.

– البيت يقول:

إذا ترحَّلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون همُ

فهمت يا آبا.

– لا.

– أحسن، فالحال معنا مقلوب، وهي التي رحلت، وليس نحن، ولكن تعرف يا آبا إن ذهاب أمي أحسن شيء عملته في حياتها لتصلح ما عملتَه أنت. المهم أريد أن أروح لعمتي.

– افرض أنها رفضت.

– لا يهم.

– أخاف أن تخجل وتنكسف.

– ليس هناك شيء أصبح يخجلني أو يكسفني.

– لماذا؟

– أنت فرضت عليَّ هذا.

– أنا؟

– ألست أنت من اختار لي أمي؟

– اخرس.

– لقد قلت ما أريد، وليس يهمني أن أخرس الآن. أنا ذاهب إلى عمتي تفيدة، ولا تنسَ أنها هي لم تنقطع عن زيارتنا مطلقًا.

– ألا تنتظر على الأقل حتى تنتهي الإجازة؟

– لا يجوز لمثلي أن تكون له إجازة.

– ماذا تعني؟

– أعني أنني يجب أن أذهب من الآن حتى أبحث عن عمل أعيش منه.

– عمل؟

– نعم.

– مثل ماذا؟

– مثل قاهٍ في مقهى، أو فراش في شركة، أو ماسح أحذية … أي شيء.

– تكون حامل ابتدائية وتعمل ماسح أحذية!

– أنا لا أحمل الابتدائية وحدها، ولكني أحمل معها رقص أمي وفقر أبي! ألم أقل لك إن شيئًا في الوجود لا يستطيع أن يكسفني.

– أعوذ بالله! هل أنت بني آدم أنت؟

– أنا البنى آدم الذي صنعته أنت يا آبا.

– اذهب حيث تشاء.

– أنا فعلًا ذاهب.

– غدًا.

– بل اليوم.

وهكذا لم يتح لفرغلي أن يكون واحدًا من القرية مطلقًا، فقد عاش طفولته الأولى فصيلةً واحدة لا يخالط أحدًا، وحين عرف السبب أصبح يتمنى أن يزداد انعزالًا حتى إذا قبله مجتمع القرية لم يدم هذا القبول أكثر من شهور، كان اجتماعه فيها بأبناء قريته لساعات نادرة لا تكاد تحصى، فحين أذن القدر أن يصبح بيتهم من بيوت القرية وتتمازج أسرته مع أسراتها في هذا النسيج البشري الذي يعرفه الناس كل الناس في كل القرى؛ فصل هو نفسه عن هذا النسيج ليذهب إلى القاهرة هناك حيث كل بيت نسيج وحده لا تلتحم خيوطه مع أنسجة البيوت الأخرى، فقد أصبحت القاهرة منذ ذلك الحين تمثل المجتمع الذي لا يجتمع فأبناء العمارة الواحدة قد لا يتعارفون فكيف بأبناء الشارع أو أبناء الحارة، وإن تعارفوا فزيارة تجيبها زيارة ليس في القاهرة هذا المجتمع الذي تتداخل الخيوط فيه لتكون ثوبًا واحدًا هو القرية المصرية.

في القرية كل إنسان جزء من كل إنسان. في المدينة الإنسان له حدوده ومعالمه الواضحة؛ البيئة المساحة بلا تمازج ولا مشاركة إلا إذا ائتلف صديقان أو الْتأم بضعة أفراد، ولكن هذا الائتلاف أو ذلك التآخي يكون وليد وحدة مشاعر أو وحدة تفكير وكثيرًا، بل كثيرًا جدًّا، ما يكون وحدة منفعة وليس من أثر لوحدة المكان مطلقًا في هذه الصلات.

وفرغلي وهو في طريقه إلى القاهرة لم يكن ينوي أن يقيم صلات أو ينسج علاقات، وإنما كان ذاهبًا وهو يعرف تمامًا إلى أين هو ذاهب ولماذا وكيف؟

بل كان يعلم أنه يستطيع أن يصل إلى الهدف أو الأهداف التي يتغيَّاها ويعرف إليها بدلًا من الوسيلة عدة وسائل. وكان مطمئنًا أنه يملك شيئًا لا يملكه إلا القلة النادرة من الناس أن أمه راقصة ومن كانت أمه راقصة في المجتمع المصري فهو يملك شيئَين لا يتاحان لغيره.

يستطيع أن يلحَّ وأن يقبِّل أي حذاء وأن يضع رأسه حيث تأنف الأحذية أن تضع نفسها هذه واحدة، وأما الأخرى أن الناس لن يستغربوا هذا منه إذا عرفوا أنه ابن راقصة، وأنهم يحبون من يجعل منهم آلهة، ومن أكثر مقدرة من ابن الراقصة على أن يجعل عباد الله آلهة؟!

إنه عملةٌ نادرة يحب كثير، وكثير جدًّا، من الناس أن تكون في حوزتهم.

٦

وحيد في الزحام

كان استقبال عمته له ترحابًا وسرورًا، الأمر الذي لم يكن يتوقعه بل الأمر الذي لا يتوقعه من أحد؛ فقد كان يعتقد أنه لن يكون موضع ترحاب أبدًا. إنه لم يسمع هذه اﻟ «أهلًا» الممتدة التي يحمل امتدادها الشوق والسرور برؤية القادم موجهة إليه منذ وعى الأشياء وعرف ذهنه معنى المقارنة. كان يسمع هذه اﻟ «أهلًا» بين التلاميذ بعضهم وبعض أحيانًا وكان يشهدها من صديق في المقهى إلى صديق آخر، وربما كان افتراقهما لم يمضِ عليه أكثر من سحابة نهار، وكان يراها في القرية من حين إلى آخر. أما اﻟ «أهلًا» الموجهة إليه فقد كانت إما مقتضبةً قصيرة لا تحمل السخرية ولا تحمل أيضًا السعادة برؤيته، وكانت تلك خير أهلًا يقابَل بها، أما اﻟ «أهلًا» التي تعودها، ولم يعد يضيق بها من كثرة ما تعوَّدها فهي تلك التي يلحق بها كلمة يا سيدي، تحمل في نغماتها إما الضيق أو الاحتقار أو هي تحمل في خير حالتها معنى الواجب الذي يقوم به من يقوم به كصدقة أو زكاة واجبة لا يستطيع منها فرارًا.

أما عمته فاستقبلته بهذه اﻟ «أهلًا» المرحبة، وزاد من فرحه بها أن عمته كانت تعلم أنه قادم ليقيم معها، فقد أرسل إليها خطابًا قبل أن يفاتح أباه وأجاب عنها زوجها بالموافقة والترحيب، فهي إذن ليست أهلًا عفوية تستقبل بها ابن أخيها الذي «طبَّ» عليها فجأة بدون إنذار، والذي تتوقع إقامته ليوم أو بعض يوم، هي تعلم أنه قادم قدوم إقامة لا نزوح، وبقاء لا زيارة. فهذه اﻟ «أهلًا» إذن أهلًا واعية تدري تمامًا معنى مجيئه، ومع ذلك فهي طويلة مرحِّبة فيها سعادة وفيها فرح.

وحين جاء زوج عمته حسين أفندي تكرر الترحاب بصورة ربما كان فيها كثير من المبالغة، أو هكذا تخيل فرغلي على الأقل.

وحين نزل إلى القاهرة أصابته تلك الرعشة التي تصيب أمثاله من الزاحفين إلى زحام القاهرة من حقول الريف. هذا التركيب الهندسي والبشري ووسائل المواصلات المتقاطرة هذه تبدو له جميعًا عالمًا بغير معالم، كناظر لقادم عليه والشمس في عينَيه لا يتبين الوجوه وإنما يتبيَّن الشخوص، بل إنها تمثلت في ذهنه كصور الشخوص عند إنسان وُلد أعمى فهو يتخيلها ولكنه لا يستطيع أن يتمثلها أو يتصورها. كانت الشخوص تمر أمامه كأنهار أفكار يزحم بعضها بعضًا؛ فلا تتميز فكرة عن فكرة، ولا تتحدد معالم شخص بذاته، إنما كلهم يزاحم الحياة ويرتضيها وكأن سياطًا من الزمان تلهب حياتهم.

تلك هي الدار الجديدة، مسبحه الذي ينوي أن يغوص فيه ويصبح — على الأقل في أول الأمر — مثل واحد من هؤلاء، ثم حين يمكِّن أقدامه من الأرض الجديدة لا بد أن يُخرج من بئر الآمال والنوايا محتوياته. ولكن هل ستتيح له هذه الأرض الخالية من الطين والتي لا تعرف المحراث، والتي استوى سطحها وأصبح ناعمًا أن يمكِّن أقدامه فيها.

إن له أظافرَ حادةً سنَّها على مسنِّ الكرامة الضائعة، وهو واثق أنها أقوى من أي أظافرَ أخرى تكسوها العزة أو يكسوها الغنى أو يمسك بها الخير أو الخوف، غريق هو في بحر اللاكرامة فما خوفه من البلل.

مرت أيام كان يترك فيها بيت عمته من الصباح الباكر بعد أن يخبرها أنه لن يأتي إلا في المساء، وينزل إلى المدينة ومعه هذه الجنيهات التي استطاع أن يدخرها من عمله بالمقهى، وكانت تمده بنوع من الطمأنينة على قلَّتها، فهو لن يحتاج لغير قروش فهو يركب أي ترام يصادفه ويتركه يمضي به لا يتغيَّا غايةً محددة، وإنما يهدف إلى هدفٍ كليٍّ واسعٍ ضخم، إنه يريد أن يبتلع في ذهنه وفي كيانه هذه المدينة التي تبتلع مَن فيها.

وما أسرع ما تبين في هذه الأيام أنه هنا هباءة لا يراها أحد ولا يُعنى أحد أن يراها! إنه هنا كيانٌ آخر غير الكيان الذي عرفه لنفسه في القرية أو المدرسة أو حتى المركز، كان في القرية محتقَرًا، ومعنى هذا الاحتقار أن زملاءه يحسُّون بوجوده ويحتقرونه ويأنفون أن يشاركهم في اللعب، حتى إذا تركته أمه قبلوه معهم، فهم على الحالَين يحسون به ويدركون وجوده ولينفوه عن مجتمعهم أو يقبلوه، لا يهم.

وكذلك كان شأنه في المدرسة، فكل تلميذ في المدرسة يعلم أن بينهم تلميذًا أمه راقصة والقدامى يُبلغون الجدد.

وليحتقره منهم من يحتقره وليشفق من يشفق وليرفضه من يشاء أن يرفضه، ولكنه على أية حال من هذه الأحوال موجود عند تلاميذ المدرسة أجمعين.

وكذلك كان شأنه في المقهى؛ يحسون بوجوده حين يوجد وبغيابه حين يغيب.

ولكن هذه القاهرة العريضة لم يشعر إنسان فيها أن فرغلي قدم إليها من الديميرية إلا عمته وزوج عمته، أما كل هؤلاء فلا يدرون من أمره شيئًا، وهم أيضًا لا يدرون أنه ابن تحية الراقصة التي تعمل حاليًّا في الموالد والأفراح.

موقفٌ جديد لم يتعود عليه، ولم يدرِ أسعيد هو به أم غير سعيد. لعله كان أكثر استمتاعًا بمشاعره في القرية أن المجتمع يحس به، ويعلم بوجوده حتى وإن صاحب هذا الإحساس وذلك العلم احتقار أو إشفاق أو إذلال.

لعله يحس الآن أن إهمال شأنه أشد وقعًا على نفسه من المهانة، ولكنه مع الأيام أدرك شيئًا لم يكن قد أدركه، أن أبناء القاهرة جميعًا لا يحس أحد منهم بالآخر؛ فكل إنسان في القاهرة عالمٌ قائم بذاته، وحين وصل إلى هذا الإدراك أحسَّ راحة وهدوءًا، وحين ألقى نظرة إلى المستقبل داخله الرضا فما يلبث أن يكون قريبًا عالمًا هو أيضًا بذاته له أصدقاؤه وله محيطه من زملائه التلاميذ أو من في العمل يحادثهم ويحادثونه، ويظل كل منهم مستقلًّا عن الآخر بآماله وطموحه ومسالك حياته ودروب مستقبله.

جلس إلى عمه حسين.

– عمي أنا تفرجت على مصر.

– كلها؟

– أغلبها.

– وأعجبتك؟

– لا أستطيع أن أحكم الآن.

– ومتى تحكم؟

– لا عجلة؛ فأنا باقٍ بها سواء أعجبتني أم لم … ولكن!

– ولكن؟

– أريد أن أعمل.

– ماذا تريد أن تعمل؟

– كنت أعمل في مقهى بالمركز.

– ولكن هذا عمل لا يليق هنا.

– بالعكس، في المركز كانوا يعرفونني ومع ذلك لم أجد غضاضة في أن أعمل بالمقهى.

– لأنهم هناك يعرفونك لا غضاضة، أما هنا فهم لا يعرفونك ولا يعرفون شيئًا عن … عنك، وسيكون عنوانك الوحيد أمامهم جرسونًا في مقهى.

– ابن الكلب يشير إلى أمي مرةً أخرى! طبعًا سأجدها أمامي دائمًا وهل في هذا شك.

– ليس من الضروري أن يكون المقهى قريبًا من بيت حضرتك؛ في أي مكان غير المنيرة والسيدة.

– اسمع! أتريد أن تعمل أي عمل أم لا بد أن يكون عملك في مقهى؟

– أي عمل طبعًا.

– اترك هذه المسألة لي.

– بعد الظهر طبعًا.

– يا سلام يا سي فرغلي! وهل أحتاج إلى ذكر هذا؟ أتظنني أرضى أن أجعلك تترك المدرسة من أجل العمل؟

– ربنا يبقيك لنا يا عمي حسين أفندي ويطيل عمرك.

•••

لم ينجز حسين أفندي وعده سريعًا، ومرت الأيام وأدرك فرغلي أخيرًا وبكثير من المرارة الحقيقة التي كانت خافية عليه وراء الترحيب الذي استقبله من عمته وزوج عمته. لقد كان الزوجان منفردَين في المنزل وقد خلا بهما بعد أن تزوج ولداهما المهندس المعماري ممدوح والطبيب الباطني يحيى. لم يكن مرتب حسين أفندي يتيح له أن يستأجر خادمة إلا إذا كانت طفلةً صغيرة سرعان ما تترك البيت ضيقًا بكثرة العمل وضآلة المرتب، فكان فرغلي يستطيع دائمًا أن يوفر على عمته البحث عن بواب ليشتري لها لوازم البيت ولا بأس أيضًا أن يعاونها في عمل البيت ما استطاع إلى ذلك من سبيل.

وبنفس تعوَّدت أن تقبل كل شيء أصبح فرغلي هو المسئول الرسمي عن شراء الأطعمة وغيرها من الأسواق، وحتى إذا وجدت الخادمة الصغيرة فهو الذي يقوم بهذا العمل، ولم يجد في ذلك ما يضيق به، بل لعلَّه أحسَّ بشعور من الراحة حين حاول أن يتعمَّقه، عندما تقدمت به الأيام أدرك أنه كان يريد أن يحس أن بقاءه ليس صدقة وأنه هو يقدم شيئًا ذا فائدة في البيت الذي يؤويه.

وحين بدأ العام الدراسي بدأ يذهب إلى مدرسة الخديوي إسماعيل القريبة كل القرب من حارة البابلي التي تسكن فيها عمته، فلم يكن شراء ما يلزم للبيت يكلفه أكثر من يقظةٍ مبكرة بعض الشيء.

ولكن إهمال حسين أفندي لمطلبه أسخطه غاية السخط، وخُيل إليه أنه يريد أن يستصفيه لعمل البيت في الصباح والمساء، وقدر فرغلي أنه بذلك يكون ما يقدمه من خدمة أكثر كثيرًا مما يناله من أجر. فقد كان يتناول غداءه بالمدرسة فلم يكن يكلف عمته إلا لقمة وقطعة من الجبن والحلاوة في الصباح ومثلها في المساء إلى جانب المبيت ولا يساوي هذا أن يكون خادمًا لليوم كله. ولكنه أدرك على كل حال أن عمه حسين لن يحاول أن يجد له عملًا حتى لا يخسر فيه الخادم الذي يقوم بطلبات البيت.

وفي صمت راح هو يبحث في السيدة زينب وفي شارع خيرت عن مكان يمكن أن يعمل به بعد الظهر، فهو يعلم أن أباه لن يقدم له إلا مصاريف المدرسة التي تجهده جهدًا شديدًا.

فكر أول ما فكر أن يعمل في مقهًى، ولكنه خشي أن يلمحه بالمقهى تلميذ ممن يعرفونه بالمدرسة، والمقهى عملٌ علني لا سبيل فيه إلى الاستخفاء. وفكر ولكنه سخر من نفسه وهو يفكر، إنما يفكر من يملك الاختيار وهو لا يزيد عن سلعة تعرض نفسها على من يقبلها دون حتى أن تملك المساومة في السعر. إنه سلعة لا تختلف عن الشيء الذي يُجرى عليه البيع والشراء إلا أنه هو الذي يبيع نفسه، بل هو في الحقيقة أحطُّ من ذلك إنما هي الحاجة التي تبيعه، ولا يملك لسيطرتها بها دفعًا ولا لأمرها مناقشة.

والعجيب أو ربما لم يكن عجيبًا أن يشعر بالتحرر وهو يبحث عن وظيفة يصيب منها بعض المال، هذه الحرية التي يحسُّ أنه ينعم بها وحده دون سائر الناس، إنه لا يملك شيئًا يضيعه، وربما ضاق بعض الشيء حين ثناه عن عمل القاهي خوفه أن يراه تلميذٌ زميل له؛ فهم في مدرسة الخديوي إسماعيل لا يعرفون أنه ابن راقصة موالد، وربما استطاعت الظروف أن تخفي عنهم هذه الحقيقة إلى أن يترك المدرسة. على أية حال كان بحثه عن الوظيفة يشغله عن كل شيء، وقد استطاع اهتمامه أن يجعل جوبه للقاهرة من أقصاها إلى أقصاها أمرًا له مبرره بعد أن كان يجوبها للتعرف عليها فقط.

وكان ينزل إلى الحي فيمشي في شوارعه على غير هدًى حتى إذا وجد مقهى جلس إليها وحاول أن يتقرب إلى القاهي بوسيلة أو بأخرى حتى إذا أحس أن الأنظار بدأت تلتفت إليه قام وراح يضرب في طرقات الحي.

ولم يستطع انشغاله هذا أن يبتعد به عن توقع قيام الحرب العالمية حتى إذا أُعلنت الحرب لم تأخذه على غرة، ولكن الحرب لم تكن ذات أثر في القاهرة أول الأمر ولم يفرض الإظلام على القاهرة فور قيام الحرب، ولكن الأمر كان منتظرًا بين يوم وآخر.

واستطاعت الحرب أن تدير بين الناس حديثًا لا ينتهي، وكانت المفاجآت الحربية التي تحدث تجعل الناس في مصر يشعرون أنهم في حفلة سينمائية لفيلم لا نهاية له ولا معنى له أيضًا. وكطبيعة الشعب المصري كان لا بد أن يتحمس لفريق من الفريقَين وكانت الأغلبية العظمى ضد بريطانيا ولا أقول مع ألمانيا، فهم يكرهون الإنجليز ويحبون كل من يصيبهم بالضرر والأذى، ولا شأن لهم بعواقب انتصار المحور إنما يهمهم أولًا أن تُهزم إنجلترا. وكان المصريون يحسبون أن مجرد هزيمة إنجلترا في ذاتها غاية لا وسيلة للحرية، وكانوا يقدرون أنهم يستطيعون أن ينالوا الحرية من هتلر ما دام ليس إنجليزيًّا، وهكذا كان الشعور ضد إنجلترا جارفًا ماحقًا.

ولكن فرغلي لم يكن يفكر في إنجلترا ولا في هتلر، وإنما هو يسمع من السامعين ويوافق المتحدث إليه في كل رأي، فما كان يحسُّ أن مصر هذه تعنيه في شيء، فهو لا يعرف معنى الانتماء لمصر؛ لأنه لم يعرف معنى الانتماء الأصغر لأبيه أو لأمه فليس غريبًا ألا يعرف معنى الانتماء الأكبر، لقد عاش لا ينتمي إلا لنفسه.

ولهذا لم يكن عجيبًا بل كان من الطبيعي جدًّا أن يرمي الحرب وراءه، لا يفكر فيها، باحثًا لنفسه عن عمل، أي عمل.

ولم يكن عمه حسين غافلًا تغيبه عن البيت كل يوم، بل إنه أيضًا لم يغفل أن هذا التغيب لم يكن عبثًا فقد كان يدري أن فرغلي ليس من الناس الذين يألفون ويؤلفون، فلم تكن عنده خلجة شك أن فرغلي كان يبحث عن العمل. وحين مرت فترةٌ طويلة دون أن يصيب اليأس فرغلي أدرك حسين أنه لا بد له أن ينجز وعده، وقد كان يستطيع أن ينجزه منذ وعده به، ولكن زوجته أثنته عن ذلك رغبة منها أن يظل فرغلي خاليًا لأعمال البيت، ولكنه بعد هذه الفترة.

– هيه يا تفيدة ألا ترين أنه من الأفضل أن أجد أنا العمل لفرغلي؟

– ما تشوفه.

– إننا بهذا سنجعله يشعر بالجميل ويظل عندنا بدلًا من أن يجد عملًا في مكان بعيد، ونفقده ولا نجد أحدًا يساعدك مجانًا في شغل البيت.

– معقول، وخصوصًا أنه لا يكلفنا شيئًا فهو يتغدى دائمًا بالمدرسة.

– على بركة الله.

كان لحسين أفندي أصدقاء كثيرون من كثرة ما مر به من أيام. وقد تكون هؤلاء الأصدقاء من شتى نواحٍ في الحياة؛ بعضهم أمدَّته بهم الوظيفة، وبعضهم أمدته بهم القهوة، وبعضهم أمسك به المسجد.

وكان من بين أصدقاء المسجد الشيخ سمهان عبد الغني، وهو رجل يملك مكتبةً دينيةً قريبة من الحرم الزينبي، وقد جمع التدين بين حسين أفندي وبين الشيخ سمهان فقامت بينهما صداقةٌ وطيدة أقرب ما تكون إلى الأخوة، وحين وعد حسين أفندي بإيجاد وظيفة لفرغلي لم يكن يفكر إلا في الشيخ سمهان، وفعلًا لم يخذل سمهان صديقه.

– أين كنت يا سي فرغلي؟

– أتمشى في مصر يا عم حسين أفندي.

– أما زهقت مشيًا؟

– أرحم من البقاء محبوسًا.

– والمذاكرة.

– ألا أنجح دائمًا.

– فعلًا.

– لا تخف على المذاكرة فأنا مصمم على النجاح.

– قل بإذن الله.

– لا بد أن أنجح.

– كله بأمره يا فرغلي.

– أنا أذاكر تمامًا.

– ولكن أخشى إذا اشتغلت بعد الظهر أن تضعف مذاكرتك.

– لا يمكن، أنت تعرف أني لم أسقط مطلقًا.

– أخشى أن يشغلك العمل عن المذاكرة.

– وأين هو العمل يا عم حسين أفندي؟

– موجود.

– حقًّا.

– حقًّا.

وانكبَّ فرغلي على يد حسين أفندي يقبلها، وهمَّ أن يقبل قدمه الحافية المسترخية على الكنبة، ولكن حسين أفندي سارع واحتضنه وأجلسه إلى جانبه.

– أستغفر الله يا بني. ألهذه الدرجة كنت تريد عملًا؟

– وهل كان خروجي ولفِّي في الشوارع إلا من أجل هذا؟

– خلاص يا عم؛ من هنا ورايح لن تحتاج إلى لفٍّ ولا دوران.

– ربنا يطيل عمرك.

– أتعرف المكتبة الإسلامية؟

– طبعًا في جوار جامع السيدة.

– صاحبها صديقي.

•••

حين ذهب فرغلي للقاء الشيخ سمهان رأى فيه رجلًا رقيق الجسم رقيق القسمات ذا لحيةٍ متناثرة الشعر ذات عثنونٍ مدبَّب، يلفُّ على طاقيته عمامةً لها «عدبة» تنسدل على قفاه، في وجهه صدق، وفي سمته طمأنينة، وفي عينَيه هدوء وثقة. ورأى سمهان في وجه فرغلي شابًّا قاسي القسمات في وجهه تصميم، وفي عينَيه إيمان بشيء لا يدريه الشيخ، ولا يعرف كنهه، وأحسَّ الشيخ سمهان أن هذا الفتى يعرف ما يريد، ولكنه لا يعرف الطريق إليه، وأحسَّ أنه يريد أن يعمل معه لأن الفترة التي يمر بها لا تتيح له إلا أن يعمل هذا العمل البسيط، وفي نورانية المؤمنين أحسَّ سمهان أن هذا الفتى النحيف المنفتل كأنه ثوب اعتصرته يد الزمن يريد أن يخرق الأرض بعوده الملولب، ويريد أن يبلغ الجبال طولًا بتلك العزيمة الصلبة المتمثلة في فمه المتشنج، وفي ذقنه المتحدية، وفي أنفه الذي يثب إلى المستقبل كأنما يريد أن يسبق الحياة والزمان.

أحس سمهان من الفتى رهبة، ولكنه لم يجد ما يمنعه أن يُلحقه بالعمل؛ فقد تأكد لديه أن كل ما تراءى له فيه سيجعل منه عاملًا نشيطًا، وبحسبه منه في فترته تلك أن يكون عاملًا نشيطًا. أما ما توحي به مكوناته الأخرى فشأنها به والزمان ولتكن الحرب بينهما ما شاء الله لها أن تكون، فقد كان الشيخ سمهان يتوقع أن رحى هذه الحرب لن تدور إلا بعد أن يتركه الفتى بأيام وشهور وربما بسنين.

وتسلم فرغلي عمله.

٧

هل المكتبة كتب

عالمٌ آخر انفتح أمام فرغلي. ازداد إحساسه بالغربة في هذا الدكان، ارتصَّت على جوانبه كتب لم يتصور أنها تستطيع أن تخلق هذا الجو العجيب من الأسرار، ليس بين هذه الكتب كتابٌ واحد قرأه، وما أقل الكتب التي سمع عنها بينها! لقد دخل مكتبات قبل هذا مراتٍ قليلة فما كان يلتفت إلى أمر هذه الكتب إنما هي لحظات يسأل فيها عن الكتاب الذي جاء من أجله ثم ينصرف، ولكنه اليوم يعيش بين هذه الكتب ساعاتٍ طويلة، وقد انفردت به وانفرد بها، ولم يخطر له على بال أن يمسك كتابًا ليقرأ فيه، وإنما قصارى ما فعله مع بعضها إطلالةٌ عاجلة يقلب فيها الصفحات عشراتٍ عشرات دون ريث من قراءة أو تمهل من تدبر. وقد استغرق أيامًا كثيرة حتى عرف أماكن الكتب التي يكثر شراؤها ليستطيع أن يبيع إذا ما غاب الحاج سمهان عن المكتبة، وما كان يفعل ذلك إلا ليقيم صلاة العصر أو المغرب في مسجد السيدة زينب المجاور للمكتبة ويصلي العشاء بعد أن يقفل المكتبة. وهكذا لم يكن فرغلي محتاجًا أن يعرف مواقع الكتب كلها. والحقيقة أن الحاج سمهان عيَّنه لسببٍ كان خافيًا عنه ولكنه عرفه بعد فترةٍ قصيرة من بقائه في المكتبة.

كان للمكتبة غرفةٌ داخلية لاحظ فرغلي أن الحاج سمهان يستقبل فيها أغلب الأيام بعد صلاة المغرب فتًى في شباب العمر طويل القامة عريض الكتفَين كثَّ اللحية يرتدي الملابس الإفرنجية، عرف فرغلي أن اسمه أمين ثم عرف أن اسمه أمين الشبراوي، وكان دائمًا يأتي بعد صلاة المغرب بفترةٍ قصيرة وما هي إلا مصافحةٌ سريعة ثم يدلف سمهان وصديقه إلى الغرفة الداخلية.

ومع الأيام تأكد فرغلي أن تعيينه كان من أجل هذا اللقاء وحده؛ حتى لا يظن أحد أن المكتبة خالية إذا قصدها في فترة هذا اللقاء الذي لم يكن فرغلي يعرف من أسراره شيئًا. وليس فرغلي بالذي يُعنى في كثير أو قليل بالسبب الذي عُيِّن من أجله. وحسبه أنه وجد هذا المكان الذي لم يكن يطمع أن يجد خيرًا منه.

وهكذا حرص فرغلي ألَّا تقوم بينه وبين أحد من زملائه صداقة فهو يرى أن الصداقة صلةٌ مقيتة تجعل الصديق يتسلل إلى خفايا صديقه فيعرف مَن أبوه ومن أمه، أين ولد، وأين رُبي، ومقدار فقره، وهذه كلها أشياء لا يحب فرغلي أن يعرفها عنه أحد، وهو أيضًا لا يحب أن يعرفها عن أحد لأن النفس بطبيعتها تميل إلى المقارنة. فإذا عرف أصدقاء أصبح حتمًا عليه أن يقارن بينهم وبينه، وهو يجزع من هذه المقارنة لأنه دائمًا سيجد نفسه الخاسر فيها. وأين يجد فتًى أمه راقصة موالد وأبوه عامل، وهو يقيم عند عمته شكلُه ابن أخ وحقيقته خادم بلا أجر ولا يمسُّ القرش يده إلا عن طريق عملٍ إضافي عند رجل يستأجره ليكون ساترًا للعيون. المقارنة قاتلة بالنسبة إليه فهو لا يريد أصدقاء، وقد نجح فرغلي أن يقتل كل صداقة تحاول أن تمدَّ خيوطها بينه وبين غيره من الزملاء، ولكن نجاحه لم يكن كاملًا؛ فالصداقة إن كانت اتفاقًا غير مكتوب في أغلب أمرها إلا أنها كثيرًا ما تفرض فرضًا على أحد طرفَيها حتى لا يستطيع منها فكاكًا أو عنها منصرفًا.

من هذه الصداقات ما تقوم عُمدها على القرابة، وهذه الصداقة قبلها فرغلي غير ساخط وغير راضٍ في وقت معًا. فابنا عمته كثيرًا ما كانا يزوران البيت، فكان لا بد أن يُسلِّما عليه، وقد كان يقبل التحية منهما في امتعاضٍ شديد لا يستطيع أن يُبديَه؛ فقد كان يحسُّ في الكلمات القليلة التي يلقيها إليه كلٌّ منهما الكثير من المعاني تتخفَّى في خبثٍ مقيتٍ مسموم في نغمة الكلام، كان يحسُّ أنهما لم ينسيا شأن أمه، وكان يحس أنهما يحسَّان أن أباهما ينفق عليه لوجه الله، ولو عرف أبناء الكلب هؤلاء أنني لا أكلف أباهما شيئًا لما غيَّر هذا من لهجتهما المتعالية السمجة؛ فقد كان يطيب لهما أن يكون فرغلي في مكان المفضول ويكون أبوهما في مكان المفضل، وأبناء الكلب لا يحبان أباهما ولا يحبان أمهما؛ فقد يمر الشهر وأكثر من الشهر، ولا يزور أحدهما بيت أبويه، ولكنهما مع ذلك كانا يحبان أن يستمتعا بهذا الشعور.

أكانت صداقةً تلك التي تصل بين فرغلي من ناحية وبين ابن عمته الطبيب ممدوح أو ابن عمته الآخر المهندس يحيى؟ هو لا يجد لها اسمًا إنها قرابة مفروضة لا قبل له بالتخلي عنها، وفارق السن بينهما لا يسمح بصداقةٍ حميمة، ولكن فرغلي مع ذلك كان يحس بصلةٍ قوية تربطه بهما. أيمكن أن تكون الكراهية الشديدة صلة أم تراه الحقد أم تراه السخط على نفسه وعلى الحياة أن جعلته مضطرًا أن يقبل تحية هذين الحقيرَين اللذين يظنان أن الحياة خلت من أمثالهما نبوغًا وعبقرية؟ أم تراه حين ينفذ إلى دخيلة كلٍّ منهما، ويرى صورته هناك يراها صورةً زريَّة تحيط بها هالة العار من أمه والفقر من أبيه والذل من مكانه في بيت أبيهما؟ هل هذه الصلة القوية هي واحدة من هذه المشاعر أم هي هذه المشاعر جميعًا؟ ليس يدري وليس يريد أن يدري. هي صلة ولكنها ليست صداقة، أما الصداقة التي فرضت عليه وقبِلَها مضطرًّا، وأظهر أنه قبِلها راغبًا فهي تلك التي قامت بينه وبين نديم الطوبجي.

هو زميله في الفصل وفي الدرج، ولم يكن هذان وحدهما يكفيان أن تقوم الصداقة هي زمالة. وهو قد درب نفسه على الصمت الطويل وهو يصغي للمدرس إذا تكلم لأنه يعلم أن الكلمة إذا عبرت ولم يسمعها فهو لن يسمعها مرةً أخرى. ومن أين؟ هو لا يستطيع أن يستقدم مدرسًا خاصًّا وهو أيضًا لا يستطيع أن يسقط، وهكذا فُرض الصمت التام على نديم أثناء الدراسة حتى لأوشك نديم أن يضيق به ذرعًا لولا أن شهاداته في النجاح كانت تجيء في صورة ترغم على احترام هذا الصمت.

وهكذا استطاع الصمت الذي لا غنى عنه لفرغلي أن يعفيه من صداقة زميله اللصيق له في المكتب، وهكذا كان يمكن أن تظل هذه الصلة زمالة لا تعدوها إلى الصداقة، ولكن الأيام شاءت غير هذا، فقد فوجئ فرغلي وهو جالس في المكتبة بنديم قادمًا إليه مقتحمًا المكتبة اقتحام الباحث عن شيء، وحين رأى فرغلي جالسًا غير واقف فوجئ مرتَين … مرةً لوجود فرغلي في المكتبة ومرةً لجلوسه.

– فرغلي؟!

– نديم؟!

– ماذا تفعل هنا؟

– لا شيء، ماذا تفعل أنت؟

– أريد كتابًا.

– أنت؟

– نعم.

– لك؟

– لأبي.

– أي كتاب تريد؟

– شرح البيضاوي.

– أحضره لك.

– إذن فأنت …

– أنا أعمل هنا بعد الظهر.

– صحيح؟!

– وما الغرابة؟

– لم تقل لي.

– لم تأتِ مناسبة.

– ومن أين تأتي المناسبة؟! لقد فرضت عليَّ الصمت في الفصل، وأنت في الفسحة تذاكر.

– إذا سمحت لك بالكلام ما نجحت.

– والفسحة؟!

– أنا أعمل بعد الظهر ولا بد لي أن أستغل كل دقيقة لأذاكر.

– ولكنك تذاكر هنا كما أرى.

– المذاكرة هنا غير مضمونة.

– ولكن الدنيا بالنسبة لك كلها عمل! هذا غير معقول.

– وما هو المعقول؟

– ساعة لربك وساعة …

– هذا تقسيم يعرفه الأغنياء أمثالك، أنا كل ساعاتي لعملي.

– ألا تصلي؟

– ولماذا أصلي؟

– وقعتك سوداء!

– أنا ليس من حقي هذا الدلع.

– هل العبادة دلع؟

– كل لحظة تُصرف دون مكسب دلع.

– حتى عبادة الله؟!

– خصوصًا عبادة الله.

– إنها تأتي بمكاسب كما تعلم.

– مكاسب موهومة، وعود لم يثبت أحد أنه حصل عليها.

– لكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير رب.

– لقد عاش أقوامٌ كثيرون بغير رب.

– أين هؤلاء؟

– قبل الرسالات.

– كانت لهم أربابهم صنعوها بأيديهم.

– أمثال هؤلاء يصلحون ليكونوا قدوة؟

– وجاءت الرسالات.

– وأنا ما شأني؟ أنا لم أرَ من هذه الرسالات شيئًا.

– ألم ترَ القرآن؟

– كلام.

– يخرب بيتك! إنه كلام لا يمكن أن يقوله بشر.

– وأنا ما شأني به؟

– لمن تلجأ إذا ضاقت بك الحياة؟

– أنا لم أرَ من الحياة إلا ضيقًا، ولم أعرف لنفسي ملجأ إلا نفسي.

– أبوك؟

– هو في حاله وأنا في حالي.

– وأين تقيم؟ وكيف تدفع أجر بيتك؟

– أقيم عند عمتي.

– إذن فهي ملجأ.

– إن أحدًا لا يقدم الخير مجانًا أبدًا، تعلم هذا، مهما يكن غناك وغنى أبيك تعلم أن أحدًا لا يقدم الخير مجانًا أبدًا.

– وهل تقاضيك عمتك مالًا على إقامتك؟

– تقاضيني.

– مالًا؟

– بل شرًّا من المال؛ أنا الذي أشتري حاجات البيت، وأنا الذي أنظفه في أيام الإجازات، أنا أدفع أجر إقامتي مهانةً وذلًّا وانكسارًا.

– أول مرة تفتح لي قلبك.

– لقد رأيتَني أعمل فكان لا بد لك أن تعرف الباقي.

– لنا زملاءُ كثيرون يعملون.

– نديم اسمع … اسمع ولا تسألني تفصيلًا في كل زملائك … كلهم … ليس هناك من هو أتعس مني.

– أنت طفل! كنت أحسبك رجلًا.

– أنت دلوعة، كل شيء يفسر لك ولا تعرف أحوال الآخرين.

– ولا أنت تعرف أحوال الآخرين، وما كان لك أن تحكم قبل أن تعلم. ربما كان في فصلنا نفسه من هو شر منك حالًا.

– محال.

– لا يستطيع إنسان أن يعيش بهذا السواد جميعه في قلبه.

– ومن قال لك إنه كله سواد؟

– كلامك.

– لقد كلمتك عن حالي ولم أكلمك عن آمالي.

– لك آمال؟

– أضخم بكثير من سوء حالي.

– وبها تعيش.

– ولها أعيش.

– وهل تعيش؟

– كل لحظة من حياتي.

– ليست هكذا العيشة.

– لمثلي لا تكون إلا هكذا.

– ألا تذهب إلى السينما؟

– جرَّبتها.

– كم مرة؟

– مرتان.

– ألم تضحك أبدًا؟

– من همي.

– لو عرفت الله لانفتح قلبك للسعادة.

– يا عم أنا مالي وماله أنا لست قَدُّه.

– فأنت تعرف قوَّته.

– قدر ما أعرف قوة آمالي.

– فرغلي، لقد أصبحت أخاف منك.

– لك حق.

– أعوذ بالله! أنت نار.

– لم ترَ منها إلا جذوة أو قبسًا.

– قد تحرق نفسك.

– أو قد أحرق الآخرين.

– أخاف أن أكون أول من تحرق.

– ولماذا أنت؟

– لأنه يخيل إليَّ أنني أنا أول من عرفتُ أسرارك.

– أنت لم تعرف عنها شيئًا.

– أنا مصمم على أن أُغيِّرك.

– وأنا مصمم على أن أغيرك.

– ولماذا تغيرني؟

– لتصبح صلبًا، قد تكون غنيًّا ولكن الغنى وحده لن يكفيك في الحياة، لا بد أن تكون في قوة الصراع الذي ستواجهك به الدنيا.

– لماذا هي صراع في عينَيك؟ لماذا لا تكون حبًّا ومتعة وسعادة ورضًا وهناء؟

– لأنها ليست كذلك.

– ألم تعرف النساء أبدًا؟

– حين نزلت إلى القاهرة اشتريت.

– كم مرة؟

– لا أذكر.

– إذن فأكثر من مرة ومرتين وثلاث.

– ربما؛ ولكن الفلوس لم تجعلني أذهب كثيرًا.

– ألم تجلس مع امرأة أبدًا؟

– ولماذا أجلس؟ أنا أدفع وأمشي.

– ألم تعرف لذة حديث بينك وبين فتاة؟ ألم تعرف الحب؟

– فما هذا الذي كنت أفعله؟

– يا بني آدم أنا أتكلم عن الحب.

– وعنه أتكلم أنا أيضًا.

– اسمع لا فائدة. في أي يوم إجازتك.

– يوم الأحد.

– عجيبة!

– وأي عجيبة؟!

– كان المفروض أن تكون الجمعة.

– يوم الجمعة يكثر هنا الزبائن.

– يوم الأحد القادم لا ترتبط.

– ماذا تعني؟

– سأريك جانبًا آخر من جوانب الحياة.

– ومن قال لك إني أريد أن أرى لها جانبًا آخر.

– وماذا تخسر؟

– وقتي.

– لن تخسره.

– وهو كذلك.

– أين البيضاوي؟

– لحظة.

وقبل أن يحضر فرغلي الكتاب خرج الحاج سمهان، ومعه صديقه وقدم فرغلي نديمًا إلى الحاج سمهان فوجده يعرف والده ويحمِّله له السلام، وينصرف نديم، ويلتفت سمهان إلى فرغلي: تستطيع أن تذهب مع صديقك فسأظل أنا في المكتبة حتى موعد عودتي. وينصرف فرغلي ولكن لا يحاول اللحاق بنديم فقد أراد أن يعود إلى نفسه يسائلها؛ لماذا قالت كل هذا الذي قالته لنديم؟ عجيبة هذه النفس! لماذا تتكلم على الرغم من صاحبها وعلى الرغم من أنه عوَّدها أن تكون صوتًا كتومًا لا تلين؟ ولكن الأعجب أنه لم يشعر بتعاسة لأنه قال ما قال، بل لقد أحسَّ لذةً عجيبة لم يحسَّها قبل اليوم؛ فالقول في ذاته لذة لم يكن فرغلي يعرفها، ولكنه في حزم يرد نفسه، لقد قلتِ مرة فليس هناك ما يدعو أن تقولي دائمًا؛ لا بد أن نختار المكان والزمان والشخص الذي نقول له. وقد كان يعلم أن نفسه تخشاه ولا تجرؤ أن تعصي له أمرًا.

•••

كان نديم وفرغلي في تلك السن الخضراء التي لم تشب إلى النضج، ولا تقف عند الفجاجة؛ تلك الميعة من العمر في تلك الملاوة من فترات الحياة التي تختلط فيها الأحلام الوردية الشفيقة بالجنس المستنسر الكاسر، فالهوى يتخلل بهم ناي الطبيعة لتصدر عنه هذه النغمات المتكسِّرة، كعيون العذارى الحالمة، كأوهام تلوح من عالمٍ مجهول فيها الجمال، وفيها الدعوة وفيها الاستدعاء وفيها الخوف الذي تبثه شخوص تكوَّنت من دخان أو سحاب، أو سعت تحت عباءةٍ فضفاضة من نسيج فيه الشفافية والاعتمام، وفيها الإبهار والإغراب.

ولو كان فرغلي شأنه شأن غيره من الشباب لاستمتع بتلك الفترة من حياة الشباب كما يستمتع بها نديم، ولكن نفسه أعتمت منذ طالعته الحياة بحجرةٍ مغلقة إن فُتحت فإلى بيت يغلق حتى إذا فتحت الأبواب تقاذفته الحياة، وراحت تمخضه وتصفعه بعار أمه أو تدكُّه وتسفعه بفقر أبيه.

كان نديم يحيا حياة الشباب في مثل سنه، وكانت له صديقة تخرج معه ولكنها أخبرته في آخر مرة لقيته فيها أن خروجها وحدها أصبح مستحيلًا؛ لأن أباها يرفض هذا كل الرفض، وحين احتالت عليه بأنها بعد المذاكرة تحتاج أن تستعيد نفسها بمشية تستردُّ فيها بعض الأنسام أمرها أبوها أن تصحب أختها معها، وكانت أختها في مثل عمرها، وكان نديم حائرًا في تلك الأخت؛ فقد كان حين يخلو بسهام يستطيع أن يقبلها بل كان يستطيع في أغلب الأحيان أن يذهب إلى أبعد من ذلك حريصًا دائمًا، كما كانت هي حريصة ألا يصل الأمر إلى إثارةٍ عميقة.

وهكذا وجد في فرغلي بغيته؛ فإنه يستطيع أن يبعد الأخت عن أختها وهو حرٌّ معها، وليس يعني نديم إن كان فرغلي سيستطيع أن يتقرب من قدرية أو هو سيكون معها ذلك الكيان المتحجر الذي يعرفه. وخرج أربعتهم، وكانت قدرية ذكية، والعجيب أنها أعجبت بفرغلي فشكله يمكن أن يكون مرضيًا للنساء، هذا الطول في القوام، وهذه النظرة العازمة النافذة الحديدية، وهذا القلب الصلب المصمم، وهذا الوجه النحاسي الذي لا تجرؤ ابتسامة أو غضبة أن تعلوه، وهذا الشعر الخشن الذي أرغمه صاحبه في إصرار ألا ينفر إلى أعلى لا يهتاج إلى يمين أو شمال. فرغلي بهذه المعالم أعجب قدرية، ومع أن فرغلي لا يحتاج إلى جرأة فإنها هي التي بدأته بالحديث، ووهمت أنه صامت عن خجل ولو عرفته، وما كان لها أن تعرف، لاستبان لها عن شخص ألغى شعور الخجل من كيانه إلغاءً تامًّا، وأي خجل يمكن أن يعرف ابن راقصة في الموالد، لو أنه عرف الخجل لاستحالت أمامه الحياة إلى ضروبٍ مغلقة، وسككٍ مسكوكة. وهو يريد أن يبلغ من الزمان ما ليس يبلغه الزمن من نفسه لنفسه، ولكن من أين لها أن تعرف أن فرغلي طحن الخجل من نفسه منذ سنوات وسنوات، وأنه ذراه في الهواء فأصبح الخجل عنده هباءً وأصبح هو كيانًا بلا حياء.

– اسمك فرغلي؟

– فرغلي.

– ألا ترى أن بقاءنا هنا مع هذين الاثنين غير مرغوب فيه.

– والله هذه أول مرة أخرج فيها مع …

– مع بنات.

– أقصد … أقصد … مع نديم والآنسة.

– نعم … الآنسة … وآنسة أيضًا.

– أليست آنسة؟

وردَّت سهام في تحدٍّ: آنسة طبعًا غصبًا عنك.

وقالت قدرية: وهل لأنها آنسة لا بد أن تقول لها يا آنسة.

– هذه أول مرة أخرج …

– وافرض أنها أول مرة … إذن فأنا الآنسة قدرية طبعًا … وأنت الأستاذ …

– يا ستي غلطة لسان … الحق علي … المهم.

– المهم أن نترك الآنسة والأستاذ نديم.

– وماله.

وتقول سهام: لا تغيبا.

ويقول نديم: بل غيبا كما شئتما.

وتقول قدرية في ضحكةٍ خبيثة: والله هذا يتوقف على الأستاذ.

– يا ستي الحق عليَّ.

– تعالَ.

– جئنا.

– ألم تخرج مع فتيات أبدًا؟

– وهل خرجتِ أنتِ مع شبان؟

– سأقول لك. وإنما أريد أن أعرف عنك أولًا.

– أتريدين الحقيقة؟

– لا يهم.

– فلماذا تسألين؟

– لنتكلم.

– ولماذا نتكلم؟

– فكر لحظة على أية صورة تصبح هذه الحياة إذا لم نتكلم.

– جميلة؛ جميلة كأنها … كأنها الجنة التي يقولون عنها.

– الجنة أيضًا فيها كلام.

– هل ذهبتِ إلى هناك؟

– لا، ليس بعدُ ولكني أتصورها.

– خيالك واسع.

– وأنت، ألا خيال لك؟

– كل هذه الأشياء التي أراها خيال بالنسبة لي.

– فما الحقيقة عندك؟

– هي التي أصنعها بيدي.

– يا ستَّار! أنت مخيف.

– ربما …

– أتريد أن تخيفني؟

– الآن أريد أن أقبِّلك.

– وما الذي يمنعك؟

ولأول مرة عرف فرغلي كيف يصنع كل شيء مع فتاة بكر، وتظل مع ذلك بكرًا.

كان فرغلي في الإجازة لا يذهب إلى الديميرية، ولم يكن أبوه يطلب إليه أن يجيء؛ فقد ازدحم البيت بزوجته وبأطفاله الذين يتوافدون تباعًا.

وفرغلي لم يكن يشتهي أن يرى أباه، ولا يعنيه أن يرى زوجة أبيه ولا أولاده، وإن كان شعوره بكره أبيه عميقًا إلا أنه لم يكوِّن أية مشاعر قِبل زوجة أبيه أو أولادها؛ فهم لا يمثلون عنده عائلة بل لا يشكلون عنده شيئًا على الإطلاق.

كان يراهم حين يأتي بهم أبوهم من حين إلى آخر مدعيًا أنه يزوره ويرى أخته ولكنهم كانوا بالنسبة إليه عدمًا من العدم. عرف أسماءهم لأنه وجد أنه لا بد أن يحفظ أسماءهم، كانوا فاروق ويحيى ومسعود ونبوية. ولم يكونوا عنده إلا هذه الأسماء ثم هم بعد ذلك بلا معالم فهو لا يعرف مَن فاروق ولا من يحيى، ويميز نبوية بضفيرتيها، ولكنه يعرف مسعود أنه الطفل الذي ما زالت أمه تحطه على كتفَيها. ومع ذلك فهو لا يرى، أو هو لا يهمه، أن يرى أي فارق في الملامح بين أحدهم والآخر.

وقليلًا ما كانت تدوم زيارة الأب وزوجه وأبناؤه ثم تعود الحياة إلى طريقها الذي تعوَّد أن يسير فيه، وقد كان اعتذاره عن عدم الذهاب إلى البلدة في الإجازة حاضرًا عن قريب. فهو يقول لأبيه إنه لا يستطيع أن يترك مكانه في المكتبة، وكان أبوه وزوجته يصدِّقانه، وكانا يريدان أن يصدقاه.

كان جالسًا بالمكتبة في ظهيرة يوم من أيام الإجازة حين جاء أمين الشبراوي على غير موعد، وكان الشيخ سمهان قد ذهب إلى الجامع … الحر شديد، وأمين الشبراوي يبدو وكأنه امتصَّ أشعة الشمس كلها فالعرق يسيل على وجهه ويقطر من لحيته، وحين يصل إلى عتبة المكتبة يقفز إليها مستجيرًا بظلها من حر الطريق.

– الحقني بكوب ماء.

– أحضر لك حاجة ساقعة؟

– احضر ما تشاء. فقط الحقني أولًا بكوب ماء.

وحين شرب وطفر الماء عرقًا إلى جبهته ووجهه راح يجفف البحار المنبجسة منه، ثم أخذ يهفهف بالمنديل حتى استردَّ أنفاسه وراح ينعم النظر في فرغلي وعلى جبينه حديث يكاد يطفر مثل العرق. ورأى فرغلي الحديث ولكنه لم يقرأه … كهمهمة تلوح في خلجات ولا ترتعش بها شفاه. كمعنًى يعرف أنه موجود ولكنه لا يستطيع أن يغوص إلى مداه ولا يستطيع أن يستبين منه لمحة.

وحين أصبح فرغلي على يقين أن حديثًا خطيرًا في طريقه إليه من أمين رأى في عينيه وميضًا ثابتًا؛ فهو شعاع نافذ، فيه نور وفيه إصرار وفيه توقع وفيه إرادة، وتتجمع هذه المشاعر لتكون لونًا من التصميم.

– ألم تفكر مطلقًا لماذا أزور الحاج سمهان؟

– أنا لا أفكر في شيء أنا واثق أنني لن أصل فيه إلى نتيجة.

– على الأقل حاولت.

– ولمَ أحاول؟

– ولا تريد أن تعرف؟

– يا أستاذ أمين أنا هنا لأستعين بمرتب الحاج سمهان على المعاش. والذي يحتال على المعاش لا يصرف فكره إلى شيء.

– هذا كلام ظاهره العقل.

– وباطنه أيضًا.

– لا، أما باطنه فشيء آخر.

– أتعرف علم الباطن يا أستاذ أمين؟

– أعرف الناس يا أستاذ فرغلي.

– لماذا لا تقول ما تريد؟

– لكل كلام مقدمة.

– أطلتَ التقديم.

– لعل الموضوع يحتاج إلى هذا.

– ولكنك تعرف الناس.

– ومع ذلك أحتاج إلى تقديمٍ طويل.

– أنت أدرى بما تخفي.

– ألست مؤمنًا بالله؟

– أيبدو عليَّ عدم الإيمان؟

– ولا يبدو عليك الإيمان أيضًا.

– أمن علم الباطن هذا؟

– من الشواهد.

– مثل ماذا؟

– أنت لا تصلي.

– وكيف عرفت؟

– أنا … أنا أعرف.

– المفروض أن تكون صلاتي لله وليس لك.

– أستعفر الله؛ إنما أقصد أنى لم أرَك تصلي.

– وكيف يمكن أن تراني؟

– لي سنوات وأنا أعرفك.

– إنك قلَّما تجيء إلا بعد صلاة المغرب، فأي فرض يمكن أن تراني أصليه؟

– فأنت تصلي إذن.

– هذا بيني وبين صاحب الصلاة.

– يهمني أن أعرف.

– لا يمكن أن تعرف.

– سأصدقك إن قلت.

– هبني أصلي.

– فأكمل دينك.

– بالزواج؟

– بل بالجهاد.

– أهناك حرب إسلامية؟

– الحرب الإسلامية لا تنتهي.

– أنا لا أعرفها.

– عملي أن أعرفُك بها.

– في أي ميدان؟

– في الوطن.

– وما الوسيلة؟

– هذا عملي أيضًا.

– ولكن الحرب، أي حرب تحتاج إلى أدوات.

– نعرف ذلك؛ كيف نكون في حرب ولا نعرف أن لكل حرب أدواتها.

– وماذا عندكم من أدواتها؟

– كل أدواتها.

– أتعرف أهم عنصر فيها؟

– الروح الإسلامية.

– هذه مفروضة في كل من يشترك معكم.

– فأي عنصر تقصد.

– لا بد أنك تعرفه.

– إن جهادنا حتى اليوم اللقاءات والأحاديث والمنشورات.

– وهذه جميعًا ميسورة.

– لعلك تقصد …

– المال.

– موجود.

– إذن فقد اكتملت عندكم أدوات الحرب.

– هي مكتملة.

– وأنا معكم على بركة الله.

– ستدخل في اختباراتٍ كثيرة.

– وأنا مستعد بإذن الله.

– إذن نلتقي اليوم بعد أن تقفل المطبعة.

– أنكتم الخبر عن الحاج سمهان؟

– المفروض أنني الوسيط بين كل العاملين، وليس من المفروض أن يعرف أحد منهم الآخر.

– ولكن العلاقة بيني وبين الحاج سمهان …

– لا شأن لهذه العلاقة بما ستقوم به.

– ربما غضب.

– أولًا هو لن يعلم، وثانيًا ما أهمية غضبه.

– يقطع عيشي.

– لا يستطيع، إنه لن يفعل ذلك، وهو من أهم جنودنا.

– ولكنني أعرف أنه منكم وهو لا يعرف.

– لقد عرفتَ هذا بحكم عملك فليس من المحتم أن يعرف هو؛ ما دمنا نستطيع أن نخفي الأمر عنه فلا بد أن نخفيه.

– أين نلتقي؟

– في جامع الرفاعي.

– وهو كذلك.

وهناك عرف فرغلي أن دوره في أول الأمر سيقتصر على توزيع المنشورات وبثِّ الدعوة بين إخوانه ومن يعرفهم، وأن أول مرتَّب له سيكون عشرة جنيهات شهرية يستعين بها على التنقل وإكرام الأصدقاء.

٨

في الجامعة أشياء غير العلم

حين دخل فرغلي كلية التجارة حرص أن تكون علاقاته مع زملائه أكثر تباعدًا من علاقاته بالمدرسة؛ فالكلية فيها سعة من الأبهاء، والمدرج يستطيع أن يستوعب مئات الطلاب قد يبلغون الألف، والصداقة بين بعض الطلاب والبعض الآخر تأتي جاهزة من المدرسة الثانوية، وهكذا كان نديم وحده هو الصديق الذي يعرفه فرغلي، أما التلاميذ الآخرون الذين كانوا زملاء لهما في مدرسة الخديوي إسماعيل فقد يكون بعض منهم صديقًا لنديم ولكنهم بالنسبة لفرغلي معارف وليسوا أصدقاء، وظل فرغلي حريصًا ألا تزيد العلاقة بينه وبينهم عن هذا.

نديم وحده هو الذي كان يخرج معه ويشاركه صِلاتِه بالبنات. وبطبيعة الأمور كانت سهام وقدرية قد تزوجتا، ولكن نديم دائمًا كان قادرًا على اجتذاب مثيلات لهما، وكان يحرص أن يكون فرغلي رفيقه في مغامراته. فقد أدرك نديم أن صمت فرغلي، وهذا الجمود الرابض على وجهه يجعل الفتيات يُغرمن به ويحاولن أن يخرجنه من القفص الحديدي الذي يستوي بداخله. وكانت هذه المحاولات تجعل الجلسة مليئة بالحياة، وهو أمرٌ طبيعي يحدث دائمًا حين يكون بين الحاضرين شخص لا يشبه الناس في مألوف ما يصنعه الناس، وأي شذوذ أكثر من شاب في ريق العمر لا يبتسم ولا تصفو نفسه في جلسة أنس، وهو في الوقت نفسه يغازل ويتقرب من الفتاة التي يوزعها عليه نديم.

وهكذا تعوَّد نديم أن يكون معه فرغلي دائمًا. ولم يكن غريبًا أن يرى طلبة الكلية فرغلي، وهو لا يخلو إلا إلى نديم.

ونظام الأقسام الذي تسير عليه الكليات، ويطلق عليه كلمة السكشن التي أصبحت عربية لانفرادها في التعبير عن هذا النظام، لم يستطع أن يجعل فرغلي يصادق أحدًا آخر من زملاء السكشن، فهم بالنسبة إليه معارف، ويظلون كذلك لا أكثر. وظل فرغلي ونديم على علاقاتهما النسائية، ولم يمنع الاتفاق الجديد الذي تم بينه وبين أمين الشبراوي استمراره في خروجه مع نديم ومصاحبته للفتيات اللواتي يتكفَّل نديم وحده بالحصول عليهن.

ولكن نديمًا يفاجئه يومًا بشيء جديد، وكان فرغلي قد اختلط بالحياة اختلاطًا يصعب معه أن يواجه الدهشة، ولكن هذا ميدانٌ جديد.

– ماذا تقول؟

– كبرنا على شغل العيال هذا.

– ماذا تقصد؟

– اسمع لا بد لنا من شقة.

– ماذا؟

– شقة.

– طبعًا أنت تعرف أنني لا أستطيع المشاركة في إيجارها.

– كيف؟

– أنت تعرف ضيق مواردي.

– إنها شقة صغيرة لا تكلفنا أكثر من ثلاثة جنيهات أو أربعة كل شهر.

– ولا مليم واحد.

– لا عليك أدفعها، ولكن تأثيث هذه الشقة لا بد له من مبلغ.

– ولا مليم.

– يا نهارك أسود.

– ما أوله شرط آخره نور.

– لا تكن باردًا واشترِ سريرك على الأقل.

– إن كان على قد السرير أشتريه وأمري إلى الله.

وتم المشروع في سهولة ويسر، فما أسرع ما وجدا شقة بمنطقة باب اللوق! وما أسرع ما فُرشت، فقد كان فرغلي منذ اتفاقه مع أمين الشبراوي في حالةٍ ماليةٍ منتعشة استطاع بها أن يصبح ذا مبلغٍ مدخر، ثمن السرير بالنسبة إليه زهيد لا ينقص من شأنه. ولو عرف الحقيقة لتبين له أنه أكثر يسرًا من نديم ومن أبيه، ولكن أسماء العائلات طالما سترت حقائق البيوت التي يتكون من مجموعها هذه الأسرات.

•••

كان فرغلي حين استأجر الشقة مع نديم ينتوي في نفسه أمرًا لم يطلع صديقه عليه، إلا أمرًا واحدًا كان يقف عقبة بينه وبين ما ينتويه؛ ولذلك لم يكن عجيبًا أن يقول لنديم فجأة: يا أخي أمرك عجب.

– وما العجب؟

– أنت دائمًا تعرِّفني بالنساء ولا تعرِّفني بالرجال.

– عجيبة؟!

– العجيبة مِنك أنت.

– يا أخي لقد مرت على صداقتنا سنوات وأوشكنا أن نصل إلى السنة النهائية، وأنت لا تفكر في صداقة أحد من زملائنا منذ كنا في الثانوي، فماذا حدث؟

– الناس تتغير.

– حتى أنت؟

– ألستُ من الناس؟

– فيها شك.

ومنذ ذلك اليوم أصبح فرغلي يصحب نديمًا في الجلسات الرجالي أيضًا، وتعرَّف بأصدقاء نديم الذين كانوا دائمًا مندهشين أنه يتباعد عنهم. كان أصدقاء نديم كثيرين، ولكن ثلاثة منهم كانوا يجتمعون أغلب أيام الأسبوع في مكانَين محددَين لا يتغيران؛ قهوة بوديجا شتاءً وكازينور صيفًا. وكانت هذه اللقاءات تتوقف دائمًا عندما تقترب الامتحانات. وحين انضمَّ فرغلي إلى هذه الجلسات كان يذهب دائمًا متأخرًا، وكان نديم وحده يعرف السبب، وكان الثلاثة الآخرون لا يهتمون بهذا السبب. كان الشباب هم فتحي الرويعي وفاضل مبروك ومنصور ممتاز، وكان ثلاثتهم في كلية التجارة، وكانوا جميعًا يعاملون فرغلي معاملة زميل يوشك أن يصبح صديقًا إلا فتحي الرويعي فقد لاحظ فرغلي منذ أول يوم جلس إليهم فيه أنه يحاول أن يتقرب منه ويوثق صلته به.

حرص نديم منذ اليوم الأول لتأثيث الشقة أن يعلن البشرى لأصدقائه ودعاهم في اليوم التالي إلى تناول العشاء بها.

– عشاء فقط؟

– عمى في عينك وماذا تريد غير هذا؟

– يجب أن يستعمل الشيء لما خلق له.

– اعملوا حسابكم هذه أول مرة تدخلون فيها الشقة وهي بإذن الله الأخيرة.

– لا بأس، ولكن اجعل القعدة مقبولة بعض الشيء.

– هو العشاء فقط يا فتحي. موافق أم ألغي العزومة كلها.

– موافق … موافق …

والواقع أن فتحي وحده هو الذي كان يهمه أن يستخدم هذه الشقة، أما فاضل ومنصور فكانا في غير حاجة إليها. وتمت العزومة ونسي الأصدقاء بعد أيامٍ قليلة أمر الشقة وعادوا إلى مألوف حديثهم. وكان الحديث في هذه الأيام يدور بين الشباب في كل شيء، فمنهم من يحب الأدب ويقرؤه بينهم، وكانوا الآخرون لا ينصرفون عن هذا الحديث إذا بدأه فاضل مبروك، فيهم أيضًا هواة وليس بين خمستهم من لم يقرأ كتابًا لطه حسين أو توفيق الحكيم أو العقاد أو هيكل؛ فالحديث في الأدب غير ثقيل عليهم، وكان المتحدث لبقًا يعرف متى يميلون إلى الحديث ومتى يميلون عنه، وقد يأخذ منه منصور طرف الحديث فيتكلم عن صراع الأحزاب، وعن أغلبية حزب الوفد، وعن صمود الحزب ضد السراي وأحزاب الأقلية، كما يحب الوفد أن يسمي الأحزاب الأخرى. ولا بد أن يتكلم فتحي عن وجوب القضاء على كل هذه الأحزاب وقتل زعمائهم حتى يحكم الشعب، والشعب عند فتحي هم الفلاحون والعمال الذين لن تحل الأمور إلا على أيديهم.

فالحديث متنوِّع لا أثقال فيه على أحد، وكل شخص منهم مشارك فيه لا يضيق بالاستماع ولا يضيق به إخوانه إن تحدث، وكان نديم باشتراكه في هذه الأحاديث يكوِّن، دون أن يدري، ثقافته العامة؛ فهو لم يكن من هواة القراءة، وقد كان أمثاله كثيرين، إلا أن الجو العام الذي يعيشون فيه يرغمهم أن يكونوا على قدر لا بأس به من الإلمام باليسير من كل شيء، وكان جميعهم مشاركًا في سياسة مصر بالحديث إن لم يكن بالانتماء إلى الأحزاب أو التجمعات.

وكان فرغلي خيرًا من نديم في هذا الشأن، فقد مكَّنه اتصاله بأمين أن يكون على صلة وثيقة بكثير من الأحداث، كما استطاع أن يتعرف منه على أسماء الشخصيات التي تُحرك السياسة المصرية، وكان حكمه عليها هو حكم أمين وحده، ولم يُعنَ أن يحاول التعمق في حقائقهم ولا فيما يقف وراء كلٍّ منهم من ماضٍ مكَّن له أن يكون ذا شأن في سياسة مصر.

لم يكن الأصدقاء يتأخرون في جلستهم إلى أكثر من العاشرة والنصف أو الحادية عشرة على أكثر تقدير. ثم ينصرف كلٌّ منهم إلى بيته.

وفي ليلة انتهت بهم الجلسة وأراد فرغلي أن ينصرف مع نديم فإذا فتحي يقول له فجأة: فرغلي هل لا بد لك من دادة؟

وضحكوا وارتبك فرغلي.

– تعالَ يا أخي معي الليلة نتمشى قليلًا على النيل؛ فأنا قد نمت اليوم بعد الغداء ولا أحس أني أريد أن أُروح.

– وهو كذلك؛ هيا بنا.

وأجرى فتحي الحديث فقد كان أكثر الخمسة حبًّا للحديث، وكان يجد متعة لا تماثلها متعة وهو يستمع إلى نفسه، وكان فرغلي خير من يستمع له؛ فقد علمته حياته الصمت، وأصبح ذا قدرة عليه قلَّ أن تتوافر لآخرين، وكان يطلق من حين لآخر تلك الأنَّة التي يطلقها دائمًا المستمع الذي لا ينوي الكلام؛ فيدرك فتحي أن صاحبه يستمع ويستوعب. تكلم عن كثير؛ عن حكم البروليتاريا، وعن الجنة المنتظرة، وعن فساد الرأسمالية وما زال ينفذ من موضوع إلى موضوع حتى: قل لي يا فرغلي لماذا لا تنضم إلينا؟

– ماذا؟

– ماذا يعمل أبوك؟

– موظف بالسكة الحديد.

– ما درجته؟

– ليست عالية على كل حال.

– فهو كادح.

– وفلاح.

– وفلاح أيضًا.

– زوجته عندها أرض وهو يزرعها لها.

– زوجته! تقصد أن أمك ليست معه.

– ماتت.

قالها في حسم ودون أي تردد أو تفكير.

– فمن ينضم إلينا إذا لم تنضمَّ أنت؟

– ولكن هذه الجمعيات ألا تحتاج إلى مصاريف.

– على ذكر المصاريف هل أنت بايخ مثل نديم وترفض أن أستعمل شقتك؟

– هذا اتفاق بيني وبين نديم.

– ومن سيقول له؟

– ولكن …

– اسمع، سأعطيك جنيهًا في كل مرة أستعملها فيها؛ أنا رجل عملي.

– أخاف أن …

– جنيه! جنيه كامل.

– لا بأس.

– اتفقنا. ماذا قلت بشأن انضمامك لنا.

– كنت أسألكم من أين تنفقون؟

– لا شأن لك.

– كيف؟

– أنت تريدني أن أصبح واحدًا منكم.

– الاشتراك معنا له درجات، في البداية لن تعرف إلا القليل أو ما هو أقل من القليل ثم تتدرج.

– ولكن أنت تعرف أن مواردي لا تسمح أن …

– موارد ماذا يا أستاذ؟ إننا سنعطيك مرتبًا.

– كم؟

– على حسب …

– كيف؟

– أقدمك إلى المسئول عني وهو يقرر.

– ماذا تعني يقرر؟

– يقرر ما تستحق من مرتب.

– يعني كم؟

– لن يقل عن سبعة جنيهات مثلًا للتحرك.

– قليلة.

– لعلها تكون أكثر.

– أفكر.

– وفيم تفكر؟ إن المستقبل لنا وستلعب بالفلوس لعبًا إلى جانب أشياء أخرى، ستنبسط على الآخر.

– وهو كذلك.

– موافق.

– على بركة الله.

– عود نفسك على تعبيرات أكثر تقدمية.

– وهو كذلك.

– والشقة.

– متى تريدها؟

– أهي خالية باكر؟

– نعم.

– هاك الجنيه. أين المفتاح؟

– هذا هو، ولكن إياك أن تصنع مفتاحًا مثله لأن نديمًا لو عرف ستكون قطيعة بيننا.

أنا سأعطيك المفتاح عندما تطلب، وكل ما عليك أن تخبرني بالموعد قبله بفترة لأعرف لك إن كان مناسبًا أم غير مناسب.

– وهو كذلك.

– مع السلامة.

•••

منذ ذلك اليوم أصبح فرغلي كثير الصلات، والغريب أو ربما ليس غريبًا أن المنفى الذي فُرض على طفولته مكَّنه أن يشكل هذه الصلات في الصورة التي يريدها؛ يسمع كثيرًا ويتكلم قليلًا، والغريب، أو ربما ليس غريبًا، أيضًا أن أمين وإخوانه عرفوا أنه يعمل مع فتحي وإخوانه، كما عرف فتحي ومن معه أنه متصل بأمين وزملائه. والغريب، أو ربما ليس غريبًا، أن هذه الصلة المزدوجة قد أكسبته عند كل فئة قدرًا من الأهمية غير متاح للآخرين الذي ينتمون إلى جهةٍ واحدة من الجهتَين.

وكلا الجانبين عرف صلة فرغلي بالجانب الآخر عن طريقه هو، فقد أبلغ أمينًا باتفاقه مع فتحي في أول لقاء له بعد هذا الاتفاق. كما أنه أعلن في يوم تقديم فتحي له إلى المسئول صلته بأمين. وهكذا استطاع أن يحمل من خيانته للتجمعين ولاءً لكل تجمع فأولاه كل تجمع على حدة ثقةً كاملة، واستطاع فرغلي بما يكسبه من مبالغ تعتبر خيالية بالنسبة إليه في هذه الأيام أن يضفي على هندامه الكثير من الأناقة.

لم يكن فرغلي يعلم أن فتحي بؤرة تجتمع عندها وعند زملائه عيونٌ أخرى، ولم يكن يعرف أيضًا أن أمين ومن معه ملتقى عيون إن اختلفت في شخوصها فهي تصدر عن نفس مصدر العيون الأخرى.

واستطاعت تقارير هذه العيون أن تلتقي، واستطاع المصدر الذي يبثُّها أن يدرك الدور الذي يقوم به فرغلي.

وكان هذا المصدر على قدرٍ كبير من الذكاء.

كان فرغلي جالسًا في المكتبة، وكان الشيخ سمهان جالسًا معه ينظر إلى ساعته المرة تلو الأخرى يريد ألا تفوته صلاة المغرب جماعة. ولم يكن اليوم من الأيام التي تعوَّد أمين أن يأتي فيه إلى المكتبة، ولم يكن أيضًا هناك موعد بين أمين أو فتحي مع فرغلي. فكان فرغلي متوقعًا أن تنفرد به المكتبة حين يذهب الشيخ سمهان إلى الصلاة.

ويقوم الشيخ سمهان: سأظل في الجامع حتى أصلي العشاء فلا تترك المكتبة.

– وكيف أتركها وأنت لست هنا.

– سلام عليكم.

– مع السلامة.

ولم تمر لحظات على ذهاب الشيخ سمهان حتى دخل المكتبة شابٌّ متوسط القامة ممتلئ الجسم في غير ترهل، يبدو من وجهه الشاب أنه لا يتجاوز الثلاثين ولكن في عينَيه نفاذًا حادًّا يحاول هو بإغضائة يتقنها أن يكسر الشعاع المتدفق منهما في قوةٍ عاتية، في وجهه جرأة يسترها بابتسامةٍ خجلى فلا تنستر. قال في صوتٍ خفيضٍ قوي: السلام عليكم.

كان فرغلي جالسًا وظهره إلى المكتبة وعيناه إلى الطريق، ولم يرَ الشاب وهو يدلف إلى المكتبة، حين انقضَّ عليه الصوت خُيِّل إليه أنه ينبعث من فضاء. وانتتر في حركةٍ تلقائية وهو يصيح في صوتٍ مخضوض: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ووضع الشاب يده على كتفه وقد أحسَّ خوفه.

– ياه! كنت أظنك شجاعًا.

– أهلًا وسهلًا.

– أقعد؟

– تفضل.

– طبعًا ما دمت سأقعد فأنا لن أشتري كتبًا.

– لا تريد كتبًا؟

– أنا أقرأ الناس ولا أقرأ الكتب.

– أهلًا.

– ما كل هذا الفزع؟! خيبت ظني.

– أي ظن؟

– ظني فيك.

– أتعرفني؟

– كما لا تعرف نفسك.

– وهل يعرف أحد نفسه؟

– جوابٌ ذكي. فأنا أعرفك كما لا يعرفك أبوك فهيم.

– أبي! إنه لا يعرف عني شيئًا.

– أعرف ذلك. وأعرفك كما لا تعرفك أمك تحية أو توحة.

– من أنت … كيف؟

– اقعد واهدأ واسمع ولا يعلو صوتك.

– أهو أمر؟

– نعم.

– ممن؟

– من هذا.

وقرأ البطاقة المجلدة، وخفق قلبه كما لم يخفق أبدًا حتى ولا يوم أحاط به التلاميذ في فناء المدرسة الابتدائية، وجفَّ حلقه وراح يجمع الكلمات.

– أهناك شيء؟

– هناك أشياء.

– أنا تحت أمرك.

– غصبًا عنك.

– ومن غير غصب.

– في هذه الحالة سنصبح أصدقاء؛ صداقة لم تعرفها في حياتك.

– أوامرك.

– هناك طريقتان، الأمر واحدة منهما.

– والأخرى؟

– الاتفاق.

بدأ فرغلي يستردُّ شيئًا من كيانه المحترق وأحسَّ الجفاف وقد أصبح رطبًا بعض الشيء، واستردَّ أنفاسه المتلاحقة.

– من المؤكد أنك لا تعرفني كما تظن.

– هل أنت سريع الأحكام دائمًا هكذا؟

– لو كنتَ تعرفني لعرفت أنني لا أمانع في الاتفاق أبدًا.

– ولكنك إن تمكنتَ قتلت.

– هذه صفةٌ جديدة في نفسي.

– والأحذية التي مزَّقتَها في المدرسة.

– مجرد أحذية.

– الآن يمكن أن تستبدلها بأرواح.

– أعوذ بالله.

– هذا صوت أمين الشبراوي.

– أتعرفه؟

– إن لم أكن أعرفه ما قلت إنك لا تمانع في تمزيق الأرواح.

– أنت تعرف الكثير.

– وأعرف الذين تعرفهم عن طريق فتحي.

– أيضًا؟!

– هؤلاء يمزقون الحياة كلها.

– ولكنك تعرف …

– أعرف أنك مع هؤلاء ومع هؤلاء وأنك في نفسك لست مع أحد إلا نفسك.

– أنت تعرفني إذن.

– ونفسك هذه أشد خبثًا وجبروتًا من هؤلاء وهؤلاء جميعًا.

– لا أعرف هذا في نفسي.

– ألم تقل إن أحدًا لا يعرف نفسه.

– فكيف عرفت أنت هذا عني؟

– هذا عملي.

– أوامرك.

– تعمل معنا.

– وما له؟

– نحن يمكننا أن نقتل إذا غشنا من يعمل معنا.

– والجماعتان اللتان أعمل معهما يقتلان أيضًا.

– القتل عندهما جريمة نتولى نحن ضبطها ويُعدَم الفاعل. أما نحن فنقتل قتلًا شرعيًّا.

– شرعيًا؟!

– هو قتل قانوني على الأقل.

– أي قانوني هذا؟

– إذن فقل هو قتلٌ رسمي لا عقاب عليه.

– هذه هي الكلمة السليمة.

– ماذا قلت؟

– أنت تعرف ما أريد أن أقول.

– ستأخذ منا قدر ما تأخذ من الجماعتَين.

– وأين يكون اللقاء.

– لا شأن لك بهذا.

– والمرتب؟

– من المؤكد أنك ستجده في جيبك كل شهر.

٩

عود على بدء

كان وجود فرغلي في الكلية يسكب عليه هذا المرتب الضخم ولولا خوفه أن تكشف عمته وزوجها أمره لاستقل بالسكن، ولكنه أراد أن يظل في بيتهم ليستر دخله ومنابعه في وقت معًا. فهو لا ينسى دهشتهم كلما اشترى ملبسًا جديدًا، وهكذا استطاع فرغلي أن يدخر مبلغًا من المال لم يتصور أنه سيكون في حيازته في يوم من الأيام.

وحين ظهرت النتيجة وحصل على بكالوريوس كلية التجارة تولاه نوع من القلق؛ فقد كان يخشى أن تستغنى عنه جهة من الجهات الثلاث التي يعمل فيها وهو بعد في أول الطريق، ولهذا لم يكن غريبًا أن يفكر في هذا الباشا بجانب قريتهم ليضمن له الوظيفة. وكان يريد أن يوطد علاقته بنديم وإن كانت في غير حاجة إلى توطيد، إلا أنه اليوم أصبح يحسَّ أن أهل نديم سيفتحون له الطريق في أول الأمر على الأقل. وحين فكر أن يعيش مع أبيه كان يريد أن يبالغ في إخفاء ما ادخره من مال. فالأطماع من أبيه متكالبة، فلو علم أن ابنه يملك مالًا ما أعتقه أو ينال من هذا المال كل ما يستطيع أن ينال. وكان وصوله إلى القرية قبيل غروب الشمس وكان نديم غائبًا عن القاهرة فذهب فرغلي وحده وكان دخوله إلى بيت أبيه محوطًا بكثير من الشعور بالغربة فلا البيت بيته ولا سيدة البيت أمه ولا هؤلاء الإخوة إخوته إلا بانتسابهم إلى أبيه، بل إن أباه ليس أباه، فالأبوة ليست مجرد نقطة من دم تصبح إنسانًا وإنما هي صلاتٌ عميقة تلقي بذرتها إلى قلوب الآباء روح الله ليرعاها الآباء بالعطف والحب والإشفاق الذي لا إشفاق مثله والتفاني الذي يصل إلى منزلة التنازل عن الحياة في سبيل سعادة الأبناء. وتنمو تلك الشجرة المقدسة الوريقة الخضراء في كل الفصول لتصبح الأبوة التي يعرفها من الآباء أغلب الآباء، ويعرفها من الأبناء أغلب الأبناء.

فإذا لم يزرع الأب هذه البذرة الربانية فليس عجيبًا ألا تكون هناك أبوَّة، وليس عجيبًا ألا تكون هناك بنوَّة، بل وليس عجيبًا أن يشعر الأب أمام ابنه بالخزي الذي يذكِّره دائمًا بهوان عواطفه، ويشعر الابن أمام أبيه بالكره لذلك الكيان البشري، الذي كان يلتمس من قلبه الرحمة فوجد القسوة، وينتظر الحب فوجد الانصراف، ويتوقع العطف كل العطف فلم يجد إلا الجمود كل الجمود.

كان أبوه جالسًا بصحن الدار وإلى جانبه زوجته وقد ارتسمت على وجهيهما تلك الملالة التي يعرفها أهل الريف إذا انقطع بهم الليل، ووهنت الأقدام عن السير وشعر الناس كل الناس أنهم لن يجدوا من الحديث جديدًا إذا هم تزاوروا. لحظات تهبط فيها الملالة على جو القرية كضباب ينتشر ويتجمد ساعات أو أيامًا ثم ينقشع ثم يخفُّ الناس إلى بعضهم البعض يسمرون بحديثٍ فارغ أغلب الأمر أو بحديثٍ جاد أحيانًا.

كان ذلك اليوم الذي دخل فيه فرغلي إلى البيت من أيام الملالة تلك، وكانت تلك الأيام عجيبة في شأنها؛ فأنت تجد الناس في القرية، كل الناس، وقد اتخذوا قرارًا يبدو في ظاهر أمره فرديًّا وهو في الحقيقة إجماعي أن يصيب الزهق نفوسهم كأنها تَصعَّد في السماء.

وحين دخل فرغلي ابتسم الأب؛ فإن تكن بذرة الأبوة لم ترتوِ، ولم تصبح شجرة إلا أنها موجودة على رغم أنفه، وإن له إلى ابنه حنينًا وإن حاول أن يقمعه، وإن له عندما يلقاه لهفةً وإن تكن خجولًا.

– أهلًا.

قالها صادقة صاعدة من أعماقه كأنما كانت مغلقة وانفتحت فجأة، وقامت شهاوي عن مكانها لتلتقي به في منتصف الطريق إلى الكنبة التي كانا يجلسان عليها.

– أهلًا مرحبًا … اسم النبي حارسك وضامنك … أهلًا … أهلًا بك في بيت أبيك يا فرغلي.

لم تكن المرأة كاذبة في مشاعرها فإن فرغلي لم يكلفها من أمرها عنتًا ولا رهقًا طول هذه السنوات التي عاشتها مع أبيه، وهي واثقة أنه ما دام لم يكلفهم وهو تلميذ فهو الآن وهو في ريعان شبابه أكثر بُعدًا عن إرهاقهم. ومشاعر شهاوي مثل أغلب نسوان القرية تتشكل بالمكسب والخسارة، فليس غريبًا أن ترحب شهاوي بابن زوجها وأن تفرح بأنه جاء إلى زيارة بيتها.

واستقبل فرغلي الترحيب بابتسامة يكاد يكون قد صنعها بيدَيه ليضعها على شفتَيه. فإنه منذ زمانٍ بعيد قتل في نفسه كل المشاعر الإنسانية التي لا تعود عليه بربحٍ مادي، سواء عليه تمثل هذا الربح في مال يكسبه أو قوة يبطش بها إن استطاع بطشًا. وكان يعلم أن رغبته في البطش عارمة وكان يختزنها وينتظرها لتزداد عنفًا على الأيام.

قبَّل أباه، وقبَّلته شهاوي وزعقت: يا أولاد تعالوا شوفوا أخاكم … فرغلي جاء يا أولاد.

وكأنما انتفضت الأرض عن عفاريتَ أقزامٍ وطوال وتحلق حوله إخوته يسلمون عليه، ثم يتحلقون حوله وكأنه أعجوبة لم يروا لها شبيهًا؛ فهم لم يروه في بيتهم قط، فكأنما وجوده فيه معجزة.

وقالت شهاوي لابنتها: قومي يا نبوية نذبح ذكر البط لأخيك … رِجل عزيزة يا فرغلي.

– لا لزوم يا خالة شهاوي.

– والنبي أبدًا! إلا هذا … أقل من ذكر بط … أهلًا … أهلًا بابننا البكري.

قليلًا ما تحلق الأولاد حول أخيهم ثم تسللوا واحدًا بعد الآخر فإن هذا الملل الذي يسيطر على القرية يعفي دائمًا الأطفال من بأسه بأمر من عليٍّ رحيمٍ قادر دائمًا أن يجعل الحياة عند الطفل ضاحكةً متجددة. ولمَ لا واللحظات التي تمر عليه كلها جديدة لم يرَ إليها ولم يعرفها فهو يتلقفها في ترحاب من لهو الطفولة ومن شعورها الدائم بأمل في الغد أن يكون أمتع من اليوم.

قال فهيم: طبعًا مبروك من غير سؤال، فأنت لم تسقط طول عمرك.

– الحمد لله.

– يا ألف سنة بيضاء! يا ألف يوم هني يا شهاوي اذبحي ذكر البط! وزوجته أيضًا: ابننا أخذ الشهادة الكبيرة.

وكان الجواب أمرًا لم يتوقعه فرغلي ولا مر به بخيال. انبعثت في أرجاء البيت وانطلقت إلى القرية الصامتة زغرودةٌ مرحةٌ طويلةٌ فرحانة، وما إن انتهت حتى انبعثت أخرى من ورائها كانت زغرودة نبوية، وعاد الأطفال، أو قل الصبية إن شئت، يتحلَّقون وعرفوا الأنباء، وما هي إلا لحظات حتى انقشعت الملالة عن الجيران فجيران الجيران فالقرية جميعًا … فرغلي نال الشهادة الكبيرة! إنها جديدة في القرية كفيلة أن تبدد ضباب الملل وأن تقشع عن زهق النفوس سحائب السأم.

وصاح فهيم لفاروق ابنه: خذ، اذهب، فاشترِ لنا زجاجتَين من الشربات وأسرع.

– ما كل هذا؟

شعور جديد لم يعرفه فرغلي قبل اليوم، واختلطت المشاعر في نفسه حتى لا يدري ما هي! أتكون هذه النفس المنشرحة وهذا الخفق الواني سعادة؟ مهما يكن اسمها فهي شيءٌ جميل يتمنى أن يبقى طويلًا. وتقاطر الناس إلى بيت أبيه وكان بينهم زملاؤه وهم يحتضنونه في فرح وكأنما نالوا بما نال الشهادة الكبيرة هم أيضًا.

هذا الدفء المتناغم الذي يعزف أعظم موسيقى عرفتها الإنسانية، العازفون هم البشر حين يؤلفهم الحب فيؤلف بينهم وتنبعث في جنبات الدنيا أحلى ما وهبه الله للإنسان وهم يحبون بعضهم بعضًا بلا حقد، بلا حسد، بلا ضغينة، حتى تنسى البشرية عنصر الحيوان فيها؛ فلا يرفرف في أجوائها إلا شفافية الإنسان، ولا يدف في سمائها إلا أجنحة المودة، يتخطى الإنسان العقبة ليصبح إنسانًا ثم يسمقون إلى السماء ليصبحوا ملائكة … لحظات هي قليلة في حياة كل إنسان ولكنها كافية أن تجعله على اليقين أنه كما يستطيع أن يكون حيوانًا في بشريته الترابية يستطيع أيضًا أن يكون ملاكًا في نورانيته السماوية.

كانت شهاوي فرحة حقًّا، وكان فرحها في هذه المرة غير خاضع لمقاييس المكسب والخسارة بقدر ما هو متأثر بالزهو بأن في بيتهم فتًى نال الشهادة العليا.

حين خلا البهو بفهيم وفرغلي آخر الليل.

– آبا؛ أنت تعرف عثمان باشا زكي؟

– ومن لا يعرفه؟!

– وهو يعرفك؟

– أرجو ذلك.

– أنت لست متأكدًا.

– والله الرجل طيب، وكلما ذهبت إلى هناك أكرمني.

– ما رأيك أن تكلمه لأتعين بأية شركة أو مصلحة.

– أنا وأنت على الله يا بني.

•••

كان فرغلي سائرًا إلى جانب أبيه متجهَين إلى بيت الباشا أو السراية كما تعودوا أن يقولوا.

كيف سألقى هذا النوع الجديد من الناس؟ باشا … الذي لا شك فيه أنه نوعٌ فريد أو هو على الأقل نوع لم أرَ له مثلًا إلا في صور الجرائد، نعم … ولكن أين الصورة من الأصل؟

أتراه يقبل أن يستقبل أبي؟! وإن فعل فكيف يلقاه؟ ولماذا هو باشا وأبي هو الأب الساعي إلى جانبي يرزح تحت ألوان شتى من الهوان منها الفقر ومنها تصرفات الزمان ومنها كثرة العيال ومنها الذكريات المهينة، ومنها الحياة المقيتة؟

أيكون لهذا الباشا أيضًا متاعبه؟ أهو إنسان له الآمال التي قد تبلغ الحقيقة أو تنزوي خزيانةً منكسرةً مهينة؟ أيخشى على أبنائه من الزمان أن يتركهم ليربيهم غيره كما فعل أبي؟ وهل يفعل أحد مثلما فعل أبي؟

أطويل الباشا أم قصير؟ أيكون باشا وقصيرًا؟ أظن لا يمكن. باشا … باشا … انظر إلى الكلمة تجد الحروف كلها ممدودة بالألف با..شا.

بماذا سيقدمني أبي؟ ابني فرغلي … ماذا؟ فرغلي … عجيب أمر هذا الرجل … ألم يستطع أن يحسن إليَّ في شيء أبدًا؟ يتزوج لي أمًّا من السيرك، وراقصة، وتهرب … هذا خير ما فعلته ثم حين يختار لي اسمًا يختار فرغلي … من أي مصيبة أتى بهذا الاسم؟ فرغلي … فرغ لي ماذا؟ ماذا أفرغ لك؟ أفرغ لك ماذا؟ سمًّا هريًا إن شاء الله. فرغلي … هل يمكن أن يوحي هذا الاسم إلا بفراغ المسمى به وغباء المسمى له؟ حتى الاسم استخسرت أن تختاره لي يا آبا! الله يسامحك.

لم يكن الباشا طويلًا بل كان قصيرًا مبالغًا في القصر، فكان هذا أول خيبة أمل لفرغلي، ثم هو نحيف كخيال العصا، ولكنه أنيس بشوش أحسن لقاءهما، وكان الحديث منه سمحًا رضيًّا، وانقلبت عند فرغلي كل الموازين. وحين نال التوصية هجم على يد الباشا يريد أن يقبلها فإذا الباشا يختطف يده اختطافًا من يدي فرغلي المصممتَين … أستغفر الله يا ابني … أستغفر الله … لقد صنعت مستقبلي يا معالي الباشا … المستقبل لا يصنعه إلا اجتهادك وصلتك بربك … يا أولاد الكلب تشترون دماءنا وذلَّنا بالكلام المنمق وتدَّعون أيضًا طاعتكم لله … أطال الله عمرك يا معالي الباشا وجعلك دائمًا نصير أمثالنا الذين يعيشون بين الناس بحسكم … أستغفر الله يا ابني ربنا يوفقك.

•••

– لماذا سافرت من غير إبلاغي.

– أنا لا أعرف كيف أتصل بك.

– كان عليك أن تنتظر.

– خفت أن يطول الانتظار.

– وماذا عليك لو طال؟

– كنت أريد أن …

– نعرف السبب الذي سافرت من أجله.

– ألم يكن من الطبيعي أن أتعجل؟

– إخوانك ينتظرون سنوات حتى يحصلوا على وظيفة.

– ولكنهم يسعون منذ أول يوم لتخرجهم.

– هذا إذا كانوا فقراء.

– ألا تراني فقيرًا؟

– الآن، وأنت تعمل مع ثلاث جهات كل جهة منها كفيلة أن تغني أسرة … ما المرتب الذي تتوقعه؟

– المسألة ليست مسألة مرتب.

– قلتَ في نفسك إننا كنا محتاجين إليك وأنت في الجامعة وخفت بعد أن تخرجت أن نستغني عنك، وخفت أيضًا أن تستغني عنك الجهتان الأخريان.

– فلماذا تعجب من سفري؟

– المفروض ألا تترك القاهرة إلا بعد إخبارنا.

– ها أنت قد عرفت دون أن أُخبرك.

– هذا طبيعي.

– وما دام ورائي من ينقل أخباري.

– لا تحاول أن تعرف شيئًا عن وسائلنا …

– المهم أن تعطيني الفرصة أن أكلمك إذا أردتك.

– لا بأس. اكتب هذه النمرة.

– وأسأل عن اسمك؟ أقول وصفي أم …

– تسأل عن اسمي طبعًا … ولقبي أيضًا … الملازم أول وصفي الحديدي … أتظننا نعمل في خلية؟

– وأقول اسمي؟

– نعم، اسمك الحقيقي فرغلي لا نبيه الذي يطلقونه عليك عند فتحي.

– مفهوم … مفهوم.

– لمن أخذت التوصية.

– لوحيد بك عفيفي.

– شركة الأثاثات المنزلية؟

– نعم.

– خيرًا فعلت، كنا سنبحث لك عن الوظيفة في شركة كبيرة لتكون عينًا لنا على أصدقاء أمين وأصدقاء فتحي.

– وهذه الشركة فيها أصدقاء لأمين؟

– ولفتحي أيضًا.

– هايل.

– طبعًا … ضمنت بقاءك في الجهات الثلاثة.

•••

حين بدأ فرغلي عمله في الشركة كان مسلحًا بأسلحة لا تتوافر لأحد فيها، ولا يستثنى من هذا الإطلاق رئيس مجلس إدارة الشركة نفسه. فقد يكون رئيس مجلس الإدارة غنيًّا بالمال قويًّا بتأييد أعضاء مجلس الإدارة وبالمساهمين أيضًا، بل هو مسلَّح أيضًا بمعرفة الشخصيات الهامة في الحياة العامة، ولكن أين هؤلاء جميعًا من شخصية وصفي وحده؟ فكيف إذا انضم إليه أصدقاء فتحي وهم على قلَّتهم النادرة فقد كانا اثنين فقط إلا أنهما يملكان تأثيرًا قويًّا على العمال. وكيف إذا انضم إليهم أصدقاء أمين وقد وجد منهم فرغلي في الشركة اثني عشر، كل هؤلاء أصبحوا أصدقاءه منذ اليوم الأول، فما هي إلا بضعة أسابيع حتى أصبحت أسرار الشركة كلها بين يديه. ومن يستطيع أن يلعب بهذه الأسرار في مهارةٍ فائقة مثل فرغلي.

عرف في خبره أنه إذا لم يشرك وصفي في هذه الأسرار فإنه لا يستطيع أن يستعملها في حريةٍ كاملة. وكان فرح وصفي بهذه الأخبار التي تجمعت بين يدَيه لا يُقدَّر ولم يكن ساذجًا في هذا الفرح فما هي إلا بضعة أشهر حتى رُقي إلى رتبة يوزباشي.

وحين علم بالترقية طلب فرغلي وقال له في صراحة لم يعهدها منه فرغلي أبدًا: أنت السبب في هذه الترقية.

– بل أنت السبب.

– أنت الذي جئتني بكل هذه الأخبار.

– وأنت الذي اخترتني.

– الغداء عندي باكر.

– وهو كذلك.

– اتفقنا.

– على شرط.

– اشرط.

– تتغدى عندي بعد باكر.

– عندك! وهل لك عند.

– طبعًا.

– تقصد عند عمتك؟

– تركت بيت عمتي منذ توظفت.

– وطبعًا قطعت علاقتك بها.

– لا والله، على العكس؛ جعلتها هي التي تفرش لي الشقة ودعوتها للغداء هي وعم حسين وممدوح وزوجته ويحيى وزوجته. ما رأيك؟

– أردتَ أن يروا العز الذي أصبحت فيه؟

– ممدوح ويحيى يملؤهما التكبر.

– وماذا قالوا؟

– وجوههم قالت أشياءَ كثيرة.

– طبعًا الفرش جديد وعندي راديو وعندي أيضًا … لن تصدق!

– منك أنت أصدق أي شيء.

– احزر ماذا عندي؟

– طباخ اسمه عبد الشافي الملواني.

– يا نهار أسود! لا مؤاخذة؛ نسيت أني أكلمك.

– لا تنسَ هذا أبدًا.

– نتغدى عندي بعد باكر.

– وعندي باكر.

١٠

دنيا جديدة

أيمكن أن تكون هذه آنسة؟ كيف رُكِّبت هذا التركيب؟ كيف استطاع وجهها أن يكتسب كل هذه الرجولة؟ الرجولة الصارمة في عنف؛ وجهها يقول لا دون أن يسأله أحد شيئًا، ابتسامتها تشنج مزمن التصق بشفتيها لا يبارحهما إلا إذا تحدثت، وإذا تحدثت في تودد كان توددها نوعًا من العنف والزجر! ووجهها الأسمر الأخضر الذي يذكرك بالنحاس لم يرَ الجلاء ولا عرف اللمعة، يضيف إلى الزجر البادي في توددها رنينًا من التهديد في نغمات صوتها حين تريد هذه النغمات أن تكرمك بعزومة على مأكل أو مشرب … في أي مصنع ركبت هذه الآنسة؟ لا بد أنها كانت بروفة للمرأة، صُنعت خارج مصنع النساء مثل كاريكاتير امرأة أو خطوط خارجية غير دقيقة لأنثى فإذا هي رجلٌ عنيف.

طويلة أطول من أخيها وصفي، نحيفة ولكن لا بد أن تصبح سمينة في يوم من الأيام. فقد شاء باريها سبحانه أن يجعل الانبساط الذي كان ينبغي أن يكون في وجهها يترك الوجه ليرتمي على أطرافها واستدارة جسمها دون حاجة من الأطراف أو الجسم إليه فإذا هي مخلوق مترهل الأطراف والصدر وما بعده فنازلًا إلى الأقدام، جامدة الفم والأنف والعينين وشعر الرأس، كأنما أرادت السماء لحكمة لا يعلمها إلا علام الغيوب أن يقلب كل الأوضاع في هذا المخلوق فينسرح ما يطيب أمره إذا أصبح دقيقًا ويعنف ما يجمله شكله إذا مسَّته السماحة، ويغلظ ما ينبغي أن يدق، ويتجمد ما يليق به أن يلين، فهي سمينة حيث يجب أن تكون نحيفة، وهي نحيفة حيث يجب أن تكون مليئة، وكأنما سحب الله الشعاع من عينيها فلا يدري من يرى أهي نائمة مفتحة العيون كالأرانب؟ أم يقظى مخدورة العينَين كالحشاشين؟

هذه المرأة خُلقت لتكون زوجتي! أنا لن أجد من هذه الطبقة أحدًا يتزوجني إلا هذه الآنسة أو هذا المخلوق. أخوها يعرف كل شيء عني، وهو يدرك تمامًا أن أخته هذه لن تتزوج أبدًا، فأين يجد لها زوجًا مثلي؟ ستاره بكالوريوس تجارة وموظف في شركة يعرف كل أسرارها، فهو يعرف الطريق فيها إلى عليا مناصبها، وحقيقته فتًى ضائع أبوه عامل بالسكة الحديد وأمه غزية هاربة من أبيه منذ عشرين عامًا وهاربة من الزمن حاليًّا. إن قيل لأسرته مَن العريس؟ قفزت وظيفته لتكون الجواب، وإن قيل مَن أبوه؟ قيل من الأرياف، وهذه الأرياف الرحبة التي تستوي فيها الحقول ويشمخ نبات الفقير بجانب نبات الغني وتجاور القراريط القليلة اليسيرة العدد آلاف الأفدنة، فلا يدري المارُّ لمن الأفدنة ولمن القراريط؛ هذه الأرياف تستطيع أن تخفي في حنايا اسمها المتسع الجوانب المترامي الأرجاء الأعيان والعامة والأسرة المستورة والأسرة المتهرِّئة، وكذلك تستطيع أن تخفي شأن أبيه وماضي أمه مع ما تستره من حقائقَ لا يعرفها إلا حليمٌ ستار.

وأخوها وصفي في المكان الذي أتوق أن يكون فيه نسيبي، فعلى يديه ومن شعاع عينَيه النافذ ومن ذكائه الوقاد تصنع سياسة مصر في كل العهود …

هو خير من نديم ألف مرة؛ صديقي الوحيد الذي ينتمي إلى الطبقة العليا من المجتمع، ولكنه بالنسبة لي حلية أتحلى بمعرفتها ولا أنتفع منها إلا بالقليل أو بالأقل من القليل؛ فأبوه ينتمي إلى حزب والحزب فترة، وأبوه ينتمي إلى طبقة، وأية طبقة استقرت بها الحياة على حال واحدة! أما وصفي فرجل كل الأحزاب والمرتجى في كل العصور حتى إذا انقلب المجتمع فأصبحت رأسه مكان قدمَيه وقدماه مكان رأسه فسيظل وصفي في مكانه يزداد رفعة مع كل تغيير ويبلغ أقصى قيمة مع كل انقلاب.

لماذا أكفر بالله؟ هل أكفر؟ إن معنى كفرانى أنني أفكر في ذات الله، والحقيقة أن ذاتي هي التي أفكر فيها ولا وقت عندي لأي تفكير آخر حتى في الله ومالي لا أقول خصوصًا في الله؟!

ولكنني أجد نفسي اليوم مضطرًّا أن أفكر فيه، فقد ثبت عندي أنه موجود لا شك وأنه واحد لا شك فيه أيضًا. وقد كنت قرأت فعلًا لأحد الأدباء العلماء يقول إن الذي خلق الشمس لا بد أن يكون هو الذي خلق العيون لترى بها والنبات ليعيش من ضوئها والأرض لتنبت من شعاعها. والذي خلق البلح والعنب لا بد أن يكون هو الذي خلق الإنزيمات التي تهضم هذه الفواكه. ويسير صاحب المقال في إثباته بطريقةٍ علمية وأدبية، ولم أكن حين قرأت المقال أفكر في مناقشته، وإنما كانت فترة فراغ في المكتبة، ووجدت المجلة إلى جانبي فتصفحتها فكان هذا المقال وقد ثبت في ذهني لا اقتناعًا مني به ولكن المقال وجد خانة الثقافة في عقلي خاوية تمامًا فاستقر غير مزاحم، وبقي في ذهني وأتاح لي أن أتذكره الآن، وإني أعرف تمامًا لماذا أتذكره؛ فالذي خلق الشمس هو الذي خلق العيون التي ترى في ضوئها، والنبات الذي يحيا في شعاعها، والذي خلق الفاكهة وما يهضمها من الجسم هو … هو نفسه الذي خلق الآنسة حياة وخلقني لأكون زوجًا لها. الله خلق هذه التركيبة البشرية أو غير البشرية وأهلها هم الذين أسموها حياة، ولكن الذي لا شك فيه أنهم لم يكونوا يدركون يوم أطلقوا عليها هذا الاسم أنها ستثب لتصبح هذا الكيان، فإن لكل غش وخداع أمدًا يقف عنده، واسم حياة لهذه المخلوقة يتجاوز كل مدًى.

والذي لا شك فيه أيضًا أنهم حين استبان لهم أمرها وظهر من خلقتها ما كانت تخفيه الطفولة لم يفكروا أن يغيروا الاسم ويقلبوه لأن اسم ممات غير شائع في الأسماء.

وصفي يعرف عني كل شيء ولكنه أيضًا يرى أخته في كل لحظة يقضيها بالبيت، وهو أيضًا يعلم أنها لا يمكن أن تتزوج من حامل شهادةٍ عاليةٍ طبيعي لا عيب فيه، لا بد أن يكون هذا الزوج مشوبًا بكثير من النقصان حتى يتزوجها، وفرش البيت واضح لا شك فيه أنهم أسرة مستورة، ومستورة بالعافية، فمن هذا الذي يمكن أن يتزوج حياة إلا ابن غزية وعامل تلغراف.

وتم الزواج.

١١

الحسابات

حسابات الشركة في يد فتحي. والموظفون القدامى يحبون أن يستغفلوا الموظف الجديد فألقوا إليه بالدوسيهات لا يفرقون بين ما يجب أن يعرفه وما يجب ألا يعرفه وهو يعمل في صمت، ويرى ما وراء الأرقام ويتتبع المشروعات فيسير فيها إلى الوراء حتى يعرف كيف بدأ كل مشروع وكيف سار حتى يلمَّ إلمامًا كاملًا. وإن أحدًا من موظفي الحسابات لم يفكر هذا التفكير أبدًا لأن أحدًا من هؤلاء الموظفين لم يكن فرغلي، وكل مشروعات الشركة موزعة على القسم كله، ثم هي بعد ذلك موزعة على الأقسام جميعًا، فالعقود في ناحية وأوامر الشغل في ناحية والمتصرف في ناحية والإيرادات في ناحية.

واستطاع فرغلي بحذق المتفرغ والمستهدف أن تصبح كل هذه المعلومات بين يدَيه.

والعجيب أنه استطاع في أناة وصبر وتدبير مَن واجه الحياة بأم غزية وأب غير مبالٍ أن يصور كل المستندات التي يريدها؛ فتجمعت بين يديه عشرات المشروعات لو قدم واحدًا منها إلى النيابة العامة لانفتحت أبواب السجون لتستقبل عدة أشخاص ثم تنتقل عليهم لسنوات وسيكون على رأس هؤلاء الداخلين سعادة وحيد بك عفيفي رئيس مجلس الإدارة.

دهش حين تقدم إليه السفرجي في بيته وبيده طبقٌ فضي ليس فيه إلا بطاقةٌ مكتوبٌ عليها فرغلي فهيم ثم بخطٍّ صغير شركة الأثاثات المنزلية. نظر إلى البطاقة نظرةً سريعة ثم نظر إلى السفرجي.

– ما هذا؟

– منتظر على الباب.

– الباب الخارجي؟

– داخل البيت، باب الحديقة.

– قل له يقابلني في الشركة إذا أراد، وحين يحدد له السكرتير موعدًا.

وانصرف السفرجي ليعود مرةً أخرى وبيده نفس الطبق ونفس الكارت، فنظر وحيد بك إلى خادمه مندهشًا وخشى الخادم أعقاب هذه الدهشة.

– كتب لسعادتك كلامًا.

وقرأ وحيد بك … من مصلحة سعادتك أن ألقاك بالبيت، ومزق وحيد بك البطاقة في غضب وقال للسفرجي قل له من مصلحتك أنت ألا تقابلني مطلقًا هنا أو في الشركة … امشي.

•••

قلب السكرتير الظرف الكبير بين يدَيه وقرأ … حضرة صاحب السعادة وحيد بك عفيفي رئيس مجلس إدارة شركة الأثاثات المنزلية، سري ولا يفتح إلا بمعرفة سعادته مع تحيات فرغلي فهيم بحسابات الشركة. وازدادت دهشة السكرتير حين وجد الظرف مغلقًا بالشمع الأحمر في ثلاثة مواضع من غطائه وابتسم في استخفاف ونظر إلى فرغلي ثم عاد فنظر إلى الظرف.

– ما كل هذا يا أستاذ؟ أهي أحراز نيابة؟

– حين يطلع عليها سعادة البك سيعرفها.

– أليس من المفروض أن أعرفها أنا قبل أن أدخلها إلى سعادة البك؟

وقال فرغلي في أدبٍ شديد أقرب إلى الذلة: يا سعدون بك لو كانت الشركة تريدك أن تعرف كل ما يعرفه سعادة رئيس مجلس الإدارة لعينتك أنت رئيسًا لمجلس الإدارة.

– أستاذ فرغلي، أنت قليل الأدب.

– يا سعدون بك هذه صفة لا أستحقها، فلو كنت كذلك لقلت لسعادتك يلعن أبوك ولكنني …

– اخرس امشِ اخرج من …

– كما ترى أنا رجلٌ مؤدب، ولم أقل لسعادتك يلعن أبوك.

– يلعن أبوك أنت ابن ستين كلب.

– وهكذا يا سعدون بك يتضح لسعادتك أنه لست أنا من يمكن أن يقال عنه قليل الأدب.

– أنا يا ولد؟!

– يا سعدون بك كلمة أخرى وستجد حذائي على نافوخ سعادتك.

– ما هذه المصائب؟! من أي بلوى قذفت علينا؟! يا إدريس يا إبراهيم … والله لأخرب بيتك يا صايع يا … سعادة البك.

كان وحيد بك قد أصبح في وسط حجرة السكرتير ورأى سعدون وهو في حالة هياجٍ شديد، وأمامه شاب يرتدي حلةً جديدة متنافرة الألوان سيئة التفصيل، ورباط عنق يصرخ بأنه خلق ليلبسه من لا يعرف عن الأناقة شيئًا، والشاب هادئ وعلى فمه ابتسامة تؤكد أنه يمكن أن يكون أي شيء إلا طرفًا في هذه الخناقة التي يكاد أن يموت فيها سعدون من الغيظ.

وانكتم سعدون أو انغلق فمه، أما وجهه فما زال يصرخ وما زال يقول كلامًا كثيرًا، وأقبل السعاة وامتلأت الحجرة بموظفي الحجرات المجاورة وراح وحيد بك يقلب نظره في الواقفين جميعًا ثم قال ماذا جرى؟

وتقدم فرغلي في خطًى ثابتة إلى مكتب سعدون وأمسك الظرف وقدمه في استحياء وأدب إلى وحيد بك.

– سعادة البك هذا الظرف لك.

وأمسك وحيد بك الظرف وراح يقلِّبه بين يديه وكلما قلبه ازدادت دهشته وصاح في اهتياج: يا أفندي أنت، ألم تأتِ أمس إلى بيتي وأرسلت لك أمرًا ألا تجعلني أراك في البيت أو الشركة.

– حصل يا سعادة البك.

– فلماذا جئت إلى مكتبي؟

– أنا يا أفندم لم أطلب من سعدون بك أن يستأذن لي عليك تنفيذًا لأوامر سعادتكم، كل ما طلبته أن يوصل هذا الظرف إلى سعادتك. والآن وقد وصل الظرف فأنا آسف أن الظروف جعلت سعادتك تراني، ولكن سعادتك تأكد أن هذا لن يحدث مرةً أخرى إلا إذا أمرت سعادتك. عن إذن سعادتك، شكرًا يا سعدون بك، آسف يا عم إدريس يا عم إبراهيم آسف … آسف يا بكوات … عن إذنكم.

وخرج فرغلي من الحجرة بطريقةٍ تمثيليةٍ عجيبة فقد راح يتراجع بظهره إلى الباب، وعيناه على وحيد بك الذي تولاه الذهول الذي تولى جميع الآخرين، وحين أحَّس فرغلي أنه قريب من الباب استدار في هدوء ولم تفُت أذنَيه أوامر وحيد بك كل واحد يروح لشغله … مع السلامة.

•••

لم يدرِ وحيد ماذا يفعل؛ هل يستدعيه فورًا فينكشف كل الذي يريده أن يختفي؟ هل ينتظر؟ لا يستطيع! دق جرس السكرتير ودخل سعدون وآثار حمرة غاضبة ما زالت على وجهه.

– أريد ملف هذا الأفندي.

– لا بد من رفته فورًا يا سعادة …

– هات ملفه وبطَّل غلبه.

– أمرك يا أفندم أمرك.

كانت الساعة تقترب من الرابعة حين وقفت سيارة رئيس مجلس الإدارة على باب العمارة التي يقطنها فرغلي، ولم تكن الساعة قد تجاوزت الرابعة حين كان فرغلي جالسًا إلى وحيد في غرفة مكتب وحيد بفيلته التي لم يستطع فرغلي في أمسه أن يتخطى باب حديقتها.

– أوامرك.

– مكاسب هذه السرقات مائة وخمسة وعشرون ألف جنيه.

– نعم؟!

– أنا خريج تجارة يا سعادة البك.

– ربما كان المبلغ قريبًا من هذا.

– ليس قريبًا يا سعادة البك، المبلغ هكذا تمامًا.

– ليس هذا نصيبي وحدي.

– هذا نصيب سعادتك وحدك.

– هل جننت؟

– نصيب مدير الشركة ستون ألف جنيه، والسكرتير العام خمسة وعشرون ألفًا، ورئيس العقود ورئيس الحسابات عشرة آلاف لكل منهما.

وهوَّم الصمت تمامًا على الحجرة ولم يفتح فرغلي فمه. واضطر وحيد أخيرًا أن يقول.

– النهاية … طلباتك.

– عشرون في المائة.

– هل جننت؟

– من كل واحد فيكم.

– هذا مستحيل! من أين؟

– حساب سعادتك في البنك مائتان وخمسة وعشرون ألف جنيه ومائة وخمسة مليمات. وانتفض وحيد واقفًا.

– هي حصلت حسابي في البنك.

– أنا لي وسائلي.

وبينما انعقد لسان وحيد أخرج فرغلي من جراب ابن الغزية ابتسامة فيها فرح وفيها خبث وفيها تظاهر بالسذاجة وفيها شكر لأخي زوجته وصفي الذي مكَّنه أن يقف هذا الموقف المسيطر الذي لو كان أنبأه به أحد يوم التفَّ حوله تلاميذ المدرسة الابتدائية يهزون له أوساطهم لرماه بالجنون والعته. وها هو ذا اليوم يعتصر رئيس مجلس إدارة اعتصارًا حتى لم يبقَ منه إلا نفاية مغضَّنة لا تصلح أن تكون بشرًا.

– أتظن أنني أستطيع أن أدفع كل هذا المبلغ؟

– المؤكد أنك تستطيع، والباقون أيضًا يستطيعون.

– أترى الأمر سهلًا؟

– هو أكثر من سهل، فليس في مصر أحد لا يعرف طريق النيابة العامة.

– ألا نتفاوض؟

– لا بأس.

– تكون شريكنا.

– هذا كلام عن المستقبل أم عن الماضي.

– الماضي راح لحاله.

– وخلَّف عشرات الآلاف ومئاتها.

– لتكن شريكنا في المستقبل.

– هذا أمر أفرضه، ولا يحتاج إلى اتفاق معكم.

– من الواضح أنك ستطلب أشياء أخرى.

– أنتهي أولًا من المبالغ المطلوبة.

– خفِّض النسبة.

– لا مانع فإن الصلة بيننا ستستمر ولا أحب أن أجعل نفوسكم شديدة المرارة.

– أنت شديد الذكاء!

– أعرف ذلك وستنتفعون أنتم بهذا الذكاء نفعًا كبيرًا.

– كم تريد؟

– خمسة عشر في المائة.

– موافق.

– اكتب الشيك.

– ألا أعرف أولًا بقية الطلبات؟

– أنا وحدي الذي أُحدِّد متى تعرف هذه الطلبات.

– هاك الشيك.

ونظر فيه فرغلي في هدوء وثبات وكأنه تعود أن يمسك بمثل هذه المبالغ.

– والآخرون؟

– شأنك وإياهم.

– بل شأنك أنت.

– أمرك.

– غدًا يصدر قرار بأن أصبح سكرتير عام الشركة.

– ماذا؟

– والسكرتير العام يصدر قرار بترقيته إلى نائب رئيس ويفصل القرار بحيث يصبح بلا عمل على الإطلاق.

– أهذا ممكن؟

– وحيد بك أنا أعرف تمامًا كل ما هو ممكن وكل ما هو غير ممكن.

– وماذا يقول الناس وماذا يقول الموظفون؟

– أي قول سيكون أبسط مما لو رأوا المستندات منشورة بالجرائد.

– أمرك.

– شيء آخر …

– لا أملك المناقشة.

– العقود التي تربحون منها بعد ذلك توقعها أنت ونشاركك نحن فيها، أنا الشريك الجديد وشركاؤك السابقون.

– وأنت ما شأنك بشركائي السابقين.

– ألا تفهم؟

– لا تريد أن يفشوا الأسرار.

– ما دمت فاهمًا فلماذا تسأل؟

– وما الحصة التي تقدرها لنفسك؟

– نفس الحصة التي كان يأخذها السكرتير العام، وعليك أنت أن تتنازل عن جزء من حصتك لسعادة النائب الجديد.

أطال وحيد بك النظر إلى فرغلي، وراح يتوقف ببصره عند كل ثنية من وجهه، وذعر عندما طالع عينَيه وتبين فيهما أنهما يفضيان إلى فراغٍ عميقٍ أسودَ قاتمٍ مخيف، وازداد ذعره وهو يرى فرغلي يصمد لنظراته وكأن أحدًا لا ينظر إليه … جرأة لا تتأتى إلا لابن فهيم وتحية.

١٢

إفراج عن حبيس

لم تعرف الشركة بل لم تعرف أية شركة شخصًا سريعًا في اتخاذ القرارات حاسمًا في تنفيذها صارمًا في العقاب وكريمًا في المكافأة مثل فرغلي.

في مدى شهرٍ واحد انقلبت الشركة رأسًا على عقب. وأضاف إلى اسمها كلمةً جديدة؛ كلمةً واحدة قلبت موازين الشركة جميعًا، فبعد أن كانت شركة الأثاثات المنزلية أسماها شركة البناء والأثاثات المنزلية. وحين حاول مجلس الإدارة أن يعترض بأن الشركة ليس بها جهازٌ هندسي للمقاولات، قدم الجهاز كاملًا مبتدئًا بالمحاسب نديم الطوبجي والمهندس يحيى حسين ابن عمته بل وطبيب الشركة أيضًا ممدوح حسين ابن عمته الثاني وصدر القرار.

وأحسَّ فرغلي أنه في ربيع حياته؛ نديم ويحيى وممدوح يعملون جميعًا تحت رئاسته.

وهو الآمر الناهي في الشركة والرئيس واحد من أتباعه. هذا هو الربيع الذي اخترق إليه المهانة والذلة والأسى والحزن والفقر فاغرًا فاه كوحش أصابه الجنون وأمومة ممزقة السمعة كخرقةٍ باليةٍ قذرةٍ متهرِّئةٍ متهتكةٍ ملعونة وأبوَّة كالعدم أو أشد حقارة.

في هذا الربيع الذي تحيط به أنفاسه أراد أن ينسى كل شيء والناس الذين يكوِّنون أسرته أشياء لا تصلح لتكون عائلة أو تكون آدميين.

وكلما ألحَّت عليه جروح الذكرى استدعى يحيى أو استدعى ممدوحًا فأحسَّ أنهما بوجودهما تحت رئاسته يمحقان الماضي جميعًا.

كان جالسًا بمكتبه حين دخل السكرتير مرتبكًا خائفًا: سعادة البك … تسمح.

– قل.

– فقط …

– قل.

– شخص يقول إنه والد سعادتك.

– من؟

– يقول هذا يا سعادة البك.

– قل له يذهب إلى البيت.

– ممكن أن يدخل وأمنع أي أحد بعد ذلك …

– امشِ، قل له يذهب إلى البيت … اخرج.

أكرمت حياة ضيافة حميها فهيم وقدَّمت له التحايا من حلوى إلى قهوة إلى مشروباتٍ باردة وأبدت له من الاهتمام ما استطاع به أن يبتلع طرده من مكتب ابنه: وماله … أنا أبوه ويجب أن تكون زيارتي له في بيته لا في شغله.

وجاء فرغلي ودون أن يبدي ترحابًا ولو كاذبًا بأبيه.

– لماذا جئت إلى الشركة يا آبا؟

– أردت يا ابني أن أراك في مكتبك ولك سعاة وسكرتير وحجرةٌ خاصة.

– كل هذا لا يبرر مجيئك إلى مكتبي.

– معلهش يا بني … ربنا يخليها حياة قامت بالواجب.

– ماذا تريد يا آبا؟

– لا شيء يا ابني.

– بل تريد.

– وما دمت تعرف فلماذا تسأل؟

– لأني أريد أن أناقشك.

– الحكمة يا ابني لا تحتاج إلى نقاش فليس فيها شك.

– كل شيء في الدنيا يحتاج إلى نقاش وفيه شك.

– ليس في الله شك يا ابني.

– دع الله ولا تدَّع التصوف. هذا موضوع لا أناقشه ولا أناقش حتى إذا كان يحتاج إلى نقاش أم لا يحتاج.

– يا ابني الحالة …

– صعبة.

– طول عمرك ذكي وتفهمها وهي طايرة.

– متى عرفت ذلك؟

– ألستُ أباك؟!

– متى كان هذا؟

– أهذا أيضًا يحتاج إلى نقاش؟

– بل هذا هو موضوع النقاش.

– مَن أبوك إذن إن لم أكن أنا؟

– إذا كان معنى الأبوة أنك قضيت لحظةً هانئة مع زوجتك أصبحت أنا نتيجتها فأنت أبي، ولكن أهذه هي الأبوة؟

– هل قصرتُ في شيء؟

– هل فعلتَ شيئًا؟

– فكيف تعلَّمتَ ووصلت إلى ما أنت فيه؟

– تعلمتُ بالصدقة، ووصلت إلى ما أنا فيه بالرغم من أنك أبي وليس لأنك أبي.

– لماذا تكرهني كل هذا الكره يا فرغلي؟

– كل هذا الكره! وهل رأيت؟ يكفي أنك سميتني فرغلي … ألم تجد إلا هذا الاسم؟

– يا بني كان يتهيألي أنه اسمٌ طيب.

– أمعقول أن يختار أب لابنه اسم فرغلي؟

– وكيف كان يمكن أن استشيرك في الاسم؟

– وهل هذا الاسم يحتاج إلى استشارة؟ وهل كان يمكن أن تجد اسمًا أسوأ منه.

– شحات مثلًا.

– له معنى على الأقل … ثم شحات هذا صفة مرت عليَّ أوقاتٌ طويلة كنت أتمنى أن أحصل عليها، وحين كنت أعمل بالقهوة ماذا كنت؟ شحات. كان سيكون اسمًا على مسمى على الأقل.

– على قدر جهدي.

– أنا أضرب لك مثلًا، قد يبدو بسيطًا ولكنه مجرد مثل.

– أهناك أشياءُ أخرى تريد أن تقولها؟

– وهل قلتُ شيئًا؟

– كل هذا ولم تقل شيئًا!

– لم أقل شيئًا مطلقًا.

– ماذا فعلت لك يا ابني؟

– هل أنت حقًّا لست تدري؟

– كان يتهيأ لي دائمًا أني كنت أبًا طيبًا.

– خطأ؛ الطيب هو الذي يعرف الخبث والذكاء واللؤم ويختار أن يكون طيبًا، ولكن أنت مخلوق هكذا تدمر كل ما حولك ولا تحسُّ أنك أسأت في شيء، ويكفيك أن تقول لنفسك إنك طيب. وهل تستطيع أن تكون غير طيب واخترت الطيبة؟ هذا النوع من الطيبة له أسماءُ أخرى كثيرة لا أحب أن أقولها لأنني واثق أنني نقطة من دمائك.

– وهل أبقيت من هذه الدماء شيئًا؟

– بل إنها هي التي تمسك بي فلا أصفك …

– وصفتني يا ابني لا شك في ذلك.

– لا أنا لم أقل شيئًا.

– بل قلت يا بني؛ قلت على الأقل إنني أهبل خيبة خبق.

– لم أكن أتصور أنك تستطيع أن تفهم كل هذا.

– أنت حكمت علي من غير محاكمة يا فر … يا بني.

– قل فرغلي لقد تعودت عليها.

– لماذا لم تسألني؟

– أرى نفسي قتيلًا وأسأل قاتلي وهو أمام عيني.

– يا بني هذا القاتل تسأله المحكمة إنما أنت صنعت من نفسك المجني عليه والشرطة والنيابة والمحكمة، وزدتَ فحكمتَ دون أن تسمع مني حرفًا كما تفعل الشرطة أو النيابة أو المحكمة.

– لا داعي لهؤلاء جميعًا.

– أهكذا تصنع في الشركة؟

– هكذا أصنع وهكذا سأصنع طول عمري.

– فأنت ظالم.

– لا يهم.

– إن كنت ذقت الظلم حقًّا ما ظلمت.

– ما دمتُ ظُلمتُ فلا يعنيني أن أظلم كل الناس.

– حتى أبوك؟!

– وخصوصًا أبي.

– أجريمتي كبيرة إلى هذ الحد؟

– يكفي أنك … يكفي أنك …

– ماذا … يكفي أنني ماذا؟

– اخترت أمي من السيرك … يكفي أنك جعلت أمي غزية.

– أتحاسبني على هذا؟

– ألم تفكر ماذا سيلقى ابن الغزية من الحياة؟

– أما كفاني ما لقيتُه من أمك؟

– الذي لقيتَه أنت أمر كان يمكن أن يحدث أو لا، أما ما لقيتُه أنا، وما ألقاه وسأظل ألقاه فأمر كان مؤكدًا منذ كتب كتابك عليها … ألم تدرك هذا؟

– لا حول ولا قوة بالله!

– بل إن لي أيضًا القوة التي وصلت بها والتي سأصل بها رغم كل ما صنعتَه بي.

– وكفرت أيضًا؟

– ومن قال لك إني آمنت يومًا حتى أكفر.

– تكفر بالله؟

– التفكير في الإيمان والكفر أمر يشغل من لا تشغله نفسه.

– أما أنا فحسبي الله ونعم الوكيل.

– ليكن حسبك كما تشاء.

– لن تراني بعد اليوم.

– هذا شيء لم أفتقده يومًا ويسعدني اليوم أن أفقده.

– تجبَّر ما شئت ولكنك ستحتاج إلى الله وستحتاج إليَّ.

– أفضل أن أموت قبل أن أحتاج الى أحدٍ منكما.

– ومن قال لك إنك تعيش؟

– إنه أنت الذي لا تعيش.

– كنت أظن ذلك، أما اليوم وبعد أن رأيتك فقد تبين لي أنني أعيش … أعيش ملء الدنيا وملء العليا … ملء الحياة وملء الآخرة … أنا أسعد بضحكة من ابن لي، ببسمة من زوجتي، وأهنأ بصلاتي وأسعد وأنا أرى أن الطريق بيني وبين الله مفتوحٌ واضح منير أنا أعيش، وسأحاول أن أنساك تمامًا لأنك أكثر موتًا من الميِّتين. لا سلام عليك يا فرغلي وأرجو ألَّا يجمعني بك بعد اليوم طريق.

– أمنية أتمناها أنا أيضًا.

وسمع الأب توديع ابنه وهو يقفل باب الخروج، وارتمى فرغلي على الأريكة الوثيرة وقد انقسمت نفسه أقسامًا بعضها مرتاح وحجته أنه قال ما تمنى قوله طول حياته، وبعضها مرتعد؛ لأنه سمع وعيدًا لم يسمعه، وسمع من أبيه وصفًا لوجوده في الحياة شكَّ قلبه بحربة مسنونة وشقَّ أمنه بسيفٍ باتر، وفكَّر، وما أطول ما فكر، ثم ما لبث أن أطلق بسمة سخرية وطلب من حياة طعام الغداء.

١٣

سواتر

نديم الطوبجي ابن أسرةٍ عريضة الاسم ضامرة الثروة شأنها في ذلك شأن كثير من الأسرات المصرية التي اضطرت أن تحافظ على الاسم العريض بالإنفاق الذي لا يتواءم مع حقيقة ثروتها. وهذه الأسرات تصبح مع الزمن ذات مظهرٍ خادع يظن من لا يعرفها أنها على ثراء حين تعلم هي والمقربون إليها أنهم يتسترون بالكبرياء ولا أقول الكبر. فهذه الأسرات في أغلب أمرها يتمثل غناها الحقيقي في صلاتها بالناس من جميع المشارب والدرجات، فهم أصدقاء لكثير من الفلاحين ولأعيان الفلاحين وللوزراء الذين ينتمون جميعهم بلا استثناء إلى الفلاحين أو أبناء الطبقات المتوسطة، والذين وصلوا إلى مناصبهم الوزارية بالعلم وبصلاتهم وصلات آبائهم بالقرى وبلغوا من المجتمع المصري هذه المكانة المرموقة. ولولا أنني الآن أكتب لك رواية ولا أروي لك تاريخًا لذكرت لك أسماء مئات الوزراء الذين ينتمون في أصولهم إلى الفلاحين وتنتمي قلةٌ منهم إلى العمال لأن المدينة لا تعرف الروابط الأسرية التي يعرفها أهل الريف.

وهذه الأسرات ذات الرنين فيها الفقير وفيها الغني، وأغلب بيوتها مستورة لا فقيرة تستجدي ولا هي غنية تسرف في الإنفاق. وهناك أسرات تلتئم عناصرها فيعين غنيها فقيرها فيبدو الفقير مستورًا حتى ليظنه أصدقاؤه غنيًّا. وكان نديم وحيد أبويه، وكان أبوه من هؤلاء المستورين ولكنه شأن الكثيرين من هذا الجيل أراد أن ينمي ثروته فقضى عليها، وأصبح لزامًا على أفراد الأسرة الآخرين أن يخصصوا له مبلغًا شهريًّا يمكنه أن يعيش في منزلٍ معقول وأثاثٍ نظيف ويمكنه أيضًا أن يكمل تعليم نديم.

وكان من الطبيعي أن ينقص هذا المبلغ حين يتخرج نديم ويحصل على وظيفة. ومن ميزات هذه الأسرات ومن بينها أسرة الطوبجي أنها تستطيع دائمًا أن تجد وظيفة لأبنائها ولغير أبنائها بما لها من صلاتها الكثيرة المتباينة التي قد تصل أحيانًا إلى رئيس مجلس الوزراء نفسه. وهكذا عُيِّن نديم يوم تخرجه موظفًا بمجلس النواب وفى الدرجة السادسة ولم يكن تعيين المتخرج في الدرجة السادسة أمرًا محتَّمًا في ذلك الحين وإنما كان بحسب المتخرج أن يحصل على أي وظيفة ولتكن في الدرجة الثامنة أو السابعة ما دامت هذه الدرجات هي المتاحة. وكانت الحياة كما يعرف الجميع رخيصةً غاية الرخص في تلك الأيام وكانت المرتبات على ضآلتها تقيم أود البيت.

ومع الصلة الوطيدة التي كانت تربط فرغلي بنديم فإن فرغلي لم يعرف بل ولم يتصور أن نديمًا يعيش من نفقة أسرته لا نفقة أبيه، بل إن وصفي الذي لا تخفى عليه خافية لم يكن يعرف هذه الحقيقة عن نديم على الرغم من الصداقة التي اتصلت بينهما على يد فرغلي.

وهكذا كان نديم يمثل عند فرغلي أسرته باسمها العريض ولا يمثل مطلقًا عائلته بدخلها الذي تناله صدقة لا ريعًا وتفضُّلًا لا حقًّا.

وهكذا أيضًا حلا لفرغلي أن يرى نديمًا يعمل عنده بالشركة، وحين بدأ يساومه كان يساوم فيه اسم الطوبجى ذا الرنين، ولم يتصور أنه يستطيع أن يساوم فيه نديمًا الذي يعرف أنه أكمل تعليمه على نفقة أسرته.

– هل معقول أن نديم الطوبجى بحاله يعمل موظفًا باثني عشر جنيهًا؟

– وهل وجدتُ خيرًا من هذا ورفضت.

– موجود.

– يا عم أنا في وظيفةٍ مضمونة درجة سادسة لا يحصل عليها إلا أصحاب الحظ العظيم.

– أو الأسرة العظيمة.

– – يا عم خلِّها على الله.

– لا عليَّ أنا.

– أستغفر الله العظيم.

– اسمع ولا تخرف.

– أعوذ بالله! أشيطان أنت؟

– الشيطان لا يعرض عليك مرتبًا ثلاثين جنيهًا.

– كم؟ قلت كم؟

– ما سمعتَ.

– سمعتُ وقبلتُ.

وعمل نديم رئيسًا للعلاقات العامة بالشركة. ولم يمر إلا شهر وبعض شهر حتى وجد نديم نفسه في حجرة سكرتير عام الشركة الذي أمر ألا يدخل أحد إليها.

– مبروك يا عم.

– الله يبارك فيك. علامَ؟

– الصفقة التي أتممتها مع شركة ليوتي للاستيراد والتصدير.

– ما رأيك … أليست صفقةً عظيمة؟ سنقوم ببناء الشركة ومخازنها كما سنقوم بتأثيثها.

– لم تُخيِّب ظني يا نديم باشا فلا يمكن أن تجد الشركة رئيسًا للعلاقات العامة في مثل نشاطك وهمَّتك.

– البركة فيك.

– ولكنك خيبتَ ظني فيك من ناحيةٍ أخرى.

وامتُقع وجه نديم. وأكمل فرغلي: وخيبتَ ظني في الأسر العريقة.

– وازداد الامتقاع على وجه نديم وتاه لسانه في فمه وهو يقول: لماذا؟ ماذا صنعت؟

ودون أن يُعنى فرغلي بالإجابة قال: وخيبت ظني أيضًا في الصداقة التي بيننا.

– ماذا … ماذا؟

– خمسمائة جنيه عمولة من مهندس الشركة.

– ولكن ولكن …

– اقرأ هذا.

لم يكن نديم يعلم أن صديقه فرغلي أوصى نسيبه وصفي أن يراقبه، وقد استطاع وصفي أن يرغم المهندس على كتابة إقرار بالرشوة التي تقاسمها مع نديم.

وتشنَّجت أصابع نديم على الورقة وقال فرغلي في صوتٍ هادئٍ متزنٍ حنون: مزقها؛ فأنت تعرف طبعًا أنها صورةٌ فوتوغرافية.

– أستقيل.

– ما هذا الكلام الفارغ؟

– أوامرك.

– اكتب ورقة مثلها.

– أمرك.

وحين أتم نديم كتابة الورقة أخذها فرغلي وفتح درجًا وأخرج دوسيهًا بعينه ووضع فيه الورقة بهدوء ثم أغلق الدوسيه وأعاده إلى الدرج، وأدار فيه المفتاح ووضعه في جيبه، كل هذا ببطءٍ شديد حتى إذا استقرت المفاتيح في جيبه نظر إلى نديم: كم أنفقت من الخمسمائة جنيه.

– أنا … أنا …

– مبلغ بسيط، فأنت لم تستلم المبلغ إلا أول أمس.

– أنا … أنا …

– تدفع لي ثلاثين في المائة من المبلغ.

– تحت أمرك.

– وتظل هذه النسبة سارية المفعول بيننا دائمًا وفي مقابل ذلك سأساعدك في عقد الصفقات.

– أنت أعظم إنسان عرفتُه في حياتي.

– هذه النسبة أراعي فيها الصداقة والزمالة كان المفروض أن تكون المبالغ مناصفة.

– أعرف ذلك.

– وفي كل مرة ستكتب ورقة كهذه.

– ورقة؟!

– طبعًا.

– وما لزومها؟

وفكر نديم قليلًا وعاد إليه جأشه واطمأن ثم نظر إلى فرغلي: ولكن هناك أمرًا يحيرني.

– لا تجعل شيئًا يحيرك أبدًا.

– وجود ورقة واحدة من هذه الأوراق تحت يدك كافٍ، بل إن وجود أكثر من ورقة سيؤكد أنك شريك لأنك سكتَّ ولم تبلغ عن أول سرقه لي.

– في هذه المرة لم تخيب ظني في ذكائك.

– إذن فما داعي الورقة لكل عملية؟

– لأختار أنا عند اللزوم الورقة التي تناسب ما أريد أن أنزله بك من عقاب. وصمت نديم ولم يطل صمته وإنما قال: أما أنا فلم يخب ظني فيك أبدًا، أنت دائمًا فرغلي الذي عرفته في المكتبة … لم تتغير.

– أبعد كل هذا لم أتغير؟

– تغيَّرت الحُلَّة وتغير رباط العنق وتغير المنزل وتغيرت وسائل المواصلات وتغير المنصب، ولكن فرغلي لم يتغير.

– ليس هناك أي داعٍ ليتغير.

– معقول! لك حق … سلام عليكم.

– ألم تنسَ شيئًا؟

– لا، لم أنسَ شيئًا … المبلغ في البيت، في الغد سيكون عندك نصيبك كاملًا؛ المبلغ المطلوب موجود.

– طبعًا موجود وموجود أكثر منه أيضًا.

وابتسم، ولم يجد نديم مناصًا من أن يبتسم هو أيضًا فقد انتهى اللقاء نهاية أجمل بكثير مما كانت تنبئ عنه بدايته. وخرج نديم وأقفل الباب ونظر إلى الحاجب وقال له في هدوء: يستطيع البك الآن أن يقابل من يريد مقابلته.

•••

أنا لست في حاجة الآن أن أعيد عليك هذا المشهد وقد تكرر بين فرغلي وابن عمته ممدوح طبيب الشركة الذي كان يتقاضى رشاوى عن الإجازات، ويتقاضى رشاوى من الأطباء الذين يحول إليهم عمليات الشركة.

ولست في حاجة أيضًا أن أعيد المشهد ثالثة وهو يملي شروطه على ابن عمته الثاني المهندس يحيى الذي كان ينال مبالغَ ضخمة عند استيراد مواد البناء وعند الاتفاق مع المقاولين الذين يعملون معه في عمليات الشركة.

فكلاهما كان يكتب الإقرارات، وكلاهما كان يقدم نصيبًا يحدده فرغلي حسب ما يحلو له.

•••

ليس غريبًا أن يكون المال ذا أهميةٍ كبرى عند فرغلي، ولكن الحقيقة التي ينبغي لها أن تطفو هنا أمام عينيك هي أن المال لم يكن هو أهم ما كان يستمتع به فرغلي وهو يتم الصفقات مع صديقه وابنَي عمته … كان أهم ما يستمتع به أنه أصبح يمسك برقاب ثلاثتهم في أصابعه ليصنع بهم ما يشاء. والأعظم من ذلك أن أحدًا منهم لا يستطيع أن يستقيل؛ فالأمر لم يعد مجرد وظيفة وإنما أصبح اختيارًا بين الوظيفة … هذه الوظيفة بالذات ومع فرغلي بالذات وبين السجن … أصبح الأمر اختيارًا بين الحياة أو الموت إن جاز أن يسمي هذا اختيارًا.

وثار تناقضٌ عجيب، ربما اتفق ثلاثتهم أنهم الآن يلقون من المجتمع الإكبار والإجلال والاحترام وهم لصوص، فإذا حاولوا أن يتوبوا انقلبوا أمام المجتمع إلى مجرمين سفلة.

والأمر الأعجب وربما كان يثور في نفوس ثلاثتهم أيضًا أن الذين يرشونهم يقدمون لهم مع المال الاحترام والإجلال مثلهم في ذلك مثل المجتمع الذي يجهل حقيقة أمرهم. ثم إن ثلاثتهم واثق أن هؤلاء الذين يرشونهم سيكونون أول من يرميهم بالسفالة والانحطاط لو حاولوا أن يرتفعوا بأنفسهم من الدنس إلى الطهر، ومن خيانة الأمانة إلى الشرف.

وكان فرغلي يعلم أن هذا يثور في نفوسهم؛ كان يعلم ذلك من حواراتٍ كثيرة بينه وبين كل واحد من ثلاثتهم على انفراد، وكان يسعد بهذا التمزق الذي تصنعه مخالبه في ابن العائلة ذات الشهرة العريضة، وفي ابنَي عمته اللذين كانا ينظران إليه في أنفة يوم كان خادمًا في بيت أمهما.

فإذا ضم مجلس عمته أو زوجها أو كليهما ومعهما يحيى وممدوح انتشى فرغلي غاية النشوة بمديح عمته له متمثلًا في الدعاء أن يفتح الله له أبواب الرزق ويتم نعمته عليه جزاء وفائه لها وحرصه على رد جميلها. سعيدة كانت العمة وسعيدًا كان زوجها أن أثمر الخير الذي يتوهمان أنهما قدَّماه لفرغلي معتقدين أنه لا يحمل لهما إلا الشكران وأنه قط لم يفكر أنهما اصطنعاه خادمًا بغير أجر لقاء فراشٍ حقير ولقمة أكثر حقارة.

آمال فرغلي تسير في الطريق الذي رسمه لها كما يريدها أن تسير محققةً له المال والسطوة، ومحققة قبل هذين الانتقام والتصرف في مقادير أقرب الناس إليه ومصائرهم.

١٤

تاريخ

ما هذا؟ أما آن لنا أن نذكر كلمة عن مصر في هاته الأيام؟! أنتحدث عن حشرات الأرض ولا نتكلم عن النبات والأشجار.

كان فرغلي مع كل من حوله حشرات هذه الفترة، ولكن الناس الأشجار كانوا الملك والوزراء والشيوخ والنواب وأصحاب الصدارة، وكان النبات هو شعب مصر الطيب يحتقر الحشرات وينظر إلى الأشجار نظرة أسف في بعض الأحيان، ونظرة غضب في بعض الأحيان، ونظرة إعجاب في بعض الأحيان.

توالت الوزارات على مصر في أثناء الحرب العالمية العظمى، وكانت بعض الوزارات تحاول أن تغاضب الإنجليز باتفاقاتٍ سرية مع المحور بينما كانت تحاول وزاراتٌ أخرى أن تهادن الإنجليز أملًا في الحصول على الاستقلال إذا انتصر الحلفاء، وكان الملك يلهو فيميل حينًا مع الإنجليز ويميل حينًا مع الألمان فلا يرضى هؤلاء ولا أولئك.

ولم يكن الإنجليز مستعدين أن يتحملوا الموقف غير الواضح من مصر جميعها من ملكها إلى وزرائها إلى نوابها إلى شيوخها؛ فقاموا بعملية ٤ فبراير الشهيرة ليحطموا بها كل ما كانت مصر قد حصلت عليه من مفاوضات تطاولت بضعًا وعشرين عامًا وانتهت بمعاهدة ٣٦ التي اعتبرها الأحرار الدستوريون خطوة، واعتبرها النحاس ومن ورائه الوفد فوزًا مبينًا وانشقَّ بسببها وبأسبابٍ أخرى حزب الهيئة السعدية برياسة أحمد ماهر وبجانبه النقراشي.

اندكت هذه المعاهدة في حادث ٤ فبراير وقال أحمد ماهر للنحاس على مشهد من جميع زعماء مصر في ذلك الحين ومعهم الملك: إذا قبلت هذه الوزارة يا باشا فأنت تقبلها على حراب الإنجليز.

ولم يأبه النحاس وشكَّل الوزارة، واندمج الوفد مع الإنجليز وأصبحوا أسرةً واحدة تعلن عن ترابطها ورفع الكلفة بينها وبالصورة الصريحة في صدور الجرائد المصرية، وما للجرائد لا تفعل وقد استطاع الوفد أن يدبر مظاهرة في يوم تأليف وزارته حملت السير مايلز لمبسون المندوب السامي البريطاني على أكتافهم. وأصاب الشبابَ في تلك الأيام نوع من الأسى والإحباط أن يرى القتلى يهتفون باسم قاتلهم بل ويحملونه حيًّا — لا ميتًا — على الأعناق.

واستمرت الحرب وبلغت بالنسبة للمتحاربين ذروتها في معركة العلمين، وكانت الأنباء التي تحيط بها تؤكد أن الألمان لن يلبثوا أن يصبحوا في القاهرة بين عشية وضحاها، وسمع الناس وأغلب الأمر أن ما سمعوا كان صحيحًا؛ أن القوات الإنجليزية وأفراد البعثة الدبلوماسية في سفارة إنجلترا يحرقون الأوراق السرية الهامة ويستعدون لاستقبال جيوش روميل.

ولكن فجأة انقلبت موازين الأنباء فإذا بالمهاجمين يصبحون منسحبين وينتصر مونتجمري وينتصر الحلفاء نصرهم التاريخي في موقعة العلمين وتبدأ النهاية.

وتبدأ معها يد الإنجليز المتكالبة على مصر تخفِّف من ضغطها، ولم يعد يعنيها أن يبقى النحاس في الحكم أو لا يبقى، ويظل الملك متربصًا بالأيام ولم يكن حتى ذلك الحين قد انحدر إلى الحمأة العفنة التي تردَّى إليها بعد ذلك.

وكان أحمد حسنين رجل القصر على قدرة دائمًا أن يجعل الملك على صلة بأدقِّ مشاعر الإنجليز ورغباتهم.

وهكذا حين أصبح الملك على يقين أن النحاس لم يصبح ذا أهميةٍ كبرى ولا صغرى عند الإنجليز أقال وزارته.

وكانت هذه الإقالات لوزارات الوفد هي أعظم ما تعتمد عليه شعبية الوفد. فقد كان الوفد مكروهًا طوال أيام حكمه حتى إذا أقيل عادت إليه شعبيته أعظم ما تكون العودة فالشعب المصري يحب الكفاح لأنه عاش عمره جميعًا كفاحًا ورثه منذ أيام مينا إلى اليوم فإذا لم يكافح هو أحب المكافِح؛ لأنه يعبر عما يريد هو أن يفعله.

أقيلت الوزارة الوفدية وتألَّفت حكومة من الأحزاب الأربعة المعارضة للوفد في ذلك الحين. ومن هذه الأحزاب اثنان لهما أنصارهما، ولهما قوَّتهما الحقيقية، وآخران لا جذور لهما؛ أحدهما يرفع شعارًا فيه رنين الخطابة وليس فيه منطق، والآخر تكوَّن بما نال رئيسَه من ظلم، وكان الظلم غاية الظلم في ذلك الحين أن يعتقل سياسي. فأما الحزبان الحقيقيان فهما الأحرار الدستوريون والسعديون، وقد كانت لهما الأغلبية الساحقة في البرلمان توشك أن تكون مناصفة بينهما. وأما حزب الشعار فهو الحزب الوطني وكان أعضاؤه في البرلمان قلة وفي الوزارة قلة أيضًا توشك أن تكون رمزية. وأما الحزب الذي اشترك للظلم الذي لحق برئيسه وللكتاب الذي ألَّفه رئيسه فهو حزب الكتلة برئاسة مكرم عبيد وكان أعضاؤه في البرلمان قلة توشك أن تكون رمزية. أما في الوزارة فقد اشترك بعددٍ مساوٍ لأعضاء كل من حزبي الأحرار والسعديين واستمر هذا الحكم بالوزارة خمس سنوات، فكانت تلك أول مرة تكتمل فيها دورة لمجلس النواب في مصر.

وجرت بعد ذلك انتخاباتٌ عامة وكان من الطبيعي أن يكتسح فيها الوفد. وما ظنك بحكم استمر خمس سنواتٍ كاملة ولم يفُز حزب الأحرار والهيئة إلا بما يزيد قليلًا عن ثلاثين مقعدًا لكلٍّ منهما.

تغيرت سياسة الوفد في هذه الوزارة عن سياسته التي لازمها فتراتٍ طويلة من حياته، فقد رأى أن يهادن الملك في وقت كان الملك فيه يحظى بكرهٍ شعبي سعى هو إليه بكل الوسائل، وعاونته عليه أسرته جميعًا وخلصاؤه جميعًا أيضًا. وأحسَّ الوفد أنه في مأزقٍ حرج فلو أنه أرضى الشعب لأغضب الملك الذي كان في ذلك الحين قد أصبح يتصرف تصرفاتٍ رعناء بغير مشورة، إلا من خدمٍ أغبياء يكرمهم أن يتصفوا بصفة خدم، بينما هم في الحقيقة كانوا يقومون بمهام تعتبر من أحقر المهام التي يقوم بها بشر.

ومن ناحيةٍ أخرى لو استمر الوفد على مجاراة الملك والتماس رضائه السامي فقد شعبيته فقدانًا تامًّا.

وشهد الشعب في ذلك الحين نوعًا عجيبًا من السياسة فقرأ تصريحًا لرئيس الوزراء يقول إن في كابري المدينة السياحية الإيطالية قبلة يجب أن نتجه إليها جميعًا وكان الملك في كابري في ذلك اليوم.

ثم راح الوفد يُثخن الدستور بسياط لم تعهدها مصر من أي حكومة حتى ذلك الحين، فإذا بالوزارة تستصدر مرسومًا من السراي بطرد ما يقرب من عشرين عضوًا من أعضاء مجلس الشيوخ من بينهم رئيس المجلس في ذلك الحين الدكتور محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين والكاتب الإسلامي العملاق ومنشئ الرواية المصرية، وكان معه جماعة كل اسم منهم يعتبر أمة في ذاته.

وأحسَّ الوفد أن مكانته عند الشعب راحت تتدهور في سرعةٍ فائقة فلجأ إلى مفاوضة الإنجليز الأمر الذي كانت تحاوله كل وزارة، والحقيقة أننا مهما نأخذ من مآخذ على الأحزاب السياسية فإننا لا نستطيع أن نلوم أي حزب على صلته بالإنجليز. فإن نكن في ذلك الحين قد نلنا جزءًا كبيرًا من استقلالنا وأصبح لنا برلمان وممثلون سياسيون وحريةٌ داخلية هي في مأمن ما دامت بعيدة عن المصالح الإنجليزية، إلا أن الحقيقة التي لا شك فيها أن الإمبراطورية الإنجليزية كانت تحتل مصر، وكانت تحتلها بقوة السلاح، ولو كانت مصر قوية ما استطاع الإنجليز أن يحتلوها، فقصارى ما يستطيع رئيس الوزراء المصري ألا يسلم للإنجليز بكل ما يطلبون، ويحاول أن يجعل احتلالهم معقولًا أو شبه معقول. والحقيقة أيضًا أنه لم يكن بين رؤساء الوزارات أو الوزراء من تستطيع أن تقول عنه إنه خان بلاده؛ حتى الذي كان يداهن الإنجليز أشد المداهنة؛ كان يرى أن هذه هي السياسة المثلى التي قد تعود على مصر بالخير ويجعلها تنال نفعًا ماديًّا ما دامت في ظل الاحتلال لا تستطيع أن تنال انتصارًا أدبيًّا. وقد سمع الشعب النقراشي أثناء رئاسته للوزارة وهو يصرخ في هيئة الأمم المتحدة صائحًا بالإنجليز: اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة، وكانت هذه أول مرة يسمع فيها الإنجليز مثل هذه الصرخة في أعظم محفلٍ دولي في التاريخ، ومن العجيب أن حزب الوفد يوم ذاك أرسل برقية موقعة باسم رئيسه أن النقراشي لا يمثل الشعب المصري. لا علينا دخل الوفد في مفاوضات انتهت إلى فشل. ووجد رئيس الوفد أنه أصبح في موقف يتحتم عليه فيه أن يتخذ موقفًا. وكان رئيس الوفد بارعًا في إرضاء الشعب، ولكن أغلب السياسيين لم يكونوا مقتنعين ببراعته في السياسة.

في هذه الفترة كانت سمعة الملك قد بلغت الحضيض فانتفض ثلاثون من زعماء المعارضة، وكتبوا بيانهم الشهير ينبئون فيه الملك عاقبة ما تردَّى فيه من دعارةٍ سياسية وخلقية، وانتشر البيان وجن من الملك جنونه ووقفت وزارة النحاس عاجزة لا تستطيع أن تعارض البيان فهو حقيقة ولا تستطيع أن تؤيده فهي الوزارة المسئولة. وكان واجبها هي قبل أن يكون واجب المعارضة أن تنبه الملك إلي ما يأتيه وأهله من عهرٍ يسيء أول ما يسيء إلى سمعة مصر.

وهكذا لم يجد رئيس الوزراء سبيلًا أن يستعيد ثقة الشعب إلا بأن يجعله يتجه وجهةً أخرى لا يختلف اثنان في أمرها.

وهكذا ألقى مصطفى النحاس بيانه التاريخي في مجلس النواب: باسم مصر وقعت المعاهدة، وباسم مصر ألغى المعاهدة.

وانقدحت الشرارة وذهل رجال الأحزاب ورأوا المستقبل أمامهم واضحًا لا غموض فيه.

ولكن زعيمًا من زعمائهم أعلن الثورة على الإنجليز وهم أبناء هذا الشعب فلا بد أن ينضموا إلى الثورة مهما تكن النتائج.

أيد الأحرار الدستوريون كما أيدت الهيئة السعدية إلغاء المعاهدة والوقوف مع الوفد صفًّا واحدًا، وبدأت الجماعات في القتال حيث كانت تعسكر القوات الإنجليزية.

وحدث الحدث الشهير لرجال الشرطة الذين كانوا يوزعون السلاح من مقر مركز الإسماعيلية؛ فإذا بالقوات الإنجليزية تحيط بالمركز وتوجه إنذارًا للضباط الذين في داخله أن يستسلموا في مدة حدَّدوها، أو هم سيهاجمون المركز. ويتصل رجال الشرطة بوزير الداخلية ويأخذ قراره.

– ارفضوا الاستسلام.

وانقسم الناس في الحكم على قرار الوزير قائلين: لو كان معهم ما أمرهم بالموت، وقال آخرون: إنه تحمل على ضميره في شجاعةٍ منقطعة النظير مصير كل هؤلاء الرجال ليظهر العالم على فظائع الإنجليز في مصر في القرن العشرين. وهاجمت القوات الإنجليزية مركز الشرطة وقتلت عددًا كبيرًا أصبحوا اليوم جميعًا شهداء معركة وطنية من أعظم معارك مصر.

وكان هذا الاستبسال في حرب الإنجليز جديرًا بأن يجعل مصر تنال جزءًا كبيرًا من حقها المضاع.

ولكن فجأة وبغير مقدمات فوجئت مصر وفوجئ العالم بالقاهرة الخالدة ذات التاريخ العريق تحترق. وراحت الأصابع وما زالت تشير في اتجاهات عديدة وما زلت أعجب لماذا لم تشِر جميعها إلى الجهة الوحيدة التي ستنتفع من هذا الحريق؟

استقالت الوزارة واتجه الملك إلى حزبي الأحرار الدستوريين والسعديين ليؤلِّفا الوزارة؛ فرفض كلاهما، فقد كان ثلاثون منهما ومن شخصياتٍ مصرية عامة قد كتبوا العريضة للملك التي يظهرونه فيها على الفساد المنتشر حوله والتي يحمِّلونه فيها وحده مسئوليته ما سينتج عنه، وقد طالبوا بإخراج الأسماء الدنسة التي تحيط به، فحين أراد منهم أن يؤلفوا الوزارة كان رفضهم مبنيًّا على أنهم لن يشتركوا ما دام الملك يتردى في الفساد متخذًا سلمه في الانحدار من ظهور هؤلاء الحقراء الذين يزينون له الخطيئة والطغيان والفساد.

واضطر الملك أن يترك الأحزاب ويتجه إلى المستقلين. والمستقلون لا عون لهم من الشعب، وراحت مصر تتخبط كالسكران المخدور الأعمى منذ حريق القاهرة.

أليس عجيبًا أن تجد هذا التاريخ بين فصول رواية بطلها فرغلي بن فهيم والغزية، ولكن الحقيقة أن أي إنسان في مصر حتى، ولو كان فرغلي بن فهيم والغزية، تأثرت حياته ومستقبله بهذه الفترة فهي ليست جزءًا من تاريخ مصر فقط وإنما هي أيضًا جزء من تاريخ فرغلي بن فهيم والغزية.

١٥

طريق بلا نهاية

استطاعت المصاهرة التي جمعت وصفي وفرغلي في إناءٍ واحد أن تجعل فرغلي على صلاتٍ حميمة مع كل عهد. وقد استطاع في دربة الثعلب أن يعطي عطاءه بالقدر المناسب في الوقت المناسب.

فحين يبدأ الهتاف يكون أول الهاتفين، وحين تبدأ التنظيمات تصدَّرها بما له من صلات ربما مصاهرة أغدقت عليه ألوان النعيم، فقد استطاع وصفي في قفزةٍ ثورية أن يصبح من أهل المناصب الكبرى في الجهاز الذي يعمل به.

ومع الأيام توالت الأحداث ومع السنين أصبح فرغلي يثب الدرجات الوظيفية والسياسية في آنٍ معًا.

ولم يكن كثيرًا عليه أن يحتل مكان وحيد بك عفيفي منذ اللحظة الأولى، وتمكن من كرسيه تمكنًا استطاعت به يداه أن تغوصا أكثر فأكثر في أعناق قومٍ كثيرين على رأسهم بطبيعة الحال نديم وممدوح ويحيى.

وحين بدأ الصراع مع الشيوعيين سمح له وصفي أن يقدم هو أسماء زملاء فتحي وفتحي نفسه وغيرهم ممن امتدت صلته إليهم مع الأيام، وازداد فرغلي تألقًا.

وفي هذا الألق وتحت هذه الأضواء زارته إسعاد فريد النجمة المتوهجة في سماء الفن، والتي كان يراها على الشاشة فيبهت عن العالم أجمع، وينكمش خياله أن يمتد ليتصور أنه يستطيع في يوم من الأيام أن يرى هذه الأعجوبة رأي عين.

وحين جلست أمام مكتبه تدافع تاريخه كله إلى كيانه. كيف استطاع ابن فهيم وابن الغزية أن يجلس هكذا وجهًا لوجه إلى إسعاد فريد، وتذكر زوجته حياة وتساءل إذا كانت حياة حياة فالموت أمنية. إنما الحياة الحقيقية هي تلك التي تجلس الآن أمامه، وتحدثت وظل ذاهلًا عن الحديث. ومضت في حديثها وظل هو على ذهوله، وأدركت إسعاد في خبرة الفنانة التي تعرف مدى شهرتها وسحر الإشعاع المنبعث منها الحالة التي يعانيها فرغلي، وفرحت لا كما تفرح عادة كلما رأت أثرها على الناس وإنما كان فرحها أكثر عمقًا، فهذا الذي تجلس إليه نجمٌ مضيء من نجوم كل العهود، فإذا كانت تمكنت أن تصل إليه بهذه الصاعقة التي تلفُّ كيانه فإن لها إذن معه شأنًا أي شأن، وإن لها مع المستقبل أيضًا شأنًا أي شأن، فالنجوم التمثيلية يعرفون دائمًا أنهم كلما صعدوا إلى القمة اقتربوا من الهاوية، وأن تألقهم كاشتعال المغنسيوم شديدٌ مبهرٌ أخاذ ولكنه قصير الأمد سريع الانطفاء.

صمتت إسعاد، وضحكت، وظل على ذهوله فرغلي، وطال الصمت والذهول، وإسعاد بكليمها سعيدةٌ منتشية كخمر تمشَّت في أوصال عربيد.

وحين دخل الحاجب بالقهوة والكازوزا صحا الذاهل وابتسمت النشوة، وأخذ الحاجب معه الذهول والنشوة وخرج بهما وأقفل الباب عن اثنين يتيقظ كل منهما من غيبوبة كان بها سعيدًا. والعجيب أن كليهما مع إفاقته ظل سعيدًا.

وعادت إسعاد إلى الحديث دون أن تشير إلى فترة الانصعاق منه ولا فترة الانتشاء منها.

– سمعتُ عنكَ الكثير.

– أرجو أن يكون كما أتمنى.

– أنا هنا؛ ألست كذلك.

– الذي لا أعرفه إن كنت أنا هنا أم لا.

– ولكني هنا.

– وربما تشككت في هذا أيضًا.

– تأكد أننا هنا.

– فأرجو إذن أن أكون معك.

– وأنا أيضًا أرجو ذلك.

– أريد أن أبني عمارة.

– واحدة.

– كبيرة.

– ليس شيء بالنسبة إليك كبيرًا.

– العمارة.

– نتغدى معًا ونتكلم في التفاصيل.

•••

وبدأت العلاقة بريئة كل البراءة فقد أدركت إسعاد أنها تملك فرصة لن تعود، ومن في مثل خبرتها إذا تمكنت من فرصة أحسنت التعامل معها، ويكفيها ذكاءً أنها ألَّفت مسألة العمارة هذه لتتعرف به، أما ما كان لديها فقد يكفي لبناء حجرة.

عجيب ذلك القدر لقد كانت لا تجد شيئًا تعطيه فمرت بمعرض الشركة وأعجبتها بضعة أشياء اشترتها، وحين همت بدفع الثمن خطر لها أن تجرب شهرتها وتتعرف بهذا الفرغلي الذي راح صيته يدوِّي، واخترعت حكاية العمارة دهليزًا أن يخفض ثمن الأشياء التي اشترتها، وقد أدركت أنها ملكت الرجل منذ أول وهلة وازدادت يقينًا حين أمر أن يضاف ثمن ما اشترته على حسابه الخاص. خيوط مما تنسج الأيام واهية لا تكاد ترى وما هي إلا دورة أشهر قد لا تكتمل سنين، فإذا هي خيط القدر نفسه؛ تتغير الدنيا وما تنسجه لا يتغير.

•••

في هذه الأثناء بدأ الصراع بين العهد الحاكم وبين تجمع أمين الشبراوي، ومرةً أخرى تقدم فرغلي بالأسماء التي عنده، وفي هذه المرة كانت القائمة التي قدمها وحده مئات من الناس، فقد كانت صلته بالشبراوي قد توطدت حتى عرف منه أسرارًا لم تستطع الأجهزة الأخرى كلها أن تصل إليها. وقد استطاع هو أيضًا أن يضيف إلى كل من تربطه صلة بأي فرد من أفراد التنظيم سواء كانت هذه الصلة ذات شأن بأهدافهم أم لم تكن. وازداد فرغلي تألُّقًا.

تزوج فرغلي من إسعاد، وتقدم إليها برجاء واحد أن يكتما خبر الزواج، وقبلت بثمنٍ باهظ، ولكن ثروة فرغلي لم تعد تحسُّ بأي ثمن يمكن أن يكون باهظًا حتى ولو كان عشرة آلاف جنيه، أثثا شقة كانت إسعاد تنتقي وكان هو يدفع، وما أحسَّ بسعادة في الإنفاق قدر سعادته بهذه الأيام.

•••

يستطيع الزواج أن يكون سرًّا، وقد كان كذلك فعلًا إلا عن أم حسين التي تعيش مع إسعاد منذ سنواتٍ طويلة والتي لها في البيت مكانة، وكذلك لم يكن سرًّا عن فهمي عبد الموجود الطباخ وحسنين كرم السفرجي؛ فكلاهما شاهد على العقد، وكلاهما يعمل عند إسعاد منذ فترة إن لم تكن بعيدة إلا أنها كانت كافية لتطمئن إسعاد إليهما وتأنس لهما.

كان الزواج سرًّا إذن، لا يعرفه إلا هؤلاء النفر الثلاثة وما ثلاثة نفر؟ ولكن الجنين في أحشاء إسعاد يد الله تكشف المستور إذا كان المستور خبيئًا. فالأصل في الزواج الإعلان، وقد أمر به النبي أن يعلن ولو بطبل يُدَقُّ ليعرف من لا يعرف أن اختلاء فلان بفلانة إنما هو بشريعة الله وببركته، والتخفِّي في الزواج يجعله أقرب إلى الحرام منه إلى إشراق الحلال ووضوحه.

•••

وازداد الأمر سوءًا؛ فقبل أن يعلن الزواج عن نفسه بظهور الجنين على قوام الأم، كان وصفي قد عرف بأمر الزواج، وجنَّ به الجنون أن استطاع فرغلي هذا الجلف الذي التقطه من دكة أحد الوراقين أن يستغفله طوال هذه الشهور.

– تطلقها.

– هل عرفت حياة؟

– عرفت.

– وماذا صنعت؟

– أنت معها كل يوم.

– لم أرَ منها تغيرًا.

– لأنها أخبرتني.

– وصفي، ألستُ إنسانًا ككل الناس؟

– لك أنت أن تجيب على هذا السؤال.

– ماذا أكون إن لم أكن إنسانًا؟

– قطعة بشرية مهلهلة كأوراق كتاب عفن أكله السوس لأن أحدًا لا يشتهي أن يقرأه، التقطتُها أنا وجعلت منها شيئًا ذا بريق في الظاهر، ولكن ما يخفيه البريق أعرفه أنا كل المعرفة.

– لم يعد أمر أبي ولا أمر أمي يهمني … لتُذعْ ما شئت من أمرهما.

– فرغلي هل جننت؟!

– أتظني أنني أجن؟!

– هذا ما يدهشني!

– فما سؤالك هذا؟

– مجرد تعجب، لقد تزوجتَ أختي وقد عرفتُ يوم طلبتها مني كل ما يدور بنفسك، ورأيت فيك يومذاك طموحًا جعلني أتيح لك كل هذا الذي أتحت.

– وقد أتحت أنا لك أيضًا بصلاتي ما وصل بك إلى مكانك.

– ما شأنك بي؟ إني أنا الذي بنيتُك.

– كما ساعدت أنا أيضًا في بنائك.

– أغبي أنت إذن؟! أكنت مخدوعًا فيك كل هذه السنين؟

– وفيمَ ترى غبائي؟

– أتظن أنني وأنا أبنيك تركتك تُبنى هكذا حرًّا طليقًا دون أن أصوِّر كل طور من أطوار حياتك.

– ماذا تقول؟

– أتظن أنني حين أهددك اليوم أهددك بأبيك فهيم وأمك تحية أو الغزية؟

– فما أمرك القاطع هذا طلقها يا أستاذ؟ إن أمي وأبي يمكن أن يجعلا مني اليوم بطلًا قوميًّا … قل عني ما تشاء لكني لن أطلقها.

– ولكنك ستطلقها.

– بأمر منك؟!

– لقد خيبتَ ظني فيك. انظر في هذه الورقات وهي جزء قليل جدًّا مما عندي عليك من سرقات.

– طظ … هذه السرقات تخيف المرءوسين فقط اليوم؛ تخيف نديم أو ممدوح أو …

– أيها الغبي ألا تعرف ماذا أستطيع أن أفعل؟

– ما أهون هذا الذي تستطيع أن تفعله! يبدو أنك لا تعرف أهميتي اليوم، أنا عمودٌ أساسي من عُمُد العهد.

– ولأنك هكذا أستطيع في غمضة عين أن أمحوك … هذه المستندات ستذاع في العالم ليعرف العالم الأعمدة التي يقوم عليها النظام. ويومذاك لا بد أن يتخلصوا منك.

– ماذا تقول؟ أجننت؟

– من المجنون فينا؟ مهما يكن أمرك فأنت بالنسبة لي هاوٍ، أما أنا فمحترف.

– ألا تخاف مما قد يصنعونه بك.

– أنا! وهل تظن أن هذه المعلومات عندي وحدي؟

وكيف يظنون أن وصفي يفضح زوج أخته؟

– للانتقام.

– إنهم يعرفون تاريخي كله والانتقام ليس جزءًا من اللعبة التي نلعبها.

– ألا تنتقم الآن؟

– يا عبيط! أتظن أنني أفعل ذلك من أجل أختي؟

– إذن …

– إنك تحاول الخروج من يدي، واللعبة تحتم عليَّ أن أمحوك قبل أن تفعل ذلك.

– فأنت إذن لست غاضبًا من أجل أختك وأولاد أختك؟

– وماذا يضيرهم أن تتزوج؟ الموضوع الآن موضوعي أنا وصلتي بك وخروجك عن الطريق الذي أرسمه لك.

– أترسم لي أنت الطريق؟

– لقد رسمته لك من اللحظة الأولى وتركتك تظن أنك أنت الذي ترسم.

– أنا لا أخاف.

– إذن انتظر.

وقام إلى تسجيل وأسمعه شريطًا … إنه حديث بينه وبين إسعاد قال فيه رأيه في كل صراحة وآماله أيضًا، وظل فرغلي يستمع وانقض عليه الذعر وراح يعود شيئًا فشيئًا إلى ذلك الطفل في المدرسة الابتدائية يحيط به زملاؤه ويتراقصون ويصخبون ويسخرون. امَّحى الزمن جميعه ولم يبقَ من حياته الطويلة هذه التي قطعها إلا هذه الصورة فهي هو وهي ولا شيء آخر.

– كنت أبقي هذا لأرى إلى أي حدٍّ يصل بك الغباء.

– ما هي المدة المتاحة لي؟

– ساعات.

– إنها … إنها …

– حامل.

– وتعرف هذا أيضًا؟!

– في شهرها الأول.

– أنذرها الطبيب بالموت إذا حاولت الإجهاض.

– هذه مشكلتك.

– أمرك.

لم يذهب فرغلي إلى بيت إسعاد، ولم يذهب إلى بيته، وإنما أمر السائق أن يترك السيارة وينصرف، وراح يقود السيارة إلى غير هدف، يتوقف ذهنه عن التفكير لحظات ثم يتوهج كحريق ولكنه في توهجه لا يثير … مظلم هو حتى في توهجه. لقد كان رسم لكل شيء طريقًا وأعدَّ عدته لكل المفاجآت، ولكنه نسى أنه بشر يمكن أن يحب، ونسى أن البشر يعيشون في الحياة مع بشر آخرين، وأن الطريق بين كل البشر تتقاطع وتلتقي وتفترق وتصطدم وتلتحم وتنفرج وتضيق وتتباعد ويعبر بعضها من فوق بعض، وتلفُّ بهم الحياة ويلفون بها ويلفون فيها، وتغلقهم وتعريهم ويختار الإنسان ولكن اختياره مرتبط باختيار الآخرين أيضًا؛ ولهذا قال قوم إنها جبر، وقال آخرون إنها اختيار ولو أمعنوا النظر لعرفوا أنها الحالين معًا. الله يعلم والناس يعملون، هو في علياء سمائه يراهم أجمعين وهم لا يرى الفرد منهم إلا نفسه؛ ولهذا يقول قائلهم إنها جبر وتقول الحقيقة إن العلم لا يعني الجبر وإنما يعني المعرفة … الله يعرف ما سيفعلون ولكنهم هم يختارونه. ولكن فرغلي لا يعرف الله ولا يريد أن يعرفه، ويظن أنه يستطيع أن يبتعد عنه ويسير الطريق فهو اليوم يواجه نفسه عاجزًا، ولكنه أيضًا لا يفكر في الله ولكنه يتمنى أن يرى أباه، ويتمنى أن يسأله؛ لقد تزوج أبوه وطلق … إنه خاض التجربة … ولكن أين هو من أبيه؟ لقد كان أبوه نكرة … لا لقد كان نكرة بالنسبة لمصر جميعًا، ولكنه في قريته كان معروفًا مثلما فرغلي معروف اليوم في مصر والعالم، المصيبة واحدة لقد تركت أمه أباه وهو اليوم مرغم أن يترك من يحب! إن المصيبة مصيبة حجمها عند الشهير هو نفس حجمها عند المجهول؛ لكم يتمنى أن يرى أباه.

أكان هباء كل هذا الذي سعى إليه؟ أكل ما بذله من ذلة ومن خسة ومن نذالة ومن تمزيق لكل شيء جميل في الحياة يضيع من أجل بضع كلمات أراد أن يظهر بها أمام من يحبها أنه ذكي وأنه يعرف الناس.

خسة! نذالة! كيف لم أفكر في هذا؟! أنا ما زلت ممسكًا بهذه المواهب، أنا ما زلت صاحبها. كيف لم أترك مواهبي تعمل؟! ما هذا الانهيار؟! ففيم إذن كنت أمسك برقاب الناس؟! إن بين يدي أصنافًا من الناس شتى أحركهم كالدمي فيتحركون أو يموتون … كيف غاب عني هذا؟! لا بأس عليَّ؛ لقد فوجئتُ بما لم أكن أنتظر وكنت أحتاج إلى هذه الساعات القليلة لأعود فرغلي العملاق وأنسى فرغلي الذي كان يزفُّه الأطفال بالسخرية والاحتقار. ينبغي ألا أذكر هذا اليوم بعد هذا؛ لقد أمحى، لقد مزقته وأنا أمزق كل ما يتصل بماضيَّ، لم يبقَ مني اليوم إلا فرغلي العملاق المسيطر المتحكم الذي يمسك في يديه مصائر آخرين. إذن فلألقِ بهم على منضدة مواهبي ولأنتظر … وليمت الحب وليمت الابن الذي يسعى إليَّ من ضمير الغيب، إذا كان هذا أو ذاك سيقف بيني وبين القمة التي أعتليها. إن الذي يمزق صلة الرحم بأبيه يستطيع أن يمزق صلة الحب بزوجته ويستطيع أيضًا أن ينسى أن له في أحشاء زوجته طفلًا.

إن الذي يعرف كيف يكون ابنًا بلا أب يستطيع أن يكون أبًا بلا ابن.

وماذا على هذا الجنين لو وجد نفسه ابنًا لغيري؟ هو ربما حرم مالي، وربما حرم سطوتي وجاهي، ولكن ما أهون هذا إذا كان هو سيحرمني المال والسطوة والجاه جميعًا!

•••

– نديم.

– أنت؟! في هذه الساعة من الليل؟!

– أجلسني أولًا.

– تفضل.

– هل أجد عندك قهوة؟

– لا بأس أوقظ الخدم.

– لا … لا تفعل! أريدك وحدك. هل عندك خمر.

– عندي.

– هاتها.

– أنت لا تشرب.

– أتخبرني عن عاداتي؟ الآن أريد أن أشرب أي شيء؛ أي شيء حتى ولو كنت في العادة لا أشربه.

•••

– طعمها مر! لماذا يحبونها؟

– إننا لا نحب طعمها وإنما نحب أثرها.

– ألها أثر.

– سترى.

– سنرى.

– ماذا بك؟

– أريدك أن تتزوج.

– من؟ أنا؟!

– نعم أنت.

– أتزوج؟

– زوجتي.

– حياة؟

– أنا لا أكرهك إلى هذا الحد.

– ألك زوجةٌ أخرى؟

– ألم تكن تعرف؟

– سمعت إشاعة ولم أصدقها، ولكن الإشاعة لم تقل إنه زواج.

– ولماذا لم تصدقها؟

– لم أصدقها.

– لماذا؟

– هكذا.

– لا بد من سبب.

– هل سكرت؟

– ماذا تعني بسكرت؟

– أتحسُّ دوارًا؟

– لا شأن لك … أجبني … لماذا لم تصدق الإشاعة؟

– أتأمرني أن أقول؟

– وهل بيني وبينك إلا الأمر مني والطاعة منك؟

وأطرق نديم وصمت قليلًا ثم قال: نعم فعلًا.

– طبعًا … فعلًا.

– فإذا كذبتك.

– سأعرف.

– وهذا أيضًا صحيح.

– إذن لماذا لم تصدقها.

– لأن معنى هذه الإشاعة أنك أحببت إنسانًا.

– وماذا في ذاك؟

– لم أكن أظن أنك تستطيع أن تحب.

– في هذه المرة أنت محق.

– فلماذا تزوجت إذن؟

– كانت حلمًا وأردت أن أحققه.

– وصحوت؟

– أنا مرغم أن أصحو.

– وأنا ما شأني؟

– زوجتي حامل.

– لا غرابة في هذا.

– أريدك أن تكون أبًا لهذا الطفل.

– أنا! أنا! أهذا معقول؟ أنت سكران لا شك.

– انظر إلى الكأس، لم أشرب منها إلا جرعة أو اثنتَين.

– فكيف تجرؤ؟

– كيف ماذا؟

– كيف … كيف … كيف تفكر أن ترغمني على زواجٍ مثل هذا؟

– أرغمك بما لي عليك من حق الإرغام.

– أيبلغ الأمر إلى هذا الحد؟

– الطريق الذي سرنا فيه لا نهاية له ولا أحد منا يعرف ماذا سيلاقي فيه، إنه طويل ومظلم ومبهم قد نسعد فيه أحيانًا وقد نشقى أحيانًا أخرى.

– ولكنه دائمًا مخيف؛ مخيف وأنا سعيد به ومخيف بشكل أكثر وحشية وأنا شقي فيه، ولكني كنت أتوقع منه أي شيء إلا هذا.

– إلا ماذا؟

– أن أكون ستارًا.

– أنت ستار لزواجٍ شرعي.

– ما لم يعلن فهو والزنا سواء.

– ولكنك أنت تعرف وسترى عقد الزواج، ولكنك لست ملزمًا أن تنتظر شهور العدة.

– وهل أعلق شهادة الزواج بينك وبين زوجتي في بيت الزوجية أم أخفيها؟ والطفل لماذا أنسبه إليَّ وهو من غير دمي؟ أي فرق بيني وبين متستر على صلةٍ غير شرعية.

– هذا مصيرك.

– إني أرفضه.

– أنت مضطرب وتواجه مفاجأة لم تكن تنتظرها، وقد تعرضت أنا منذ ساعاتٍ قليلة لمثل هذا فأصاب الشلل تفكيري. إنك ستتزوج زوجتي إسعاد، ولكن عليك الآن أن تعود إلى النوم أو القلق هذا شأنك، وإنما حتم عليك أن تفكر لأنه حتم عليك أن تفعل ما أريد. تصبح على خير.

– انتظر.

– وفيم أنتظر؟

– هذا الزواج لا يمكن أن يتم.

– كيف؟

– لا يجوز زواج الحامل.

– أعرف ذلك، ألم أقل إنك لست ملزمًا أن تنتظر العدة فأنا أعرف أن عدة الحامل نهايتها الوضع.

– وإذا لم أتزوجها فورًا فلا معنى للزواج.

– متى كان الحرام مانعًا لك؟ وهل السرقة والاختلاس والغش والتدليس حلال؟

– وهي كيف توافق؟

– لأنها مثلك لا تملك أن ترفض.

– والابن؟

– فليحمل اسمك، فهو اسم أسرةٍ شهيرة لا بأس بها.

– أترمي بطفلك الى اسم رجلٍ آخر؟

– لقد رمتني أمي ورميتُ أبي؛ صلة الأرحام عندي لا قيمة لها! من الغد تكون زوجًا لإسعاد …

– ولكن كيف ستكون صلتي بها؟

– هذا أمر تدبرانه أنتما لا شأن لي به، هذا شأنكما. تصبح على خير.

– خير! النهاية … مع السلامة.

١٦

الحق … الحق

حين وصلتها ورقة الطلاق مع ساعٍ من مكتبه لم تصدق عينيها إلا بعد أن قرأتها مرات ومرات، ورأت الشاهدَين فأدركت لماذا أمر أن يخرج فهمي وحسنين من خدمتها، كانت الورقة عادية من أوراق مكتبه؛ فالزواج العرفي يتم الطلاق فيه بورقةٍ عرفية؛ ورقة مثل كل الورق الملقى في الطريق ولكنها بالنسبة إليها دمار، وإن كانت تتوقعه منذ تم الزواج، وفي هذه المرة وقع على الورقة فهمي وحسنين أيضًا، كيف عثر عليهما؟ إنها لا تعلم عنهما شيئًا منذ أعطت كلًّا منهما مائة جنيه وصرفته من خدمتها والدهشة تأكل وجهه. نفس الدهشة ارتسمت على وجه كلٍّ منهما وكأنما كانا متفقَين عليها. أين وجدهما وجعلهما شاهدي الطلاق كما كانا شاهدي الزواج، مضيقًا بذلك دائرة العارفين إلى أقصى حد! إنها لا تعرف، ومن أين لها أن تعرف أي شيء مما يصنعه فرغلي؟ لم تكن تتصور أن زواجها به سيدوم فقد أدركت يوم طلب إليها أن يكون زواجهما سرًّا أن زواجها سينتهي بالطلاق، ولكن الأنثى قد تدرك أن الحريق حريق، ومع ذلك تندفع إليه في وعي وإصرار وعلم وخطًى ثابتةٍ مدركة، فإذا أحاطت بها النيران واشتعلت بفؤادها والتهمت مشاعرها وكيانها أصابها انهيار من فوجئ بالأمر لم يكن يدريه، لم تسأل نفسها لماذا؟ فإن كان لا بد من لماذا، فقد كان ينبغي لها أن ترددها يوم قبلت الزواج أن يكون سرًّا. إنها فنانة وليست في حاجة إلى مال ولا هي في حاجة إلى سلطان وهي لم تحب فرغلي ولم يجذبها إليه إلا بريق الجاه الذي أصبح يتمتع به، ولكن فيم كانت تريد هذا الجاه؟ وكيف كانت ستنعم به والزواج سر لا يعلمه أحد إلا أهل بيتها الثلاثة؟ وكلهم لم يكن محتاجًا لهذه الورقة أو لهذا الزواج حتى يزداد احترامًا لها. لماذا هذه كان مكانها في ذلك اليوم وليس الآن.

كانت فكرة انتهاء الزواج قد بدأت تضمحل وتتخافت في نفسها منذ حملت وحين أرغمها أن تحاول الإجهاض، وبلغ به إصراره أنه كان يستدعي الأطباء ليروا رأيهم، وهو من هو شهرة. عاودتها خيبة الأمل حتى إذا أجمع الأطباء أن إجهاضها معناه أن تموت ثبت لديها أو كاد أنه لن يستطيع أن يطلقها وهي تحمل طفله، فإن ما يخفيانه هما لا بد أن يذيعه ميلاد الطفل. كان آخر طبيب يستشيرانه يزورهما قبل أن تصلها ورقة الطلاق بأيام ثلاثة، وفي هذه الأيام الثلاثة كانت على شبه يقين أن الزواج سيدوم، ولكنه يقين المستنتج لا المتثبت، وحين جاءت الورقة اندكَّ شبه اليقين ليسفر عن يقينٍ كامل لا شك فيه ولا شبهة … لقد طُلِّقت.

والولد؟ والجنين؟!

•••

– لقد اتفقتُ مع نديم.

– من نديم؟

– ستعرفينه.

– علامَ اتفقتَ؟

– أن يتزوجكِ.

– اتفقتَ؟

– اتفقتُ.

– وأنا … أليس لي رأي؟

– إذا اتصل الأمر باسمي ومكانتي فلا رأي لأحد إلا لي.

– أتتصور أن أوافق؟

– أنا لا أتصور؛ أنا واثق.

– من أين جاءتك هذه الثقة؟

– أنا دائمًا أثق فيما أفعل.

– الناس ليست حجارة؛ تستطيع أن تقول لا وتستطيع أن ترفض بل وتستطيع أن تنتحر إذا أرادت.

– قد يستطيع الناس أن ينتحروا، وهذه نهاية تحل مشاكلي كلها معًا! أما أن الناس تستطيع أن تقول لا فهذا غير صحيح. وأمامك الناس أترين أحدًا يقول لا.

– أنا فنانة.

– طظ.

– أستطيع أن أستغني عنكم، العالم العربي كله سيهتم بأمري.

– وفيم اهتمامه؟ إن الفنانة أيضًا تستطيع أن تموت، وليحزن عليك المعجبون ساعة أو بعض ساعة وليعرضوا أفلامك أسبوعَين أو ثلاثة، ثم ينطبق عليك قانون البشر الذي لا بد له أن يموت.

احتقن وجهها بدماء غضب وقهر؛ كان التهديد واضحًا، وكانت تعرف أنه يستطيع دائمًا أن ينفذه. وخافت؛ فهي مهما تكن فنانة وشهيرة وقادرة إلا أنها أيضًا تخاف؛ لأن الناس عادة يخافون.

– وابنكَ؟

– نديم سيصبح أبوه.

– وكيف سأتزوج وأنا حامل؟

– ومن قال إنك حامل؟

– ألا تعرف؟

– وهل معرفتي تجعل هذا السر علنًا؟

– والأطباء؟

– إنه سر مهنة ولو أفشاه أحدهم فهو يعرف مصيره.

– وأم حسين وفهمي وحسنين؟

– لقد رأيتِ توقيعَي فهمي وحسنين.

– أنت تعرف مكانة أم حسين عندي؟

– هذا لا يهم، ولكن وجودهما معك سيجعلهما أكثر صمتًا.

– ألا تخشى أن يفشى فهمي أو …؟

– دائمًا الذي يتعامل معي هو الذي يخشى، أنت تعرفين مكانتي التي جعلت إسعاد فريد تسعى إلى التعرف بي مدعية بناء عمارة وهي لا تملك ما يبني عشة، هذه المكانة تضاعفت عشرات المرات اليوم، فهل مثلي يذيع سره طباخ أو سفرجي؟

– ونديم؟

– ألا ترين أن الأسئلة أصبحت تافهة؟

– نعم أنت محق.

– إذن؟

– لا شيء.

– مؤخر الصداق؟

– لا أريده!

– هذا حقك.

– ماذا؟

وانفجرت ضاحكة في قهقهةٍ عالية كلها بكاء يزلزل كيانها وهي تردد حق … حق حق … وتضحك وتتزلزل وتضحك.

ونظر إليها فرغلي مليًّا، ووضع المؤخر ألفَي جنيه على منضدة، وتركها هي تواصل قهقهتها المزلزلة العالية النحيب، وهمَّ بالانصراف، وفجأة صمتت كأنها آلةٌ عالية الضجيج خربت فجأة، صاحت به: نسيت شيئًا.

– ماذا؟

كان قد بلغ الباب الخارجي فانتظر دون أن يلتفت وقالت هي: ورقة الزواج.

وأدار لها رأسه فطالعت نصف وجهه وعينًا من عينيه وخافت؛ كيف استطاعت أن تعاشر عينَين هذه إحداهما؟! وسمعته يقول: أبقيها عليك، لن تجرئي على إظهارها، لمن ستظهرينها؟ للناس لتقولي لهم إنك تزوجت زواجًا باطلًا، أم لابنك لتقولي له إنك نسبته إلى غير أبيه بعقدٍ مزور؟ أبقيها فقد تكون ذكرى لك في وقت تحتاجين فيه إلى ذكريات.

– ولماذا أحتاج إلى ذكريات ومعي ابنك أو بنتك؟

– أبقي عليك الورقة وما تنتظرينه. سلام عليكم.

وخرج ونظرت إلى الباب يقفل من خلفه، وعجيب أن تذكر كلمة السلام الآن.

وظلت في صمتها المروِّع وانطبق الصمت على الحياة جميعًا … وساد البيتَ نوع من الصمت المفزع، وكيف له أن يهدأ وفى أجوائه ثلاث جثث أم زوجة، ومشروع ابن أو بنت، وصديق عمر.

١٧

الزواج والجنين والمال

أنا أعرف ما ارتكبت، وأستحق ما أنال، ولكن أنت ما ذنبكِ؟

– تزوجته.

– ليس هذا ذنبًا.

– لقد أجرمتُ.

– في حقِّه؟!

– في حق نفسي.

– لعلكِ أحببتِه.

– أتظنني ساذجة إلى هذا الحد.

– ليس الحب سذاجة.

– إنه لا يعرف الحب.

– ربما عرفتِه أنت.

– الذي لا يعرف الحب لا يمكن أن يستطيع أحد أن يحبه.

– وكنتِ تعرفين هذا؟

– كما أعرف اسمي، وكما لا أعرف أصله.

– لا تعرفين أصله!

– كان بالنسبة لي نباتًا شيطانيًّا يستطيع أن ينبت في غير أرض ومن غير بذرة.

– ولم تحبيه؟

– لقد أجبتُك.

– فلماذا تزوجتِه؟

– أغراني وميض الجاه.

– أمثلك يغريه وميض الجاه؟

– وخفت.

– وعرفتِ الخوف أيضًا؟

– الجاه يخيف.

– ما الذي أخافك؟ إنك فنانة، إنك مفروضة على المجتمع بأمر من السماء التي منحتك الموهبة.

– ولكن المجتمع لم يصبح حرًّا، ولن يصنع شيئًا إذا حرمته السلطة هذه الموهبة التي يعجب بها.

– الآن فهمت.

– ألم تكن فهمت؟

– فهمت لماذا أطعتِه وتزوجتِني.

– لقد ازداد سُعارًا وازددت خوفًا.

– إنى أعذرك.

– وأنا أحمل وليدًا هو أملي، وعليَّ أن أحافظ عليه.

– أي وليد هذا الذي تحافظين عليه؟

– لماذا تقول هذا؟

– ألا تدرين ماذا فعلتِ بهذا الوليد؟

– كل ما فعلته أنا مرغمة عليه.

– إلا أنك حملتِه.

– ألم أكن مرغمة على ذلك؟

– كنت تستطيعين أن تمنعي الحمل.

– كنت أحاول أن أترضى أباه، وأضمن أن يظل حماية لي.

– من أجل مصلحتك الشخصية إذن حملت هذا الوليد.

– لم أكن أدري.

– كنتِ لا تريدين أن تدري.

– حاسبتَني وما حاسبتُك.

– المجرم لا يحاسِب.

– فمن يحاسِب؟

– من يستطيع ألا يكون مجرمًا؟

– فأنت معترف!

– مختلس، لص، مشترك في جرائم منها القتل؛ فكم سكت على عمارات أعلم أن الأساس فيها سيؤدي إلى قتل سكانها! إن مثلي يحمل على أكتافه جرمًا أعظم من الحساب.

– وها أنت تدفع الثمن.

– أن أكون زوجًا لكِ؟

– أن ترغم على ما لا تريد.

– هذا أبسط كثيرًا مما يجب أن أنال ومما سأنال؛ فالوضع الذي نحن فيه لا يمكن أن يستمر.

– أيَّ نحن تقصد؟

– أنا وفرغلي وممدوح ويحيي ووصفي وكثيرون وكثيرون.

– كيف تنوي أن نحيا؟

– نحن لا نحيا.

– أقصد أنا وأنت.

– أمر هذا متروكٌ لكِ تمامًا، أو لمن فرض علينا هذا الوضع.

– هو لا يهمه إلا أن يذيع أمر زواجك بي، وقد تم هذا، وأن ينتسب الطفل إليك.

– وهل ستقبلين هذا؟

– القبول يكون مع الاختيار.

– ولكن الولد ما ذنبه؟

ربما كنت على كل ما ذكرته من جرائم اسمًا أخفَّ وطأة على الطفل من اسم أبيه الحقيقي.

– ولكن انتساب الابن إلى غير أبيه أمر في ذاته يعتبر ظلمًا فادحًا لهذا الابن.

– إذا عرفه.

– وهل أنتِ واثقة أنه لن يعرفه؟

– سواء عندي أن أكون واثقة أو غير واثقة، أنا لا أملك الاختيار.

– إذن فسيبقى زواجنا حتى تلدي الجنين.

– ليس هذا ضروريًّا، يمكن أن تطلقني بعد شهر أو شهرين إذا شئت.

– وهل تزوجتُك حتى أطلقك؟

– أعرف أن الزواج باطل.

– وأنا أيضًا أعرف ذلك.

– وأعرف أنك تعرف.

– كلانا ضحية، وأنا أترك لكِ حرية التصرف.

– ليس مجال الاختيار واسعًا على كل حال. سيكون كلٌّ منا في غرفة.

– أمرك.

– فلا داعي لارتكاب خطيئاتٍ أخرى لسنا مرغمين عليها.

– وإلى متى تريدين الزواج؟

– هذا إليكَ.

– أنا لا يضيرني أي وقت تشائين.

– إذا لم يكن عندك مانع فليكن بعد الولادة ببعض الوقت حتى يتأكد الناس أنك أبوه.

– لا بأس.

– أنت رجلٌ طيب.

– ولكني مجرم.

– يستطيع فرغلي أن يجعل الطيبين مجرمين.

– السذاجة الفاضحة تستوي مع الإجرام الغريزي.

– كنتَ تستطيع أن تكون خيرًا من هذا.

– ربما.

– هل أساء إليك هذا الزواج إساءةً أخرى غير غضب أسرتك؟

– أسرتي أمرها هين.

– إذن هناك ما هو أدهى؟

– خطيبتي.

– هل كنتَ خاطبًا؟

– وأوشكت أن أقدم الشبكة.

– وهل يعلم فرغلي؟

– لا يمكن؛ لم يكن من الممكن أن أخبره.

– لماذا؟

– إنها من أقربائي وأبوها رجلٌ شريف.

– أيُغضِب هذا فرغلي؟

– فرغلي يكره أسرتي كما يكره كل أسرة، أما أن يكون أبوها شريفًا فهذا ما لا يمكن أن يحتمله.

– فكيف أقدمتَ على الخطبة؟

– توهمت أنه قد يغفرها لي ما دمت سأظل سائرًا بين الخطَّين اللذين يرسمهما لكلِّ واحد منا.

– والآن؟

– لا أمل.

– أنا مستعدة أن أخبرها بكل شيء.

– تزداد الأمور سوءًا.

– لماذا؟ إنك مرغم.

– هل ستقولين لها سبب إرغامي؟ مصيبة! هل ستقولين لها أني أستر زواجًا لم يُعلن؟ مصيبةٌ أكبر! سأصبح في نظرها قوَّادًا شرعيًّا. هل ستقولين لها بأن الزواج بيننا ليس صحيحًا؟ مصيبةٌ أكبر وأكبر؛ محتال وزانٍ وقواد!

– فماذا تنوي أن تفعل؟

– لقد اخترت طريقي وعليَّ أن أسير فيه حتى النهاية.

– أترى له نهاية؟

– لكل شيء نهاية، حتى طريقنا هذا له نهاية.

– انتظر … خبرني.

– ماذا؟

– لقد ذكَّرتني بالنهاية.

– بماذا ذكَّرتُكِ؟

– أنت طبعًا تنوي أن تطلقني.

– حين تأمرين.

– ليس هذا هو المهم.

– فما هو المهم؟

– بالطبع لقد كوَّنتَ ثروة.

– طبعًا.

– ومن المؤكد أنك ستتزوج في وقت من الأوقات.

– أظن ذلك … لا أدري.

– المهم ماذا ستصنع بثروتك هذه؟

– طبعًا تقصدين بعد موتي. أظن … أظن …

– وهل في هذا ظن؟ إنك طبعًا لن تعطيها أو تعطي منها لابن فرغلي أو بنته.

– ماذا تريدين أنت؟

– غير معقول أن تحرم أبناءك لتعطي وليدًا الصلة بينك وبينه هي الإرغام والقهر والإذلال وقتل الأمل وقطع الصلات بينك وبين خطيبتك التي كنتَ تحبها، لماذا تعطي ابن هذا الذي فعل بك كل هذه الأفاعيل مالًا؟ وما علينا من هذا جميعًا؟ لماذا تعطي شيئًا من ثروتك لطفل ليس طفلك على كل حال.

– وفرغلي أيضًا لن يعطي ابنه أو بنته منكِ شيئًا.

– فرغلي عنده أولاده الرسميون ولا يمكن أن يعلن أبوَّته التي فعل كل هذه السفالات ليخفيها، لقد أذلَّني وأذلَّك وزيَّف أبوة ابنه. أبعد كل هذا سيعطيه؟ طبعًا لا … طبعًا لا!

– إذن …

– إذن لم يبقَ لهذا الجنين الذي أحمله طفلًا كان أو طفلة إلا أنا.

– إنكِ ثرية.

– إنكَ واهم.

– تكسبين كثيرًا.

– إننا نكسب كثيرًا ولكننا نضطر إلى إنفاق أكثر مما نكسب. لا بد لنا من مظهرٍ براق، سيارة فاخرة، أفخم ثياب.

– وفرغلي؟

– أعطاني المؤخر، قال إنه حقي وما أخذته منه في مدة الزواج القصيرة أوشك أن ينتهي؛ فأنا لم أعمل أثناء الزواج إلا أعمالًا قليلة. فقد شغلني عن العمل بمواعيده غير المنتظمة، وأهم شيء في عملنا المواعيد.

– وماذا ستفعلين؟

– آه … وأعطاني عشرة آلاف جنيه مقابل أن أجعل الزواج سرًّا.

– مبلغٌ كبير.

– ولكنه عاد واقترض منه خمسة.

– اقترض؟! فرغلي يقترض!

– كان قد تمكن مني وأراني كيف يستطيع أن يمحو اسمى من دفاتر الفن واقترضه.

– تقصدين اغتصبه.

– لك أن تختار من الأسماء ما تشاء؛ لا يهم.

– وأنفقتِ الآلاف الأخرى.

– اشتريتُ سيارة … الموقف مرعب.

– إذن …

– ليس أمامي إلا العمل.

– أظن ذلك.

– إننا نحن الفنانين حياتنا قصيرة ومستقبلنا في يد الحظ وحده، قد يُقبل علينا الجمهور فترة ثم ما يلبث أن يزهدنا، ونحن لا نعرف لماذا أقبل ولماذا زهد. والجمال والشباب والنضارة فترةٌ قصيرة فإذا اطمأن بنا القلق على دوام الجمال ظلت المرآة تُخيفنا في كل يوم؛ لأن التجعيدة الواحدة في وجهنا معناها النهاية. أرأيت لا بد أن أعمل في هذه الفترة المحدودة برغبة الجمهور وإرادته المحدودة بشكلٍ مؤكَّد بتقدم الزمن وانطفاء مصابيح التألق الإلهي ما تعمله غيري أضعافًا مضاعفة لأضمن لهذا الجنين أن يعيش بعد موتي. فلن يجد أحدًا له بعد موتي، لم أكن أفكر في هذا، أعطني التليفون من فضلك. لا بد أن أبدأ فورًا … الآن … فورًا.

•••

وبدأت وبدأت بجنون، ولم يعد يعنيها ما يعني الأخريات أن يكون اسمها بعرض الشاشة، وأن يكون وحده عليها بلا مزاحم، ولم يعد يعنيها أطويل دورها أم قصير، ولم ترفض أي برنامج في الإذاعة؛ أصبح المال هو هدفها الأول والأخير. وربما قال قائل كلهن كذلك، وإنهن كذلك إلا أن بعضهن يحببن أن يتظاهرن بالفن وبالفهم للأعماق؛ تلك الكلمة التي يقولها كل من يعمل في هذا الميدان دون أن يعنيه مدلولها وإنما يعنيه أن يستمتع بنطقها، وبعضهن أيضًا يحببن أن يبدين أنهن عازفات عن العمل وأن الملل أصابهن من سعة الشهرة.

استغنت إسعاد عن كل هذه المتع من التدلُّل وادعاء الزهد في العمل والتظاهر في الرغبة عن الشهرة، واندفعت كحريق تبحث عن المال.

وفي هذا اللهيب كانت تعرف أن مثيلاتها ينلن المال أيضًا من طرقٍ أخرى ولم تكن هذه الطرق غريبة عليها ولكنها لم تكن تبذل نفسها لمال، وإنما حين يطيب لها أن تفعل. أما اليوم فقد استطاعت أن تقمع هذه النفس وأصبح المال هو الشيء الوحيد الذي يطيب لها أن تصل إليه وهي تأمل حين يكبر ابنها ألا يسمع عنها ما يشين. وأحسَّ نديم أن هذا الطريق يجلب عليه خزيًا مشهرًا أمام الناس؛ فإن أحدًا لا يعرف العلاقة الحقيقية بينه وبين زوجته إلا فرغلي، وحاول أن يحتجَّ فصرخت به: أنت تعرف حاجتي إلى المال.

– وسمعتي؟

– وهل لمثلنا سمعة؟!

وأطرق خزيان وأنقذه ظهور الجنين معلنًا عن قدومه.

إسعاد عفيفة ولكن هالها أن يمر وقت ولا تأتي فيه بمال ولم يطل بها التفكير، فإن مثيلاتها أيضًا يلعبن القمار ولا يخسرن فيه أبدًا لأن اللاعبين يحبون أن يخسروا لهن مالًا.

وما دام ظهور الجنين قد منعها الحصول على المال من العمل فإنه لا يستطيع أن يمنعها من الحصول على المال على موائد القمار.

١٨

مشروع العمر

كان فرغلي قد تعلم في معاملته لمن يمسك برقابهم أن يجعل ضغط يده يتوقف قبل أن يزهق الروح، وكان قد تعلَّم أنه حين يجعل واحدًا منهم ينحني ويعفر رأسه في حمأة الذل عليه بعد أن يجعله ينفذ ما يريد أن يفتح له بابًا يعود عليه بكسب يُخفِّف الذل الذي أصابه، فإذا لم يضمد جراح الآدمي فيه أتاح لشرة المال أن تجعله يهدأ إلى بعض راحة.

– مشروع العمر يا نديم: أي مشروع؟

– وسأجعلك وحدك المسئول عنه.

– وحدي؟

– معي طبعًا.

– لا أشك في هذا.

– قد يستغرق منك عشر سنوات.

– عشر سنوات؟

– بناء جامعة.

– جامعة؟

– بأكملها على مساحة خمسمائة فدان.

– أين؟

– ستعرف.

– ورأسماله؟

– أكثر من مائة مليون جنيه.

– والشركة وحدها هي التي ستقوم به.

– أنا وأنت ويحيى ابن عمتي.

– متى تبدأ؟

– الجامعة رسمت مع يحيى المعامل ومنازل الطلبة ومنازل الأساتذة بل ومنازل السعاة ومرائب السيارات، اثنتا عشرة كلية.

– دفعة واحدة؟

– وأنا وأنت المسئولان فقط ومعنا يحيى.

•••

وراح المال يتدفق على نديم وأعلن اسمه على لافتات البناء أنه المشرف المسئول من قِبل الشركة، وكان يعرف الأظافر الحادة التي تنتاش رقبته؛ فكان يعطي فرغلي نصيبه دون أية مناقشة.

ولما كان لا بد للشركة أن تكسب علنًا، ولا بد لنديم أن يكسب لنفسه ولفرغلي سرًّا؛ فقد كان من الطبيعي أن يكون ذلك على حساب نفقات البناء نفسها، والبناء جماد لا يعرف السرقة ولا يعرف الغش ولا يحسن أيضًا إخفاء السرقة أو الغش.

ولكن يحيى حسين ابن عمة فرغلي والمهندس المسئول عن البناء قد أصبح خبيرًا؛ أي خبير في إخفاء ما لا يستطيع البناء أن يخفيه.

١٩

حتى القمار

لم تجد إسعاد إلا موائد القمار لتعوِّض بها الانحدار الذي أصاب الإقبال عليها، وبدأت تواجه تلك الفترة العصيبة التي تواجهها كل من تعمل في الفن حين يصبح الفنانون في سن لا يصلحون فيها لأدوار الشباب، ولا يصلحون أيضًا لأدوار الكبار، ومرحلة أدوار الكبار هذه ليست مؤكدة؛ فليس كل الممثلين يصلحون لها لأنها تحتاج إلى ممثلٍ فنان أو ممثلةٍ فنانة؛ فقد كان شبابهم يغتفر لهم ولهن سوء التمثيل، أما إذا علت بهم أو بهن السن أصبح الفن وحده هو الذي يعتمدون عليه.

ولم تدرك إسعاد أن الإقبال الذي كانت تلاقيه على موائد القمار يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإقبال الذي كانت تلاقيه على شاشة السينما. وبدأت تخسر على نفس الموائد التي كانت تكسب عليها دائمًا. وحين دخل معتز إلى المدرسة كانت إسعاد في حالة انتعاشٍ مالي فراحت تنفق عليه في غدق.

ولم يكن في أول حياته يرى فيما ينفق عليه إلا أمرًا طبيعيًّا يتفق مع شهرة أمه ومع الغنى الذي تلاقيه.

ولكنه مع الأيام وجد هذا الغدق يتناقص في حين بدأ هو يختار ملابسه ومأكله ويستحسن الأشياء ويستقبحها، وتولَّاه نوع من العجب ولم يلتفت، وأنى له أن يلتفت، إلى أن أمه لم تعد تعمل إلا نادرًا. ولم يلتفت وأنى له أن يلتفت أن التليفزيون هذا الأعجوبة الجديدة لم يطلبها في سنوات إلا مراتٍ قليلة تكاد تحصيها أصابع اليدين أو اليد الواحدة. ولكن لم يغِب عنه أن أم حسين هي الطباخة ولم يكن في البيت غير خادم معها صغير ذي مرتبٍ بخس.

•••

اكتمل بناء الجامعة وافتتحها المسئولون وتصدَّر نديم ويحيى الداعين إلى حفل الافتتاح مندوبين عن الشركة ولم يظهر فرغلي مطلقًا. وبدأت الدراسة وتوافد الطلبة على قاعات الدرس وعلى مساكن الطلبة وعلت الطبول تُحيِّي عصر العلم وعصر الثقافة وعصر الاشتراكية التي تتيح المستقبل المشرق لأبناء مصر، وأراد مدير الجامعة أن يقدم شكره للشركة التي أنجزت هذا الإنجاز العظيم فاختار ممدوح طبيب الشركة — ولم يقل ابن عمة رئيسها — أستاذًا غير متفرغ بكلية الطب، وطبيبًا للجامعة بجانب عمله بالشركة طبعًا.

وكانت عمته قد ماتت كما مات زوجها ولكن بعد أن شهدا مطالع سعوده وشهداه وهو يأخذ بيدي ابنَيهما فحنيا له الجباه التي كانت تشمخ بالابن الطبيب والآخر المهندس.

الوحيد الذي لم يمت هو فهيم. ماتت زوجته وكبر أبناؤه وتفرقت بهم الحياة في كل متجه وهو باقٍ يرقب الحياة في مصر من مرقبه الخبيء هناك في القرية، ويعرف أنباء فرغلي كلها ويعرف كل ما يقف وراءها ولكنه يصمت، لا يدعو لابنه بالفلاح؛ فقد كان يرى في فلاحه حتفه، ولا يدعو عليه؛ فالأب يدرك أن دعاءه على ابنه يعرف وهو في طريقه إلى السماء أنه انطلق عن لسان ولم يصدر عن قلب ويعرف الدعاء أن حقيقة طريقه ليست أن يستجاب.

واستطاع فرغلي بقوَّته الخارقة أن ينسى أباه كما استطاع بقوَّته الأعظم أن ينسى ابنه، ومضى طريقه يستذل كل من حوله حتى لم يعد إذلالهم يكفيه، متخفيًا أو معلنًا إعلانًا غير صريح وإنما أصبح يحس أن من الطبيعي أن يذلهم بكل وسائل الإذلال وكل وسائل الإعلان.

لم يكن يهمه أن يسب نديم ويحيى وممدوح أمام الجميع بل كان يجد أن من الطبيعي أن يُحقِّرهم أعظم تحقير أمام أبنائهم كلما وجدهم أمام أبنائهم.

فقد كان من الطبيعي أن يتزوج نديم بعد أشهر قليلة من ميلاد معتز وتطليقه المعلن لأمه.

وكان أبناء يحيى وممدوح كبارًا وقد وجدوا جميعًا الوظائف التي لا يصل إليها أمثالهم من أبناء عبيد الحجرات وسادة المجتمع.

وكانت نفوس يحيى وممدوح ونديم تفهق ألمًا وكمدًا ولكنها نفوس ارتضت الطريق، وهي تعلم من بدايته أن هذا الخزي من معالمه، ولكن أكان هذا العلم يكفي لمنع الشعور بالمهانة خاصة حين تصل إلى قمتها أو إلى حضيضها، هم يرون أنفسهم موضع إذلال أمام أبنائهم الذين كانوا يظنون أن آباءهم أعزةٌ كرام، وكانوا كما كان جميع من حول فرغلي يدرون أن إذلال الناس هوايته التي أصبحت حرفته، وكانوا يصمتون ولكن على أي ألم كانوا يصمتون.

٢٠

الحقيقة

فوجئ معتز وهو في مطالع الشباب أن المال نضب عند أمه؛ فهي تحتال على العيش احتيالًا. راحت تبيع الأثاث الفاخر الذي كان يزين كل ركن في شقتها الفاخرة المتسعة وتستبدله بأثاثٍ حديث فيه ذوق لا يعينه مال كبقية الجمال التي تخلَّفت على وجه أمه، ولكن الأثاث الفاخر يزينه القدم، والجمال الآدمي الدارس يشينه الزمن، وحاولت أمه أن تدعي أن هذا الأثاث الذي تبيعه لم يعد يناسب ذوق العصر؛ فكانت في دفاعها عن البيع مثلها في دفاعها عن فنها الذي ملَّه الناس، وتدعي هي أنها تواجه حربًا خفية من عدوٍ مجهول، وأن المنتجين والمخرجين يريدون العاهرات ولا يريدون الفنانات.

وجديد على معتز أيضًا أن أمه أصبحت تؤجر شقتهم للعرب في الصيف وتقيم معه ثلاثة أشهر الإجازة في الإسكندرية بشقَّتها هناك، وتقول في بساطة أليس هذا خيرًا من أن تبقى خالية؟ ولا يحاول معتز أن يذكرها برأيها العنيف عن هؤلاء الذين يؤجرون مساكنهم، ويقبلون أن ينام قوم لا يعرفونهم في فرشهم. لقد أحسَّ الفتى، وما لنا لا نقول أدرك أن أمه، تعاني أزمةً مالية، وأدرك أن هذا الإيجار السنوي يوشك أن يكون موردهم الوحيد.

واستمرت به سنوات الدراسة وهو على هذه الحال محاولًا أن يُخفِّف عن أمه ما تلاقيه مدعيًا أن ما يحدث أمامه أمرٌ طبيعي لا غرابة فيه، وتحسُّ الأم بهذا الحنان من ابنها وتعجب من أين جاء به؟ لقد كبر وهو يعلم أن أباه نديم الطوبجي طلق أمه بعد ميلاده بعام أو أقل، وأنه تزوج من أخرى وأنه يكتب ثروته الباذخة بأسماء أبنائه مباشرة حتى لا ينال هو شيئًا.

وتفكر إسعاد كيف لمعتز أن يكون بكل هذا الحنان، بل كيف لم يفكر أن يرى أباه، وكيف لم يفكر أن يلجأ إليه يطالبه بحقه؛ فهو لا يعلم أبًا لنفسه إلا نديم، وهو لا شك قد عرف أن لكل ابن على أبيه حقًّا. كيف استكبر أن يلجأ إليه أو يقترح على أمه أن تطالبه؟ من أين أتى بهذا الكبر وهو ابن لهذه الخسة العظمى التي يمثلها أو ينشئها لأول مرة على أرض البشر أبو معتز الحقيقي فرغلي؟!

سبحانه هو الذي يسوي النفوس كما يشاء. وقد عاش معتز فترةً طويلة من حياته في هناءٍ مالي وفي ظلٍّ وريف من حنان أمه، ترى هل تكونت نفسه في هذه الفترة وهو بعدُ صبي يشبُّ عن الطوق؟ أم ترى رأى في حنان أمه ما يعوِّضه عن أي شيء قد تهفو نفسه إليه؟ أم ترى ليس لهذا الخلق من سبب إلا أن الله الرحيم في علياء سمائه رأى أن يجعل من هذا الابن نفحة رضاء إلى قلب الأم تعوضها عن مجدٍ ضائع وجمالٍ زال وحياةٍ تحطمت، وهي بعدُ في البداية؟

كانت إسعاد تشكر في نفسها دائمًا هذه الرقة من ولدها وكانت كلما رأته يمدُّ عينَيه إلى شيء يتمتع به غيره من الشباب، ويقصر بها حالها أن تستجيب له؛ تحسُّ في قبوله واقع أمرهما يدًا قاسية تعتصر قلبها اعتصارًا. وسبحانه بارئ النفوس فقد جعل القلب يخفق في عنف عند الحنان مثلما يخفق في عنف عند القسوة، يخفق من رضا كما يخفق من غضب. وقد كان هدوء معتز وصبره أشد على أمه وقعًا لو أن معتز قابل فقرها بالسخط والغضب والاستنكار والتنكر. عاشت شباب ابنها الباكر وهي تعلم أن أشياءَ كثيرة تنقصه ولكنه لا يبين عنها؛ فكثير من إخوانه يملكون سيارات ومن حقه أن يطمع في أن يكون مثلهم، ولمَ لا وأمه على هذه الشهرة وأبوه الذي يعرف أنه أبوه على هذا الغنى! وقبل أن تؤجر شقتها أول مرة ألمح إلى هذه الرغبة ثم لم يعد إليها منذ بدأت أمه تأجير سكنها.

وهي تعلم أن ملابسه أقل كثيرًا من إخوته الذين يراهم والذين لم يحاول أن يتعرف بهم بل لقد رفض محاولة أحدهم حين قدم نفسه إليه على أنه أخوه! لقد أنبأها عن ذلك اليوم.

حين تقدم إليه فتى يكاد يكون في مثل سنه.

– ألا تعرفني؟

وكان يعرفه فقد أخبره كثير من أصدقائه الزملاء عنه وأشاروا له إليه فقال لهم إنهم لا يعيشون معًا وإنه لا يريد أن يعرفه أو يعرف أحدًا من بيته، فأقصروا منذ ذلك الحين ولم يعودوا إليها، ولكنه لم يكن يتصور أن يواجه أخاه هذه المواجهة: أتعرفني؟ أنعم فيه النظر وأُرتج عليه بعض الحين ثم قال: لا أظن.

– أنا سعد نديم الطوبجي.

– تشرفنا.

– ما هذا! ألم تدرك أنني أخوك؟

– من قال لك إنني أخوك؟

– شهادة ميلادي وأبي … أبوك.

– أبوك وحدك.

– ولكن أنا ما ذنبي؟

– يا سعد إنني آسَف لموقفك وآسَف لموقفي أنا أكثر؛ فقد قسوت عليك دون أن أشرح لك معنى كلمة أخ التي أفهمها أنا وكلمة أب التي أعرفها والتي يجب أن تكون.

– أنا لم أقصد سوءًا.

– وهذا ما يجعلني أشرح لك. ليست الأخوة وحدة في أب وإنما هي معايشة تنبت من الحياة لا من الاسم، وربما كنت فتًى طيبًا فيك ود وصفاء لكني أنا أرفض الأخوة منك، تلك الأخوة التي لا أخوة فيها إلا انتسابي إلى أب في ظلم أبيك! عن إذنك.

لقد سمعت إسعاد هذا الحديث كله وحفظته وتألَّمت له أنواعًا من الألم شتى، فالكلام حق ولكنه موجَّه إلى رجل لا يستحقه بل هو لا يستحق من معتز إلا كل إجلال، فحسبه أنه أعطاه اسمه حتى ولو كان قد أعطاه هذا الاسم وهو مضطر غير مختار.

سمعتِ الحديث ولم تستطع أن تقول له الحقيقة؛ فهي أبشع بكثير مما يظن أن نديم قد فعل.

كانت الحقائق المختفية وشعور معتز بالفقر وهو يظن أنه جدير بالغنى، وإحساسه بالظلم لتنكر أبيه له، وقصورها أن تجيب رغباته، ورضاؤه بهذا القصور منها؛ كان هذا جميعًا يحمِّل قلبها أكثر مما يطيق قلب الإنسان أن يحمل، ولهذا لم يكن غريبًا أن تصاب بنوبةٍ قلبيةٍ حادة، ولم يكن غريبًا أيضًا أن يلازمها معتز بجانب سريرها شهرَين كاملَين. ومن يدري ربما كان هذا البقاء سببًا في تفوقه في هذا العام وإن كان المؤكد أنه كان من الأسباب التي أبقت على حياة أمه.

٢١

الجامعة تتكلم

كان حفلًا سياسيًّا هامًّا في الجامعة الجديدة، وكانت قاعة الاحتفالات الكبرى التي تتسع لأربعة آلاف طالب وطالبة مليئة بالطلبة، فقد حشدت القوى السياسية ما استطاعت أن تحشد من الشهود؛ فكلما كثر عدد المشاهدين تأكد لدى الجهات العليا حرص القوى السياسية بالجامعة على مناصرة العهد وتأييده.

وبدأ الخطباء الحفل وقصد القائمون بتنظيم الحفل ألا يفتتح القرآن الكريم حفلهم، واكتفوا بآيات من الميثاق تغطي القاعة كلها. وكانت الأوامر أن يدوِّي التصفيق في مواطنَ معينة وأن يبلغ مداه كلما ذُكر اسم بذاته، واستجاب الطلبة للأوامر وما لهم لا يفعلون وقد لقنتهم الحياة التي نشئوا فيها أن مصر لم توجد إلا في هذا العهد وأنها لن توجد إلا في هذا العهد، وكاد أن يصبح من الثابت لديهم أنهم يشهدون عصر بعثٍ جديد لدينٍ جديد ونبيٍّ جديد.

وإذا كانت عقول الطلبة قد اضطرت أن تصدق هذا أو توشك أن تصدقه فإن أبنية الجامعة ليس يعنيها من هذا جميعه شيء، وإنما يعنيها فقط أن تكون مقامة على الأسس العلمية الصحيحة، فلا ينتقص أحد من موادها الأساسية مهما يكن هذا الشيء قد تمثل في مزيد من المال لفرغلي ونديم ويحيى.

وأبنية الجامعة تستطيع أن تتكلم، وإذا فعلت كان حديثها أحداثًا مروعة تفتك بالأرواح والآمال وبالمستقبل وبأعمدة الحياة، وقد شاءت قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة أن تتحدث في هذا الوقت بالذات. وربما كانت آيات الميثاق قد أثقلت جدرانها، أو ربما كان الاسم العريض الذي يتردد في كل جملة شديد الوقع على الأبنية. ومن يدري ربما كان التصفيق الذي ينطلق من أيدٍ بريئة تنفيذًا لأوامرَ غير بريئة قد جعل البناء يختار هذا الوقت بالذات ليتكلم، أو ربما أراد البناء أن يقول كلمة فيسمعها العالم أجمع ويصبح تكتم الأمر مستحيلًا. فقد كانت كل الأحداث الكبرى التي لا تشهدها جموع تنكتم أنباؤها كالموت الذي تصنعه.

سبب من هذه الأسباب أو كل هذه الأسباب اجتمعت؛ فإذا البناء الضخم ينهار على الشباب اليافع المخضلِّ بماء الحياة وإن كانت حياة كلها غش وكذب وخديعة وأضاليل، هم من غشها وكذبها وخداعها وضلالها أبرياء، بل هم ضحاياها ولا بد للتضحية أن تبلغ منتهاها فبلغت، ولا بد للشهيد الحي الذي يحيا حياةً واهمة صنعها له الأفاقون أن يصبح شهيدًا في كتاب الله ليحتسبه ربك ذو الجلال الصادق الوعد مع الصديقين ومع شهداء الحق على مدى الزمان.

لم يكن الأمر مجرد مقتلة لآلاف من الأبناء والبنات، وإنما كان مقتلة لكل الشعارات المرفوعة على فراغ واللافتات المقامة على الهواء.

وبدأت الاتهامات، وبدأ كل مسئول ينفي التهمة عن نفسه. واستطاع فرغلي في جرأةٍ عريضة أن يقول إنه رئيس مجلس إدارة، ومن كان في مثل مكانه لا يُسأل عن التفاصيل وإنما هو أناط نديم المدير العام ويحيى كبير المهندسين بالشركة أن يقوما بتنفيذ البناء. ولم يكن عجيبًا أن يكون صديق العمر وابن العمة هما أول حطب يلقى إلى حريق الآلام الذي ثار عن الحادث، فما عيَّنهما فرغلي إلا ليكونا حطبًا إذا احتاج إلى حطب.

ومن يستطيع أن يكذبه وهو يتهم ابن عمته الذي لا يجهل أحد صلة الرحم بينهما، وصديق العمر الذي لا يجهل أحد صلة الأيام الطويلة التي تجمعهما.

وبدأ التحقيق، وويل لبعض الناس من هذا التحقيق! لقد رأى نديم الموت الذي صنعه والذي لم يتصور أن ينتج عما فعل؛ فقد عاش حياته كلها مع فرغلي واستطاع أن يرغم بقوة فرغلي الأيام أن تستر ما يصنعان فما لها اليوم قد صنعت به ما صنعت؟! وكيف يلقي به فرغلي إلى أتون العدالة وفجيعة الآباء والأمهات والأحباب وسخط الرأي العام في هذه السهولة وفي هذا اليسر؟! لم يكن ذلك غريبًا على فرغلي ولم تكن دهشة نديم لتبلغ مداها هذا الذي بلغته لو لم يكن يعرف ما يعرف من أسرار فرغلي التي يستطيع أن يذيعها في حماية المحكمة، ولو لم يكن يعرف أن فرغلي يقدِّر جسامة ما في جوف نديم من أسرار عنه. ونسي نديم الأهبل أن فرغلي يستطيع أن يجعل نديم يقول ما يشاء وفي نفس الوقت لا يسمعه أحد، نسي نديم الأهبل الأحابيل العديدة التي يمسك بها فرغلي.

ولكن كلمةً نفذت من أسرار فرغلي رغم أنفه إلى الحياة، فإن للسماء طرقها الخاصة التي تجعل بها الحقيقة تفلت إلى الحياة.

٢٢

قراءة

جلس معتز يقرأ لأمه أنباء التحقيق وفوجئت الأم في أثناء التحقيق بجملة قرأها معتز، وهمَّ أن يعدوها إلى ما وراءها ولكنها استوقفته: أعد ما قرأت.

– ولكن نديم قال إن لديه كثيرًا من الأسرار وأنه سيجد نفسه مضطرًّا لإفشائها إذا لم يعترف كل مسئول عن مسئوليته.

ورأى معتز الهول على وجه أمه هنيهة ثم تابع القراءة بينما انفصلت هي عما تسمع، وفي لحظات أو ربما في أقل من لحظات مرت حياتها منذ دخل فيها فرغلي إلى هذه اللحظة. ماذا سيقول نديم؟ إنه سيذيع سر ابنها لا شك … والأيام التي قاست وأملها هذا الذي تحقق وشقاؤها وعناؤها وما قبلته من طغيان فرغلي، وما فقدته من كرامة، وما أخفته من سر زواجها بنديم عن فلذة كبدها وكبد فرغلي معًا.

أتنفجر القنبلة في ابنها … في كيانها … في كل ما تقدمت به قربانًا إلى الحياة لتبقي لابنها الكرامة … في كل ما تعلقه على ابنها من آمال؟ لقد حمدت الله أن ابنها لم يشعر يومًا بأبوة نديم، فهو لم يحسَّ أي أسًى لما ألقي عليه من تهم وإن كان يعلم أنه يحمل اسمه، ولكنه قال لأمه وربما إشفاقًا بها: الأرزاق بيد الله وإن ضاقت بنا مصر فإن لك أصدقاء في البلاد العربية ونستطيع أن نسافر معًا. لقد هوَّن عليها بل أزال ما شعرت به من خوف عليه يوم أعلن اتهام نديم، أيفجر نديم الأسرار؟ فابنها إذن أول الصرعى بأسرار نديم، ولم تفكر في قوة فرغلي الخفية، وإنما فكرت فقط في فضيحتها المعلنة تنسب ابنًا إلى غير أبيه وتتزوج من زوج وهي حامل، فهي في زواجها الثاني كانت على ذمة زوجها الأول! ومن يصدق أن نديم لم يقربها ولم يمس منها يدًا؟ إن الناس تفتعل الفضائح إن لم تجدها، فكيف وهي أمامها واضحة لا يشوب وضوحَها غشٌّ أو شك.

وما ذنب هذا الفتى؟

لحظات اختلطت فيها كل هذه الأهوال في كيان إسعاد واختمرت وانفجرت وماتت إسعاد.

لحظات لم يجد فيها معتز الفرصة ليسأل أمه عما بها. وإنما أعاد الجملة ورأى الهول على وجهها فراح يتابع القراءة لعله يعدو بها عما أزعجها، ولم يدرك أنه يقرأ لغير سامع إلا بعد أن أكمل فقرة بأكملها تنتهي بأنه تم الإفراج عن نديم بكفالة مقدارها ألفا جنيه، وإفراج عن المهندس يحيى بكفالة خمسة آلاف جنيه، ولم يسمع تعليقًا. ونظر … ولم يصدق ثم هو في ذهول لا يعرفه إلا الابن فقد أمه؛ التي تتمثل حياته كلها في حياتها، وفي حياتها هي فقط بلا أهل ولا قرابة من قريب كانت أو كانت من بعيد. ظل جامدًا … ثم صاح: ماما … ثم علا صياحه: ماما … ثم علا صياحه: … ماما.

ودخلت أم حسين ومن ورائها صلاح الخادم الذي يعاونها في البيت، ورأت أم حسين معتزًّا مرتميًا على ركبتَي أمه يصيح بها، وفي ثبات الجبل التفتت إلى صلاح: اذهب أنت إلى المطبخ.

٢٣

وقراءة

ودخلت أم حسين إلى الحجرة وفي خبرة مَن علَّمتها الحياة أدركت السيدة العجوز أن الحياة تخلَّت عن إسعاد التي عاشت سنواتٍ طويلة من عمرها وهي تعتبرها كابنتها. لم تكن في حاجة إلى ما يصطنعه الأطباء لتعرف؛ كانت النظرة كافية.

أمسكت بمعتز ورفعته، فارتفع في يديها كدميةٍ كانت ملقاة وأقامتها يدان لا تحتاجان إلى جهد.

– تعالَ.

وخرجت به من الغرفة وأدخلته حجرته وأغلقت عليه الباب وعادت إلى ما بقي من إسعاد فريد.

ولم يمر وقتٌ طويل وذهبت أم حسين إلى معتز.

– الوقت أمامك متسع لتبكي.

– ماما يا دادا … ماما.

– ستبكيها العمر كله.

– ليس لي غيرها.

– وأنا أين رحت؟ لا تخف أنا معك، وأنا شديدة وإن كنت عجوزًا … خذ.

– ما هذا؟

– أمامك الكثير لتفعله.

– لا أريد مأتمًا.

– وهل هذا بكيفك؟

– طبعًا.

– أنت عبيط! إنها إسعاد فريد، إن لها أصدقاءً ومعجبين وماذا تريدهم أن يقولوا عنا أو عنها؟ إنها قتلت أو انتحرت … ولماذا لا قدر الله لا يكون لها مأتم؟

– هل عندنا مال؟

– عندي إن لم يكن عندك، وكله من خيرها. وعلى كل حال هذه مفاتيحها.

انظر كم عندك؟ واترك لي أن أتصرف.

•••

وفتح الدولاب وكان مبلغ إيجار العام لا ينقصه إلا ما أنفقاه في المصيف فوجد قرابة الألفي جنيه، وضعها في جيبه ونادى: دادا.

ولم يجبه أحد، فقد كانت أم حسين تقوم بعمل آخر عند التليفون، وهمَّ معتز بإقفال صندوق النقود ولكنه وجد فيه أوراقًا يبين عليها القدم. أمسك بها، لم يكن الكلام في الأوراق كثيرًا ولكنه فوق الكفاية … في دقائقَ معدودات تكشَّفت أسرار السنين للفتى اليافع، وانهدَّ في مكانه، أقدرٌ عليه أن تموت أمه مرتين ويموت معها أبوه الذي يعرف أنه أبوه، وينبت له من هذا الوحش المقيت السمعة أبًا … كل هذا في ساعة أو أقل من الساعة … أهذا معقول!

ظل ممسكًا بالأوراق، عيناه إلى فراغ وعقله وكيانه في حريق.

ودخلت أم حسين ورأته ورأت في يده الأوراق وأدركت بنت الحياة وأمُّها كلَّ شيء.

– معتز … ليس هذا وقته.

– ولكن القدر اختار هذه اللحظة لأعرف كل شيء، عليك أن تقولي للقدر وليس لي «ليس هذا وقته.»

– أمك مظلومة.

– إذن فكل ما في الورق صحيح.

– صحيح.

– دادا.

– ولكن أقسم لك بابني الوحيد أو أفقده كما فقدت الآن أمك وهي في مكان بنتي، أن أمك أشرف واحدة عرفتها منذ عملت معها، ولا أدري عما قبل ذلك شيئًا، وأنا معها الآن لي ما يقرب من الثلاثين سنة.

– وهذا الزواج الباطل.

– لم يلمسها ولم تلمسه طول فترة الزواج ولا بعده ولا قبله.

– إذن …

– إنك ستودِّع أمك الآن، ولا بد أن تودعها وأنت تعرف قيمتها؛ فأنا مضطرة الآن أن أحكي لك كل شيء مع أننا نحتاج إلى كل لحظة أتكلم فيها.

– ليس أهم في الدنيا مما ستقولين ولا حتى دفنها.

– إذن فاسمع …

•••

كانت أم حسين في الدقائق التي غابتها عن معتز قد كلمت نديم وأخبرته وطلبت منه ألا يجيء، وإنما يرسل من يساعدها، وطبعًا لن يعجز عن نديم إيجاد كثير من مساعديه وموظفيه ليفعلوا ما يأمر به، وإن كان موقوفًا عن العمل بالشركة.

فعلاقاته بالموظفين فيها وبآخرين في خارجها غير محدودة، وقد استطاع في الفترة الطويلة التي عمل بها في الشركة أن يصطنع لنفسه لا للوظيفة كثيرًا من الناس.

وحين عرف معتز الحقيقة كلها كان أعوان نديم قد قدموا وتمت كل الإجراءات ونُشر الخبر واهتمت به الجرائد بطبيعة الحال فنشرته خبرًا، أما النعي فلم يزد عن توفيت إلى رحمته تعالى الفنانة إسعاد فريد أم معتز نديم الطوبجي وستشيع الجنازة الساعة الثانية عشرة ظهر اليوم من جامع عمر مكرم حيث تقام ليلة المأتم.

•••

وفي الجنازة حرص نديم أن يكون بين من يستقبلون العزاء، فالمتهمون يهتمون كل الاهتمام أن يكونوا في صدر التجمعات العامة كأنهم يريدون أن يثبتوا للناس أنهم أبرياء، فحكم الناس عندهم أهم من حكم القضاء.

وكان المشيعون كثيرين من أجل إسعاد نفسها بل إن كثيرًا من الناس وقفوا بجانب المجمع ليروا الفنانين الذين سيأتون ليؤدوا واجب العزاء في زميلتهم.

همس نديم لمعتز: أريد أن أراك.

– وأنا أيضًا.

– متى تحب؟

– في العزاء.

– لن نستطيع الكلام في العزاء.

– بل لن نستطيع الكلام في غير العزاء، فأنت مراقب والكلام الذي أريد أن أسمعه أو أقوله لا أريد أن تتبعه صلة لي بك.

– إذن فأنت …

– عرفتُ كل شيء … في العزاء ستكون مراقبًا وغير مراقب، هذا هو الوقت الوحيد المناسب.

•••

في أوائل سنوات الرعب التقى صديقان، مع أحدهما ابنه الذي لم يكن يجاوز السنوات الخمس، وجلس الصديقان إلى مقهى، وتهامسا في السياسة، ثم أراد الصديق أن يحيِّي صديقه في مداعبة لابنه فقال: هيه؛ وأنت ما رأيك؟

فإذا بالطفل الحدث يقول في خبثٍ شديد المكر: أنا لا أتكلم في السياسة يا عم … أتريد أن تودي بي في داهية.

وفزع الصديق ثم راح يراقب الجيل … لقد أصبح كله هذا الطفل، لقد شبَّ في سنوات الفزع؛ في السنوات التي اعتدت فيها الكلاب على أعراض الرجال، واعتدت فيها السلطات على أعراض السيدات الفضليات تنكيلًا بأزواجهن أو أبنائهن.

جيل كل همه أن يبعد عن نفسه المظنة؛ فهو يصطنع النفاق أو يمتهن التجسس، وخير من فيه صامت. جيل تعلم كيف يهرب دائمًا حتى لا يصبح من بين الضحايا، جيل تدرب فيه الذكاء منذ السنوات الباكرة من حياته. لم يسمع الكلام إلا همسًا أو هتافًا، الهمس مرتعد والهتاف نفاق. جيل رأى الأب فيه إن تحدث في السياسة إلى الأم تحرى أن تكون الأبواب مغلقة والأبناء بمبعدة حتى لا يرددوا ما يسمعون عن غير قصد.

جيل أقام التنظيم الأساسي فيه حفل تكريم لأختٍ وشت بأخيها أنه ينتقد العهد؛ مجرد انتقاد بلا تآمر.

في هذا الجيل نبت معتز، فليس عجيبًا أن يرسم لنديم وهو من هو سنًّا وتجربةً وحيلة أين يكون الكلام وكيف يكون.

•••

وفي العزاء حرص نديم أن يجلس إلى جانب معتز.

– طبعًا أبلغك سعد عن الحديث الذي دار بيننا.

– أقسم لك بحياة أبنائي أن صلتي بوالدتك …

– عرفتُ كل شيء، وأشكرك، وأعتذر لك ولسعد.

– شكرًا.

– وسيأتي الوقت لآتي عندك وأعتذر لسعد بنفسي.

– ولماذا لا تأتي منذ الغد؟ أنا مستعد أن تجعل الكذبة حقيقة، وما دمت قد عرفت كل شيء فما المانع أن تجعلني أباك الروحي. أنا والمرحومة والدتك يجمعنا مجرمٌ واحد. والمصائب كما يقول الشاعر يجمعن المصابين.

– أنا أعجب لك! ولا شك أن لك زملاء كثيرين يمسك هذا الوحش برقابهم، أتتركون رقابكم هكذا بين يديه؟!

– ومن أدراك أننا ساكتون.

– ما أراه.

– انتظر.

ثم كأنما صحا وتلفَّت حوله.

– إياك أن تعيد هذا الكلام.

– أنا صغير حقًّا ولكن السنة من عمر جيلي بعشر سنوات من جيلكم، وكل الأجيال التي سبقتكم.

– ولماذا تريد ألا تظهر بجانبي وأنا أمام الناس أبوك.

– أنت أبي ولكني لم أقترب منك طول حياة والدتي وطول الفترة التي كنتَ فيها قويًّا، فلو اقتربت الآن سأصبح تحت المراقبة.

– وماذا تخشى من المراقبة؟

– هذا سري، دم أمي لن يذهب هدرًا.

– اياك أن تكرر هذا الكلام.

– أنا لم أقله إلا لمن أعرف أنه لن يجرؤ على تكراره.

– من؟

– أنت.

– فقط؟

– فقط.

– وأم حسين؟

– وهل أنا عبيط؟

– اسكت.

– ساكت.

٢٤

خيوط السماء

حين ملك فرغلي رقاب كثير من الناس وأصبح يتصرف في مصائرهم ما شاء له هواه وما شاءت له مصالحه؛ عجب أن تخرج الطبيعة عن ملكه وتتمرد بقوانينها على مشيئته ورغباته. ولم يتصوَّر أن ينهار بناء الجامعة دون أمر منه، وقد عاش عمره لا يفصح عما يعتمل بنفسه، ولكن نفسه أيضًا، دون أن يدري، جزء من الطبيعة، وهي أيضًا، دون أن يدري، تخضع لقوانينها. ولذلك عجب هو وليس في الأمر عجيب حين أصابه نوع من الدوار وأحس برأسه يكاد ينفجر وعرف فجأة أنه في تكوين أعضائه إنسان ككل إنسان يجري على جسمه ما يجري على جسوم الناس وقد كان يظن أنه يستطيع أن يصنع جسمه كما يشاء هواه وكما صنع خُلقه وكما يصنع مصائر الذين حوله.

وكان ممدوح ابن عمته حريصًا منذ حادثة الجامعة واتهام أخيه أن يزوره كل يوم مخافة أن يظن به أنه غاضب لأخيه، وكان حريصًا ألا يذكر ما حدث كل الحرص، فهو يعلم أن فرغلي يملك من أمره ما يستطيع به أن يقضي عليه، وفرغلي يعلم ذلك أيضًا، فلم يجد في زيارة ممدوح اليومية له ما يدهشه بل إنه كان سيدهش لو فعل ممدوح غير ذلك.

واستطاع ممدوح بخبرة الطبيب العجوز أن يدرك ما يحاول فرغلي أن يخفيه من المرض، ولكنه لم يجرؤ أن يفاتحه ما دام هو لم يشأ أن يذكر شيئًا.

قليلًا ما صمت فرغلي، فقد طلب إلى ممدوح أن يأتي له بالدكتور أحمد الفقي الباطني الشهير، واتفق الطبيبان سريعًا على أن فرغلي يعاني من الضغط العالي، وعجب فرغلي أن ضغطًا يفرض عليه الآن حتى ولو كان هذا الضغط من شرايينه هو. وفكر لحظة كيف بدأت حياته بالضغط عليه من جوانب الحياة من أمه ومن أبيه ومن قريته ومن المجتمع، كان الضغط عليه من الخارج، وحين تصور أنه استطاع أن يتخلص من هذا الضغط إلى الأبد وأصبح هو يفرضه على الحياة من حوله؛ وافاه الضغط من داخله، من كيانه، من جسمه الذي تمرد عليه كما تمرد بناء الجامعة، وكما تمردت قوانين الطبيعة.

وفرض المرض عليه نظامًا خاصًّا في الطعام، فأصبح وحده في البيت لا يأكل إلا الطعام المسلوق الخالي من الملح. واضطر فرغلي أن يخضع بعد أن نسي الخضوع سنواتٍ طويلة من حياته، وكان ممدوح بكل ما في نفسه من ذعر ومن كره يشرف بنفسه على الطعام.

•••

ربما كان نديم مُبعَدًا عن الشركة، ولكن كثيرين في هذه الشركة مرتبطون به ارتباطًا عضويًّا، متعلق مصيرهم بمصيره، بعضهم يعرفهم فرغلي وقد أبعدهم ولكن الأكثرية منهم لم يكن يعرفهم، وقد ظلوا يعملون في الشركة جزءًا من كل شرايينها الظاهرة القوية ومن كل شعيراتها الصغيرة المستخفية وقد كان هؤلاء أخطر وأكثر حرية من الكبار في تصرفاتهم وفي تحركاتهم. ماذا كانوا يصنعون ولا أحد يدري؟ لقد كان صغر شأنهم يتيح لهم الدخول والخروج إلى البوفيه حيث تعد القهوة في الفنجان الخاص بفرغلي … ماذا كانوا يصنعون؟ لا أحد يدري.

•••

قال معتز: دادا، أين فهمي عبد الموجود وحسنين كرم؟

– موجودان.

– أين؟

– إن فهمي يعمل طباخًا عند فرغلي.

– أين؟

– عند فرغلي.

– أمتأكدة؟

– يا ابني إنه يزورني دائمًا، هو وحسنين لم ينقطعا عنا إلا بعد الطلاق الأول بضعة أشهر؛ كانا فيها بالحجاز؛ فقد عينهما فرغلي هناك ولكنهما عادا لمصر وعادا إلينا يزوران البيت ويطمئنان على المرحومة، أيام مرضها كانا يأتيان كل يوم ليطمئنا عليها، كانا يحبانها حبًّا لا مزيد عليه. لو رأيت حسنين يوم وفاتها لتهيأ لك أنه أخ يبكي أخته الوحيدة.

– ولماذا عيَّنه فرغلي عنده بعد أن عاد من الحجاز والحكاية انتهت.

– أولًا كان يحب أكله وليطمئن على سكوته.

– ألم يكن عنده طباخ؟

– العقبى لآمالك، كان عنده ولكن عين فهمي ليطبخ له العشاء، فهو يحب الأكل زي عينه ولا يستطيع أن يأكل في الظهر كما يريد لأنه مضطر أن يشتغل بعد الظهر، فالأكلة المهمة عنده في العشاء، بعيد عنك حين كان يتعشى عندنا كأنما هو وحش يأكل آخر زاده.

– وحسنين؟

– عيَّنه في قصر العيني.

– اشمعنى؟

حسنين طول عمره عينه فارغة ويحب الفلوس وكان له صاحب يعمل في أجزخانة قصر العيني وكانت مكاسبه كبيرة، وكان حسنين يتمنى دائمًا أن يعمل معه.

– في الأجزخانة؟

– في الأجزخانة.

– هل أستطيع أن ألقاهما؟

– عندما تحب.

– من بكرة إن أمكن.

– أنا لا أروح لأحد منهما ولكن الأسبوع لا يمر إلا ويزورني واحد منهما أو الاثنان.

– عظيم! قلتِ حسنين يحب الفلوس.

– أكثر من الحياة.

– وفي الأجزخانة؟

– في الأجزخانة.

– وفهمي … ماذا يحب؟

– الصلاة والصيام وزيارة أهل البيت؛ مجذوب تقريبًا.

•••

وقال معتز: انظر يا عم فهمي.

– يا بك هذه إمضائي.

– وانظر في هذه.

– عقد الزواج … أعرفه.

– قارن بين التاريخين.

– وأعرف هذا أيضًا.

– وكيف لقيتَ الله في بيته ووقفتَ عند شباك نبيه.

– إلا من تاب.

– الحج توبة؟

– سبحانه هو الذي يقول إلا من تاب وآمن.

– أكمل الآية.

– وعمل عملًا صالحًا.

– أعملت عملًا صالحًا؟

– لم أرتكب بعدها جرمًا، وكنت مضطرًّا.

– أعملت عملًا صالحًا يا عم فهمي، أنت لم تكن مضطرًّا.

– فهمت قصدك يا سي معتز.

– لا يكفي أن تفهمه. حسنين أحضر لي هذه.

– ربنا يعمل ما فيه الخير.

– وعمل عملًا صالحًا يا عم فهمي.

– نعم! وعمل عملًا صالحًا.

•••

لم يكن بالمنزل أحد عندما مات فرغلي إلا أهل البيت والدكتور ممدوح الذي نظر فيمن حوله … سكتة قلبية. هاتوا الدكتور أحمد، هاتوا دكاترة البلد كلها، هاتوا …

جاء الدكتور أحمد ونظر في عينَي الميت وصمت ونظر إلى الدكتور ممدوح ونظر إليه الدكتور ممدوح جامد الوجه، ثم قال في قطع حاسم: سكتة قلبية يا دكتور … سكتة قلبية.

وصمت الدكتور أحمد وخرج من الغرفة وخرج معه الدكتور ممدوح، وأرسلا في طلب طبيب الصحة المسئول عن الحي، وحين وجد الدكتور أحمد سأله: هل كشفت يا دكتور؟

– نعم.

– سبب الوفاة؟

– سكتة قلبية.

وكتب طبيب الصحة إذن الدفن دون أن يكشف، وما كان له أن يكشف ما دام الدكتور أحمد الفقي أستاذه والطبيب الساطع الشهرة يقول ذلك.

(انتهت.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤